فقه الأزمات والفتن

الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله تعالى-

محاضرة بكلية الشريعة 1425هـ

قام بتفريغ المادّة: سالم الجزائري

إعداد

ابو وليد المهاجر


"... جاء هذا الالتقاء بهذه الثلة الكريمة من حملة العلم الشرعي من طلاب الجامعة وخاصة طلاب كلية الشريعة الذين هم حملة مشاعل العلم ونور العلم إلى الناس.

وما أحسن قول الحسن البصري رحمه الله تعالى وهو يخاطب القراء -يعني طلبة العلم في البصرة- وهو يقول لهم: يا ملح الأرض لا تفسدوا.

يعني بذلك أنهم هم الأمل لحمل اللواء، وهم الذين سيصلون الحاضر بالماضي، وهم الذين إذا صلُحوا بالعلم والعمل فإن الناس سيتأثرون بذلك، وبقدر النّقص في القراء بطلبة العلم يكون النقص في الناس.

فأنتم الأمل في هذا لأنكم حملة الفقه الذين درسوا أصوله وفروعه، ودرسوا ماضيه ودرسوا حاضره.

اليوم كما ترون لاشك أن الأمة بجميع فئاتها؛ فئتها السياسية وفئة العامّة، فئة المثقفين وفئة طلبة العلم، وفئة الدعاة، وفئة المتحمسين للشأن الإسلامي العام، نجد عندهم الكثير من الإشكالات المتعلقة بهذا الواقع الإسلامي المرير الذي نعيشه، فنحن ما بين دوائر التفجير إلى دوائر التكفير، وما بين التخذير -تخذير المشاعر وتخذير الغيرة- إلى الحماس والاندفاع.

فما هو المخرج من ذلك؟

هل الحكمة في المخدرات العلمية كما يقال؟

أو الحكمة في الحماس وإثارة العواطف في هذا الزمن؟

أول ما يظهر لنا في أصول النظر في فقه الأزمات والفتن:

العناية بفقه المرجع:


فلابد أن الناس لهم مرجع يرجعون إليه، وهذا الأصل فيه قول الله جل وعلا: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].

دلت الآية على أمور:

الأول منها:


أن الأمر -الخوف- هو زمن التقلبات والفتن والأزمات يجب أن لا يذاع كل ما يتعلق به، (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ) هذا إنكار وكراهة لهذا الأمر كما في سياق الآية، ما المرجع في زمن الخوف في زمن الفتن- قال: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ).

والرسول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ذكره في هذه الآية هو لأجل منصب الإمامة وليس لأجل الرسالة.

لأن ما يُرجع فيه في النص أو في فعل الصحابة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تارة يتعلق بكونه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نبيا رسولا المبلّغ عن ربه الموحى إليه.

وتارة يتعلق بكونه الإمام الأعظم للمسلمين وحقوق الإمامة.

وتارة يتعلق بكونه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قاضيا فاصلا في الخصومات.

وتارة يتعلق بكونه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ مفتيا لا يُلزم بفتواه.

وتارة يتعلق بكونه ناصحا ومرشدا.

وتارة يتعلق بكونه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بشرا.

وتارة بكونه إماما لمسجده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.

هذه قد ذكرها القرافي وذكرها غيره ممن صنفوا في تصرفات وأحوال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

المقصود من هذا أن أفعال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما ينسب إليه وما يضاف إليه يتنوع بتنوع الحال.

في هذه الآية المقصود منها الرجوع إلى الإمام، ثم قال: (وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) قال أهل التفسير: أولو الأمر في هذه الآية هم أهل العلم.

وذلك لأن ولي الأمر الذي هو الإمام المقصود به ذكر مقام المقام في قوله: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ).

هذا يعني أن المرجعية في أحداث الخوف والأزمات والفتن، كما هي في حال الأمن؛ لكن لابد من وضوح المرجعية إلى أهل الاختصاص ولي الأمر الذي هو الإمام فيما يختص من الأمر العام حال المسلمين والدفاع عنهم والنظر في ذلك، وأهل العلم الشرعي فيما يتعلق باستنباطهم من النص وما يتعلق بإيضاحهم للشرع.

وهذا ظاهر بيّن؛ لكن الخروج عن هذه المرجعية نبهت الآية على أثره قال جل وعلا: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)) فإنه لولا حصول هذا التوجيه لكان هناك خروج باتّباع الشيطان والعياذ بالله.

هذا النظر المرجعي لابد منه لأنه من المقاصد للشريعة -المقاصد الكلية البينة- أن الشريعة جاءت لحفظ اجتماع الناس، واجتماع كلمتهم واجتماع سوادهم وعدم تفرق بيضتهم، وهذا من الأشياء العامة التي أعاد فيها القرآن وأبدى، وكذلك أبدى فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعاد في النصوص حتى جاء، حتى جعلها إمام الدعوة رحمه الله تعالى ثالث المسائل التي خالف فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الجاهلية وهي اجتماع الكلمة؛ لأن أهل الجاهلية لا يقرون باجتماع الكلمة وإنما يهتمون بما يرونه صوابا وقوة بحسب عصبيتهم أو بحسب ما يرون أنه أصلح لهم، فجاء الإسلام بمقصده العظيم وهو جمع الكلمة: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران: 103].

هنا فقه المرجعية هذا من الضروريات، فإذا جاءت الأزمات والفتن هنا لابد من وجود المرجع، فإذا اختلف أهل العلم كما يحصل أحيانا في بعض المسائل المتعلقة بالأزمات والفتن فأي الأقوال يؤخذ في هذا الأمر؟

هنا يؤخذ باليقين؛ لأن اليقين لابد من استصحابه وهو الأصل، والأمر الذي هو غير يقيني أو يطرأ عليه الاعتراض أو يطرأ عليه عدم رعاية المصالح ودفع المفاسد أو يطرأ عليه عدم رعاية الأولويات أو يطرأ عليه عدم العناية بجمع الكلمة أو يطرأ عليه شيء الطوارئ التي تؤثر في القواعد التي سنذكرها في فقه الأزمات والفتن، فإنه حينئذ يجب الأخذ باليقين، واليقين هو الذي أخذ به الصحابة رضوان الله عليهم لما حلّت الفتن، في عهد عثمان رَضِيَ اللهُ عنْهُ في آخره، وفي عهد علي رَضِيَ اللهُ عنْهُ وفيما بعده.

هنا لابد من تأصيل هذا النظر، وإذا لم نؤصل هذا النظر في فقه المرجع؛ في فقه من يُصار إلى قوله، في فقه القول الذي يتبع فإنه لابد أن تحدث فرقة أخرى وفتن أخرى، فإنه ما من تغير في الأحوال وحصول فتن في تاريخ الإسلام إلا ما ندر لم تحصل فتنة ويحصل تغير أحوال إلا ويكون بعدها تفرق ولابد، والله جل وعلا وصف من جانب نفسَه عن الفرقة بأنه من المرحومين قال: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ) [هود: 118 - 119]، فأهل الرحمة الذين جعل الله جل وعلا الرحمة الخاصة وهي رحمة الخروج من المأزق والفتنة هم الذين لا يحدثون فرقة أو اختلافا، خذ التاريخ جميعا.

لما حدث الخلاف أو الاختلاف في وقت عثمان رضي الله عنه تنوع رأينا في ذلك وظهرت الخوارج بقوة.

في عهد علي رَضِيَ اللهُ عنْهُ لما ظهرت الفتن بعده خرجت الفرق؛ خرج عدة فرق السبئية والمرجئة والخوارج استمروا إلى آخره.

بعد ذلك لما حصلت الفتن عند الأمويين في بعض الأزمنة خرجت فرق أخرى كالمعتزلة وغيرهم.

بعد زمن الإمام الأحمد فتنة خلق القرآن حصل خروج فرق جديدة.

وهكذا في الأزمات السياسية أو الأزمات الدينية فإنه إذا لم يرجع فيها إلى فقه صحيح مؤصل فإنه يحدث ما نهى الله جل وعلا عنه وهو حصول الافتراق وزيادة الفُرقة في الأمة.

الأول:
لابد من فقه المرجع

وتحديد ذلك بوضوح وعدم التساهل في هذا الأمر.

الثاني:
فقه الأولويات

هنا نأتي إلى شيء مهم في هذا الأمر وهو من ينظر إلى الترجيح، هنا دخلنا في فقه عميق متعلق بالاجتهاد وهو ترجيح أن يكون هذا أوْلى من هذا، هذا يحتاج إلى علم راسخ بالفقه في نفسه -فقه النص وكلام أهل العلم- وكذلك إلى نظرٍ راجح في التاريخ، وهذا هو الذي يغيب التاريخ العام القديم وكذلك التاريخ الحديث؛ لأنه ما أشبه الليلة بالبارحة ولو اختلفت الصور الأشكال.

فإذن هنا لابد من نظر فيما مضى وفيما سبق، من ينظر نظراً صحيحاً لابد أن يكون استقرأ ونظر ما الذي يحدث فيما إذا قال.

بعض الناس سواء كان من طلبة العلم أو كان من عامة الناس الذين عندهم غيرة أو من الشباب ونحو ذلك ينظر للمسألة نظراً واحداً هذا حق لابد نقوله في كل زمان أو في كل مكان بحسب ورود هذا الحق هذا ليس هو النظر الصحيح، لا في الوقت العام ولا في وقت الأزمات والفتن من باب أوْلى.

الثالث من أصول النظر في فقه الأزمات والفتن
أنه يجب النظر إلى فقه الاجتماع والاختلاف:


وأنّ الاجتماع مطلوب والفرقة والاختلاف مذموم إذا كان كذلك فالاجتماع وعدم التفرق هذا مطلوب دائما؛ لكن في حال الأمن لا نشعر بأهميته لأنه لم تظهر بوادر الاختلاف والفرقة، أما الحال الناس مجتمعون ولم يوجد من الأقوال ولا من الأعمال ما سيؤدي إلى الاختلاف والفرقة والشتات وعدم إجماع الكلمة.

هنا في وقت الأزمات والفتن لابد أن يجتمع الجميع لتحقيق مراد الله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا أراد بالشريعة في نفسها أن تكون مصدر اجتماع الكلمة للناس وعدم التفرق، فمن مقاصد الشريعة في نزولها وفي تشريعاتها وفي تفصيلاتها أن يجتمع الناس وأن لا يتفرقوا وأن لا تكون بينهم خصومات سواء في الشأن العام أو حتى في الأمور الفقهية.

وهنا البيع، قال: والله البيع غير صحيح.

لأن فيه جهالة، لماذا منع ذلك؟

لأنه يؤدي إلى الاختلاف ويؤدي إلى الخصومة فيما بينهم، وهنا مادام أنه يؤدي إلى الخصومة لابد أن يسد الباب حتى في التفصيلات الفقهية المتعلقة بالأسرة في عقد النكاح لابد أن تذكر الشروط يذكر كذا يذكر المهر، لو قال: تعاقدنا على مهر مثلاً مثل ما يقول بعض الناس العقد كم الصداق؟ قال: مائة ريال.

والحقيقة ليست كذلك الصداق يكون مائة ألف أو يكون خمسين ألف أو يكون مائتين ألف أو أكثر، وهنا الذي يعقد ما يرضى أن يقال الصداق مائة ريال لأنه ممكن يحصل خلاف فلابد من أن يوصد الخلاف من البداية في مجلس العقد بذكر الأمر صحيحاً، قد يكون هناك طلاق قبل الخلوة يرتب عليه الأحكام، قد يكون هناك خلع يترتب عليه أحكام.

إذن الشريعة رعت في أحكامها الفقهية بين اثنين أن لا يكون هناك خلاف، أن يوصد باب الخلاف، إذا كان الحكم سيكون هناك خصومات فإنه تجد أن الحكم الشرعي يرعى ذلك بدرئه وأن يبنى على ما لا يحدث خصومات.

الشفعة في تشريعها وأشياء كثيرة أنتم أعلم بها لأنكم أهل الاختصاص.

كذلك في الشأن العام الذي هو ليس الشأن بين اثنين متعاقدين، الشأن العام في الأمة رعاية اجتماع الكلمة وعدم التفرّق من أهم وأهم المصالح

لذلك لابد من رعاية اجتماع الكلمة وفرضها، وهذه من خصال أهل الإسلام، وأما عدم الاهتمام والاجتماع والتساهل في أمور الفرقة فهي من خصال أهل الجاهلية التي جاء الإسلام بنقضها وتركها، لهذا قال الله جل وعلا: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ).

والحظ هذا الربط:

(وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، طيّب الفرقة ما تمثيلها؟ قال: (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا) [آل عمران: 103].

شفا الحفرة هذا بشيئين:

أولا:


بما كانوا عليه من الشرك فأنقذهم الله بالتوحيد.

ثم:

شفا حفرة بما كانوا عليه من الفرقة والاقتتال ثم أنقذهم الله جل وعلا منها في اجتماع الكلمة بالإسلام شريعة الإسلام وفي نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قال الله جل وعلا في زمن القتال وفي زمن الاختلاف: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ) [الأنفال: 46]، الحظ هذه الأمور: قال (وَلاَ تَنَازَعُواْ) إذا تنازعتم هل سيحدث قوة؟ يقول أحد: أنا معي الحق، الحق هو كذا، أنا صاحب الحق، تنازع الأمر أهله لاعتقاده أن الحق معه، قال (فَتَفْشَلُواْ) النهاية الفشل، ما يرتب على التنازع والفرقة الفشل ليس القوة.

القوة تكون بالاجتماع ولو كان على أمر مرجوح، لذلك قال الفقهاء كما تعلمون قال الفقهاء مثلا في مسألة تحية المسجد، تحية المسجد في وقت النهي إذا كان في بلد.

نمثل بمثال آخر غير تحية المسجد في وقت النهي، مثلا رفع اليدين في المواضع الثلاثة غير تكبيرة الإحرام، إذا كان في بلد لا يرفعون أيديهم، فعلماؤنا فعلماء السنة قالوا: لا يرفع يديه رعاية الاجتماع، في فتوى للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى لأحد طلبة العلم من الهند قال: فيه أناس أدعوهم إلى الخير لكن لو أظهرت خلاف في مسألة رفع اليدين وفي مسألة كذا وفي مسألة كذا ما قبلوا مني.

قال: لا تفعل.

لأن هذه أمور غيرها أوْلى منها فيما ترجوه، هكذا في أمور أكبر.

فإذن هنا رعاية الاجتماع أهم وأهم، إذا في أمور الأزمات والفتن كل واحد يقول الحق هو كذا الصحيح هو كذا هؤلاء لا يهمونك، هؤلاء يفعلون، هل سيحصل قوة هل سيحصل فشل؟ لو كثر ذلك سيحصل الفشل وسيكون أول المصاب هو هذا هو الذي قال ذلك، قال الله جل وعلا (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً) الأنفال: 25)، إذا وقعت الفتن فإنها ستأخذ الجميع، وقوة الاجتماع وقوة الكلمة وقوة الوحدة هذه هي التي تبغض العدو وتقوي الصف في مواجهة الأزمات ومواجهة تغير الأحوال.

هنا نقول في هذا الأمر:

إن قول الله جل وعلا: (وَلاَ تَنَازَعُواْ) يعني إن تنازعتم النتيجة فتفشلوا وتذهب ريحكم، طيب واحد يقول: أنا أعتقد هذا الحق، هؤلاء فعلوا وفعلوا، هناك أمور يجب أن نذكر بها قال الله جل وعلا (وَاصْبِرُواْ)

لماذا جاء ذكر الصبر مع ذكر عدم التنازع؟

(وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)، طيب ما الحاجة إلى ذكر الصبر هنا؟ لأنه فعلا الصبر هنا على أن يكون قولك وأن يكون مذهبك وأن يكون عملك في زمن الأزمات أن يكون عدم التنازع وطرح قولك الذي قد يكون في ذهنه رعاية لاجتماع الكلمة وحفظا للمقاصد العامة هذا هو الذي أمر الله جل وعلا به: (وَاصْبِرُواْ) تحتاج إلى صبر، تعرفون الصبر فيه صبر على الطاعة، وهذا صبر على أمر الله جل وعلا مطلوب.

الخامس:

حال الأمة الإسلامية يختلف ما بين ضعف وقوة أولا ما بدأت الأمة الإسلامية ببعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت ضعيفة، فيها ضعف وإن كانت قوية بالله وفيما جاء به نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكنها كانت من حيث التمكين وقيام الدولة أو من حيث تحقيق ما تريد كانت فيها ضعف؛ لكن هذا الضعف كان أحكام شرعية منزلة على هذا الضعف.

في العهد المدني في أوله كان هناك أحكام فقهية أيضا منزلة على هذه الحال المتوسطة.

وفي آخره بعد الفتح.. فتح مكة وبعد فتح خيبر وبعد زمن الوفود ونزلت براءة ونزلت سورة المائدة كان هناك حال القوة.

هل نقول هنا إن ما لم يذكر في سورة براءة ليس دليلا على شيء؟

أو أن الأدلة الشرعية المذكورة في جميع سورة القرآن في كل حالة من هذه الأحوال؟

لهذا ذهب أهل التحقيق كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وجماعة من أهل العلم ومنهم من المعاصرين إلى أن الفقه يتنزل بتنزل الأحوال ويختلف باختلاف الأحوال إذا كان كذلك فإن من الفقه المطلوب في الأزمات والفتن أن نفرق ما بين فقه القوة وفقه الضعف وفقه الحال المتوسطة بينهما؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحكام الشريعة كان عندنا هذه الأنواع في الفقه الثلاثة، ففقه الضعف كان هناك كثير من الأحكام في مكة وفقه التوسط وفقه القوة.

هناك من يقول من أهل العلم:

إن الأحكام هذه نُسخت إلى الحال الأخيرة، كما يقول بعض أهل العلم: هذه نسختها آية السيف، وهذه نسختها آية السيف، والمحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره لا يرون النسخ في ذلك بل يربطون هذا بحال المسلمين، فإذا كان في ضعف نزلت عليهم أحكام الضعف، إذا كانوا في غربة من السنة نزّلت عليهم أحكام غربة السنة، إذا كان في قوة تنزّل عليهم أحكام القوة، ويدل على ذلك عدو أدلة منها قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» بقوله: «إن الله يبتعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها» رواه أبو داوود في سننه والإمام أحمد وجماعة بإسناد قوي، وهكذا في غيرها من الأحكام.

فإذن لما جاءت بعض الأحكام الشرعية المتعلقة ببعض المسائل قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: إنه إذا رجع حال الأمة كما كان أولا رجع الحكم السابق.

ولا نحتاج إلى أن نمثل لأنها معروفة لديكم.

لما تكلم ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الهجر قال هجر المبتدع هذا هجر المبتدع إذا كان في بلد سنة قوة ينفع معه الهجر، أما إذا كان في بلد فيه غربة للسنة فهجر المبتدع فإنه لن يؤثر، وهذا فيه أمثلة كثيرة عندكم من كلام أهل العلم في ذلك.

إذن على مستوى الأفراد، وكذلك على مستوى أكبر مجتمعات أو على مستوى الدول هناك فرق ما بين فقه القوة وفقه الضعف.

كذلك ما يتعلق بهذا الأمر فقه الضرورة مرتبط بفقه القوة والضعف، فقه الضرورة هل الضرورة المتعلقة بالأفراد هي الضرورة المتعلقة بالمجتمع، هي الضرورة المتعلقة بالدولة؟ فقه الضرورات مختلف.

وإذا نزلنا الضرورات منزلة واحدة بأن الضرورة المتعلقة بشخص هي الضرورة المتعلقة بالدولة أو الضرورة المتعلقة بالأمة، فإنه حينئذ نجني على الفقه الإسلامي كله؛ بل نجني على أمتنا؛ بل نجني على استمرار هذه الأمة في قوتها وهيبتها واستمرارا عقائدها واستمرار عطائها.

الأصل الأخير في ذلك أو الفقه الأخير هو:
فقه السياسة الشرعية:

والسياسة الشرعية مطلوبة شرعا والنظر في السياسة الشرعية مختلف:

فمنهم من ينظر في السياسة الشرعية إلى أنها السياسة التي يتبعها القاضي في قضائه وأحكامه، وهناك كتب مؤلفة في هذا الأمر معروفة فيما يتعلق بالتقاضي عند القاضي والنوازل وما يتصل بذلك، ومؤلفات للسياسة الشرعية متعلقة بذلك.

هناك من نظر في السياسة والشرعية فيما بتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يجب أن تعمل فيه الأمور الشرعية والسياسة الشرعية في قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أما نظر اليوم وهو فقه السياسة الشرعية فيما يتعلق بالأزمات والفتن والسياسة الشرعية أصلها مبني على قاعدة أجمع عليها أهل العلم وهي أن الشريعة جاءت بالمصالح ودرء المفاسد.

وجاءت بتحقيق المقاصد، هذان أمران:

الأمر الأول نقدم المقاصد:

النظر المقاصدي هذا من أهم أنواع النظر التي يحتاج بها المجتهد، فلاشك طالب العلم بعامة -نتكلم بعامة- يُسأل عن مسألة فيفتي فيها بما يعلمه من الأحكام التي درسها أو الأحكام الآتي اطلع عليها أو بالدليل أو بحسب الحال لكن المجتهد ينظر في الأحكام إلى مقاصد الشريعة؛ لأن الشريعة جاءت بتحقيق مقاصد، الأعرابي الذي جاء يبول في المسجد الصحابة أتوا ينكرون عليه لماذا؟


لأن بوله في المسجد خطيئة هذا لاشك فيه؛ لكن نظر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو حكم مستقى فيه النظر المقاصدي قال: «لا تزرموه لا تعجلوا عليه» ثم لما فرغ قال «أريقوا على بوله سجلاً من ماء» والحديث معروف لماذا؟ لأن لا يترتب على نهيه عن ذلك انتشار أوسع للبول في المسجد، هذا نظر مقاصدي، نظر في السياسة الشرعية وإن كان في مسألة متعلقة بالطهارة.

كذلك المسائل المتعلقة بالأمة المتعلقة بالدعوة لابد فيها من نظر المقاصد الشريعة جاءت بالمقاصد ما من تشريع إلا وله مقاصد، له غايات، ويطول الكلام إذا أتينا بالتعريف للمقاصد يعني ما يتصل بذلك ترجعون إليها في مظانها.

فهنا أحكام كثيرة متعلقة بالمقاصد لابد أن ترعى؛ يعني لابد أن ترعى، فهنا مثلا الجهاد ما مقاصده؟ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما مقاصده الشرعية؟ الدعوة إلى الله جل وعلا ما مقاصدها؟ المقاصد الشرعية المطلوبة منها، الشريعة نفسها لماذا جاءت؟

تعلمون الكلمة العامة أن الشريعة جاءت بالمحافظة على الضروريات الخمس كالدين والنفس والمال والعقل والعرض أو النسل هذه الضروريات الخمس التي هذه مقصد للشريعة.

هذا لمحة في النظر المقاصدي.

السياسة الشرعية النظر الثاني فيها متعلق بالمصالح والمفاسد، كما قال العرب، كما قال أهل الحكمة: كل إنسان يعرف الشر والخير.

فإن الله جل وعلا قال: "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ" [البلد: 10]، طريق الخير وطريق الشر وقال: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" [الشمس: 9-10].

يعني الخطوط العامة هذا حق وهذا باطل وهذا صح وهذا غلط، هذا أكثر الناس يشتركون في ذلك، خاصة الناس طلبة العلم أمثالكم الحكماء العقلاء هم الذين يعرفون خير الخيرين وشر الشرين، كما قال أحد السلف قال: ليس العاقل من يعرف الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعرف خير الخيرين وشر الشرين، هذا هو الصحيح.

فإذن الفقيه العاقل هو الذي يعرف الحكم الأكثر خيرية ليحكم به ويدعى الناس إليه، والأكثر شرا لينهى الناس عنه وهذا الفقه هو الذي نحتاجه اليوم أكثر ليس حاجة إلى بثه فقط بل إلى تدريسه وإلى ترسيخه؛ لأنه إذا لم يؤصل مبدأ السياسة الشرعية وفقه السياسة الشرعية، وكيفية رعاية المصالح ودرء المفاسد فإنه لا نظر صحيح في الشرع أصلا.

لهذا نقول هنا أن طلبة العلم يجب عليهم أن يأخذوا بالقاعدة الصحيحة المتفق عليها وهي أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها.

فالباب الذي فيه مصلحة موجودة أو مصلحة يرجى تفسيرها فهذا نجزم أن الشريعة جاءت بها والباب الذي فيه مفسدة موجودة أو مفسدة نخشى أن تكثر فنجزم أن الشريعة جاءت بوصفه في ذلك، وبحسب الحال قد لا نستطيع كل المصالح وقد لا نستطيع درء كل المفاسد للكن نجتهد أن نفتح ما نستطيع من المصالح وأن ندرأ ما نستطيع من المفاسد، وهذا هو الذي يوافق الأصول الشرعية، وهذه من القواعد العامة المتفق عليها وهي أن الشريعة جاءت لرعاية المصالح ودرء المفاسد.

الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله تعالى-

محاضرة بكلية الشريعة
قام بتفريغ المادّة: سالم الجزائري.