آفات اللسان في ضوء الكتاب والسُّـنَّة
[b style="color: black;"]
من سلسلة مؤلفات [/b]
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
تأليف الفقير إلى الله تعالى
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني
الطبعة التاسعة – محرم 1431هـ
[b style="color: black;"]
[/b]
بسم الله الرحمن الرحيم
[b style="color: black;"]
المقدمة[/b]
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ".
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا".
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا".
أما بعد فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لا شك أن الله تعالى منح الإنسان نعماً عظيمة، ومن أعظمها بعد الإسلام: نعمة النطق باللسان، وهذا اللسان سلاح ذو حدين: فإن استخدم في طاعة الله: كقراءة القرآن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصر المظلوم كان هذا هو المطلوب من كل مسلم، وكان هذا شكراً لله على هذه النعمة.
وإن استخدم في طاعة الشيطان، وتفريق جماعة المسلمين، والكذب وقول الزور، والغيبة والنميمة، وانتهاك أعراض المسلمين، وغير ذلك مما حرمه الله ورسوله.
كان هذا هو المُحَرَّمُ على كل مسلم فعله، وكان كفراناً لهذه النعمة العظيمة.
وفي اللسان آفتان عظيمتان:
1- آفة الكلام بالباطل.
2- آفة السكوت عن الحق.
فالساكتُ عن الحق شيطانٌ أخرس، عاصٍ لله، مراءٍ، مداهنٌ، إذا لم يخف على نفسه القتل ونحوه، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاصٍ لله، وأكثر البشر منحرف في كلامه وسكوته بين هذين النوعين.
وأهل الوسط كفّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعُه(1).
وآفات اللسان من أخطر الآفات على الإنسان؛ لأن الإنسان يهون عليه التحفظ، والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المُحَرَّمِ، وغير ذلك من المحرمات، ويصعب عليه التحفظ والاحتراز من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه: بالدِّين، والزهد، والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، يهوي في النار بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، أو يهوي بها في النار سبعين سنة، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يقطع، ويذبح في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي بما يقول(1).
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وَلِـخَطَرِ آفات اللسان على الفرد، والمجتمع، والأمة الإسلامية جمعت ما يسر الله لي جمعه – في هذا الموضوع الخطير – من كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد قسمته إلى ثلاثة أبواب على ا لنحوالآتي:
[b style="color: black;"]
الباب الأول: الغيبة والنميمة[/b]
الفصل الأول: الغيبة.
ويشتمل على تسعة مباحث.
الفصل الثاني: النميمة.
ويشتمل على ثمانية مباحث.
الباب الثاني: القول على الله بغير علم.
الفصل الأول: الكذب على الله وعلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-،ويشتمل على ثلاثة مباحث.
الفصل الثاني: الكذب على وجه العموم.
ويشتمل على أربعة مباحث.
الفصل الثالث: شهادة الزور.
ويشتمل على ثلاثة مباحث.
الباب الثالث: القذف، والخصومات، وبذاءة اللسان.
الفصل الأول: القذف.
ويشتمل على مبحثين.
الفصل الثاني: الخصومات والجدال.
ويشتمل على ثلاثة مباحث.
الفصل الثالث: بذاءة اللسان.
ويشتمل على خمسة وعشرين مبحثاً.
الفصل الرابع: وجوب حفظ اللسان.
وقد اجتهدت في جمع المادة العلمية لهذا البحث من المصادر والمراجع الموثوقة، وأعظمها، وأجلها على الإطلاق:
الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، وهما المنبعان الصافيان اللذان من أخذ بهما، وعضَّ عليهما بالنواجذ فاز وأفلح، ومن أعرض عنهما وعن هديهما فقد خاب وضل مسعاه وخسر.
ثم إني اجتهدت في تخريج جميع الأحاديث وعزوها إلى مصادرها الأصلية، وإذا كان الحديث في غير صحيحي البخاري ومسلم، فإني أذكر ما قاله أهل العلم المحققون في درجة الحديث.
وقد سميته: آفات اللسان في ضوء الكتاب والسنة، هذا ما يسّر الله لي جمعه، فما كان من صواب فمن الواحد المنّان، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، والله بريءٌ منه ورسولُه.
وأسأل الله العظيم، رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلا أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي، وبعد مماتي: " يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ".
وأن ينفع به من قرأه، أو سمعه، أو طبعه،أو نشره،أو كان سبباً في نشره، ومُقرِّباً لي ولهم من جنات النعيم، وأن يجعله حجة لنا، ولا يجعله حجة علينا، إنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا، وإمامنا، وقدوتنا، وحبيبنا محمد بن عبد الله، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم يإحسان إلى يوم الدين.
كتبه العبد الفقير إلى الله تعالى
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
حرر في عام 1405هـ
الباب الأول
الغيبة والنميمة
الفصل الأول: الغيبة.
وفيه تسعة مباحث.
الفصل الثاني: النميمة.
وفيه ثمانية مباحث.
الفصل الأول: الغيبة
[b style="color: black;"]
المبحث الأول[/b]
تعريف الغيبة:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ((وقد اختلف العلماء في حدِّ الغيبة.
فقال الراغب: ((هي أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير محوج إلى ذكر ذلك)).
وقال الغزالي: ((حدّ الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه)).
وقال ابن الأثير في النهاية: ((الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه)).
وقال النووي في كتابه الأذكار تبعاً للغزالي: ((الغيبة ذكر المرء بما يكرهه، سواء كان ذلك في بدن الشخص، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلقه، أو خُلقه، أو ماله، أو ولده، أو زوجه، أو خادمه، أو ثوبه، أو حركته، أو طلاقته، أو عبوسته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز)).
قال ابن التين: ((الغيبة ذكر المرء بما يكره بظهر الغيب)).
وقال الإمام النووي رحمه الله: ((ومن ذلك قول كثير من الفقهاء في التصانيف: قال بعض من يدّعي العلم، أو بعض من ينسب إلى الصلاح... ممن يفهم السامع المراد به)).
ومنه قولهم عند ذكره: ((الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة، فكل ذلك من الغيبة)).
والغيبة لا تختص باللسان، فحيثُ ما أفهمتَ الغير ما يكرهه المغتاب ولو بالتعريض، أو الفعل، أو الإشارة، أو الغمز، أو اللمز، أو الكتابة، وكذا سائر ما يتوصل به إلى المقصود، كأن يمشي مشيه فهو غيبة، بل هو أعظم من الغيبة؛ لأنه أعظم وأبلغ في التصوير والتفهيم.
[b style="color: black;"]
المبحث الثاني[/b]
الفرق بين الغيبة والنميمة:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ((واختُلِفَ في الغيبة والنميمة هل هما متغايرتان أو متحدتان؟ والراجح التغاير، وأن بينهما عموماً وخصوصاً وجيهاً.
وذلك؛ لأن النميمة نقل حال شخص لغيره على جهة الإفساد بغير رضاه، سواءً كان بعلمه أم بغير علمه.
والغيبة ذكره في غيبته بما لا يرضيه، فامتازت النميمة بقصد الإفساد، ولا يشترط ذلك في الغيبة.
وامتازت الغيبة بكونها في غيبة المقول فيه، واشتركا فيما عدا ذلك.
ومن العلماء مَنْ يشترط في الغيبة أن يكون المقول فيه غائباً، والله أعلم)).
[b style="color: black;"]
المبحث الثالث: [/b]
حكم الغيبة:
لاشك ولا ريب أن الغيبة محرمة بإجماع المسلمين، وقد تظاهر على تحريمها الدلائل الصريحة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة)).
المبحث الرابع:
الترهيب من الوقوع في الغيبة:
قال الله تعالى: "لاَّ يُحِبُّ الله الْـجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ الله سَمِيعًا عَلِيمًا".
وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَـحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ".
وقال سبحانه: "وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّـمَزَةٍ".
وقال تعالى: "مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ".
وقال سبحانه: "وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً".
[b style="color: black;"]
والغيبة: [/b]
آفة خطيرة من آفات اللسان، ولقد عرَّفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: ((أتدرون ما الغيبة)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((ذكرك أخاك بما يكره))، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)).
وعن أبي حذيفة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: حسبك من صفية كذا وكذا -تعني قصيرة- فقال: ((لقد قُلْتِ كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته))، قالت: وحكيت له إنساناً، فقال: ((ما أحب أني حكيت إنساناً، وأنّ لي كذا وكذا)).
[b style="color: black;"]
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لـمَّا عُرج بي مررت بقومٍ لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم، وصدورهم، فقلت: مَنْ هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم)).[/b]
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام: عرضه، وماله، ودمه، التقوى هاهنا، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبعْ بعضُكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا))، ويشير إلى صدره ثلاث مرات ((بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه)).
ولا شك أن غيبة المسلم الميت أفحش من غيبة الحي وأشد؛ لأن عفو الحي واستحلاله ممكن بخلاف الميت، فقد روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا مات صاحبكم فدعوه ولا تقعوا فيه)).
وعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبَهُ، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبعوا عوراتِهم؛ فإنه من اتّبعَ عوراتِهمْ يتّبع الله عورتَهُ، ومن يتبعِ الله عورته، يفضحْهُ في بيته)).
والحديث فيه تنبيه على أن غِيبة المسلم من شعار المنافق لا المؤمن، وفيه الوعيد بكشف الله عيوب الذين يتبعون عورات المسلمين، ومجازاتهم بسوء صنيعهم، وكشف مساويهم ولو كانوا في بيوتهم مخفيين من الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وعن المستورد بن شداد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَنْ أكَلَ برجلٍ مسلمٍ أُكْلةً فإن الله يُطعِمُهُ مثلها من جهنم، ومَنْ كُسِيَ ثوباً برجلٍ مسلمٍ فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومَنْ قام برجلٍ مقام سُمعةٍ ورياءٍ؛ فإن الله يقوم به مقام سُمعة ورياء يوم القيامة)).
وهذا الحديث فيه الوعيد لمَنْ أكل أكلةً برجل مسلم: أي بسبب اغتيابه والوقيعة فيه، أو بتعرضه له بالأذية عند مَنْ يُعاديه،أو كُسِيَ ثوباً بسبب إهانته، فإن الله تعالى يُطعمه من جهنم مثل ما طعم بهذا الرجل المسلم، ويكسوه من جهنم مثل ما كُسِيَ؛ لأن الجزاء من جنس العمل، والله أعلم.
[b style="color: black;"]
ومعنى ((مَنْ قام برجل مسلم...)) ذكروا له معنيين:[/b]
المعنى الأول:
أن الباء للتعدية، أي أقام رجلاً مقام سمعة ورياء، ووصفه بالصلاح، والتقوى، والكرامات، وشهره بها وجعله وسيلة إلى تحصيل أغراض نفسه وحطام الدنيا، فإن الله يقوم بعذابه وتشهيره، لأنه كان كاذباً.
[b style="color: black;"]
والمعنى الثاني: [/b]
أن الباء للسببية، وقيل: هو أقوى وأنسب أي من قام برجلٍ من العظماء من أهل المال والجاه مقاماً يتظاهر فيه بالصلاح والتقوى؛ ليعتقد فيه، ويصير إليه المال والجاه، أقامه الله مقام المرائين، ويفضحه ويعذبه عذاب المرائين.
وقد يحتمل أن تكون الباء في ((برجل)) للتعدية والسببية، فإن كانت للتعدية يكون معناه: من أقام رجلاً مقام سمعة ورياء، يعني: من أظهر رجلاً بالصلاح والتقوى، ليعتقد الناس فيه اعتقاداً حسناً، ويُعِزُّونه ويخدمونه؛ لينال بسببه المال والجاه، فإن الله يقوم له مقام سمعة ورياء بأن يأمر ملائكته بأن يفعلوا معه مثل فعله، ويظهروا أنه كذاب.
وإن كانت للسببية فمعناه: أن مَنْ قام وأظهر من نفسه الصلاح والتقوى لأجل أن يعتقد فيه رجلٌ عظيم القدر كثير المال؛ ليحصل له مال وجاه)).
وعن أسامة بن شريك -رضي الله عنه- قال: شهدتُ الأعرابَ يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- أعلينا حرج في كذا؟ أعلينا حرج في كذا؟ [لأشياء ليس بها بأس]، فقال لهم: ((عباد الله وضع الله الحرج، إلا من اقترض من عرض أخيه شيئاً فذلك الذي حرج وهلك...)).
[b style="color: black;"]
ومعنى "اقترض":[/b]
أي اقتطع.
والمراد أنه نال من أخيه المسلم بالطعن فيه.
وعن سعيد بن زيد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن من أربى الرِّبا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق)).
بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن من أربى الربا إطالة اللسان في عرض المسلم باحتقاره، والترفع عليه, والوقيعة فيه بقذف، أو سب، ونحو ذلك، فإن ذلك أكثر الربا، وأشده تحريماً؛ لأن العرض أعز على النفس من المال.
[b style="color: black;"]
وقد أدخل -صلى الله عليه وسلم- العرض في جنس المال على سبيل المبالغة، وجعل الربا نوعين:[/b]
متعارف:
وهو ما يؤخذ من الزيادة على ماله من المديون.
وغير متعارف:
وهو استطالة الإنسان في عرض المسلم بغير حقّ، وبيَّن أنّ أشد النوعين تحريماً هو الاستطالة في عرض المسلم بغير حق.
أما إذا كانت الاستطالة بحق فيجوز لصاحب الحق بشروط وبقيود بيّنها أهل العلم، وسيأتي بيان ما تجوز فيه الغيبة إن شاء الله تعالى.
وفي حديث أبي هريرة عند الحافظ أبي يعلى وغيره قصة ماعز الذي جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطلب منه أن يُطهِّره من الزنا، فأعرض عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قالها أربعاً، فلما كان في الخامسة قال: ((زنيتَ))؟ قال: نعم، ثم سأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ثبت عنده زنا ماعز فأمر برجمه فرُجم.
فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم ترَ إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعْه نفسُه حتى رُجِمَ رَجمَ الكلب؟ ثم سار النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى مر بجيفة حمار فقال: ((أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار)) قالا: غفر الله لك يا رسول الله، وهل يُؤكل هذا؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((فما نلتما من أخيكما آنفاً أشدُّ أكلاً منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها)).
وعن جُندب بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((مَنْ سمّع سمَّع الله به يوم القيامة))، قال: ((ومَنْ شاقّ شقّ الله عليه يوم القيامة))، فقالوا: أوصنا، فقال: ((إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمَنْ استطاع أن لا يأكل إلا طيباً فليفعل، ومَنْ استطاع أن لا يُحال بينه وبين الجنة بملء كفٍّ من دم هراقه فليفعل)).
والمراد بالحديث النهي عن القول القبيح في المؤمنين، وكشف مساويهم وعيوبهم، وترك مخالفة سبيل المؤمنين، ولزوم جماعتهم، والنهي عن إدخال المشقة عليهم والإضرار بهم.
وقد روى مسلم في صحيحه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((اللهم مَنْ وَلِيَ من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم فاشققْ عليه، ومَنْ وَلِيَ من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفُقْ به)).
المبحث الخامس:
ما ينبغي لمن سمع غيبة أخيه المسلم:
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: ((اعلم أنه ينبغي لمن سمع غِيبة مسلم أن يردّها، ويزجر قائلها، فإن لم ينزجر بالكلام زجره بيده، فإن لم يستطع باليد، ولا باللسان فارق ذلك المجلس، فإن سمع غيبة شيخه أو غيره مِمَنْ له عليه حق، أو من أهل الفضل والصلاح، كان الاعتناء بما ذكرناه أكثر)).
وعن عتبان -رضي الله عنه- في حديثه الطويل المشهور قال: قام النبي-صلى الله عليه وسلم- يصلي، فقالوا: أين مالك بن الدخيشن، أو ابن الدخشن -رضي الله عنه- فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله، ورسوله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقل ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله)) قال: قالوا: الله ورسوله أعلم، قال فإنما نرى وجهه ونصيحته للمنافقين، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((فإن الله قد حرم على النار مَنْ قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)).
وعن جابر بن عبد الله وأبي طلحة -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من امرئٍ يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطنٍ يحب فيه نصرته، وما من امرئٍ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطنٍ يحب فيه نصرته)).
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((مَنْ ردّ عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)).
وعن أسماء بنت يزيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَنْ ذبَّ عن لحم أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار)).
وعن كعب بن مالك -صلى الله عليه وسلم- في حديثه الطويل في قصة توبته قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في القوم في تبوك: ((ما فعل كعب بن مالك))؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه بُرداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: ((بئس ما قلت: والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيراً))، فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)).
المبحث السادس
الأسباب الباعثة على الغيبة:
عندما ينظر الإنسان المسلم العاقل ويفكر في الأسباب التي تدفع المغتاب إلى الغيبة، وتدفع النمام إلى النميمة.
[b style="color: black;"]
فسوف يجد لذلك أسباباً منها ما يأتي:[/b]
السبب الأول:
هو محاولة الانتصار للنفس، والسعي في أن يشفي المغتاب الغيظ الذي في صدره على غيره، فعند ذلك يغتابه أو يبهته، أو ينقل عنه النميمة.
السبب الثاني:
الحقد للآخرين والبغض لهم، فيذكر مساوئ من يبغض؛ ليشفي حقده، ويبرِّد صدره بغيبة من يبغضه ويحقد عليه.
وهذا ليس من صفات المؤمنين كاملي الإيمان، نسأل الله العافية.
[b style="color: black;"]
السبب الثالث: [/b]
إرادة رفعة النفس، وخفض غيره، كأن يقول: فلان جاهل، أو فهمه ضعيف، أو سقيم، أو عبارته ركيكة تدرجاً إلى لفت أنظار الناس إلى فضل نفسه، وإظهار شرفه بسلامته عن تلك النقائص التي ذكرها في مَنِ اغتابه، وهذا من الإعجاب بالنفس، نعوذ بالله من ذلك، وهو من المهلكات التي بيّنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
السبب الرابع:
موافقة الجلساء والأصحاب، والأصدقاء، ومجاملتهم فيما هم عليه من الباطل؛ لكي يُكسَب رضاهم حتى ولو كان ذلك بغضب الله -تعالى-، وهذا من ضعف الإيمان وعدم مراقبة الله -تعالى-.
السبب الخامس:
إظهار التعجب من أصحاب المعاصي:
كأن يقول الإنسان:
ما رأيت أعجب من فلان، كيف يخطئ وهو رجل عاقل أو كبير أو عالم أو غير ذلك، وكان من حقه عدم التعيين.
السبب السادس:
السخرية والاستهزاء بالآخرين والاحتقار لهم.
السبب السابع:
الظهور بمظهر الغضب لله على من يرتكب المنكر، فيظهر غضبه، ويذكر اسمه مثل أن يقول فلان لا يستحيي من الله يفعل كذا وكذا، ويقع في عرضه بالغيبة.
السبب الثامن:
الحسد، فيحسد المغتاب من يُثني عليه الناس ويحبونه فيحاول المغتاب الحسود قليل الدين والعقل أن يزيل هذه النعمة فلا يجد طريقاً إلى ذلك إلا بغيبته، والوقوع في عرضه، حتى يزيل نعمته أو يقلل من شأنه عند من يثنون عليه.
وهذا من أقبح الناس عقلاً، وأخبثهم نفساً نسأل الله العافية.
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الناس أفضل؟ قال: ((كل مخموم القلب صدوق اللسان))، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقيُّ النّقيُّ، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)).
السبب التاسع:
إظهار الرحمة والتّصنُّع بمواساة الآخرين، كأن يقول لغيره من الناس: مسكين فلان قد غمني أمره،وما هو فيه من المعاصي.
السبب العاشر:
التصنّع، واللعب، والهزل، والضحك فيجلس المغتاب خبيث النفس فيذكر عيوب غيره مما يضحك به الناس فيضحك الناس، فعند ذلك يرتاح ويزيد من الكذب والغيبة على سبيل الهزل والنكت والإعجاب بالنفس.
وهذا ينطبق عليه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي قال فيه: ((ويلٌ للذي يُحدِّث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويلٌ له، ويلٌ له)).
السبب الحادي عشر:
هو أن ينسب إليه فعلاً قبيحاً فيتبرأ منه ويقول: فلان الذي فعله، ومحاولة إلقاء اللوم والتقصير على غيره؛ ليظهر بمظهر البريء من العيوب.
السبب الثاني عشر:
الشعور بأن غيره يريد الشهادة عليه، أو تنقيصه عند كبير من الكبراء، أو صديق من الأصدقاء، أو سلطان فيسبقه إلى هذا الكبير ويغتابه؛ ليسقط من عينه، وتسقط عدالته، أو مروءته.
يتبع إن شاء الله...