الإمام أبوعمرو الدانى
ترجمة لفضيلة الدكتور عبدالهادى حميتو حفظه الله
الإمام أبوعمرو: هو عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد الأموى بالولاء القرطبى المولد و النشأة عرف هو و أبوه قبله بابن الصيرفى ، ثم غلب عليه نسب الدانى بعد أن صار الى شرق الاندلس و نزل بدانية ، قال القاسم بن يوسف التجيبى فى برنامجه:
"و لم يكن ــ رحمه الله ــ من دانية و لكنه نزلها و أقرأ بها فشهر بذلك ، و كان قرطبيا سكن منها بربض قوته راشة بحومة مسجد ابن أبى لبدة ، و كان أبوه صيرفيا رحمة الله عليهما " انتهى (برنامج التجيبى:36).
مولده و نشأته :
اختلفت الروايات اختلافا يسيرا فى تحديد سنة ميلاده ، فروى ابن بشكوال بسنده إليه قال : "قال أبوعمرو : سمعت أبى رحمه الله ــ غير مرة يقول :
إنى ولدت سنة إحدى و سبعين و ثلاثمائة" انتهى ( الصلة لابن بشكوال :2/386 ترجمة رقم 876) .
و على هذا درج الحافظ الذهبى و ابن الجزرى فى كتابيهما فى القراء .
و روى ياقوت فى معجمه من طريق أبى داود صحب أبى عمرو الدانى قال :
" كتبت من خط أستاذى عثمان بن سعيد بن عثمان المقرىء بعد سؤالى عن مولده :
أخبرنى أبى أنى ولدت فى سنة اثنتين و سبعين و ثلاثمائة و ابتدأت فى طلب العلم سنة ست و ثمانين ، و توفى أبى فى سنة ثلاث و تسعين فى جمادى الأولى" انتهى ( معجم الأدباء لياقوت: 12/125-127).
و عاش أبوعمرو طفولته بقرطبة، و هى يومئذ فى أوج نهضتها العلمية التى ورثتها عن عهود الازدهار من خلافة الأمويين بالاندلس على عهد عبدالرحمن الناصر و ابنه الحكم المستنصر الذى توفى سنة 366 هـ فخلفه ولده هشام ، و كان غلاما صغيرا ، فولى أمر تدبير الدولة باسمه المنصور محمد بن أبى عامر الحاجب ، فولد أبوعمرو فى عهده ، و تدل أخبار أبوعمرو على أنه حفظ القرءان فى سن مبكرة ، و أخذ فى طلب العلم بعد سنة خمس و ثمانين و هو فى نحو الخامسة عشرة . (الصلة:2/386)
طلبه للعلم :
و ما أن بلغ العشرين حتى كان قد استكمل قرائته للسبعة بالأخذ من قراء بلده ، و أهمهم خاله محمد بن يوسف النجاد ، و سمع الكثير فى الفقه و الحديث و السير و اللغة و الأدب و غيرها من علوم الرواية ، ثم رحل فسمع بأستجة و بجانة وسرقسطة و غيرها من بلاد الثغر و شرق الأندلس .
كما أنه رحل إلى ألبيرة فقرأ على أبى عبد الله بن أبى زمنين أحد كبار شيوخ الحديث و الآثار ( الإحاطة لابن الخطيب:4/109-110) .
ثم تاقت نفسه إلى المزيد ، فأخذ يعد العدة للرحلة خارج البلاد ، فاتجه إلى أفريقية ثم منها إلى مصر و الحجاز .
قال أبوعمرو :
" فرحلت إلى المشرق فى اليوم الثانى من المحرم يوم الأحد سنة سبع و تسعين ، ومكثت بالقيروان أربعة أشهر و لقيت جماعة و كتبت عنهم ".
" ثم توجهت إلى مصر ، و دخلتها فى الثانى من الفطر من العام المؤرخ ، و مكثت بها إلى باقى العام و العام الثانى ، و هو عام ثمانية إلى حين خروج الناس إلى مكة ".
" و قرأت بها القرءان ، و كتبت بها الحديث و الفقه و القراءات و غير ذلك عن جماعة من المصريين و البغداديين و الشاميين و غيرهم ".
" ثم توجهت إلى مكة ، وحججت ، و كتبت بها عن أبى العباس أحمد البخارى و عن أبى الحسن بن فراس ، ثم انصرفت إلى مصر و مكثت بها أشهرا ".
" ووصلت إلى الأندلس أول الفتنة بعد قيام البربرعلى ابن عبدالجبار بستة أيام ، فى ذى القعدة سنة تسع و تسعين . و مكثت بقرطبة إلى سنة ثلاث و أربعمائة ".
" و خرجت منها إلى الثغر ، فسكنت سرقسطة سبعة أعوام ، ثم خرجت منها إلى ألوطة ، و دخلت دانية سنة تسع و أربعمائة ، و مضيت منها إلى ميورقة فى تلك السنة نفسها فسكنتها ثمانية أعوام " .
" ثم انصرفت إلى دانية سنة سبع عشرة و أربعمائة ". (معجم الأدباء:12/125-127).
تلك هى تفاصيل المعالم الكبرى من تنقلات أبى عمرو فى رحلته العلمية التى لقى فيها و قرأ على من قرأ عليه من رجال مشيخته فى الأندلس و إفريقية و القيروان و طرابلس و مصر و مكة المكرمة .
و قد اجتمع فى رحلته بالقيروان بكبار مشيخة المدرسة المالكية فى الفقه ، و من أهمهم الشيخ أبوالحسن القابسى و أبوعمران الفاسى ، و قد صحبه هذا الأخير بها و حج معه فى السنة التى حج فيها ، و لكنه فارقه فى رحلة العودة فلم يتح لأبى عمرو ما أتيح لأبى عمران من دخول العراق و لقاء شيوخ الرواية به ، و قد قال الدانى فى ترجمته له فى الحديث عن هذه الأحداث :
" كتب معنا بالقيروان و بمصر و بمكة المكرمة ، و توجه إلى بغداد ، و أنا بمكة سنة تسع و تسعين و ثلاثمائة و أقام اشهرا ، و قرأ بها القرءان و سمع الحروف ، و كتب عن جماعة من محدثيها حديثا منثورا " (غاية النهاية:2/321-322ترجمة 3691).
و هكذا كانت خاتمة المطاف بعد هذا التجوال و التجواب أن ألقى أبوعمر عصا الترحال ، و مد أطناب الإقامة فى كنف أمير دانية و الجهات الشرقية من الثغر بالأندلس الأمير مجاهد العامرى ، إلى أن توفى هذا الأمير سنة 436 هـ ، ثم فى رعاية ولده الموفق إقبال الدولة بقية حياته إلى أن لبى أبوعمرو داعى ربه هنالك ، فمات عن سن يشارف الثالثة و السبعين عاما رحمه الله تعالى.
و كان رحمه الله لما حضرته الوفاة أوصى ابنه أبا العباس بأن يصلى عليه بعد وفاته عبدالله بن خميس فأنفذ وصيته بذلك فى النصف من شوال سنة اربعمائة و أربعة وأربعين .
ووافق ذلك يوم الإثنين ، و كان دفنه عند صلاة العصر فى اليوم الذى توفى فيه .
"و مشى السلطان ابن مجاهد أمام نعشه ، و كان الجمع عظيما فى جنازته" .
فرحم الله حافظ القراءات و إمام المقرئين بالمغرب و المشرق عثمان بن سعيد الدانى ، و بوأه الله منازل الصديقين ، و خلد ذكراه فى العالمين بين الأئمة المجتهدين .
يا حافظ الدنيا و من بـهــر النــــــــهى * تيســيـــره و بيـانه و الجــــــامع
و بمقنع بــــذ الفحـــول و مــحــــــكم * بده العقول فما لديـــه منـــــــــازع
و بديــــــع إســــــــناد كـــأن رجــــاله * فيه البدور ســــمت لهن مطــــالع
مــــن كل حــبــر للمــــــــقارىء بارع * بر تخــــــيـــــره إمــــــــــام بارع
يتفجر التنزيـــــل بين ضــــلوعــــــــه * كالنبـــــع يدفق ســـيـــبه المتدافع
قد جئت فى علم المقارىء واحــــدا * فذا فمالك فى النــــــــبوغ مضـــارع
و برزت كالشمس المنيرة بالضــحى * زهراء جللها الضيــــــاء الســــاطع
حتى تقاصر عن مـــــداك مـــــــحاول * و رمى المقادة و استراح الطـــامع
و كذاك يخــــــتص الإلـه بفــــــــــضله *من شاء ما دون المواهــــب وازع
جادت أباعـــــــمـــــرو ثـــــراك مراحم * تزهــــو بها لك فى الجــنان مراتع
ما حبر السبـــــــع المــــثانى قارىء * و تصدر الســــــبع المقارىء نافــــع
( الترجمة بأكملها و كذا القصيدة منقولة من كتاب معجم شيوخ الحافظ أبى عمرو الدانى لفضيلة الدكتور عبدالهادى حميتو حفظه الله )