قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.
يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب):"لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين)فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُمِصْرَعلى سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض،والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحيفيلسوف العمارة ومهندس الفقراء:هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية،وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول،اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن،ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كوروناغير المتوقعة للبشريةأنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباءفيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض..فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي"رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي(رحمه الله)قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني،وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.
موضوع: ضوابط الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة اليوم في 7:25 am
بسم الله الرحمن الرحيم ضوابط الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة رؤية معاصرة أعدها: د. وائل عبدالمتعال شهاب نجم دكتوراه الدراسات الإسلامية باللغة الإنجليزية - جامعة الأزهر رئيس وحدة الفتوى (إنجليزي) - موقع إسلام أون لاين. نت (سابقًا) رئيس القسم الشرعي (إنجليزي) - موقع أون إسلام. نت عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين 1432هـ - 2011م
ضوابط الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة رؤية معاصرة تمهيد: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فقد شرفت بتلقي دعوة كريمة من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين (مكتب القاهرة) للإسهام بورقة بحثية لمؤتمره "سمات الخطاب الإسلامي"، والذي سيعقد بالقاهرة في المدة من 28 ـ 29 من شعبان 1432 هـ الموافق 29 ـ 30 من يوليه 2011 م، فاخترت أن أكتب في موضوع "الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة: رؤية معاصرة"؛ وذلك للأسباب التالية: 1. الأهمية البالغة لهذا الموضوع للجاليات المسلمة بأوروبا وأمريكا وغيرهما. 2. ندرة الأبحاث والدراسات العلمية في هذا الموضوع الهام. 3. صلتي الوثيقة بهذا الموضوع من خلال دراستي الأكاديمية بجامعة الأزهر. 4. خبرتي الطويلة في ميدان الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة من خلال عملي عقدًا من الزمان باحثًا ومشرفًا لوحدة الفتوى باللغة الإنجليزية بموقع إسلام أون لاين. نت، ثم رئيسًا للقسم الشرعي باللغة الإنجليزية بموقع أون إسلام. نت. وقد قسمت البحث إلى: المقدمة: وتلقي فكرة عامة على الموضوع، وأهميته، وطريقة تناول البحث له. الفصل الأول: تحديد المفاهيم والمصطلحات. الفصل الثاني: ضوابط الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة. الفصل الثالث: مدارس الخطاب الفقهي للأقليات. الخاتمة: وتعرض لأهم نتائج البحث ومقترحاته.
مقدمة لا شك أن الخطاب الإسلامي بحاجة ماسة إلى تطوير دائم ومراجعة مستمرة؛ لمواكبة تحديات العصر ومتطلباته، وهذا أمر طبيعي وضروري، اقتضته أمانة تبليغ رسالة الإسلام للعالمين - تلك الأمانة التي تأبى السموات والأرض أن يحملنها ويشفقن منها - كما اقتضته التغيرات السريعة والتطورات المتلاحقة والأحداث الجسام التي يموج بها العالم في كافة الأصعدة؛ العلمية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، وغيرها. والخطاب الإسلامي الفقهي للأقليات المسلمة يعد أكثر تعقيدًا وأشد خطرًا عنه لمسلمي الأقطار الإسلامية؛ وذلك لعوامل كثيرة، منها: ندرة الباحثين والمفتين المؤهلين الراسخين في العلم، القادرين على خطاب الأقليات المسلمة بألسنتها. من ثم فإنني أسطر في تلك الورقة بعض ما أراه من الضوابط المنهجية للخطاب الفقهي للأقليات المسلمة، والتي خلصت إليها في ضوء دراستي الأكاديمية بجامعة الأزهر الشريف، وكذلك من واقع عملي لعقد من الزمان باحثًا ورئيسًا لوحدة الفتوى (إنجليزي) بموقع إسلام أون لاين. نت، ثم رئيسًا للقسم الشرعي (إنجليزي) بموقع أون إسلام. نت، حيث استقبلنا - ولا نزال نستقبل - عشرات الألوف من الأسئلة من مسلمي الأقليات، خاصة بأمريكا وأوروبا، وقد شاركت في تحرير وإجابة السواد الأعظم من الأسئلة التي وردتنا. وسأعرض كذلك لأهم المدارس الفقهية التي تهتم بالأقليات المسلمة، وسمات تلك المدارس، ثم سأتناول سبل دعم المؤسسات الفقهية التي تمثل المدرسة الوسطية المعنية بالأقليات المسلمة، من أجل دعم الفقه الوسطي ونشره بين أبناء الجاليات المسلمة بالغرب والشرق.
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: ضوابط الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة اليوم في 7:32 am
الفصل الأول تحديد المفاهيم والمصطلحات
يقرر العلماء أن "الحكم على الشيء فرع عن تصوره"؛ لذا رأيت أن أبدأ بحثي بتعريف المفاهيم والمصطلحات الرئيسية المكونة لعنوان البحث، وهي "الضابط"، و"الخطاب الفقهي"، و"الأقليات المسلمة".
أولًا: تعريف الضابط: الضابط لغة: اسم فاعل من ضبط، والضبط: لزوم الشيء وحبسه، وضبط الشيء حفظه بالحزم، والرجل ضابط؛ أي: حازم، والضبط: إحكام الشيء وإتقانه، وضَبَط الكتابَ ونحوه: أصلح خلله، وللضابط معانٍ أخرى، ولكن أغلب معانيه لا تعدو الحصر والحبس والقوة.
والمراد بالضوابط (جمع ضابط) في البحث الأسس والمبادئ العامة التي من شأنها أن تضبط الخطاب الفقهي، وتصونه في جميع جزئياته، ولا يخفى أنني لا أشير هنا إلى مصطلح "الضوابط الفقهية" الذي يستخدم أحيانًا كمرادف للقواعد الفقهية؛ فهذا ليس محل البحث.
ثانيًا: تعريف الخطاب الفقهي: الخطاب في اللغة: مصدر على وزن فِعال من خاطبه خطابًا ومخاطبة، وهو الكلام الموجه إلى طرف آخر، وفي التنزيل العزيز: {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]، والخطاب أيضًا يعني الرسالة، وفصل الخطاب: ما ينفصل به الأمر من الخطاب، وفي التنزيل العزيز: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]، وفصل الخطاب أيضًا: الحكم بالبينة أو اليمين، أو الفقه في القضاء، أو النطق بـ: أما بعدُ، أو أن يفصل بين الحق والباطل، أو هو خطاب لا يكون فيه اختصار مخلٌّ، ولا إسهاب ممل.
والخطاب عند الأصوليين: الكلام المقصود منه إفهامُ مَن هو متهيِّئ للفهم، وعرفه قوم بأنه ما يقصد به الإفهام، أعم من أن يكون مَن قصد إفهامه متهيئًا أم لا، وقيل: الأولى أن يفسر بمدلول ما يقصد به الإفهام.
وفي الاصطلاح الغربي: الخطاب هو شرح شفهي يتعلق بموضوع معين يوجه إلى الجمهور، وهو عبارة عن مجموعة المظاهر القولية والمكتوبة التي تمثل أيديولوجية.
وأما الفقه لغة فهو بمعنى الفهم والفطنة والعلم، وغلب في علم الشريعة وفي علم أصول الدين، يقال: فقه الأمر فقهًا: أحسن إدراكه، ويقال: فقه عنه الكلام ونحوه: فهِمه، فهو فَقِهٌ.
والفقه اصطلاحًا: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، ولم يكن "الفقه" يستخدم لهذا المعنى الاصطلاحي في العصر الأول للإسلام، بل كان يتضمن علوم الشريعة الأخرى؛ كالتصوف والكلام، والأحوال والأخلاق، ومن ثم عرف الإمام أبو حنيفة (80 هـ - 150 هـ) الفقه بأنه "معرفة النفس ما لها وما عليها"، وصنف كتابه "الفقه الأكبر" وضمنه شرحًا للعقائد والغيبيات والنبوة وغيرها من موضوعات علم الكلام.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي (445 هـ - 505 هـ) في مستصفاه: الفقه عبارة عن العلم والفهم في أصل الوضع، يقال: فلان يفقه الخير والشر؛ أي: يعلمه ويفهمه، ولكن صار بعرف العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين خاصة، حتى لا يطلق بحكم العادة اسم الفقيه على متكلم وفلسفي ونَحْوي ومحدِّث ومفسِّر، بل يختص بالعلماء بالأحكام الشرعية الثابتة للأفعال الإنسانية؛ كالوجوب، والحظر، والإباحة، والندب، والكراهة، وكون العقد صحيحًا وفاسدًا وباطلًا، وكون العبادة قضاءً وأداءً وأمثاله.
ويقول الإمام الرازي (544 هـ - 606 هـ) في المحصول: وأما الفقه فهو في أصل اللغة عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه، وفي اصطلاح العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية العملية والمستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة.
ويعرف الإمام الآمدي (551 هـ - 631 هـ) الفقه في إحكامه قائلًا: أما الفقه ففي اللغة عبارة عن الفهم، ومنه قوله تعالى: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91]؛ أي: لا نفهم، وقوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]؛ أي: لا تفهمون، وتقول العرب: فقهت كلامك؛ أي: فهمته، وقيل: هو العلم، والأشبه أن الفهم مغاير للعلم؛ إذ الفهمُ عبارة عن جودة الذهن من جهة تهيئته لاقتناص كل ما يرد عليه من المطالب، وإن لم يكن المتصف به عالِمًا كالعامي الفطن... وعلى هذا فكل عالم فهم، وليس كل فهم عالِمًا، وفي عرف المتشرعين الفقه مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال.
ومفهوم "الخطاب الفقهي" في هذا البحث يقصد به الإفصاح والتبيان عن أحكام شرعية عملية شفاهةً أو كتابةً، سواء صدر عن هيئات أو مجامع فقهية أو أفراد، وسواء كان بيانًا أو قرارًا أو فتوى أو دراسةً أو كتابًا.
ثالثًا: تعريف الأقليات المسلمة: لقد راج مصطلح "الأقليات" في العصر الحديث، نتيجة لكثرة الهجرات وتقارب العالم بعضه مع بعض، ويراد به: كل مجموعة بشرية في قُطر من الأقطار، تتميز عن أكثرية أهله في الدين، أو المذهب، أو العِرق، أو اللغة، أو نحو ذلك، من الأساسيات التي تتمايز بها المجموعات البشرية بعضها عن بعض.
أما الأقليات المسلمة فهم نوعان: أولًا: أقلية عددية، مثل: الأقليات المسلمة في أوربا وأمريكا والهند والصين وغيرها، وهؤلاء قد يكونون من أبناء البلد، أو من المهاجرين المسلمين.
ثانيًا: أقلية في الحقوق القانونية بما يمارس عليهم من اضطهاد، مثل: مسلمي كشمير والشيشان وأوزبكستان وأذربيجان وقرقيزيا وغيرها، وقد يدخل فيها بعض الدول الإسلامية التي لا تحظى فيها الأكثرية المسلمة بحقوق الأقلية غير المسلمة، ويطارد فيها الدعاة والمصلحون، ويعيشون ظروفًا أسوأ بكثير من المسلم الذي يعيش في الغرب.
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: ضوابط الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة اليوم في 8:05 am
الفصل الثاني ضوابط الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة
قد يتساءل البعض: هل يختلف الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة عنه للأكثرية؟ وهل يختلف الخطاب الإسلامي من عصر إلى آخر؟ وهل لكل عصر خطاب دعوي أو فقهي يخصه؟ أليس الدين الذي يستمد منه الخطاب ثابتًا؟ فلماذا يتغير الخطاب ويتنوع بأسباب شتى؟
إن هذه التساؤلات تحتم علينا أن نوضح -قبل الشروع في ذكر ضوابط الخطاب الفقهي للأقليات- أن الدين في أصوله لا يتغير، ولكن الذي يتغير هو أسلوب الدعوة إليه، ووسائل تبليغه للعالمين، خاصة مع تغير وسائل الاتصال وتطورها على النحو الذي نراه في العصر الحاضر، وإن كان علماؤنا السابقون قد قرروا أن الفتوى تتغير بتغير المكان والزمان والحال والعرف - وأضاف د. القرضاوي ستة موجبات أخرى تتغير بها الفتوى في العصر الحاضر، وهي تغير المعلومات، وتغير حاجات الناس، وتغير قدراتهم وإمكاناتهم، وعموم البلوى، وتغير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتغير الرأي والفكر -فإن الخطاب الإسلامي الفقهي أو الدعوي يتغير- من باب أولى - وفق تلك المتغيرات؛ فالخطاب الفقهي للمسلم الجديد يختلف عنه للمسلم الذي نشأ وتربى على الإسلام وتعاليمه، والخطاب الفقهي والدعوي للعالم الراسخ في العلم يختلف عنه للعامي، وكذا الخطاب الفقهي للمجتمعات المسلمة في بلاد الإسلام يختلف عنه للأقليات المسلمة بالغرب والشرق.
والقرآن الكريم يقرر تلك الحقيقة حينما يرشد الله عز وجل نبيه (صلى الله عليه وسلم) والدعاة والعلماء من بعده إلى التنوع في أسلوب الدعوة حسب مقتضى الحال وطبيعة المخاطب، فيقول الله تعالى في محكم التنزيل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
يقول الإمام القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذه الآية: وأمره (أي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم) أن يدعوَ إلى دين الله وشرعه بتلطُّف ولِين دون مخاشَنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة.
ويقول ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير": الحكمة: هي المعرفة المحكمة؛ أي: الصائبة المجردة عن الخطأ، فلا تطلق الحكمة إلا على المعرفة الخالصة عن شوائب الأخطاء وبقايا الجهل في تعليم الناس وتهذيبهم؛ ولذلك عرَّفوا الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بحسب الطاقة البشرية، بحيث لا تلتبس على صاحبها الحقائق المتشابهة بعضها ببعض، ولا تخطئ في العلل والأسباب، وهي اسم جامع لكل كلام أو علم يراعى فيه إصلاح حال الناس واعتقادهم إصلاحًا مستمرًّا لا يتغير....
والموعظة: القول الذي يلين نفس المقُول له لعمل الخير، وهي أخص من الحكمة؛ لأنها حكمة في أسلوب خاص لإلقائها.... ووصفها بالحسن تحريض على أن تكون لينة مقبولة عند الناس؛ أي: حسنة في جنسها....
والمجادلة: الاحتجاج لتصويب رأي وإبطال ما يخالفه أو عمل كذلك، ولما كان ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين قد يبعثه على الغلظة عليهم في المجادلة، أمَره الله بأن يجادلهم بالتي هي أحسن....
والآية تقتضي أن القرآن مشتمل على هذه الطرق الثلاثة من أساليب الدعوة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعا الناس بغير القرآن من خطبه ومواعظه وإرشاده يسلك معهم هذه الطرق الثلاثة، وذلك بحسب ما يقتضيه المقام من معاني الكلام ومن أحوال المخاطبين من خاصة وعامة، وليس المقصود لزوم كون الكلام الواحد مشتملًا على هذه الأحوال الثلاثة، بل قد يكون الكلام حكمةً مشتملًا على غلظة ووعيد، وخاليًا عن المجادلة، وقد يكون مجادلة غير موعظة.
ومن الإعجاز العلمي في القرآن: أن هذه الآية جمعت أصول الاستدلال العقلي، وهي البرهان والخطابة والجدل المعبر عنها في علم المنطق بالصناعات، وهي المقبولة من الصناعات، وأما السفسطة والشعر فيربأ عنهما الحكماء الصادقون، بله الأنبياء والمرسلين.
من ثم فالخطاب الإسلامي -الدعوي والفقهي وغيرهما- يختلف ويتغير بحسب ما يقتضيه المقام، وحسب أحوال المخاطَبين.
وفيما يلي سأعرض لأهم الضوابط التي ينبغي أن ينضبط بها الخطاب الفقهي الموجه للأقليات المسلمة: أولًا: مراعاة التيسير ورفع الحرج: إن التيسير والرحمة والسماحة ورفع الحرج من خصائص شريعة الإسلام الخالدة، وقد دل على ذلك كثير من نصوص القرآن والسنة المطهرة، وكذلك استقراء جملة من الأحكام الشرعية يحصل من مجموعها القطع بأن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه، فمن النصوص الدالة على يسر الشريعة ورفع الحرج قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، وكذلك حديث: "ما خُيِّر رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) بين أمرين، أحدهما أيسر من الآخر، إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه".
وما أروع ما قاله الإمام الشاطبي (ت 790 هـ) في موافقاته حين قال: إن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه، والدليل على ذلك أمور: أحدها: النصوص الدالة على ذلك؛ كقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وقوله: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]، وفى الحديث: ((قال الله تعالى: قد فعلت))، وجاء: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، وفي الحديث: ((بُعثت بالحنيفية السمحة))، و"ما خُير بين أمرين، أحدهما أيسر من الآخر، إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا"، وإنما قالت: ما لم يكن إثمًا، لأن ترك الإثم لا مشقة فيه من حيث كان مجرد ترك إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى، ولو كان قاصدًا للمشقة، لما كان مريدًا لليسر ولا للتخفيف، ولكان مريدًا للحرج والعسر، وذلك باطل.
والثاني: ما ثبت أيضًا من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ومما علم من دين الأمة ضرورة؛ كرخص القصر والفطر والجمع، وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا النمط يدل قطعًا على مطلق رفع الحرج والمشقة، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال، ولو كان الشارع قاصدًا للمشقة في التكليف، لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف.
والثالث: الإجماع على عدم وقوعه وجودًا في التكليف، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه، ولو كان واقعًا لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف، وذلك منفي عنها، فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة، وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير كان الجمع بينهما تناقضًا واختلافًا، وهي منزهة عن ذلك.
فإذا طالبنا الفقيه والعالم بمراعاة التيسير ورفع الحرج مع المسلمين كافة، فإن هذا آكد في حق الأقليات المسلمة التي تعيش ظروفًا أكثر تعقيدًا، وتواجه تحديات قاسية تهدد هويتها الإسلامية، فإذا عرضت للفقيه مسألة أو نازلة يصح فيها بعض الآراء المختلفة، فإن عليه أن ينتقي ويختار ما يحقق التيسير ويرفع الحرج، خاصة في النوازل والمسائل العامة التي تؤثر بشكل بالغ في حياة المجتمعات والجاليات المسلمة بالغرب أو الشرق، فإن كان في المسألة رخصة أو تخفيف، فعلى الفقيه ألا يشدد على أبناء الجالية المسلمة؛ كما في الحديث: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته)).
ولهذا يحسن بالخطاب الفقهي للأقليات المسلمة ألا يتبنى الآراء المتشددة التي تضيق على الناس معايشهم، وتجنح إلى التحريم أكثر من التحليل، وتعسر ولا تيسر، وتنزل الحرج ولا ترفعه في القضايا والنوازل في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وليكن شعار من يتصدى للخطاب الفقهي للأقليات في هذه المرحلة الفارقة في تاريخ الأمة المسلمة قول الإمام سفيان الثوري: "إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد".
الإمام الشاطبي -رحمه الله تعالى- يوضح أن الله عز وجل وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة، حفظ فيها على الخلق قلوبهم، وحببها لهم بذلك، فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة، لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم، من ثم رفع الله الحرج عن المكلفين.
يقول الشاطبي: فاعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين: أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله، أو ماله أو حاله.
والثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد، المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق، فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلًا عنها، وقاطعًا بالمكلف دونها، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء، فانقطع عنهما.
وهنا أذكر -على سبيل المثال- أن العشرات من الأسئلة وردت إلينا بموقع إسلام أون لاين. نت (صفحة اسألوا أهل الذكر باللغة الإنجليزية)، وكذا بموقع أون إسلام. نت تسأل عن حكم جمع صلاة العشاء مع المغرب ببعض البلدان الأوربية في فصل الصيف بسبب تأخر وقت العشاء حتى يصل إلى منتصف الليل أو يتعداه، أو بسبب انعدام العلامة الشرعية لوقت العشاء، فكنا نؤثر أن نحيل السائل إلى القرار التالي للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث: حكم الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء لتأخر وقت العشاء أو انعدام علامته الشرعية في بعض البلاد: انتهى المجلس إلى جواز الجمع بين هاتين الصلاتين في أوروبا في فترة الصيف حين يتأخر وقت العشاء إلى منتصف الليل، أو تنعدم علامته كليًّا؛ دفعًا للحرج المرفوع عن الأمَّة بنص القرآن، ولما ثبت من حديث ابن عباس في صحيح مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر، قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يُحرج أمَّتَهُ".
كما يجوز الجمع في تلك البلاد في فصل الشتاء أيضًا بين الظهر والعصر؛ لقِصر النهار وصعوبة أداء كل صلاة في وقتها للعاملين في مؤسساتهم إلا بمشقة وحرج.
وينبه المجلس على أن لا يلجأ المسلم إلى الجمع من غير حاجة، وعلى أن لا يتخذه له عادة.
وينبغي أيضًا على الفقيه أن يراعي التدرج، خاصة مع المسلم الجديد، ولا يعني هذا إن سأل عن حكم شيء أن يخالف المقطوع به شرعًا، ولكن المقصود أن يراعي التدرج في تعليم أمور الشرع الحنيف بشكل لا يصد عن دين الله، ولا ينفِّر من اتباع هدي الإسلام وتعاليمه.
ثانيًا: الحرص على وحدة الجالية المسلمة ونبذ الفُرقة: إن وحدة المسلمين -خاصة من يعيشون كأقلية في الشرق أو الغرب- واجب وضرورة، فهي واجب شرعي دلت عليه الأدلة الشرعية، العامة والخاصة، وضرورة حياتية اقتضتها مصلحة المجتمعات والأقليات المسلمة.
فمن الأدلة التي تبرهن على وجوب وحدة أبناء الجالية المسلمة قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، وقوله عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقول النبي (صلى الله عليه وسلم): ((إن المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا))، وقوله (صلى الله عليه وسلم) أيضًا: ((ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو، تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى)) ، ولا شك أن وحدة المجتمع المسلم من الأهداف والمقاصد العامة للشريعة الإسلامية.
بالإضافة إلى ذلك، فوحدة أبناء الجالية المسلمة ضرورة حياتية اقتضتها مصلحتهم العامة في الحفاظ على هويتهم المسلمة، وفي الحصول على حقوقهم القانونية في البلدان التي يقطنونها، وفي توطيد علاقاتهم الاجتماعية، وفي الحفاظ على ثقافاتهم وأعرافهم، وهذا آكد وسط التكتلات والتجمعات الدينية والسياسية والثقافية التي تحرص عليها المجتمعات المختلفة ببلدان أوربا وأمريكا وغيرها.
ولا يخفى أن كثيرًا من الجاليات الإسلامية بالغرب أو الشرق تخفق في المطالبة بحقوقها القانونية بسبب تفرقها واختلافها، فمثلًا يخفق المسلمون في المطالبة باعتبار أيام العيدين الفطر والأضحى كإجازة رسمية للمسلمين في كثير من بلدان أوربا وأمريكا؛ وذلك بسبب اختلافهم في تحديد هذين اليومين، فمن أبناء الجالية من يتبع البلدان العربية كالسعودية ومصر في تحديد بداية رمضان والعيدين، ومنهم من يتبع قرارات المراكز والهيئات الإسلامية في أوربا أو أمريكا، مثل المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بأوروبا، والمجلس الفقهي لأمريكا الشمالية.
وأذكر أنني تلقيت سؤالًا من أبناء الجالية المسلمة بولاية نفادا بأمريكا عام 2006م، وقد قضيت معهم شهر رمضان في ذلك العام، حول تحديد بداية شهر رمضان، فنصحتهم بوحدة الصف واتباع قرار المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية الذي أصدر بيانًا وقتها يحدد بداية ونهاية شهر رمضان وفق الحسابات الفلكية الصحيحة، ونهيتهم عن الفرقة والاختلاف، واستجاب أبناء الجالية لذلك بفضل الله تعالى.
من ثم، فمن الواجب على من يتصدى للخطاب الفقهي للأقليات المسلمة أن يحرص على تحقيق الوحدة بين أبناء الجالية المسلمة، وأن يتبنى ذلك كوسيلة من وسائل الترجيح بين الآراء الشرعية المختلفة لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع المسلم.
وفي نفس الوقت، فلا يفوتني أن أتوجه بالنصح لأبناء الجاليات المسلمة بالغرب والشرق أن يتوحدوا خلف قياداتهم الدينية والفكرية من أجل المصلحة العامة للجالية المسلمة، وعليهم اتباع أئمتهم وقادتهم في الأمور التي يجتهدون فيها وينتقون من بين الآراء الفقهية الصحيحة، وذلك يتناغم مع القاعدة الشرعية التي تقرر أن "رأي الإمام يرفع الخلاف"، و"حكم الحاكم في المسائل المختلف فيها يرفع الخلاف"، من ثم فلا ينبغي -بل لا يجوز- لعضو من أعضاء الجالية المسلمة أن يخالف المجتمع علانية في تحديد بداية شهر رمضان أو يوم الفطر أو الأضحى بأن يتبع قرارًا أو رأيًا يخالف الرأي الصحيح الذي ارتضته قيادة الجالية المسلمة؛ لما في ذلك من شق عصا وحدة الجالية، وإلحاق الضرر البالغ بهم وبصورة المسلمين أمام الرأي العام.
ثالثًا: حسن إدراك الواقع وموجبات تغيير الفتوى: يجب على الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة -خاصة- حسن إدراك الواقع، وحسن إنزال النص أو الدليل المناسب على الواقع المناسب؛ فواقع الأقليات المسلمة اليوم يختلف في الكثير من جوانبه عن واقع الأكثرية المسلمة التي تعيش في بلاد المسلمين كمصر والسعودية، وقد اشترط فقهاؤنا الأجلاء -بالإضافة إلى الرسوخ في علوم الشريعة واللغة العربية- العلم بالواقع ليتمكن المفتي والفقيه من الفتوى والحكم بالحق.
وفي هذا يقول ابن القيم (ت 751 هـ) في إعلام الموقعين: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله...
ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله.
من ثم فالخطاب الفقهي للأقليات المسلمة يجب أن يدرك الواقع الخاص والمعقَّد للجاليات المسلمة؛ ليتمكن من إنزال حكم الله الصحيح عليه، ويجب عليه كذلك أن يحسن إدراك موجبات تغير الفتوى في العصر الحاضر؛ فقد قرر علماؤنا السابقون أن الفتوى تتغير بتغير المكان والزمان والحال والعرف - وأضاف د. القرضاوي ستة موجبات أخرى تتغير بها الفتوى في العصر الحاضر، وهي تغير المعلومات، وتغير حاجات الناس، وتغير قدراتهم وإمكاناتهم، وعموم البلوى، وتغير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتغير الرأي والفكر، فلا يجوز للخطاب الفقهي الجمود على الإرث القديم من اجتهادات وفتاوى فقهاء الأمة في العصور السابقة، بل عليه الإفادة من هذا الإرث الفقهي الحضاري ودراسته دراسة منهجية، ثم الانطلاق منه ليتعامل مع قضايا العصر الحاضر ونوازله على بصيرة بما يقتضيه الواقع وما يتطلبه التغير في الزمان والحال والحاجات وغيرها، فيجمع بذلك بين الأصالة والمعاصرة في نسق متزن معتدل، لا يغرق في الماضي، ولا يغفُلُ عن الحاضر ومتطلباته.
وأود أن أشير هنا -على سبيل المثال- إلى قضية هامة يسأل عنها الكثيرون من أبناء الأقليات المسلمة في أوروبا وأمريكا، وهي حكم شراء مسكن بنظام التقسيط (mortgage) عن طريق البنك الربوي نظرًا لضرورة تملك المسلم لمسكن له ولأسرته بدلًا من السكن بمنزل مستأجر والاستمرار في تحمل نفقات الإيجار والذي يحرمه من الكثير من الميزات، ولا ينتهي به بتملك المسكن، ففي هذه الحالة يجب على من يتصدى للخطاب الفقهي والفتوى أن يدرك الواقع الذي يعيشه أبناء الجاليات المسلمة بأوروبا وأمريكا والمضار التي تصيبهم من جراء استئجار المسكن على الدوام، كما عليه أن يدرك تغير حاجات الناس، وأن المسكن بأوروبا وأمريكا يعد من الضروريات، وليس من قبيل الحاجيات أو التحسينيات، وقد أصدر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث قراره التالي بهذا الشأن مراعيًا هذه الحيثيات: حكم شراء المنازل بقرض بنكي ربوي للمسلمين في غير بلاد الإسلام: نظر المجلس في القضية التي عمت بها البلوى في أوروبا وفي بلاد الغرب كلها، وهي قضية المنازل التي تشترى بقرض ربوي بواسطة البنوك التقليدية.
وقد قدمت إلى المجلس عدة أوراق في الموضوع ما بين مؤيد ومعارض، قرئت على المجلس، ثم ناقشها جميع الأعضاء مناقشة مستفيضة.
انتهى بعدها المجلس بأغلبية أعضائه إلى ما يلي: 1 - يؤكد المجلس على ما أجمعت عليه الأمة من حرمة الربا، وأنه من السبع الموبقات، ومن الكبائر التي تؤذِن بحرب من الله ورسوله، ويؤكد ما قررته المجامع الفقهية الإسلامية من أن فوائد البنوك هي الربا الحرام.
2 - يناشد المجلس أبناء المسلمين في الغرب أن يجتهدوا في إيجاد البدائل الشرعية، التي لا شبهة فيها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، مثل (بيع المرابحة) الذي تستخدمه البنوك الإسلامية، ومثل تأسيس شركات إسلامية تنشئ مثل هذه البيوت بشروط ميسرة مقدورة لجمهور المسلمين، وغير ذلك.
3 - كما يدعو التجمعات الإسلامية في أوروبا أن تفاوض البنوك الأوروبية التقليدية، لتحويل هذه المعاملة إلى صيغة مقبولة شرعًا، مثل (بيع التقسيط) الذي يزاد فيه الثمن مقابل الزيادة في الأجل، فإن هذا سيجلب لهم عددًا كبيرًا من المسلمين يتعامل معهم على أساس هذه الطريقة، وهو ما يجري به العمل في بعض الأقطار الأوروبية، وقد رأينا عددًا من البنوك الغربية الكبرى تفتح فروعًا لها في بلادنا العربية تتعامل وفق الشريعة الإسلامية، كما في البحرين وغيرها.
ويمكن للمجلس أن يساعد في ذلك بإرسال نداء إلى هذه البنوك، لتعديل سلوكها مع المسلمين.
4 - وإذا لم يكن هذا ولا ذاك ميسرًا في الوقت الحاضر، فإن المجلس في ضوء الأدلة والقواعد والاعتبارات الشرعية، لا يرى بأسًا من اللجوء إلى هذه الوسيلة، وهي القرض الربوي لشراء بيت يحتاج إليه المسلم لسكناه هو وأسرته، بشرط ألا يكون لديه بيت آخر يغنيه، وأن يكون هو مسكنه الأساسي، وألا يكون عنده من فائض المال ما يمكنه من شرائه بغير هذه الوسيلة.
وقد اعتمد المجلس في فتواه على مرتكزين أساسيين: المرتكز الأول: قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات): وهي قاعدة متفق عليها، مأخوذة من نصوص القرآن في خمسة مواضع، منها قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، ومنها قوله تعالى في نفس السورة بعد ذكر محرمات الأطعمة: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145]، ومما قرره الفقهاء هنا أن الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة، خاصة كانت أو عامة.
والحاجة هي التي إذا لم تتحقق يكون المسلم في حرج، وإن كان يستطيع أن يعيش، بخلاف الضرورة التي لا يستطيع أن يعيش بدونها، والله تعالى رفع الحرج عن هذه الأمة بنصوص القرآن؛ كما في قوله تعالى في سورة الحج: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وفي سورة المائدة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6].
والمسكن الذي يدفع عن المسلم الحرج هو المسكن المناسب له في موقعه وفي سعته وفي مرافقه، بحيث يكون سكنًا حقًّا.
وإذا كان المجلس قد اعتمد على قاعدة الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، فإنه لم ينسَ القاعدة الأخرى الضابطة والمكملة لها، وهي أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، فلم يجز تملك البيوت للتجارة ونحوها.
والمسكن ولا شك ضرورة للفرد المسلم وللأسرة المسلمة، وقد امتن الله بذلك على عباده حين قال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل: 80]، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم السكن الواسع عنصرًا من عناصر السعادة الأربعة أو الثلاثة، والمسكن المستأجر لا يلبي كل حاجة المسلم، ولا يشعره بالأمان، وإن كان يكلف المسلم كثيرًا بما يدفعه لغير المسلم، ويظل سنوات وسنوات يدفع أجرته ولا يملك منه حجرًا واحدًا، ومع هذا يظل المسلم عرضة للطرد من هذا المسكن إذا كثر عياله أو كثر ضيوفه، كما أنه إذا كبرت سنه أو قل دخله أو انقطع يصبح عرضة لأن يرمى به في الطريق.
وتملُّك المسكن يكفي المسلم هذا الهم، كما أنه يمكنه أن يختار المسكن قريبًا من المسجد والمركز الإسلامي، والمدرسة الإسلامية، ويهيئ فرصة للمجموعة المسلمة أن تتقارب في مساكنها؛ عسى أن تنشئ لها مجتمعًا إسلاميًّا صغيرًا داخل المجتمع الكبير، فيتعارف فيه أبناؤهم، وتقوى روابطهم، ويتعاونون على العيش في ظل مفاهيم الإسلام.
كما أن هذا يمكن المسلم من إعداد بيته وترتيبه بما يلبي حاجته الدينية والاجتماعية، ما دام مملوكًا له.
وهناك إلى جانب هذه الحاجة الفردية لكل مسلم: الحاجة العامة لجماعة المسلمين الذين يعيشون أقلية خارج دار الإسلام، وهي تتمثل في تحسين أحوالهم المعيشية، حتى يرتفع مستواهم، ويكونوا أهلًا للانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس، ويغدوا صورة مشرقة للإسلام أمام غير المسلمين، كما تتمثل في أن يتحرروا من الضغوط الاقتصادية عليهم، ليقوموا بواجب الدعوة، ويساهموا في بناء المجتمع العام، وهذا يقتضي ألا يظل المسلم يكد وينصب طول عمره من أجل دفع قيمة إيجار بيته ونفقات عيشه، ولا يجد فرصة لخدمة مجتمعه، أو نشر دعوته.
المرتكز الثاني: هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني -وهو المفتى به في المذهب الحنفي- وكذلك سفيان الثوري وإبراهيم النخعي، وهو رواية عن أحمد، ورجحها ابن تيمية، فيما ذكره بعض الحنابلة من جواز التعامل بالربا -وغيره من العقود الفاسدة- بين المسلمين وغيرهم في دار الحرب، ولهم في ذلك أدلة ذكرها الإمام الطحاوي وغيره، لا يتسع المقام لذكرها.
والمراد بدار الحرب عند الحنفية ما ليس بدار إسلام؛ فالتقسيم عندهم ثنائي، وليس ثلاثيًّا، فيدخل فيها ما يسمى عند غيرهم دار عهد، أو دار أمان؛ ولهذا نفضل التعبير عن هذا المعنى بقولنا: التعامل خارج دار الإسلام.
ويرجح الأخذ بهذا المذهب هنا عدة اعتبارات، منها: 1 - أن المسلم غير مكلف شرعًا أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام؛ لأن هذا ليس في وسعه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وتحريم الربا هو من هذه الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع، وفلسفة الدولة، واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي.
وإنما يطالب المسلم بإقامة الأحكام التي تخصه فردًا، مثل أحكام العبادات، وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث وغيرها من الأحوال الشخصية، بحيث لو ضيق عليه في هذه الأمور، ولم يستطع بحال إقامة دينه فيها، لوجب عليه أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة، ما وجد إلى ذلك سبيلًا.
2 - أن المسلم إذا لم يتعامل بهذه العقود الفاسدة -ومنها عقد الربا- في دار القوم، سيؤدي ذلك بالمسلم إلى أن يكون التزامه بالإسلام سببًا لضعفه اقتصاديًّا، وخسارته ماليًّا، والمفروض أن الإسلام يقوي المسلم ولا يضعفه، ويزيده ولا ينقصه، وينفعه ولا يضره، وقد احتج بعض علماء السلف على جواز توريث المسلم من الكافر بحديث: "الإسلام يزيد ولا ينقص"؛ أي: يزيد المسلم ولا ينقصه، ومثله حديث: "الإسلام يعلو ولا يعلى"، وهو إذا لم يتعامل بهذه العقود التي يتراضونها بينهم، سيضطر إلى أن يعطي ما يطلب منه، ولا يأخذ مقابله، فهو ينفذ هذه القوانين والعقود فيما يكون عليه من مغارم، ولا ينفذها فيما يكون له من مغانم، فعليه الغُرم دائمًا، وليس له الغُنْم، وبهذا يظل المسلم أبدًا مظلومًا ماليًّا، بسبب التزامه بالإسلام، والإسلام لا يقصد أبدًا إلى أن يظلم المسلم بالتزامه به، وأن يتركه -في غير دار الإسلام- لغير المسلم، يمتصه ويستفيد منه، في حين يحرم على المسلم أن ينتفع من معاملة غير المسلم في المقابل في ضوء العقود السائدة، والمعترف بها عندهم.
وما يقال من أن مذهب الحنفية إنما يجيز التعامل بالربا في حالة الأخذ لا الإعطاء؛ لأنه لا فائدة للمسلم في الإعطاء، وهم لا يجيزون التعامل بالعقود الفاسدة إلا بشرطين: الأول: أن يكون فيها منفعة للمسلم، والثاني: ألا يكون فيها غدر ولا خيانة لغير المسلم، وهنا لم تتحقق المنفعة للمسلم، والجواب: أن هذا غير مسلَّم، مما يدل على ذلك قول محمد بن الحسن الشيباني في السير الكبير، وإطلاق المتقدمين من علماء المذاهب، كما أن المسلم وإن كان يعطي الفائدة هنا فهو المستفيد؛ إذ به يتملك المنزل في النهاية.
وقد أكد المسلمون الذين يعيشون في هذه الديار بالسماع المباشر منهم وبالمراسلة: أن الأقساط التي يدفعونها للبنك بقدر الأجرة التي يدفعونها للمالك، بل أحيانًا تكون أقل، ومعنى هذا أننا إذا حرمنا التعامل هنا بالفائدة مع البنك، حرمنا المسلم من امتلاك مسكن له ولأسرته، وهو من الحاجات الأصلية للإنسان كما يعبر الفقهاء، وربما يظل عشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر، يدفع إيجارًا شهريًّا أو سنويًّا، ولا يملك شيئًا، على حين كان يمكنه في خلال عشرين سنة -وربما أقل- أن يملك البيت.
فلو لم يكن هذا التعامل جائزًا على مذهب أبي حنيفة ومن وافقه، لكان جائزًا عند الجميع للحاجة التي تنزل أحيانًا منزلة الضرورة، في إباحة المحظور بها.
ولا سيما أن المسلم هنا إنما يؤكل الربا ولا يأكله؛ أي: هو يعطي الفائدة ولا يأخذها، والأصل في التحريم منصب على (أكل الربا)؛ كما نطقت به آيات القرآن، إنما حرم الإيكال سدًّا للذريعة، كما حرمت الكتابة له والشهادة عليه، فهو من باب تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد.
ومن المعلوم أن أكل الربا المحرم لا يجوز بحال، أما إيكاله -بمعنى إعطاء الفائدة- فيجوز للحاجة، وقد نص على ذلك الفقهاء، وأجازوا الاستقراض بالربا للحاجة إذا سدت في وجهه أبواب الحلال.
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: ضوابط الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة اليوم في 8:06 am
ومن القواعد الشهيرة هنا: أن ما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة، والله الموفق. وعلى الخطاب الفقهي للأقليات أن يحيط علمًا بالثقافات المتنوعة -بل والمتباينة- لأبناء الجالية المسلمة، وقد لمست ذلك عن قرب في زياراتي للجاليات المسلمة بأمريكا وأوروبا؛ فالفتوى قد تتغير نظرًا للاختلاف والتنوع في الثقافات، وأذكر هنا أن أحد الأصدقاء أخبرني أنه تلقى سؤالًا من إحدى المسلمات عن حكم الخَلوة والخروج مع "خطيبها"؟ فلما استفسر عما تقصده بخطيبها، أخبرته أن "الخاطب" في ثقافتهم هو "العاقد"؛ أي: الشاب الذي عقد على فتاة ولكن لم يدخل بها بعد، من ثم فالإجابة هنا مختلفة تمامًا عنها للمجتمعات التي تعني بالخِطبة مجرد الوعد بالزواج، كما هو منتشر في كثير من البلاد الإسلامية.
ورحم الله الإمام الشافعي (150هـ - 204هـ) الذي عد المعرفة باختلاف أهل الأمصار من شروط الإفتاء، حيث قال: لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلًا عارفًا بكتاب الله؛ بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشِّعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي.
ولا يخفى أن الخطاب الفقهي الذي يخطئ فهم أعراف المجتمعات وثقافاتهم لا يتمكن من إنزال حكم الله الصحيح في كثير من القضايا والنوازل، خاصةً فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية والمعاملات المالية.
وما أروع ما قاله ابن القيم في إعلامه حين قال: لا يجوز له (أي للمفتي) أن يفتي في الإقرار والأيمان والوصايا وغيرها مما يتعلق باللفظ بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عُرْف أهلها والمتكلمين بها، فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه، وإن كان مخالفًا لحقائقها الأصلية، فمتى لم يفعل ذلك ضلَّ وأضل.
فلفظ الدينار عند طائفة اسم لثمانية دراهم، وعند طائفة اسم لاثني عشر درهما، والدرهم عند غالب البلاد اليوم اسم للمغشوش، فإذا أقر له بدراهم أو حلف ليعطينه إياها أو أصدقها امرأة لم يجُزْ للمفتي ولا للحاكم أن يلزمه بالخالصة، فلو كان في بلد إنما يعرفون الخالصة لم يجُزْ له أن يلزم المستحق بالمغشوشة.
وكذلك في ألفاظ الطلاق والعتاق، فلو جرى عُرف أهل بلد أو طائفة في استعمالهم لفظ الحرية في العفة دون العتق، فإذا قال أحدهم عن مملوكه: إنه حر، أو جاريته: إنها حرة، وعادته استعمال ذلك في العفة لم يخطر بباله غيرها، لم يعتق بذلك قطعًا، وإن كان اللفظ صريحًا عند من أَلِفَ استعماله في العتق، وكذلك إذا جرى عرف طائفة في الطلاق بلفظ التسميح بحيث لا يعرفون لهذا المعنى غيره، فإذا قالت: اسمح لي، فقال: سمحت لك، فهذا صريحٌ في الطلاق عندهم...
وهذا باب عظيم يقع فيه المفتي الجاهل، فيغر الناس، ويكذب على الله ورسوله، ويغيِّر دينه، ويحرِّم ما لم يحرمه الله، ويوجب ما لم يوجبه الله، والله المستعان.
رابعًا: مراعاة القوانين السائدة: يجب على الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة أن يراعي القوانين الحاكمة للبلدان التي تعيش فيها الجاليات المسلمة، وألا يعرِّض أبناء الجالية لمخاطر مخالفة القوانين؛ فالأصل أن "لا ضرر ولا ضرار" في الإسلام، وذلك لا يعني أن يقترف المسلم الإثم أو يرتكب المحرمات باسم القانون، بل ما أقصده ألا يعرض المسلم نفسه لعقاب القانون.
وفيما يلي تفصيل لهذا الأمر: أولًا: إذا كان القانون السائد يحظر أمرًا مباحًا من وجهة نظر الإسلام، فعلى المسلم ألا يضر نفسه بارتكاب هذا الفعل، وعليه ألا يعرض نفسه للعقاب القانوني، وأذكر هنا -على سبيل المثال- تعدد الزوجات؛ فهو محظور في كثير من دول أوروبا وأمريكا وغيرها، فعلى المسلم -طالما ارتضى الإقامة في هذه البلاد- ألا يخالف قوانينها السائدة، وما أجمل ما أوصى به المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في ختام دورته العادية الثالثة، والتي انعقدت في مدينة كولون بألمانيا، في الفترة 4 - 7 صفر 1420هـ الموافق 19 - 22 مايو 1999م، حيث قال: يغتنم المجلس الفرصة ليؤكد ما أوصى به المسلمين في دورته السابقة وما ارتآه في هذه الدورة من الأمور التالية: 1. المحافظة على هويتهم الإسلامية، وشخصيتهم الدينية، وذلك بالتزام شرع ربهم فيما أمر ونهى، وأحل وحرَّم، في عباداتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم ومآكلهم ومشاربهم وعلاقاتهم الأُسرية والاجتماعية وحسن التعامل مع غيرهم.
2. يوصي المجلس المسلمين المقيمين في أوروبا بالعمل الجاد للحصول على اعتراف الدول التي يقيمون فيها بالإسلام دينًا، وبالمسلمين أقلية دينية، على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة، وفي تنظيم أحوالهم الشخصية؛ كالزواج والطلاق والميراث، ويناشد الدول الأوروبية الاعتراف بالدين الإسلامي وحقوق المسلمين على غرار ما قامت به بعضها؛ كبلجيكا وإسبانيا والنمسا والمجر، ومن أجل ذلك فإن المجلس يوصي المسلمين بتشكيل هيئات شرعية تتولى تنظيم أحوالهم الشخصية وفق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء، مع مراعاة الالتزام بالقوانين السائدة.
3. كما يوصي المجلس هؤلاء الإخوة المسلمين ويشدد في الوصية بالالتزام بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وبما أجمع عليه فقهاء الإسلام من وجوب الوفاء بمقتضيات عهد الأمان، وشروط الإقامة والمواطنة في البلاد الأوروبية التي يعيشون فيها.
ومن أهم ما يجب عليهم: أ - أن يعتقدوا أن أرواح غير المسلمين وأموالهم وأعراضهم معصومة بمقتضى ذلك العهد الذي دخلوا به هذه البلاد، والذي لولاه لما سمح لهم بدخولها أو استمرار الإقامة فيها، وقد قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].
ب - أن يحترموا قوانين هذه البلاد التي آوتهم وحمتهم ومكنتهم من التمتع بكل ضمانات العيش الكريم، وقد قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].
ج - أن يجتنبوا كل أساليب الكسب الحرام على اختلاف أنواعها، ومنها سعي بعض المسلمين للحصول على معونة الضمان الاجتماعي مع أنهم يعملون أو يتاجرون.
د - أن يبذلوا أقصى الوسع في تنشئة الجيل الجديد -بنين وبنات- تنشئة إسلامية معاصرة، وذلك بتأسيس المدارس والمراكز التربوية والترفيهية لحمايتهم من الانحراف.
ثانيًا: إذا كان القانون السائد يبيح أمرًا محظورًا من وجهة نظر الإسلام، فعلى المسلم ألا يقترف هذا الإثم، فإن القانون الوضعي لا يرغمه على ارتكابه، وأضرب لذلك مثلًا بالعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، فإن أباحها القانون الوضعي في بعض البلدان، فالمسلم المقيم في تلك البلاد لا يقترفها؛ لأنها محرَّمة في دِينه.
ثالثًا: إذا كان القانون السائد يفرض أمرًا محظورًا من وجهة نظر الإسلام، فعلى الخطاب الفقهي أن يوجه الأقليات المسلمة إلى المطالبة بحقوقها المشروعة بكافة الطرق والوسائل الشرعية المتاحة، والتعاون في سبيل ذلك مع المؤسسات والهيئات الحكومية وغير الحكومية، من أجل الحصول على حقوقهم المشروعة في البلاد التي يقيمون فيها، ومن أجل احترام حرياتهم ومعتقداتهم الدينية، وهذا مكفول -بشكل عام- وفق القوانين والأعراف الدولية.
ومما تجدر الإشارة إليه أنه ينبغي على الخطاب الفقهي دراسة كل نازلة أو قضية على حدة، ثم توجيه الجالية إلى ما فيه صالحهم العام بما يتناغم مع مبادئ الشرع الحنيف وسيادة القانون وقيم المواطنة والإقامة.
خامسًا: عدم التعصب لمذهب فقهي: الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة هو خطاب عام يتسع للمذاهب الفقهية الصحيحة، فلا ينغلق على مذهب فقهي واحد دون المذاهب الأخرى، بل يدور مع المصلحة حيث كانت، منتقيًا ما يحقق المصلحة الأرجح من المذاهب التي ارتضتها المجامع الفقهية.
إن مسلمي الأقليات -غالبًا- لا يتبعون مذهبًا فقهيًّا واحدًا، وإنما يتبعون مذاهب فقهية متعددة بتعدد أصولهم ومشاربهم الفكرية والفقهية؛ ولذا فالأحرى بالخطاب الفقهي أن يستهدف المصلحة العامة للجالية بعيدًا عن التعصب لرأي أو مذهب بعينه، وإذا كانت كثير من الدول الإسلامية لا تصر على مذهب واحد في جميع القوانين لتحقيق المصالح الراجحة -كما هو الحال في مصر على سبيل المثال- فهل يبقى الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة بعيدًا عن هذا التسامح واتساع الأفق؟!
وأرى -على سبيل المثال- أن عدم الأخذ برأي الأئمة الأربعة في منع إرث المسلم من قريبه غير المسلم وتبني الرأي الذي يجيز للمسلم أن يرث قريبه غير المسلم - وهو رأي معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد بن الحسن، وسعيد بن المسيب، ومسروق، ويحيى بن يعمر، وإسحاق بن راهويه، وابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم -لتحقيق مصلحة راجحة للمسلم بأوروبا أو أمريكا- لا يجوز إنكاره، فغير المسلم يرث قريبه المسلم بسلطة القانون، ومن ثم إذا لم يرث المسلم قريبه غير المسلم تنتفي المساواة بين المسلم وغير المسلم في الإرث، وسيضار المسلم بهذا ضررًا بالغًا، بالإضافة إلى أن المسلم إذا ترك نصيبه في الإرث من قريبه غير المسلم فإن هذا المال قد يذهب إلى مؤسسات أو هيئات غير إسلامية، فلا ينتفع بها المسلمون.
وقد ورد في الموسوعة الفقهية الكويتية: ذهب جمهور الفقهاء، وهو قول أبي طالب من الحنابلة وقول علي وزيد بن ثابت وأكثر الصحابة، إلى أن الكافر لا يرث المسلم، حتى ولو أسلم قبل قسمة التركة؛ لأن المواريث قد وجبت لأهلها بموت المورث، وسواء أكان الارتباط بين المسلم والكافر بالقرابة أم بالنكاح أم بالولاء.
وذهب الإمام أحمد إلى أنه إن أسلم قبل قسمة التركة ورث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أسلم على شيء، فهو له))، ولأن في توريثه ترغيبًا في الإسلام، كما ذهب إلى أن الكافر يرث عتيقه المسلم، وذهب جمهور الفقهاء أيضًا إلى أن المسلم لا يرث الكافر.
وذهب معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان والحسن ومحمد بن الحنيفة ومحمد بن علي بن الحسين ومسروق إلى أن المسلم يرث الكافر.
استدل الأئمة الأربعة على مذهبهم بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتوارث أهلُ مِلَل شتى)) ، ولقوله عليه السلام: ((لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم)).
واستدل القائلون بتوريث المسلم من الكافر بقوله عليه الصلاة والسلام: ((الإسلام يعلو ولا يعلى))، ومن العلو أن يرث المسلم الكافر.
وفسر المانعون الحديث بأن نفس الإسلام هو الذي يعلو، على معنى أنه إن ثبت الإسلام على وجه ولم يثبت على وجه آخر، فإنه يثبت ويعلو، أو أن المراد العلو بحسب الحجة أو بحسب القهر أو الغلبة؛ أي: النصرة في العاقبة للمسلمين.
وقد أفتى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بجواز إرث المسلم من قريبه الكافر؛ تحقيقًا لمصلحة أبناء الجاليات المسلمة بأوروبا، في فتواه التالية: يرى المجلس عدم حرمان المسلمين ميراثهم من أقاربهم غير المسلمين ومما يوصون لهم به، وأنه ليس في ذلك ما يعارض الحديث الصحيح: ((لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم))، الذي يتجه حمله على الكافر الحربي، مع التنبيه إلى أنه في أول الإسلام لم يحرم المسلمون من ميراث أقاربهم من غير المسلمين، وهو ما ذهب إليه من الصحابة معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان ومن التابعين جماعة منهم سعيد بن المسيب ومحمد بن الحنفية وأبو جعفر الباقر ومسروق بن الأجدع، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
من ثم فلا يجوز للخطاب الفقهي للأقليات أن يتعصب لمذهب فقهي على حساب مصالح الجالية المسلمة، بل يجب الاختيار والانتقاء من بين المذاهب والآراء الفقهية الصحيحة -حتى وإن كانت مرجوحة- ما يحقق المصلحة الراجحة للأقلية المسلمة، خاصة في النوازل والقضايا العامة.
سادسًا: الحرص على المصلحة في ضوء فقه الموازنات ومآلات الأفعال: ينبغي على الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة أن يراعي المصالح المشروعة لأبناء الجالية وفق فقه الموازنات واعتبار مآلات الأفعال، فيأتي الخطاب الفقهي بأي شكل من أشكاله -فتوى، أو قرارًا، أو بيانًا، أو غير ذلك- متوافقًا مع قواعد وضوابط الموازنات والمآلات التي ضمنتها المدونات الأصولية والفقهية، والتي يجب على من يتصدى لخطاب الأقليات المسلمة الإحاطة والدراية بها.
إن قواعد الموازنات بين المصالح والمفاسد هي جملة من القواعد الأصولية التي تلتقي عند معنى الموازنة بين ما ينتهي إليه فعل ما من الأفعال، أو وضع ما من الأوضاع من المصلحة، وما ينتهي إليه من المفسدة، فيبنى الحكم الشرعي على نتيجة تلك الموازنة أمرًا إذا رجحت المصلحة، ونهيًا إذا رجحت المفسدة، ومن هذه القواعد: "درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة"، و"مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد"، و"المصلحة الدائمة مقدمة على المصلحة الظرفية"، وغير ذلك من القواعد المنثورة في المدونات الأصولية والفقهية.
واعتبار مآلات الأفعال من القواعد الأصولية التي يجب اعتباراها في خطاب الأقليات المسلمة -بشكل خاص- وهي تعني أن الأحكام الشرعية تبنى في صيغتها النظرية المجردة أمرًا ونهيًا على اعتبار ما تؤدي إليه مناطاتها من الأفعال باعتبار أجناسها المجردة من مصلحة أو مفسدة ، وهذا باب عظيم يجب ألا يغفل عنه من يتصدى للخطاب الفقهي للأقليات.
يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله- في أهمية اعتبار مآلات الأفعال: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغِبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة.
والدليل على صحته أمور: أحدها: أن التكاليف -كما تقدم- مشروعة لمصالح العباد، ومصالح العباد إما دنيوية وإما أخروية، أما الأخروية فراجعة إلى مآل المكلف في الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم، وأما الدنيوية فإن الأعمال إذا تأملتها مقدمات لنتائج المصالح، فإنها أسباب لمسببات هي مقصودة للشارع، والمسببات هي مآلات الأسباب، فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب، وهو معنى النظر في المآلات، لا يقال: إنه قد مر في كتاب الأحكام أن المسببات لا يلزم الالتفات إليها عند الدخول في الأسباب؛ لأنا نقول وتقدم أيضًا أنه لا بد من اعتبار المسببات في الأسباب، ومر الكلام في ذلك والجمع بين المطلبين، ومسألتنا من الثاني لا من الأول؛ لأنها راجعة إلى المجتهد الناظر في حكم غيره على البراءة من الحظوظ، فإن المجتهد نائب عن الشارع في الحكم على أفعال المكلفين، وقد تقدم أن الشارع قاصد للمسببات في الأسباب، وإذا ثبت ذلك لم يكن للمجتهد بد من اعتبار المسبب، وهو مآل السبب.
والثاني: أن مآلات الأعمال إما أن تكون معتبرة شرعًا أو غير معتبرة، فإن اعتبرت فهو المطلوب، وإن لم تعتبر أمكن أن يكون للأعمال مآلات مضادة لمقصود تلك الأعمال، وذلك غير صحيح؛ لما تقدم من أن التكاليف لمصالح العباد، ولا مصلحة تتوقع مطلقًا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد، وأيضًا فإن ذلك يؤدي إلى ألا نتطلب مصلحة بفعل مشروع، ولا نتوقع مفسدة بفعل ممنوع، وهو خلاف وضع الشريعة كما سبق.
وأما في مسألة على الخصوص فكثير، فقد قال في الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه: ((أخاف أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)) ، وقوله: ((لولا قومك حديث عهدهم بكفر، لأسست البيت على قواعد إبراهيم)) ، بمقتضى هذا أفتى مالكٌ الأميرَ حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم، فقال له: "لا تفعل؛ لئلا يتلاعب الناس ببيت الله"، هذا معنى الكلام دون لفظه، وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه حتى يتم بوله، وقال: ((لا تُزْرِمُوه)) ، وحديث النهي عن التشديد على النفس في العبادة خوفًا من الانقطاع ، وجميع ما مر في تحقيق المناط الخاص مما فيه هذا المعنى، حيث يكون العمل في الأصل مشروعًا، لكن ينهى عنه؛ لما يؤول إليه من المفسدة، أو ممنوعًا، لكن يترك النهي عنه؛ لما في ذلك من المصلحة، وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها؛ فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز، فالأصل على المشروعية، لكن مآله غير مشروع، والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل؛ لما يؤول إليه من الرفق المشروع، ولا معنى للإطناب بذكرها؛ لكثرتها واشتهارها، قال ابن العربي حين أخذ في تقرير هذه المسألة: اختلف الناس بزعمهم فيها، وهي متفق عليها بين العلماء، فافهموها وادخروها.
والفقيه الذي يتصدى للخطاب الفقهي للأقليات -على وجه الخصوص- يجب عليه أن ينتقي ويختار من الأدلة والآراء المختلفة ما يحقق مصلحة راجعة، أو يدفع مفسدة أعظم، تماشيًا مع فقه الموازنات ومآلات الأفعال، وقد يكون الرأي المختار رأي الأقلية أو رأيًا مرجوحًا.
وأضرب لذلك مثلًا بالعشرات من الأسئلة التي وردت إلينا بموقعي إسلام أون لاين نت، وموقع أون إسلام، من بعض المسلمات اللاتي تزوجن بالفعل بدون إذن الولي، وذلك لأسباب مختلفة، منها أن بعضهن مسلمات جدد وواجهن تعنتًا من آبائهن في الزواج من المسلمين، أو بسبب عدم علمهن باشتراط إذن الولي، وفي كثير من الأسئلة كانت السائلات تخبرننا بأنهن أنجبن أطفالًا من هذا الزواج، ففي هذه القضية يجب أن يحرص الخطاب الفقهي على الحفاظ على الأسرة القائمة والأطفال، فيأخذ برأي الإمام أبي حنيفة الذي أجاز للمرأة البالغة - بِكرًا كانت أو ثيبًا - أن تزوج نفسها، ولا يأخذ برأي الجمهور الذي اشترط إذن الولي لصحة عقد النكاح؛ وذلك لدفع مفسدة أعظم، وتحقيق مصلحة راجحة؛ ولذلك ينبغي للفقيه أن يدرس كل حالة على حدة ليوجه السائل لما فيه المصلحة -بإذن الله- وفق الظروف المحيطة بكل حالة.
وقد ورد في الموسوعة الفقهية: تزويج المرأة نفسها: المرأة البالغة العاقلة الحرة الرشيدة لا يجوز لها تزويج نفسها، بمعنى أنها لا تباشر العقد بنفسها، وإنما يباشره الولي عند جمهور الفقهاء؛ لحديث: ((لا نكاح إلا بولي))، وروي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أيما امرأةٍ نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطلٌ، فنكاحها باطلٌ، فنكاحها باطلٌ، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له)) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها)).
ولا يجوز لها أن تزوج غيرها، سواءٌ أكانت المرأة بكرًا أم ثيبًا، وقالوا: البكر يجبرها الولي على النكاح، لكن يستحب إذنها، أما الثيب إن كانت صغيرةً فلا يجوز تزويجها حتى تبلغ، وتستأذن، وذلك عند الشافعية، وفي وجهٍ عند الحنابلة، وهو ظاهر قول الخرقي، واختاره ابن حامدٍ وابن بطة والقاضي، وعند المالكية، وهو الوجه الثاني عند الحنابلة: أن لأبيها تزويجها، ولا يجب أن يستأمرها، وهو أيضًا قولٌ للحنفية، والعلة عندهم هي الصغر، ولذلك له ولاية إجبارها.
أما الثيب الكبيرة -فإنها وإن كانت لا تلي عقد نكاحها بنفسها عند الجمهور- إلا أنه لا يجوز تزويجها بدون إذنها ورضاها؛ لما روت الخنساء بنت خذامٍ الأنصارية أن أباها زوجها وهي ثيبٌ، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردَّ نكاحه، ولحديث: ((الثيِّب أحق بنفسها من وليها)).
أما الحنفية: فإنه لا يجوز عندهم إجبار البالغة على النكاح، بكرًا كانت أم ثيبًا، ولها أن تعقد النكاح بنفسها، ففي الهداية: ينعقد نكاح الحرة العاقلة البالغة برضاها، وإن لم يعقد عليها ولي، بكرًا كانت أو ثيبًا عند أبي حنيفة وأبي يوسف في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف أنه لا ينعقد إلا بولي، وعند محمدٍ ينعقد موقوفًا، ووجه الجواز: أنها تصرفت في خالص حقها وهي من أهله؛ لكونها عاقلةً بالغةً مميزةً، وإنما يطالب الولي بالتزويج كيلا تنسب إلى الوقاحة، والثيب من باب أولى إذا كانت كبيرةً، فإنها تعقد على نفسها، أما الصغيرة سواءٌ أكانت بكرًا أم ثيبًا، فلوليها إجبارها على النكاح؛ لأن ولاية الإجبار تدور مع الصغر وجودًا وعدمًا.
وأما المجنونة فللولي إجبارها على النكاح مطلقًا، وهذا باتفاقٍ.
سابعًا: طرح البدائل المشروعة للمحظورات: لا يجب على الخطاب الفقهي للأقليات أن يغلق الباب في وجه المحظورات فحسب، بل ينبغي أيضًا أن يسعى لطرح البدائل مما أحله الشارع الكريم؛ فرحمة الله واسعة، وهي قريب من المحسنين، ومن محاسن شريعة الإسلام السمحة أنها ما حرمت شيئًا إلا وعوضت الناس خيرًا منه ليسد مسده ويغني عنه، فحرمت الربا - مثلًا - وأبدلته بالتجارة الرابحة، وحرمت الزنا وأحلت النكاح الشرعي، وحيث إن المسلمين الذين يعيشون كأقلية بالغرب أو الشرق يعيشون ظروفًا أكثر تعقيدًا عن المسلمين بالدول الإسلامية، فطرح البدائل للمحظورات يصبح من ضروريات الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة؛ ليمكنها من العيش وفق نهج الشرع الحنيف.
ما أروع ما قاله ابن القيم في إعلامه حينما قال: من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه وكانت حاجته تدعوه إليه، أن يدله على ما هو عِوَض له منه، فيسد عليه باب المحظور، ويفتح له باب المباح، وهذا لا يتأتى إلا من عالم ناصح مشفِق قد تاجر مع الله وعامله بعلمه، فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء، يحمي العليل عما يضره، ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما بعث الله من نبي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شرِّ ما يعلمه لهم))، وهذا شأن خُلُق الرسل وورثتهم من بعدهم، ورأيت شيخنا -قدس الله روحه- يتحرى ذلك في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهرًا فيها، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا أن يشتري صاعًا من التمر الجيد بصاعين من الرديء، ثم دله على الطريق المباح، فقال: ((بِعِ الجميع بالدراهم، ثم اشترِ بالدراهم جنيبًا))، فمنعه من الطريق المحرم، وأرشده إلى الطريق المباح، ولما سأله عبدالمطلب بن ربيعة بن الحارث والفضل بن عباس أن يستعملهما في جباية الزكاة ليصيبا ما يتزوجان به، منعهما من ذلك وأمر محمية بن جزو -وكان على الخُمُس- أن يعطيهما ما ينكحان به، فمنعهما من الطريق المحرم، وفتح لهما الطريق المباح، وهذا اقتداء منه بربه تبارك وتعالى؛ فإنه يسأله عبدُه الحاجةَ فيمنعه إياها، ويعطيه ما هو أصلح له، وأنفع منها، وهذا غاية الكرم والحكمة.
ثامنًا: تحري الوضوح وعدم الضبابية: يجب على الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة -على وجه الخصوص- أن يتسم بوضوح العبارة وبساطة الأسلوب؛ فالأولى البعد عن الألفاظ التي تحتمل أكثر من معنى، والابتعاد عن التراكيب البلاغية التي يصعب فهمها، فيلزم المفتي أو الإمام أن يبين الجواب بيانًا شافيًا يزيل الإشكال، فالمقصود من الخطاب الفقهي هو إيضاح حكم الشرع في القضايا والنوازل المختلفة، فلا بد إذًا أن يفي الخطاب بهذا المقصود.
ولا بد للخطاب الفقهي أن يكون بلغة المخاطب التي يفهما جيدًا، يقول تعالى في محكم التنزيل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، فيجب على المسلمين إجادة اللغات المختلفة لتبليغ رسالة الله للعالمين، وهذا من فروض الكفاية التي يجب القيام بها على أكمل وجه، وإلا كانت الأمة مقصرة في حق رسالتها والأمانة التي تحملها، فإن لم يكن الفقيه أو الإمام يستطيع مخاطبة الأقليات بألسنتهم، فعليه أن يستعين بمترجمين أَكْفاء أمناء يجيدون اللغة العربية وفهم نصوصها -خاصة النصوص الشرعية- ويجيدون لغة المخاطب، وهذا الأمر جد خطير؛ فعلى الفقهاء والمجامع الفقهية أن تنتبه له وتوليه اهتمامًا بالغًا، فقد اطلعت كثيرًا من خلال عملي في البحث الشرعي باللغة الإنجليزية على أخطاء فادحة في الترجمة الإنجليزية لبعض البيانات والفتاوى الصادرة عن علماء أجلاء وعن مجامع فقهية عريقة، وأحبذ أن تشتمل المجامع الفقهية المعنيَّة بالأقليات المسلمة في الغرب على أكثرية من العلماء المقيمين بأمريكا أو أوربا ممن يجيدون لغة أهل هذه البلاد، بالإضافة إلى الرسوخ في علوم الشريعة واللغة العربية.
ومن الوضوح والتبيان اللازمين للخطاب الفقهي للأقليات ألا يترك المخاطب في حيرة وإشكال، كما يفعل بعض المفتين حينما يسألون عن مسألة أو نازلة فيجب بأن فيها "قولان" أو بأنها "من القضايا الخلافية"، بل على الخطاب أن يبين الحكم بيانًا مزيلًا للإشكال، ومتضمنًا لفصل الخطاب.
يقول ابن القيم -رحمه الله- في هذا الصدد: لا يجوز للمفتي الترويج وتخيير السائل وإلقاؤه في الإشكال والحيرة، بل عليه أن يبين بيانًا مزيلًا للإشكال، متضمنًا لفصل الخطاب، كافيًا في حصول المقصود، لا يحتاج معه إلى غيره، ولا يكون كالمفتي الذي سئل عن مسألة في المواريث فقال: يقسم بين الورثة على فرائض الله عز وجل، وكتبه فلان، وسئل آخر عن صلاة الكسوف، فقال: تصلى على حديث عائشة، وإن كان هذا أعلم من الأول، وسئل آخر عن مسألة من الزكاة، فقال: أما أهل الإيثار فيخرجون المال كله، وأما غيرهم فيخرج القدر الواجب عليه، أو كما قال، وسئل آخر عن مسالة فقال: فيها قولان، ولم يزد.
ومما يحسن بالخطاب الفقهي للأقليات -على وجه الخصوص- أن يختم إذا كان مطولًا ومفصلًا بخاتمة توضح في عبارات موجزة خلاصة المسألة والحكم الشرعي فيها بما يؤكد وضوح الحكم وينفي الالتباس والضبابية، كما يستحب كذلك أن يستهل الخطاب بمقدمة تمهد فكر المخاطب وذهنه للموضوع محل الخطاب أو الفتوى.
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: ضوابط الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة اليوم في 8:09 am
الفصل الثالث مدارس الخطاب الفقهي للأقليات تتنوع مدارس الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة بالغرب أو الشرق، وتتعدد حسب التيارات والمدارس الفكرية والفقهية التي تمثلها.
ويمكن تصنيفها بشكل عام من خلال استقراء الواقع الفقهي للأقليات المسلمة إلى ما يلي: أولًا: مدرسة الخطاب الفقهي الوسطي وهي المدرسة التي تمثل تيار الإحياء والتجديد والجمع بين الأصالة والمعاصرة ومواجهة الأحداث بواقعية ومرونة وحكمة، والخطاب الفقهي لهذه المدرسة يتسم إجمالًا بالضوابط التي أوضحناها في الفصل الثاني، من ثم فهو خطاب يراعي التيسير ورفع الحرج، ويدرك الواقع وموجبات تغير الفتوى، ويحرص كذلك على وحدة الجالية وتماسكها، ويتفهم القوانين السائدة، ولا يتعصب لمذهب فقهي واحد، بل يحرص على مصلحة الجالية المسلمة في ضوء فقه الموازنات ومآلات الأفعال، ويمثل هذا التيار العديد من المجالس والمجامع الفقهية بأوروبا وأمريكا وغيرهما، مثل المجلس الأوروبي للبحوث والإفتاء (The European Council for Fatwa and Research) بأوروبا، والمجلس الفقهي لأمريكا الشمالية (Fiqh Council of North America)، وينطوي تحت لواء هذا المدرسة المئات من العلماء والأئمة والدعاة بالشرق والغرب.
ثانيًا: مدرسة الخطاب الفقهي السلفي وهي المدرسة التي تنتمي للتيار السلفي، ويتسم خطابها بما يتسم به خطاب التيار السلفي في العالم العربي والإسلامي، مثل تغليب ظاهر النص على الرأي، والتمسك بالهدي الظاهر والسنن.
ثالثًا: الخطاب الفقهي الصوفي وهو الذي يرتكز على التجارب الروحية وعلم القلوب والتأملات، ويصدر عن فرق متعددة، ويشوب هذا الخطاب شوائب من الدروشة والخرافات والانحرافات.
رابعًا: خطاب الرفض والإقصاء وتمثله نسبة ضئيلة من التيارات والأفراد بالغرب والشرق.
صور الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة: يتخذ الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة بالشرق والغرب صورًا متعددة، مثل البيانات والقرارات والفتاوى والدراسات والكتب وغيرها، ويخرج عبر وسائل مختلفة بين مقروء ومسموع ومرئي، مثل الخطب والوعظ والإرشاد والإفتاء والصحف والمجلات الشرعية والكتب العلمية، بالإضافة إلى الأشرطة الدينية والأقراص الممغنطة والقنوات المسموعة؛ كالإذاعة، والمرئية؛ كالتلفزيون والفضائيات، والشبكة الدولية للمعلومات "الإنترنت"، واللقاءات العلمية والندوات والمؤتمرات.
دعم الخطاب الفقهي الوسطي: بعد هذا العرض الموجز لمدارس الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة، أود أن أقترح بعض الآليات والوسائل العملية لنشر ودعم الخطاب الفقهي الوسطي، الذي يحقق المصلحة العامة للجاليات المسلمة..
وهي كما يلي: 1. على الأقليات المسلمة بالغرب والشرق تكوين هيئات ولجان فقهية متخصصة تضم علماء شريعة معروفين بفقههم الوسطي وخبراء من تخصصات متنوعة كخبراء اجتماع واقتصاد وسياسة وقانون وغيرهم، ويجب عليهم دعم تلك الهيئات والمجالس، والسعي للحصول على اعتراف رسمي من الدولة لها.
2. على الهيئات والمجالس الفقهية الوسطية المتفرقة في أنحاء أوروبا أو أمريكا وغيرهما تكوين مؤسسات مركزية تجمعهم، وعليهم الاجتماع بشكل دوري لمناقشة القضايا الكبرى والنوازل العامة التي تنزل بهم، وينبغي تكوين لجان متخصصة مثل لجان تحري الهلال، ولجان إعلام، ولجان الفتوى، وغيرها.
3. ينبغي على الهيئات والمجالس الفقهية المتخصصة المعنية بالأقليات المسلمة تصفح أحوال المفتين في مجتمعاتهم، فمن صلح للخطاب الفقهي والفتوى أقر عليهما، ومن لا يصلح لهما منع منهما.
4. عقد دورات تدريبية لأبناء الجاليات المسلمة للتوعية بخطر الخطاب الفقهي وضوابطه وأدواره؛ وذلك لتجنب خطابات العنف والإقصاء، ودعم الخطاب الوسطي الذي يحقق مصالح الجالية العامة.
5. ضرورة إنشاء كليات ومعاهد وأقسام خاصة بجامعة الأزهر والجامعات الإسلامية العالمية لدراسة صناعة الفتوى وأدواتها باللغات الأجنبية وتوفير الدعم الكافي لتلك الكليات والأقسام لتأهيل الأئمة والفقهاء المبتعثين من البلاد الإسلامية للأقليات بالشرق والغرب.
6. تشجيع الباحثين والطلاب على دراسة تخصص الإفتاء للأقليات، وتوفير منح دراسية للماجستير والدكتوراه في هذا التخصص الهام.
7. إنشاء مواقع متخصصة على شبكة المعلومات الدولية بلغات متعددة لمساعدة مسلمي الأقليات للحصول على الفتاوى، وكذا تقديم الدعم الفني للأئمة والمفتين بالغرب برعاية من الأزهر والمؤسسات الدينية بالعالم العربي والإسلامي.
8. وضع ميثاق شرف لضبط الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة بلغات متعددة وتعميمه على المراكز الإسلامية بالشرق والغرب.
9. عقد بعض ورش العمل والندوات والمؤتمرات لمناقشة قضايا الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة والخلوص إلى نتائج عملية لترشيد الخطاب الفقهي وصناعة الفتوى لمسلمي الأقليات.
10. تشجيع الموسرين من المسلمين على دعم المشروعات السالفة الذكر بالإنفاق عليها وحبس الأوقاف لها.
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: ضوابط الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة اليوم في 8:14 am
الخاتمة
هذا البحث هو محاولة جادة لدراسة الضوابط المنهجية للخطاب الفقهي للأقليات المسلمة بالشرق والغرب وفق رؤية علمية معاصرة، في ضوء المتغيرات الجسام والأحداث المتشابكة التي يموج بها العالم في هذه المرحلة الفارقة في تاريخ البشرية، حيث ربيع الثورات العربية في المنطقة العربية والتحديات الاقتصادية والمشاكل البيئية والسياسية والاجتماعية التي تواجه العالم أجمع.
وقد استهللت البحث بتعريف المفاهيم والمصطلحات المكونة لعنوان الدراسة وهي "الضابط" و"الخطاب الفقهي" و"الأقليات المسلمة"؛ وذلك بغية تحديد المعنى المراد من هذه المصطلحات -خاصة في هذه الدراسة- وانطلاقًا من القاعدة التي تقول: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره".
وقدمت في الفصل الثاني رؤيتي للضوابط المنهجية للخطاب الفقهي للأقليات المسلمة مسترشدًا بخبرتي العملية في تحرير آلاف الفتاوى والقرارات الفقهية الخاصة بالأقليات المسلمة من خلال عملي عشر سنوات باحثًا ومشرفًا لوحدة الفتوى (إنجليزي) بموقع إسلام أون لاين. نت، ثم عملي رئيسًا لقسم الشريعة (إنجليزي) بموقع أون إسلام. نت، وأفدت كذلك من زياراتي للجاليات المسلمة بأوروبا وأمريكا، حيث تعرفت عن قرب على مشاكل الجاليات المسلمة، ولمست ضرورة ضبط الخطاب الفقهي ليحقق مقاصد الشرع الحنيف في تلك المجتمعات التي تختلف في كثير من مناحي الحياة عن المجتمعات المسلمة بالبلاد العربية والإسلامية.
واستعرضت في الفصل الثالث أهم مدارس الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة، وعرضت بعض الوسائل والآليات التي من شأنها دعم الخطاب الفقهي الوسطي الذي يتناغم مع الفقه الوسطي للشريعة الإسلامية.
ويمكن القول بأن الدراسة قد أسفرت عن النتائج التالية: أولًا: الخطاب الفقهي للأقليات بحاجة ماسة إلى دراسات علمية جادة تهدف إلى ترشيده وتوجيهه إلى ما يحقق مصالح الجاليات المسلمة بما يتناغم مع الشريعة السمحة ويتوافق مع مقاصدها العليا.
ثانيًا: ينبغي أن يتسم الخطاب الفقهي للأقليات بالضوابط التالية: 1. مراعاة التيسير ورفع الحرج. 2. الحرص على وحدة الجالية المسلمة ونبذ الفُرقة. 3. حُسن إدراك الواقع وموجبات تغيير الفتوى. 4. مراعاة القوانين السائدة. 5. عدم التعصب لمذهب فقهي. 6. الحرص على المصلحة في ضوء فقه الموازنات ومآلات الأفعال. 7. طرح البدائل المشروعة للمحظورات. 8. تحري الوضوح وعدم الضبابية.
ثالثًا: يجب على الهيئات والمؤسسات -الحكومية وغير الحكومية- المعنيَّة بالخطاب الفقهي للأقليات المسلمة دعم الخطاب الفقهي الوسطي بكافة الوسائل المتاحة.. ومنها: 1. تكوين هيئات ولجان فقهية متخصصة تضم علماء شريعة معروفين بفقههم الوسطي وخبراء من تخصصات متنوعة كخبراء اجتماع واقتصاد وسياسة وقانون وغيرهم.
2. عقد دورات تدريبية لتدريب الأئمة والخطباء بالمراكز الإسلامية بالغرب والشرق.
3. ضرورة إنشاء كليات ومعاهد وأقسام خاصة بجامعة الأزهر والجامعات الإسلامية العالمية لدراسة صناعة الفتوى وأدواتها باللغات الأجنبية وتوفير الدعم الكافي لتلك الكليات والأقسام لتأهيل الأئمة والفقهاء المبتعثين من البلاد الإسلامية للأقليات بالشرق والغرب.
4. تشجيع الموسِرين من المسلمين على دعم المشروعات الداعمة للخطاب الفقهي للأقليات بالإنفاق عليها وحبس الأوقاف لها.
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: ضوابط الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة اليوم في 8:16 am
المراجع 1. القرآن الكريم. 2. أبو إسحاق إبراهيم الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، 4 مجلدات، تحقيق عبدالله دراز، بيروت: دار المعرفة، د.ت. 3. أبو حامد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، مجلدان، د.م: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د.ت. 4. أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 20 جزءًا، تحقيق هشام سمير البخاري، الرياض: دار عالم الكتب، 1423 هـ - 2003 م. 5. أبو عمر يوسف بن عبدالبر، جامع بيان العلم وفضله، جزآن، تحقيق أبي الأشبال الزهري، الدمام: دار ابن الجوزي، 1414 هـ - 1994 م. 6. أحمد بن حجر العسقلاني، بلوغ المرام من أدلة الأحكام، ط 2، د.م: دار الفيحاء، 1417هـ. 7. أحمد بن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط 3، تحقيق محب الدين الخطيب، القاهرة: المكتبة السلفية، 1407 هـ. 8. أحمد بن محمد بن حنبل، المسند، تحقيق أحمد شاكر، د.م: دار الجيل، د.ت. 9. المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، قرارات وفتاوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، المجموعتان الأولى والثانية، القاهرة: دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2002 م. 10. بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي، المنثور في القواعد، 3 أجزاء، تحقيق د. تيسير فائق أحمد محمود، مراجعة د. عبدالستار أبو غدة، الطبعة الثانية، الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 1405 هـ - 1985 م. 11. بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، 6 مجلدات، تحقيق الشيخ عبدالقادر عبدالله العاني، مراجعة الدكتور عمر سليمان الأشقر، الطبعة الثانية، الكويت: مطبعة الصفوة، 1413 هجرية. 12. سليمان بن الأشعث، أبو داود السجستاني، السنن، تحقيق عزت بن عبيد الدعاس، بيروت: دار الكتب العلمية، 1388 هـ. 13. صلاح سلطان، الضوابط المنهجية لفقه الأقليات، http://www.salahsoltan.com/future-scientists/865--1.html، 10 - 7 - 2011. 14. عبدالحق الإشبيلي، الأحكام الشرعية الكبرى، تحقيق حسين بن عكاشة، الرياض: مكتبة الرشد، 1422هـ. 15. عبدالله بن الشيخ بن بيه، الخطاب الإسلامي بين وحدة القواطع واختلاف الاجتهاديات، بحث منشور بمجلة الأمة الوسط التي يصدرها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، العدد الثاني، 2010 م. 16. عبدالمجيد النجار، نحو منهج أصولي لفقه الأقليات المسلمة، بحث منشور بالمجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، العدد الثاني، 1424 هـ - 2003 م. 17. علي بن أبي بكر الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، د.م: مؤسسة المعارف، 1406 هـ. 18. علي بن أحمد بن حزم، المحلى بالآثار، تحقيق أحمد شاكر، د.م: دار الجيل، د.ت. 19. علي بن محمد الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، 4 أجزاء، تحقيق د. سيد الجميلي، بيروت: دار الكتاب العربي، 1404 هـ. 20. فخر الدين الرازي، المحصول في أصول الفقه، 6 أجزاء، تحقيق د. طه جابر العلواني، الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1399 هـ. 21. مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 1425 هـ - 2004 م. 22. محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، 30 جزءًا، تونس: الدار التونسية للنشر، 1984 م. 23. محمد بن أبي بكر، ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، 4 أجزاء، تحقيق طه عبدالرؤوف سعد، القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، 1388 هـ - 1968 م. 24. محمد بن أحمد بن عبدالعزيز بن علي الفتوحي، شرح الكوكب المنير، 4 مجلدات، تحقيق د. محمد الزحيلي، ود. نزيه حماد، الرياض: مكتبة العبيكان، 1413 هـ - 1993 م. 25. محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح، تحقيق محب الدين الخطيب، القاهرة: المكتبة السلفية، 1400 هـ. 26. محمد بن عبدالرحمن السخاوي، المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، ط 2، تحقيق محمد عثمان الخشت، د.م: دار الكتب العربي، 1414هـ. 27. محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، لسان العرب، 15 جزءًا، بيروت: دار صادر، د.ت. 28. مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، صحيح مسلم، تحقيق محمد بن فؤاد عبدالباقي، القاهرة: دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1374 هـ. 29. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الموسوعة الفقهية الكويتية، 45 جزءًا، الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1427 هـ. 30. يحيى بن شرف الدين النووي، الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار، د.م: مكتبة المؤيد، 1408هـ. 31. يوسف القرضاوي، في فقه الأقليات المسلمة، القاهرة: دار الشروق، 1422 هـ - 2001 م. 32. يوسف القرضاوي، موجبات تغير الفتوى في عصرنا، سلسلة قضايا الأمة (1) (الدوحة: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، 1428 هـ - 2007 م. والله ولي التوفيق وكتبه د. وائل شهاب القاهرة 16 شعبان 1432 هـ 18 يوليو 2011 م
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: ضوابط الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة اليوم في 8:18 am