المبحـث الأول: المـسجـد الأقصـى والأرض المقدسة قبـل البعثة المحمدية
==================================
أولاً: تعريفات مهمة
1. مدينة القدس
عُرفت القدس بأسماء كثيرة في التاريخ، فأقدم اسم لها هو (يبوس) نسبة إلى اليبوسيين [1]، وهم بطن من بطون العرب.
واليبوسيون هم الذين أطلقوا عليها أيضا اسم "أورسالم" أي مدينة السلام.
وقد ورد هذا الاسم في لوحة من ألواح تل العمارنة، موجودة في المتحف المصري بالقاهرة.
ويرجع تاريخ هذه الألواح إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
وظل اسم (يبوس) علماً على المدينة، حتى استولى عليها داود وصار اسمها بعد ذلك (مدينة داود).
وقد وجد اليهود بعد ذلك صعوبة، في كتابة اسمها "أوروسالم"، باللغة العبرية، فوردت في أسفار العهد القديم ست مرات، تحت اسم "يوروشاليم".
كما ورد اسم القدس، في نقوش الإمبراطور الآشوري، سنحاريب (حوالي 700 ق.م) تحت اسم (أوروسليمو).
وفي عهد الإسكندر الأكبر، سماها اليونان "هيروسوليما"، ثم صار اسمها "إيلياء كابيتولينا" في عصر الإمبراطور الروماني "هادريان"، بعد أن قضى على الكيان الديني لليهود، وفي أعقاب ذلك أصدر مرسوماً، يتضمن أمراً، بقتل كل من يدخل القدس من اليهود.
وظلت تعرف باسم "إيلياء" حتى أوائل الفتح الإسلامي.
وورد هذا الاسم في وثيقة الأمان التي أعطاها الخليفة عمر بن الخطاب ـ لسكان المدينة، والتي عرفت باسم (العُهدة العُمَرِيَّة).
أمّا اسم القدس فقد عُرفت به المدينة منذ بداية تاريخها، عندما أقيمت فيها أماكن مقدسة للعبادة.
ومن الجلي، أن المؤرخ اليوناني "هيرودوت - 484 ـ 425 ق.م." لم يذكر اسم (أورشليم)، ولكنه ذكر كلمة (قديتس) مرتين.
وقد حاول بعض الباحثين، تفسير العلاقة بين القدس وكلمة (قديتس)، فجاء التفسير لافتًا للنظر، فاسم "القدس" مُحَرَّف من اليونانية، عن النطق الآرامي "قديشتا".
كما أن اليهود أطلقوا عليها أحيانا اسم مدينة القدس.
ثم استقر اسم المدينة بعد الفتح الإسلامي، على تسمية عربية إسلامية هي: بيت المقدس أو القدس، أو الأرض المقدسة، أو الأرض المباركة، وهي تسميات ثابتة في القرآن والسنة.
ومن أسماء القدس (الزيتون) وفي ذلك نزلت الآية الكريمة: "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ" (سورة التين: الآيات 1 ـ 3).
قال ابن عباس -رضي الله عنه-:
هو تِينُكُمُ الذي تأكلون، وزَيْتُونُكُمُ الذي تعصِرون منه الزيت.
وقال عكرمة -رضي الله عنه-:
أقسم الله تعالى، بمنابت التين والزيتون، فإن التين ينبت كثيرًا في دمشق والزيتون ببيت المقدس، وطور سينين هو الجبل المبارك، الذي كلّم الله عليه موسى (عليه السلام) وهو (طور سيناء) ذو الشجر الكثير، قال الخازن: سمي (سينين) و (سيناء) لحسنه، ولكونه مباركًا، وكل جبل فيه أشجار مثمرة، يسمى سينين وسيناء، والبلد الأمين هو مكة.
2. موقع المدينة المقدَّسة
تتمتع القدس بموقع إستراتيجي متميز، فهي تقع في منتصف فلسطين تقريبا، على خط طول 35 درجة و13 دقيقة شرقاً، وخط عرض 31 درجة و52 دقيقة شمالاً.
وهي تقوم على تلال يراوح ارتفاعها عن سطح البحر المتوسط نحو 750م، ونحو 1150م عن سطح البحر الميت.
ويبعد عنها البحر الأبيض المتوسط إلى الغرب 52 كيلومتر، بينما يبعد عنها البحر الميت حوالي 22 كم، كما أنها تقع جنوبي الخليل (حبرون) بحوالي تسعة عشر ميلاً، كما تقع شمال السامرة بثلاثين ميلاً.
وتبعد براً عن عَمَّان 88 كم، وعن بيروت 388 كم، وعن دمشق 290 كم، وعن القاهرة 528 كم.
وتنقسم المدينة إلى قسمين، قسم داخل السور، وهو البلدة القديمة، ومساحتها حوالي كيلومتر مربع واحد، وفيها تقع الأماكن المقدسة للأديان الثلاثة، والقسم الآخر خارج السور.
والقدس من أقدم مدن الأرض، وهي أقدم من بابل، ونينوى، وليس أقدم منها إلا (أون) أو (أيوتو) [2]، أولى عواصم مصر، في فجر التاريخ، و (منف) أو (ممفيس) ثاني عواصم مصر، التي أنشئت عام 3400 ق.م.
3. الأماكن المقدسة في مدينة القدس
المسجد الأقصى
المسجد الأقصى هو أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وكان القبلة الأولى للمسلمين، حتى السنة الثانية للهجرة، حيث تحولت القبلة إلى المسجد الحرام، كما ورد في قوله تعالى: "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ" (سورة البقرة: الآية 144).
وقد ورد ذكر المسجد الأقصى في قوله تعالى:
"سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ" (سورة الإسراء: الآية 1).
ويُشَكِّلُ المسجد الأقصى مع قبة الصخرة الحَرَم القُدسي.
والمسجد الأقصى، هو ثاني مسجد بناه إبراهيم (عليه السلام) كما ورد ذلك عن النبي (صلى الله عليه وسلم): فعَنْ أَبِي ذَرّ -رضي الله عنه- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ" قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "ثُمَّ الْمَسْجِدُ الأَقْصَى" قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ سَنَةً". (مسند أحمد، الحديث الرقم 20370).
فهذا الحديث يدل على أن المسجد الأقصى بناه إبراهيم (عليه السلام)
لأنه حُدِّدَ بمُدَّةٍ، هي من حياة إبراهيم (عليه السلام) ـ وقد قُرن ذكر المسجد الأقصى، بذكر المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم (عليه السلام) أيضاً.
وهذا مما أَهْمَلَ أهلُ الكتاب ذِكْرَهُ، وهو مما خَصَّ اللهُ نبينا (صلى الله عليه وسلم)، بمعرفته.
ويُعْرَفُ المسجد الأقصى ببيت المقدس، والأقصى أي: الأبعد، والمراد بعده عن مكة، لأن الله جعله نهاية الإسراء من المسجد الحرام.
وقد ثبتت له هذه التسمية بنص القرآن، في أول سورة الإسراء.
وهذا الوصف الوارد في القرآن (الأقصى) صار علماً على مسجد بيت المقدس، كما كان المسجد الحرام علماً على مسجد مكة.
قال ابن عاشور:
"وأحسب أن هذا العِلمُ من مبتكرات القرآن، فلم يكن العرب يصفونه بهذا الوصف، ولكنهم لما سمعوا هذه الآية فهموا المُراد منه، أنه مسجد إيلياء (اسم من أسماء مدينة القدس)، ولم يكن مسجدَ، لدين إلهي غيرَ هذا المسجدِ ومسجد مكة".
وتجدر الإشارة هنا، إلى حادثة الإسراء حينما وقعت، لم يكن المسجد الأقصى ببنائه المعروف الآن موجوداً، كما أن مسجد الصخرة، المعروف هذه الأيام، لم يكن موجوداً كذلك.
وإنما الذي كان موجوداً، هو مكان المسجد المُحاط بسور فيه أبواب، داخلها ساحات واسعة، وهذا هو المقصود بالمسجد الأقصى في الآية الكريمة؛ إذ إن الإسلام قد جاء، والمسجد قد تهدَّم بناؤه، ولكن ظل المكان معروفاً ومقدساً.
وأحاديث الإسراء تدل على أنه أُسْرِيَ بالنبي (صلى الله عليه وسلم) إلى بيت المقدس، راكباً البُراقَ، يصحبه جبريل (عليه السلام)، فنزل (صلى الله عليه وسلم) وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بباب المسجد؛ أي باب السور الخارجي، وحائط البراق، هو الحائط الذي يسميه اليهود -الآن- حائط المبكى؛ إذ يعتبرونه أحد أسوار الهيكل القديم، وهو بالقرب من باب المسجد، الذي يفتح على الساحة.
ويروى أن أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين فُتح بيت المقدس، استشار كعب الأحبار -الذي كان يهوديًا وأسلم- وقال له: أين أَضَعُ المسجدَ؟ فقال كعب: اجعله وراء الصخرة.
فقال: ضاهيت اليهودية يا كعب، بل نجعله في صدر المسجد؛ يقصد الساحة.
أمَّا المسجد الأقصى، القائم اليوم، فقد بُني في عهد الأمويين، بدأ بناءه الخليفة عبدالملك بن مروان، وأتم بناءه الخليفة الوليد بن عبدالملك.
وقد حدد المقدسي [3]، طول المسجد الأقصى، بألف ذراع، وعرضه بسبعمائة ذراع، وأنه يضم أربع منائر للمتطوعة، ومنارة للمرتزقة، وثلاث مقصورات للنساء، وثمانية أبواب، وأربعة محاريب.
ويشمل المسجد الأقصى:
أ. المسجد الأقصى:
الذي تقام فيه صلاة الجمعة، في عصرنا الحاضر، والذي يقع في الجهة القبلية من ساحة الحرم القدسي، فهو بناء عظيم، به قبة مرتفعة مزينة بالفصوص الملونة، وتحتها المنبر والمحراب.
يمتد بناؤه من جهة القبلة إلى الشمال في سبعة أروقة متجاورة، مرتفعة على الأعمدة الرخامية، والسواري التي تضم 33 عموداً رخامياً، وأربعين سارية مبنية بالحجر.
ب. الصخرة المشرفة
للصخرة المشرفة تاريخ ديني عريق؛ فعندها اتخذ إبراهيم (عليه السلام) معبداً ومذبحاً.
وهي التي أقام عندها يعقوب (عليه السلام) مسجده، بعد أن رأى عموداً من النور فوقها.
وهي التي نصب عليها يشوع (عليه السلام) قبة الزمان، أو خيمة الاجتماع، التي أنشأها موسى (عليه السلام) في التيه.
وهي التي بنى عندها داود (عليه السلام) محرابه، وشيَّد سليمان (عليه السلام) ـ عندها المعبد العظيم المنسوب إليه.
وهي التي عرج من فوقها النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى السماء في ليلة الإسراء.
وأول من بنى فوقها مسجداً ـ في العصر الإسلامي ـ هو الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان.
وهو المسجد المعروف بمسجد الصخرة، والمشهور بقبته الذهبية على المبنى المثمن، والذي تنصرف الأذهان إلى صورته كلما ذُكر المسجد الأقصى.
ج. جامع عمر
نسبة إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقد أقيم هذا المسجد في المكان الذي صلى فيه، عندما زار كنيسة القيامة ورفض أن يصلى فيها خوفاً من أن يطالب بها المسلمون، بحجة أنه صلى فيها.
ويمتد المسجد من الجنوب إلى الشمال بطول مائة ذراع، ومن الشرق إلى الغرب بطول 76 ذراعاً.
وتوجد في الجنوب الشرقي داخل المسجد مجموعة من العقود المشيدة بالحجر والجص، وبها المحراب.
د. محراب زكريا
وإلى الشمال منها إيوان كبير معقود:
وآخر يسمى محراب زكريا، بجوار الباب الشرقي.
هـ. مسجد النساء
أقامه صلاح الدين الأيوبي: بالقرب من المسجد الأقصى، على امتداد جداره الغربي. ويقال إن هذا البناء، تم في عهد الفاطميين.
وخلف القبلة توجد الزاوية الختنية. وفي جهة الغرب توجد دار الخطابة، والمنبر الموجود في صدر الجامع، هو منبر نور الدين الذي أُنْشِىء عام 564هـ/ 1168م.
و. جامع المغاربة يقع بالقرب من باب المغاربة:
على امتداد سور المسجد الأقصى، من الجهة الجنوبية الغربية، يقال، إنه بني على بقايا بناء جامع عمر ـ عندما فتح القدس وبنى المسجد هناك.
ز. كنيسة القيامة تقع على الجبل:
الذي يقول النصارى إن المسيح (عليه السلام) قد صُلب عليه ودفن فيه.
ح. حائط المبكى
هو المكان نفسه: الذي يسمى "مربط البراق"، وهو جزء من الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف.
وقد حققت في أمر هذا الحائط لجنة دولية، عام 1930 عينتها الحكومة البريطانية المنتدبة على فلسطين، حيث قررت أن هذا المكان إسلامي، وليس لليهود حق فيه أو في تغيير معالمه.
ويقدس اليهود هذا الحائط، لأنه يمثل لديهم الجزء الغربي من معبد الهيكل اليهودي؛ مع أن الرومانيين هدموا هذا المعبد عام 70م، فضلاً عن أنه تعرض للهدم قبل ذلك عدة مرات، وهو معبد لا وجود له في الوقت الحاضر، على الرغم من المحاولات التي جرت، وتجري في سبيل العثور عليه.
وللمسجد الأقصى عشرة أبواب:
تؤدي إلى ساحة الحرم القدسي الشريف، سبعة منها جهة الشمال، وباب من الشرق وآخر في الغرب، والباب الأخير في جامع النساء.
وللحرم القدسي المحيط بالمسجد عدة أبواب، هي:
باب المغاربة، باب السلسلة، باب الحديد، باب علاء الدين البصيري، باب الغوانمة، باب الملك فيصل، باب حطة، باب الرحمة.
4. أماكن أخرى:
أ. القدس الشرقية
تمثل الجزء الشرقي من مدينة القدس الأصلية، ومساحتها ضعف مساحة القدس الغربية.
تضم داخلها بقايا مدينة القدس القديمة، التي يحيط بها سور طوله أربعة كيلومترات، وارتفاعه اثنا عشر متراً، وقد بُنِيت أغلب أجزاء السور خلال القرن السادس عشر الميلادي، إلا أن هناك أجزاءً أقدم من ذلك بكثير.
وقد احتلت إسرائيل القدس الشرقية، في 7 يونيه 1967، وكانت في ذلك الوقت جزءاً من الضفة الغربية لنهر الأردن، وضمتها إلى الأراضي التي احتلتها عام 1948، ولكن مجلس الأمن الدولي أصدر قراره الرقم 252 في 21 مايو 1968، الذي دعا إسرائيل إلى إلغاء جميع إجراءاتها لتغيير وضع القدس.
وتقوم بداخل الجزء المسور من المدينة أربعة أحياء مميزة هي:
(1) الحي الإسلامي.
(2) الحي النصراني.
(3) الحي اليهودي.
(4) الحي الأرمني.
ومما يُذكر أن المسلمين، والنصارى، واليهود، عاشوا داخل المدينة القديمة منذ مئات السنين، في وئام وسلام.
ب. القدس الغربية
قَدِم معظم سكان القدس الغربية إليها بعد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 181، الصادر في 29 نوفمبر 1947، الذي أوصى بخطة لتقسيم فلسطين.
فَتَنادَى اليهود من كل أنحاء العالم، لإقامة دولة صهيونية لهم، وأقاموا بالقدس الغربية.
كما أن الحكومة الإسرائيلية أعلنتها عاصمةً أبدية للدولة اليهودية، ولكن غالبية الدول رفضت الاعتراف بهذا الإعلان.
والقدس الغربية، مدينة حديثة المباني، وتضم صناعات متطورة، وبها الجامعة العبرية.
وهناك بعض المواقع المقدسة بالمدينة؛ أهمها:
مبنى على جبل صهيون، يضم ما يُظَنُّ أنه قبر نبي الله داود (عليه السلام)، ويضم كذلك ما يسمى بقاعة العَشاء الأخير، وهي القاعة التي يقال: إن المسيح (عليه السلام) قد تناول فيها آخر عشاء له مع الحواريين.
ثانياً: أهم المراحل التاريخية، التي مرت بها القدس قبل العصر الإسلامي قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة، هاجرت قبائل عربية، من شبه الجزيرة العربية، إلى الشمال بسبب القحط، وكان أسبقهم في الهجرة الفينيقيون، حيث أقاموا على سواحل البحر المتوسط، وتطوروا، حتى أصبحوا أصحاب حضارة.
وإلى الجنوب من الفينيقيين نزلت قبائل عربية أخرى، أشهرها قبائل الكنعانيين، بعد خمسمائة سنة من هجرة الفينيقيين ـ أي قبل الميلاد بألفين وخمسمائة عام.
واستقرت قبائل الكنعانيين على ضفة نهر الأردن الغربية، منسابة نحو البحر المتوسط. وسميت هذه الأرض باسم (أرض كنعان) وهو اسم يكثر وروده في التوراة.
ويرد ذكر العرب في العهد القديم ـ كتاب اليهود المقدس ـ في أكثر من موضع.
ففي سفر إِرميا
"وكل ملوك العرب، وكل ملوك اللفيف الساكنين في البرية"، ويبدو ذلك واضحا عندما يخاطب النبي حزقيال مملكة صور الفينيقية بما نصه: "العرب وكل رؤساء قيدار، هم تجار يَدِكِ بالخرفان والكباش والأعتدة ... والذهب أقاموا أسواقك"
ومما يجدر ذكره، أن بعض النصوص في اللغتين البابلية والآشورية والعبرية، تشير إلى استخدام لفظ "عرب" كمدلول جغرافي لإقليم بعينه في منطقة فلسطين.
ورد في سفر إشعياء ما نصه:
"وحي من جهة بلاد العرب. في الوعر في بلاد العرب تَبيتينَ يا قوافل الددانيين".
وقبل الميلاد بمئات السنين، نزلت بالساحل المطل على البحر المتوسط، في يافا وغزة، قبائل من جزيرة (كريت) تسمى قبائل (فلسطين).
واختلط الكنعانيون بالمهاجرين الجدد من (كريت)، وتمازجوا، وشكلوا خليطا يغلب عليه الدم العربي، وعاشوا في تلك المنطقة التي سميت (فلسطين).
وفي الشمال الشرقي لنهر الأردن كانت تعيش قبائل (الآراميين)، الوافدة من حوض نهر الفرات بعد ازدحام هذا الحوض بالوافدين من جزيرة العرب، وهم المعروفون في الكتب المقدسة باسم (السوريون)، وكانت عاصمتهم دمشق.
وإلى جنوب البحر الميت كانت تسكن مجموعة من الآراميين في ثلاث ممالك (عمون ـ مؤاب ـ أدو).
1. إبراهيم (عليه السلام) والمرحلة المبكرة للمعبد كان إبراهيم (عليه السلام) من الساميين[4]، الذين سكنوا العراق؛ إذ كان الساميون يقطنون أواسط أرض العرب، وشمالها، وإليهم ينتسب الآشوريون والعرب.
عاش إبراهيم (عليه السلام) فترة في العراق، التي ولد بها، ثم هاجر إلى أرض كنعان، ماراً بمنطقة الآراميين، وهذا "المرور" أو "العبور"، هو الذي سُمِّيَ بنو إسرائيل من أجله بالعبرانيين.
فهم "عبرانيون" لأنهم عبروا نهر الفرات إلى أرض الشام، وكانت هذه المرحلة في عام ألفين قبل الميلاد، ومنذ ذلك التاريخ، استقر العبرانيون في أرض كنعان، ولكنهم عاشوا في عُزْلَةٍ عن بقية الشعوب هناك، لابتعادها عن الدين الصحيح.
ظل إبراهيم (عليه السلام) فترة في أرض الشام، ثم نزل إلى مصر، بعد قحط أصاب بلاد كنعان، ولم يَطُلْ بقاؤه في مصر؛ إذ طمع فرعونها في زوجته سارة، وكانت الفترة التي نزل فيها مصر معاصرة لفترة حكم الهكسوس.
ثم عاد إبراهيم (عليه السلام) إلى أرض كنعان خارجاً من مصر، بعد أن نجّى الله زوجته سارة من فرعونها الذي أهدى لسارة جارية هي (هاجر).
وكانت هاجر قد وقعت أسيرة في السَّبي، وتملَّكها فرعون مصر في ذلك الزمان.
غير أن "سارة" بدورها أهدت (هاجر) إلى إبراهيم (عليه السلام) فاتخذها زوجة، ورزقه الله منها إسماعيل ـ فكان ولده البكر.
ثم نقل إبراهيم، هاجر وولدها إلى أرض أخرى، هي مكة، في شبه جزيرة العرب.
وقد صوّر الله على لسان سيدنا إبراهيم (عليه السلام) هذا الموقف في قوله: "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون" (سورة إبراهيم: الآية 37).
وكان إبراهيم (عليه السلام) يزور ذريته في مكة من وقت إلى آخر.
وشبّ إسماعيل (عليه السلام)، في مكة وتزوج من قبيلة جرهم العربية، الذين كانوا سادة مكة.
ومن نسله (عليه السلام) ـ جاء العرب المستعربة، ورفع إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام قواعد الكعبة المشرفة، في مكة المكرمة، كما ذكر القرآن الكريم.
"وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (سورة البقرة: الآية 127).
ظل إبراهيم (عليه السلام) مقيماً في أرض كنعان بعد بناء الكعبة، وأصبحت هذه البقعة من أرض الشام مَهْجراً له، بعد أن نشأت له ((عليه السلام)) فيها الذرية واتخذ فيها مكاناً يعبد الله فيه.
وكان هذا المكان يمثل المرحلة المبكرة جداً لقداسة هذه البقعة.
قال ابن تيمية:
"فالمسجد الأقصى، كان من عهد إبراهيم (عليه السلام) لكن سليمان (عليه السلام) بناه بناء عظيماً".
وقال ابن كثير:
"إبراهيم (عليه السلام) لما قدم الشام، أوحى الله إليه، إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك، فابتنى إبراهيم مذبحاً شكراً لله على هذه النعمة، وضرب قبة شرقي بيت المقدس".
2. الأرض المقدسة والمعبد في عهد إسحاق ويعقوب عليهما السلام:
بعد إسماعيل (عليه السلام) بأربع عشرة سنة، وُلِد لإبراهيم، ولده إسحاق، وكان ميلاده في أرض كنعان.
وتزوج إسحاق وَوَلَدَ وَلَدَيْنِ هما: (يعقوب) و(عيصو)، وكانت النبوة في نسل يعقوب دون (عيصو).
ويعقوب هو (إسرائيل) الذي انتسبت إليه (بنو إسرائيل)، لأن النبوة لم تخرج من بعده إلا من عقبة.
وفي عهد يعقوب (عليه السلام) أعيد بناء المعبد الذي كان إبراهيم (عليه السلام) قد اتخذه قبة يتعبد فيها.
وحدث خلاف بين يعقوب وعيصو، وتوعد عيصو أخاه بالأذى، في قصة يذكرها ابن كثير في البداية والنهاية.
فأمرت زوجة إسحاق ولدها يعقوب، بأن يذهب إلى أخيها (لابان)، الذي بأرض حران، وأن يبقى عنده حتى يسكن غضب أخيه، وأن يتزوج من بناته.
فخرج يعقوب (عليه السلام) تنفيذاً لأمر أمه في آخر ذلك اليوم، فأدركه المساء في موضعٍ، فجعل حجراً تحت رأسه ونام، وقد رأى في نومه معراجاً منصوباً من السماء إلى الأرض، والملائكة يصعدون فيه وينزلون.
فهبّ من نومه مستبشراً بما رأى، ونذر لله لئن رجع إلى أهله سالماً لَيَبْنِيَنَّ في هذا الموضع معبداً لله عز وجل، وأن يكون له عُشُرُ ما يرزقه من كل شيء، ثم عمد إلى ذلك الحجر، فجعل عليه دهناً، ليتعرَّف به عليه، وسمَّي ذلك الموضع (بيت إيل) أي: بيت الله، وهو موضع بيت المقدس اليوم، الذي بناه يعقوب (عليه السلام) ـ بعد ذلك؟
ويذكر ابن كثير، أن يعقوب (عليه السلام) لما عاد من رحلته التي أمرته بها أمه، وكان الله تعالى، قد فتح عليه بمالٍ وثروة عظيمة، "مرّ على قرية أورشليم، فنزل عند القرية، واشترى مزرعةً كبيرة بمائة نعجة، فضرب هنالك فسطاطه (خيمته)، وابتنى مذبحاً أمره الله ببنائه".
قال ابن كثير:
وهو بيت المقدس، الذي جدده بعد ذلك سليمان بن داود عليهما السلام، وهو مكان الصخرة، التي جعل عليها يعقوب (عليه السلام) علامة بوضع الدهن عليها.
3. الأرض المقدسة والمعبد في عهد موسى (عليه السلام)
تعاقبت السنون، ومرت القرون، ومكان (بيت إيل) مقدس لدى المؤمنين من بني إسرائيل، ولمّا دخل بنو إسرائيل مصر، في زمن يوسف (عليه السلام) ثم خرجوا منها في عهد موسى (عليه السلام) سنة 1350 ق.م، بدأت مرحلة جديدة من تعلق بني إسرائيل بالأرض المقدسة، لأنهم خرجوا من مصر في الأساس، لكي يعودوا إلى أرض بيت المقدس، بعد أن يجاهدوا الوثنيين الذين استوطنوها.
ولكن حدثت من بني إسرائيل المخالفة تلو الأخرى، ونكثوا عن جهاد أعدائهم الوثنيين، حتى عوقبوا بالتيه، وقد فصّل لنا القرآن في هذه الأحداث، بما فيه العبرة والدروس.
وظل بنو إسرائيل في التيه، في صحراء سيناء مدة أربعين سنة، محرومين من الدخول إلى أرض بيت المقدس تأديباً لهم، وخلال تلك المدة حدثت أمور عجيبة وخوارق كثيرة ـ كما يحدثنا القرآن ـ من تظليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى عليهم، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء، تحمل معهم على دابة، فإذا ضربها موسى (عليه السلام) بعصاه، انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عينا، تجري لكل شعب منهم عين.
وهناك في التيه نزلت التوراة، وشُرعت لهم الأحكام، وبُنيت (قبة العهد) ويقال لها (قبة الزمان)، أو (خيمة الاجتماع)، وهي القبة التي وُضع فيها (تابوت الشهادة) المذكور في سورة البقرة في قوله تعالى "إِنَّ ءاَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ ءاَلُ مُوسَى وَءاَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ" (سورة البقرة: الآية 248).
قال ابن كثير:
"وهذا التابوت، كان بنو إسرائيل يستنصرون به على الأعداء بعد ذلك، وفي التيه توفي هارون (عليه السلام) ثم بعده بثلاث سنين تُوفي موسى (عليه السلام).
وكان موسى (عليه السلام) قد طلب من الله تعالى، أن يقبضه قريباً من الأرض المقدسة، فأجابه إلى ذلك، ومات قريباً منها بقدر رمية حجر.
4. الأرض المقدسة والمعبد في عهد يشوع بن نون (عليه السلام)
تُحدِّثنا التوراة، أن موسى (عليه السلام) تُوفي وأرض الميعاد على مرمى بصره، فتولى يشوع بن نون، وهو يسمى أيضاً "يوشع"، قيادة بني إسرائيل، وعبروا نهر الأردن، واحتلوا (أريحا) بعد تدميرها، وسفك دماء أهلها.
وكذلك فعلوا بمدن عاي والجلجال وسيلوح، وبقية المدن الكنعانية، التي احتلوها أثناء تقدمهم إلى يبوس (القدس)، وخلال غزو بني إسرائيل لفلسطين بقيادة يشوع، اتحد ملك اليبوسيين (أدوني صادق) مع أربعة من الملوك المجاورين (ملك حبرون ـ ملك ميرموت ـ ملك لخيش ـ ملك عجلون) وتصدوا ليشوع بن نون، إلا أنهم وقعوا في الأسر فأعدمهم.
على الرغم من ذلك لم يتمكن بنو إسرائيل من احتلال يبوس (القدس) نفسها، إذ كانت محصنة تحصيناً منيعاً، حيث قاومهم اليبوسيون، الذين اتحدوا مع ملك حاصور ضد يشوع، إلا أنهم انهزموا أيضا وتشتت شملهم، ومع ذلك لم يتم الاستيلاء على يبوس (القدس) إلا بعد وفاة يشوع، حيث حاصرها بنو إسرائيل ودمروها.
ولكنهم لم يستطيعوا الاستيلاء على قلعة اليبوسيين (حصن صهيون فيما بعد) وبقيت في أيديهم مدة عهد القضاة، وفترة حكم الملك شاءول، أول ملوك بني إسرائيل.
وكان يوشع، قد شرع قبل وفاته في تقسيم فلسطين، إلى أنصبة قبلية بين أسباط بني إسرائيل الأثني عشر، ووقعت مدينة القدس، في سبطي يهوذا وبنيامين.
ولكن على الرغم من هذا التقسيم، ظلت القدس مدينة يبوسية حتى عصر داود، جاء في الفقرة 63 من الإصحاح 15 من سفر يشوع: "وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم (القدس) فلم يَقْدِر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم".
5. الأرض المقدسة والمعبد في عهد داود (عليه السلام)
لمّا فتح داود (عليه السلام) مدينة يبوس (القدس) عام 996 ق.م. نقل التابوت إليها، وأعدّ بها مساحة منبسطة، ليشيد عليها الهيكل المقدس، وجهز المواد اللازمة للبناء، ولكنه لمّا أحس أن الأجل لن يمهله حتى يكمل بناء المعبد، أخذ عهدًا من ابنه سليمان (عليه السلام) بأن يُتم بناءه.
ويقول أهل الكتاب إنّ داود (عليه السلام) نوى أن يبني المعبد ليضع فيه التابوت، تنفيذًا بما أمره الله به، فجمع له من الذهب، والفضة، والأحجار الكريمة الشيء الكثير.
وهذا يفسّر اتخاذ اليهود النجمة السداسية شعاراً لهم وتسميتها "نجمة داود"، ذلك لأنها تمثل قاعدة الهيكل الذي نوى داود (عليه السلام) إقامته.
واشتهر داود (عليه السلام) بإنجازات أخرى، منها القصر الذي شيده في القدس، وبناه معماريون من (صور) أرسلهم صديقه الفينيقي (حيرام)، ومنها شعره؛ فإليه نسبت (المزامير).
6. الأرض المقدسة والمعبد في عهد سليمان (عليه السلام)
ولد سليمان (عليه السلام) في القدس، ونشأ بها، وتولى عرش المملكة بعد أبيه داود (عليه السلام) واستمر ملكه لمدة أربعين سنة من (963 ـ 923 ق.م.)، وبنى هيكلاً وتحصينات وثكنات.
جاء في سفر الملوك الأول:
"فبنى سليمان (عليه السلام) البيت وأكمله، وبنى حيطان البيت من داخل، بأضلاع أَرْزٍ من أرض البيت، إلى حيطان السقف، وغَشَّاه من داخل بخشب، وفرش أرض البيت بأخشاب سَرْوٍ، وبنى عشرين ذراعاً من مؤخر البيت بأضلاع أرزٍ من الأرض إلى الحيطان، وبنى داخله لأجل المحراب أي قدس الأقداس، وأربعون ذراعاً كانت البيت أي الهيكل الذي أمامه، وأرز البيت من داخل كان منقوراً على شكل قِثاء وبراعم زهور، الجميع أرز، لم يكن يُرَى حجر.
وهيأ محراباً في وسط البيت من داخل ليضع هناك تابوت عهد الرب، ولأجل المحراب عشرون ذراعاً طولاً وعشرون ذراعاً عرضاً وعشرون ذراعاً سمكاً، وغشاه بذهب خالص وغَشىَ المذبح بأرز.
غَشىَ سليمان (عليه السلام) البيت من داخل بذهب خالص، وسد بسلاسل ذهب قُدام المحراب، وغشاه بذهب، ويذكر المؤرخون أن ذلك البناء كان سياجاً من بناء يضم عدة أجنحة.
وبعد وفاة سليمان (عليه السلام)، انقسمت المملكة في عهد ابنه "رحبعام" إلى مملكتي إسرائيل ويهوذا، وبقيت القدس ـ وأصبحت تعرف بأورشليم ـ عاصمة يهوذا، ولم تعمر المملكتان طويلا، فانتهت مملكة إسرائيل على يد "سرجون"ملك آشور سنة 722 ق.م. وانتهت مملكة يهوذا على يد "نبوختنصر"، ملك بابل الكلداني عام 586 ق.م.
وخربت القدس وسُبِيَ عظماء البلاد ونقلوا إلى بابل. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الطابع السياسي لفلسطين، بقي على حاله أثناء وجود المملكتين وبعد زوالهما، من حيث تعدد الحكام، والتفاعل مع مصر جنوباً، وسورية شمالاً، وقد ظل العرب اليبوسيون، يعيشون في مدينتهم المقدسة ـ ويسميهم العهد القديم أحيانا "الإسماعيليين" ـ وتفاعلوا مع الهجرات العبرانية وامتصوها.
7. العودة من السَّبي وإعادة بناء المعبد
بعد سقوط مملكتي إسرائيل ويهوذا، احتل "قورش الأخميني ملك الفرس، بلاد بابل، ومن ثم أصبح له السلطان على أرض يهوذا، ومنذ ذلك الوقت، أطلق الفُرْسُ على شعب يهوذا اسم (اليهود)، وعلى ديانتهم (اليهودية)، وأصبحت كلمة (اليهودي) تعني من اعتنق اليهودية، ولو لم يكن من بني إسرائيل.
سمح "قورش" لليهود بالعودة إلى فلسطين سنة 538 ق.م. إذ كان على صلة طيبة بهم، ولأنهم كانوا أصحاب دين سماوي، فعادت طوائف من اليهود إلى بيت المقدس، وفضَّلت طائفة أخرى البقاء في أرض بابل، وعمدت الطائفة العائدة، إلى إعادة تعمير المدينة المقدسة، فأُعيد بناء المعبد مرة أخرى.
ولكن عودتهم كانت عودة شعب بلا دولة، فقد كانت السيطرة للفرس.
ثم مع توالي العهود، بدأ الفرس يشتدون على اليهود، حتى تذمروا من بطشهم، وفي هذه الأثناء زحف الإسكندر الأكبر سنة 333 ق.م. على فلسطين، ورحب به اليهود، وظل بيت المقدس فترة تحت حكم الإسكندر، ثم آل الأمر فيه إلى البطالمة، فعاشت القدس جواً من التسامح.
وفي عهد الحاكم "بطليموس فيلادلفيوس محب العلم، تُرجمت التوراة إلى اليونانية على يد سبعين عالماً يهوديّاً دعاهم إلى مصر للقيام بهذه المهمة.
8. غزو الرومان وتجديد بناء المعبد
اكتسح الرومان فلسطين، عام 63 ق.م. واستولوا على القدس، وتم تنصيب "هيرود" الروماني ملكا على فلسطين، وقد حاول هيرودوت استرضاء اليهود، فبنى الهيكل، الذي كان قد أصابه القدم على نسق هيكل سليمان.
وظل المعبد على هذه الحالة، حتى جاء نبي الله زكريا وابنه يحيى، عليهما السلام، وعيسى بن مريم ابن خالة يحيى ـ عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
9. المعبد على عهدّي يحيى وزكريا عليهما السلام
كان المعبد قائماً في عهدي يحيى وزكريا، لأن أم مريم، عليها السلام، كانت قد نذرت أن تهب مريم لخدمة بيت المقدس، قال تعالى: "إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ" (سورة آل عمران: الآيات 35 - 39).
فالنذر كان لخدمة المعبد المقدس، وكفل زكريا مريم عليها السلام، وكان حينئذ رئيساً للهيكل.
كما أنه دعا ربه أن يرزقه الذرية الطيبة، فجاءته البشرى بيحيى وهو قائم يصلي في محراب الهيكل.
ثم إن اليهود قتلوا زكريا (عليه السلام) ونشروه بالمنشار، كما قتلوا ولده يحيى (عليه السلام).