أخلاق الحميدة للنبي ﷺ 1356
 أخلاق الحميدة للنبي ﷺ

وأمَّا الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة والآداب الشريفة التي اتفق جميع العقلاء على تفضيل صاحبها، وتعظيم المتصف بالخلق الواحد منها، فضلاً عما فوقه وأثنى الشرع على جميعها، وأمر بها، ووعد السعادة الدائمة للمتخلق بها، ووصف بعضها بأنه من أجزاء النبوة، وهي المسماة بحسن الخلق، وهو الاعتدال في قوى النفس وأوصافها، والتوسط فيها دون الميل إلى منحرف أطرافها. فجميعها، قد كانت خلق نبينا ﷺ على الانتهاء في كمالها، والاعتدال إلى غايتها، حتى أثنى الله عليه بذلك، فقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم 4).

قالت عائشة (رضي الله عنها): كان خُلُقُهُ القرآن، يرضى برضاه، ويسخط بسخطه.

وقال ﷺ: "بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ".

قال أنس: كان رسول الله ﷺ أحسنُ النَّاس خُلُقاً.

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثله.

وكان فيما ذكره المحققون مجبولاً عليها في أصل خلقته وأول فطرته، لم تحصل له باكتساب ولا رياضة إلا بجود إلهي، وخصوصية ربانية.

وهكذا لسائر الأنبياء، ومن طالع سيرهم منذ صباهم إلى مبعثهم حقق ذلك، كما عرف من حال عيسى وموسى، ويحيى، وسليمان، وغيرهم عليهم السلام. بل غرزت فيهم هذه الأخلاق في الجبلة، وأودعوا العلم والحكمة في الفطرة، قال الله تعالى: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (مريم: 12).

قال المفسرون: أعطي يحيى العلم بكتاب الله تعالى في حال صباه.

وقال معمر: كان ابن سنتين أو ثلاث، فقال له الصبيان: لِمَ لا تلعب؟ فقال: أللعب خُلِقْتُ!.

وقيل في قوله تعالى: مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ (آل عمران: 39).

صدق يحيى بعيسى، وهو ابن ثلاث سنين، فشهد له أنه كلمة الله وروحه.

وقيل: صدقه وهو في بطن أمه، فكانت أم يحيى تقول لمريم: إنى أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك، تحية له.

وقد نَصَّ اللهُ تعالى على كلام عيسى لأمِّهِ عند ولادتها إيَّاهُ بقوله لها: (لا تحزنى) على قراءة مَنْ قرأ مَنْ تَحْتَها وعلى قول مَنْ قال: إن المنادي عيسى عليه السلام.

ونَصَّ على كلامه في مهده فقال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (مريم: 30).

وقال تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا (الأنبياء: 79).

وقد ذكر من حكم سليمان وهو صبي يلعب في قصة المرجومة، وفي قصة الصبي ما اقتدى به داود أبوه.

وقال الطبري: إن عمره حين أوتي الملك اثنا عشر عامًا.

وكذلك قصة موسى مع فرعون وأخذه بلحيته وهو طفل.

وقال المفسرون ـ في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ (الأنبياء: 51)، أي هديناه صغيراً، قاله مجاهد وغيره.

وقال ابن عطاء: اصطفاه قبل إبداء خلقه.

وقال بعضهم: لَمَّا وُلِدَ إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعث اللهُ تعالى إليه ملكاً يأمره عن الله أن يعرفه بقلبه، ويذكره بلسانه، فقال: قد فعلتُ، ولم يقل أفعل، فذلك رشده.

وقيل: إن إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار ومِحنته كانت وهو ابن ست عشرة سنة، وأن استدلال إبراهيم بالكوكب والقمر والشمس كان وهو ابن خمسة عشر شهراً.

وقيل: أوحى الله تعالى إلى يوسف وهو صبي عندما هَمَّ إخوته بإلقائه في الجُبِّ، يقول الله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (يوسف: 15).

إلى غير ذلك مما ذكر من أخبارهم.

 وقد حكى أهل السير أن آمنة بنت وهب أخبرت أن نبينا محمداً ﷺ ولد حين ولد باسطاً يديه إلى الأرض، رافعاً رأسه إلى السماء.

وقال في حديثه ﷺ: «لَمَّا نشأتُ بُغِّضَتْ إلِيَّ الأوثان، وبُغِّضَ إلِىَّ الشِّعْرُ، ولم أهم بشىء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، فعصمني الله منهما، ثم لم أعُدْ».

ثم يتمكن الأمر لهم، وتترادف نفحات الله عليهم، وتشرق أنوار المعارف في قلوبهم، حتى يصلوا إلى الغاية، ويبلغوا -باصطفاء الله تعالى لهم بالنبوة في تحصيل هذه الخصال الشريفة- النهاية دون ممارسة ولا رياضة، قال الله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا (القصص: 14).

وقد نجد غيرهم يطبع على بعض هذه الأخلاق دون جميعها، ويولد عليها، فيسهل عليه اكتساب تمامها عناية من الله تعالى، كما نشاهد من خلقه بعض الصبيان على حسن السمت، أو الشهامة، أو صدق اللسان، أو السماحة، وكما نجد بعضهم على ضدها، فبالاكتساب يكمل ناقصها، وبالرياضة والمجاهدة يستجلب معدومها، ويعتدل منحرفها، وباختلاف هذين الحالين يتفاوت الناس فيها. وكل ميسر لما خلق له.

ولهذا ما قد اختلف السلف فيها: هل هذا الخلق جبلة أو مكتسبة؟.

فحكى الطبري عن بعض السلف أن الخلق الحسن جبلة وغريزة في العبد، وحكاه عن عبد الله بن مسعود، والحسن، وبه قال هو.

والصحيح ما أصلناه.

وقد روى سعد عن النبي ﷺ، قال: «كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب».

وقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في حديثه: «والجرأة، والجبن غرائز يضعها الله حيث يشاء».

وهذه الأخلاق المحمودة والخصال الجميلة الشريفة كثيرة، ولكنا نذكر أصولها، ونشير إلى جميعها، ونحقق وصفه ﷺ بها إن شاء الله.

من كتاب الشفا يتعريف حقوق المصطفى
للعلامة القاضي عياض

الرابط:
https://www.azhar.eg/ProphetMohamed/ArtMID/6111/ArticleID/10489/