أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: المبحث التاسع والعشرون: العملية الأخيرة والهدنة الثلاثاء 20 ديسمبر 2011, 2:08 am | |
| المبحث التاسع والعشرون العملية الأخيرة والهدنة أولاً: العملية "عوفدا" ما إن توقف القتال على الجبهة المصرية حتى بدأت مفاوضات الهدنة المصرية/ الإسرائيلية في "رودس" ابتداءاً من الثالث عشر من يناير، وبعد مباحثات مضنية وقَّع الجانبان اتفاقية الهدنة بينهما في الرابع والعشرين من فبراير، إلا أنه قبل أن يجف مداد هذه الاتفاقية، وفي الوقت الذي كانت تتباحث فيه مع شرق الأردن لتوقيع اتفاقية مماثلة، قررَّت الحكومة الإسرائيلية الاستيلاء على باقي النقب حتى خليج العقبة، حتى تضع العرب والعالم أمام أمر واقع جديد، وتقطع الطريق على الملك عبدالله، الذي كان يطالب بضم هذه المنطقة إلى مملكته بحكم سيطرة قواته عليها، وأطلقت على هذه العملية اسم "عوفدا".
وعلي ضوء الاستطلاع الجوي لمثلث النقب حتى خليج العقبة وُضعت خطة العملية التي كانت تقضي بالتقدم إلى رأس الخليج بقوتين، الأولي مشكلة من لواء "النقب" والثانية من اللواء "جولاني"، وكان على القوة الأولي التحرك وسط النقب خلال طرقاً وأودية وعرة محاذية للحدود المصرية يوم 5 مارس للقيام بالمهام التالية: 1. احتلال مطار إبراهيم (علي مسافة 50 كم شمال رأس الخليج) وتجهيزه لاستقبال طائرات النقل الثقيلة، التي كانت ستقوم بنقل باقي قوات اللواء. 2. قفل محور التقدم إلى المطار من اتجاه "غرندل". 3. احتلال المرتفعات المشرفة على "طابا" و"أم رشرش".
بينما كان على القوة الثانية (اللواء جولاني) التحرك في توقيت لاحق على الطريق المار بوادي "عرابة" للقيام بالمهام التالية: 1. احتلال "عين ويبة" و"عين راديان". 2. دفع الدوريات على طول امتداد وادي "عرابة" حتى 20 كم من خليج العقبة.
وعلي التوازي مع تحرك القوتين السابقتين كان على اللواء "اسكندروني" التقدم من "بئر السبع" لاحتلال عين "جدي" والسيطرة على المرتفعات الواقعة بين البحر الميت و "بئر السبع"، بينما كان على القوة الجوية الإسرائيلية القيام بمهام النقل الجوي إلى مطار "إبراهيم" وإجراء الاستطلاع الجوي لصالح قوات هذه العملية، مع وضع سرب مقاتلات في حالة الاستعداد الكامل لتقديم المعاونة الجوية للقوات السابقة فور طلبها.
ومع مطلع شمس الخامس من مارس تحركت طليعة لواء "النقب" براً نحو المكان المحدد لإعداد مدرج هبوط الطائرات فوصلته عصر اليوم التالي، وفي نفس اليوم انطلق اللواء "جولاني" من منطقة تجمعه في" كرنب" فوصلت مقدمة قواته إلى "عين حصب" في اليوم التالي (8 مارس) في الوقت الذي هبطت فيه أولي طائرات النقل بمطار "إبراهيم". وابتداءً من فجر الثامن من مارس تحولت العملية "عوفدا" إلى سباق بين لوائي "النقب" و"جولاني" للوصول إلى رأس الخليج.
وحتى تتجنب رئاسة الأركان الإسرائيلية إثارة أية مشاكل سياسية كانت أوامرها لقوات العملية تقضي بتجنب الاحتكاك بأي قوات مصرية أو أردنية يمكن أن تصادفها على الطريق.
ولما كانت بعض قوات الفيلق الأردني تحتل ثلاثة مواقع وسط مثلث النقب شمال "بئر مليحة"، فقد قامت القوات الإسرائيلية بالالتفاف على أجنابها تجنباً للصدام معها.
وما أن علمت القيادة الأردنية بتحركات القوات الإسرائيلية حتى أرسلت احتجاجاً على غزو القوات الإسرائيلية للنقب، إلا أن الحكومة الإسرائيلية أنكرت في البداية أن لقواتها نشاطاً في مثلث النقب، غير أنها عادت ـ بمجرد وصول قواتها إلى رأس الخليج بعد ظهر العاشر من مارس ـ تعلن على الملأ أنها احتلت كل النقب وضمته إلى رقعة الدولة باعتباره جزءاً من القسم الإسرائيلي في قرار التقسيم.
وتوضح الوثائق الأمريكية ورواية رئيس وزراء الأردن ـ في مؤتمر رؤساء الحكومات العربية ـ السياسة الأمريكية تجاه رغبة بريطانيا في بقاء النقب الجنوبي خارج حدود الدولة الإسرائيلية ليكون معبراً وممراً يربط قاعدتها في قناة السويس بقواعدها الأخرى في الأردن والعراق. ففي الرابع من يناير أخطرت وزارة الخارجية البريطانية السفير الأمريكي في لندن ـ رداً على استفسار الأخير عن النصيحة التي وجهتها بريطانيا إلى الملك عبدالله بخصوص التسوية مع إسرائيل ـ أنها أوضحت له "ما تراه تسوية مقبولة من الحكومة الإسرائيلية المؤقتة بالنسبة للخطوط التي نوقشت مبكراً مع الإدارة (الأمريكية )، مثل طريق "غزة/ بئر السبع" كحدود جنوبية للنقب (الإسرائيلي)". كما أشارت عليه بإزالة خلافه مع مصر والعمل معها، وعرضت الخارجية البريطانية على الإدارة الأمريكية ، البدء فوراً في مباحثات بين الجانبين ـ البريطاني والأمريكي ـ للتوصل إلى تفهم مشترك بالنسبة للمسائل المتعلقة بالحدود.
وعندما اجتمع السفير البريطاني في واشنطن بوزير الخارجية الأمريكي بالنيابة في اليوم التالي (5 يناير) من أجل نفس الموضوع، فإنه أوضح للأخير، "أن مستر بيفن يأمل بشدة ـ على ضوء المصالح الإستراتيجية الكبرى لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى في الشرق الأدنى، والحاجة إلى دفاعات كافية بعمق بالنسبة لقناة السويس ـ أن تجد الولايات المتحدة الأمريكية وسيلة للضغط على الحكومة الإسرائيلية المؤقتة للانسحاب إلى الخطوط التي حددها الوسيط الدولي بالنيابة بعد صدور قرار مجلس الأمن في 4 نوفمبر 1948".
إلا أن الوزير الأمريكي رد عليه قائلاً " إنه لأسباب عديدة فإنني لا أستطيع الموافقة على طلب مستر "بيفن". فإنه باستثناء حالات خاصة كانت الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة فيها لتقديم مذكرة قوية ـ مثلما حدث عندما هدد الهجوم الإسرائيلي على مصر بتوسيع الصراع خارج حدود فلسطين– فإنها حريصة على العمل في إطار الأمم المتحدة".
وأجمل الوزير الأمريكي النقاط التي تعكس وجهة النظر الأمريكية بقوله: "إذا رغبت الحكومة الإسرائيلية في الاستفادة من المناطق المخصصة لها تبعاً لقرار 29 نوفمبر 1947 (قرار التقسيم)، فإنه يجب قبول التخلي عن هذه المناطق، مثلما هو الأمر بالنسبة للمناطق المخصصة للعرب تبعاً لذلك القرار، والتي تحتلها الآن القوات الإسرائيلية مثل "يافا" و"الجليل الغربي".
وعندما أخطر سفير بريطانيا الوزير الأمريكي، " أنه عما قريب سترسل تعزيزات بريطانية إلى خليج العقبة تقدر بكتيبة"، كان رد الأخير "انه إذا وصلت تلك القوات إلى شرق الأردن من خارج منطقة الشرق الأدنى، فإن ذلك سيعتبر مخالفاً لقرار مجلس الأمن الذي يحرم تحرك الأفراد العسكريين إلى فلسطين أو الدول المجاورة لها".
وعندما بدأت الأنباء تتري إلى كل من لندن وواشنطن عن تحرك القوات الإسرائيلية إلى خليج "العقبة" واختراقها الأراضي الأردنية، أبلغ السفير البريطاني وزير الخارجية الأمريكية ، أن الحكومة البريطانية ستقوم بتنفيذ التزاماتها تجاه شرق الأردن تبعاً للمعاهدة البريطانية/ الأردنية، إذا ثبتت تلك الأنباء، إلا أن الوزير الأمريكي أخطره بضرورة كبح جماح القوات البريطانية في العقبة وعدم السماح لأي حادث بسيط بتفجير الموقف.
وطبقا لرواية توفيق أبو الهدى ـ رئيس وزراء الأردن آنذاك ـ فإن الكتيبة البريطانية السابق الإشارة إليها وصلت فعلاً إلى ميناء العقبة على أن تتحرك في الوقت المناسب لوقف التقدم الإسرائيلي، إلا أنها ظلت في ميناء العقبة دون أن تحرك ساكناً، بينما تقدمت القوات اليهودية حتى خليج العقبة، واحتلت "أم رشرش" (إيلات حالياً)، على رأس ذلك الخليج. وعندما استنكر رئيس الوزراء الأردني الموقف البريطاني، وصلته رسالة من أرنست بيفن يخطره فيها بتعرضه لضغط من الحكومة الأمريكية للسماح لإسرائيل باحتلال "أم رشرش".
وهكذا استولت إسرائيل على النقب من دون قتال، ووصلت إلى مياه الخليج بتواطؤ أمريكي وتخاذل بريطاني، وغرست بذلك بذرة مُرة أخري في حقل الصراع الدامي بينها وبين العرب، كانت سببا في حربين تاليين في أقل من عقدين من الزمن.
ثانياً: اتفاقات الهدنة 1. اتفاقية الهدنة المصرية/ الإسرائيلية بدأت مفاوضات الهدنة المصرية/ الإسرائيلية في "رودس" ابتداءاً من الثالث عشر من يناير بين العسكريين المصريين والإسرائيليين تحت إشراف "رالف بانش" القائم بأعمال الوسيط الدولي وممثل الأمم المتحدة، وقد حرصت مصر على إعطاء هذه المحادثات صفة عسكرية محضة. وكانت توجيهات وزير الحربية للوفد المصري قبل سفره تقضي بضرورة التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل، مع تزويد الوفد بصلاحيات كاملة في هذا الصدد، وكانت هذه التوجيهات نابعة من الواقع المرير الذي كانت تواجهه الحكومة المصرية، بعد أن أقحمت قواتها في حرب خاسرة، وكانت اتفاقيات الهدنة تعفيها من مواصلة الحرب، أو هكذا كان التصور في ذلك الوقت. ولم يكن ذلك موقف مصر وحدها، فقد كان هذا الموقف ينطبق على بقية الدول العربية.
وبعد مفاوضات استمرت حوالي أربعين يوماً وقع الوفدان في 24 فبراير اتفاقية الهدنة. وفي هذه الاتفاقية قبلت مصر بأن يكون الحد الأمامي لقوات الجانبين عند وقف إطلاق النار في السابع من يناير كخط حدود للهدنة لا يجب أن تتجاوزه قوات الجانبين بأية حال، إلا أن المفاوض المصري من ناحية أخري حرص على تأكيد أن الهدنة اتفاقية عسكرية محضة لا تمس القضية الفلسطينية، فنصت المادة الخامسة من هذه الاتفاقية على "إن خط حدود الهدنة لا يفسر بأية حال على أنه حدود سياسية أو إقليمية، وقد وُضع دون الإخلال بحقوق أو مطالب أو موقف أي الطرفين من الهدنة، وذلك فيما يتعلق بالتسوية النهائية للمسألة الفلسطينية".
غير أنه في سبيل تجريد منطقة "العوجة" من السلاح وعودة القوات المحاصرة في جيب "الفالوجا" بكامل أسلحتها قبلت مصر بتنازلات خطيرة أبرزها تجريد المنطقة الواقعة غرب "العوجة" ولمسافة 17 ميلا داخل الأراضي المصرية من السلاح، ومن ثم نصت المادة الثامنة من الاتفاقية على ألا تقام مواقع مصرية قريبة من "العوجة" شرق "القسيمة" أو "أبو عجيلة". كما قبلت مصر بالأ تزيد قواتها في قطاع "غزة" عن ثلاث كتائب من المشاة وتجريد القطاع من الأسلحة الثقيلة كالمدرعات، كما حظر الملحق الثاني للاتفاقية على مصر إنشاء أية مطارات عسكرية في ذلك القطاع أو أية تجهيزات أخري لازمة للطيران (كالرادار) وألا تصعد منه أو تهبط فيه أية طائرات حربية إلا في الحالات الطارئة. كما نص ذلك الملحق على عدم جواز إنشاء قواعد بحرية في هذا القطاع وألا تدخل السفن الحربية إلى مياهه الإقليمية.
2. اتفاقية الهدنة اللبنانية/ الإسرائيلية جرت خلال مفاوضات الهدنة المصرية/ الإسرائيلية اتصالات جانبية أخري مع الحكومة اللبنانية وأبدي الطرفان تفاهما خاصا انتهي بتوقيع اتفاقية الهدنة بين البلدين في الثالث والعشرين من مارس. وتتضمن اتفاقية الهدنة الأخيرة نفس المبادئ التي تضمنتها الاتفاقية الأولى مع مصر، فتوضح أنها مقدمة لتسوية دائمة، إلا أنها تضيف أن الحدود السياسية السابقة بين لبنان وفلسطين هي التي تشكل خط الهدنة الجديدة. وتحظر الاتفاقية اللبنانية/ الإسرائيلية الاحتفاظ بقوات غير القوات الدفاعية قرب خط الحدود، إلا أنها لا تحدد عمقاً معيناً لتطبيق هذا النظام.
كما كانت هذه الاتفاقية تقضي بانسحاب القوات الإسرائيلية من القرى اللبنانية التي كانت تحتلها منذ نهاية العملية "حيرام" في آخر أكتوبر عام 1948 مقابل انسحاب بقايا جيش الإنقاذ من منطقة الحدود اللبنانية الفلسطينية.
3. اتفاقية الهدنة الأردنية/ الإسرائيلية (اُنظر ملحق اتفاق الهدنة العامة بين المملكة الأردنية الهاشمية وإسرائيل الأمم المتحدة رودس 3 نيسان (أبريل) سنة 1949)
بالرغم من أن المملكة الأردنية كانت أول دولة عربية تعقد هدنة دائمة مع إسرائيل في منطقة القدس، والاتصالات المبكرة التي أجراها الملك عبدالله مع ممثلي الحكومة الإسرائيلية ورغبة الأول في التصالح مع إسرائيل فإن توقيعه للهدنة الدائمة لم يتم إلا في الرابع من أبريل، أي بعد مصر ولبنان، وهو ما كان يرجع إلى وجود مشكلات معقدة متداخلة تطلب تسويتها وقتا أطول، إزاء رغبة الملك عبدالله في ضم مثلث النقب والضفة الغربية إلى مملكته.
ولما كانت الحكومة العراقية قد قررت سحب قواتها من مثلث "جنين/ نابلس/ طولكرم" بناءاً على طلب الملك عبدالله، فقد رفضت إسرائيل ـ خلال مباحثات الهدنة ـ إحلال القوات الأردنية محلها دون مقابل، وكان الثمن الذي طلبته هو انسحاب القوات الأردنية لمسافة خمسة عشر ميلا بطول القطاع الشمالي للضفة الغربية الذي كانت تحتله القوات العراقية، غير أنه بعد مساومات طويلة خُفضت المسافة إلى أثنين ونصف ميل بطول خمسة وخمسين ميلاً لتأمين المنطقة الساحلية الحيوية التي تقع تل أبيب وسطها.
وقد فكر الملك عبدالله في أن يتجاوز اتفاقية الهدنة إلى معاهدة عدم اعتداء لمدة خمس سنوات. وكان مشروع هذه المعاهدة ينص على حرية الأردن في استخدام ميناء "حيفا" في مقابل حرية إسرائيل في استخدام ميناء العقبة، غير أن استيلاء الأخيرة على مثلث النقب حتى خليج العقبة جعلها في غير حاجة إلى منح الأردن تنازلاً في حيفا، ولم يلبث أن أذاع بن جوريون خبر محادثات الصلح وأحرج الملك عبدالله إلى حد أن مصر دعت إلى اجتماع لمجلس الجامعة العربية طالبة إخراج المملكة الأردنية من عضويتها، إلا أن تراجع الملك جعل الأمر ينتهي باتفاقية للهدنة الدائمة على النحو الذي جري في الاتفاقيتين المصرية واللبنانية، حيث تحتوي مقدمتها على نفس المبادئ الواردة في الاتفاقيتين الأخيرتين.
غير أن اتفاقية الهدنة الأردنية/ الإسرائيلية تختلف عن الاتفاقيتين السابقتين في نص المادة السادسة منها على إحلال القوات الأردنية محل القوات العراقية التي وعد العراق بسحبها، ونص المادة السابقة على أن تكون قوات الطرفين دفاعية محضة لمسافة 10 كم من خطوط الهدنة إلا إذا تعذر ذلك لاعتبارات جغرافية مثل أقصي الطرف الجنوبي لمثلث النقب والشريحة الساحلية وسط إسرائيل، بالإضافة إلى المادة الثامنة التي تنظم مرور القوافل الإسرائيلية في منطقة القدس إلى مستشفي "هاداسا" والجامعة العبرية الواقعتين في المنطقة العربية، وتنظيم القوافل العربية إلى الأماكن المقدسة في بيت لحم التي أصبحت تسيطر عليها القوات الإسرائيلية بعد عودة القوات المصرية منها.
4. اتفاقية الهدنة السورية/ الإسرائيلية تأخر توقيع اتفاقية الهدنة بين سورية وإسرائيل حتى 20 يوليه 1949، حتى ترتب الأخيرة أوضاعها مع الدول العربية الأخري التي تملك حيالها أوراقا عديدة للمساومة، فبالرغم صغر المساحة التي كانت تحتلها القوات السورية من فلسطين، فقد كانت في موقف تفاوضي قوي لأن القوات الإسرائيلية لا تحاصر بعض قواتها كما كان الحال مع مصر، أو تحتل بعض قراها كما كان الحال مع لبنان، وليس لها مطامع في فلسطين كما كان حال الملك عبدالله. ومن ثم كان على إسرائيل إضعاف الموقف السوري أولاً قبل الدخول في مفاوضات الهدنة، وهو ما نجحت فيه بجعل القوات السورية وحيدة في الميدان بعد عقد اتفاقيات الهدنة السابقة مع حلفاء الأخيرة.
وبالرغم من أن إسرائيل تجاوزت حدود التقسيم في مناطق كثيرة على حساب مصر والأردن، فإنها في مفاوضات الهدنة مع سوريا تمسكت بحدود قرار التقسيم، لوقوع المنطقة التي تحتلها القوات السورية في القسم الإسرائيلي من ذلك القرار. وإزاء الرفض السوري للمطالب الإسرائيلية، اقترح "رالف بانش" القائم بأعمال الوسيط الدولي في البداية نزع سلاح المنطقة التي تحتلها القوات السورية على أن تبقي الإدارة المدنية سورية، غير أن إسرائيل رفضت ذلك الاقتراح، فلجأ "بانش" إلى صياغة غامضة لا تحدد الإدارة التي ستسود في المنطقة بعد انسحاب السوريين، ونجح في إقناع الطرفين بها.
وعلي ذلك جاءت الفقرة الثانية من المادة الخامسة لاتفاقية الهدنة بين الجانبين على النحو التالي: "وفقاً لروح قرار مجلس الأمن المؤرخ في 16 من نوفمبر فقد حُدد خط الهدنة والمنطقة العزلاء لفصل قوات الطرفين بصورة تقلل إمكانيات (إمكانات) الاحتكاك والاصطدام على أن تؤمن في الوقت نفسه عودة الحياة المدنية العادية تدريجيا في المنطقة العزلاء دون أن يؤثر ذلك في الحل النهائي".
وفيما عدا ذلك واتخاذها الحدود الدولية السابقة بين سورية وفلسطين أساساً لخطوط الهدنة فقد تشابهت اتفاقية الهدنة السورية/ الإسرائيلية ـ من حيث المبادئ ـ باتفاقيات الهدنة السابقة مع الدول العربية الأخرى.
وبهذه الاتفاقيات الأربع السابقة استطاعت إسرائيل أن تفرض التقسيم على العرب وأن تضيف إليه مساحات أخري من الأراضي عن طريق الاعتداءات المتكررة حتى استولت على 77% من مساحة فلسطين، بينما كان المخصص لها من قرار التقسيم لا يتجاوز 55% من تلك المساحة. وقد تناست الأمم المتحدة هذه الإضافة الإقليمية التي استولت عليها إسرائيل بقوة السلاح، وألف العالم خطوط الهدنة كحدود نهائية لإسرائيل (اُنظر خريطة محصلة الجولة الأولى).
وهكذا طُوي سجل الجولة العربية/ الإسرائيلية الأولي، بنجاح مؤزر لإسرائيل التي كانت قيادتها على وعي كامل بأبعاد ذلك الصراع ومتطلباته. فأعدت عدتها على أفضل ما يكون، وأدارته بكفاءة منطقة النظير. وانتهي كفاح العرب في أولي جولاتهم ضد هذه الغزوة الصهيونية بتلك النهاية المحزنة، نتيجة فُرقة حكامهم، وعدم الاستعداد المبكر لذلك الصراع. وساعد على تلك النهاية الحزينة، انصياع حكامهم للضغوط الدولية التي كانت مقاومتها فوق طاقاتهم.
وفي الوقت الذي اعتبرت فيه إسرائيل أن هدنة "رودس" نهاية للحرب القائمة بينها وبين الدول العربية، وأنه لم يعد للعرب الحق في التمسك بحقوق الدول المتحاربة، فإن الدول العربية قد تمسكت بحرفية اتفاقيات الهدنة كتدبير مؤقت مرهون بإعادة نظر الجمعية العامة للأمم المتحدة في القضية الفلسطينية. ومن ثمَّ، اعتبرت الدول العربية أن اتفاقيات الهدنة أنهت العمليات الحربية، إلا أنها لم تضع حدا لحالة الحرب بينها وبين إسرائيل.
وكان هذا الخلاف في نظرة الطرفين إلى الهدنة، وعدم قبول إسرائيل لتسوية عادلة للقضية الفلسطينية، من الأسباب الرئيسية لتفجر القتال عدة مرات بعد ذلك. وهكذا انتهت أولي الفصول الرئيسية في حلقات ذلك الصراع، الذي غرست بذوره بريطانيا وجنت ثماره الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي بعد ذلك.
عندما طالب مؤسسو الحركة الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وجد هذا الطلب أذاناً صاغيةً لدي الدول الغربية وخاصة بريطانيا، لأنها وجدت فيه حلاً للمشكلة اليهودية في أوروبا من ناحية وفرصة لدق إسفين في الوطن العربي يفصل مشرقة عن مغربه ويمتص طاقاته ويضعف قوته، بما يحقق أطماعها في المنطقة التي كانت تسعي إلى وراثتها من الإمبراطورية العثمانية.
ومن ثم أصدر "بلفور" وعده الشهير لليهود بوطن قومي في فلسطين. وعمل الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولي على وضع هذا البلد تحت الانتداب البريطاني، وضمنوا صك الانتداب وعد "بلفور" لتقنين عملية التهويد، التي دأبت حكومة الانتداب على تنفيذها بكل همة ونشاط حتى آخر أيامها في فلسطين. إلا أنَّ ذلك الوطن اليهودي سرعان ما تحول إلى دولة داخل الدولة تحت سمع حكومة الانتداب وبصرها، وبمساعدتها في كثير من الأحيان، حتى خرج الأمر عن سيطرتها في سنواتها الأخيرة في فلسطين.
ومن ناحية أخري، أدت السياسة والأساليب الصهيونية قصيرة النظر في فلسطين خلال سنوات الانتداب، وعدم تقدير اليهود للمصالح والمشاعر العربية إلى إثارة مخاوف الفلسطينيين ومعارضتهم ثم ثورتهم في النهاية على سلطات الانتداب، غير أن الأخيرة نجحت في إخماد تلك الثورة بمساعدة بعض الحكام العرب الذين أحسنوا الظن بالحكومة البريطانية.
وقد أدت الوعود البريطانية المتضاربة ولهفة الصهاينة على تحقيق دولتهم، دون اعتبار لمشاعر الفلسطينيين ومصالحهم، إلى دفع سلسلة الأحداث نحو الصراع المسلح بين الجانبين، الذي سرعان ما جذب إليه الدول العربية المحيطة بفلسطين. وتحولت المشكلة التي كانت نزاعاً محلياً بين العرب واليهـود والبريطانيين إلى مشكلـة عربية ـ إسرائيلية ذات أبعاد أشد خطراً وأكثر تعقيداً سرعان ما تحولت إلى حرب شاملة، على أثر فشل الأمم المتحدة في التوصل إلى حل عادل للمشكلة، والأسلوب المتسرع الذي تخلت به بريطانيا عن فلسطين بعد أن مهدت الأرض لليهود فيها ومكنتهم من مقدراتها.
وإزاء تراخي العرب في الإعداد الشامل لهذه الحرب، وحشد الجهود اللازمة لتحقيق النصر والخلاف المتأصل بين حكامهم، انتهت أولي جولات الصراع نهايتها المحتومة بانتصار اليهود، الذين جنوا ثمرة جهودهم المبكرة وحشد جل طاقاتهم وإمكاناتهم خارج فلسطين وداخلها من أجل النصر وإقامة الدولة التي كانوا يحلمون بها في فلسطين، غير أنه يمكن القول إن ذلك النصر لم يكن أمراً هيناً، فقد دفع الإسرائيليون فيه ثمناً باهظاً من دمائهم بلغ ستة آلاف قتيل وخمسة عشر ألف جريح تمثل 15.5% من جملة قواتهم في المرحلة النهائية للحرب.
وقد أدت الجولة العربية ـ الإسرائيلية الأولي وما انتهت إليه من هزيمة عربية إلى تداعيات عديدة على المستوى الإسرائيلي والعربي والدولي. فعلي المستوي الإسرائيلي، أصبح اليهود أكثر تصلباً وعناداً بالنسبة لأي حل عادل للمشكلة الفلسطينية بعد أن ثبتت الحرب الدولة اليهودية ووسعت حدودها بما تجاوز حدود التقسيم الذي أقرته الأمم المتحدة[1]. وأفسحت هذه المساحات المتزايدة المجال أمام مزيد من المهاجرين اليهود وإمكانات أكبر لأمن الدولة الجديدة.
كما عمَّق الانتصار العسكري إحساس الإسرائيليين بالقومية اليهودية وزاد من شعورهم بالتفوق على العرب، وأدي إلى نمو خطير للدور العسكري في شؤون الدولة اليهودية الداخلية والخارجية، وشجع الإسرائيليين على اللجوء إلى القوة باستمرار من أجل بلوغ أهدافهم دون اعتبار للمجتمع الدولي الذي وضع أساس دولتهم واعترف بها كدولة محبة للسلام!!
وأدي الدور الناجح الذي لعبته المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل قيام الدولة اليهوديـة والاعتراف بها ومساندتها إلى تزايد الدور الذي تلعبه تلك المنظمات لدعم إسرائيل، وهو ما أدى في النهاية إلى نشوء اللوبي الصهيوني في السياسية الأمريكية ، الذي قام بدور كبير في السنوات التالية لدعم الدولة اليهودية وتنمية قدراتها الاقتصادية والعسكرية، فضلاً عن تبني مواقفها السياسية.
وعلي المستوي العربي، أدت الهزيمة وقيام الدولة اليهودية ووصولها إلى خليج العقبة إلى تجزئة الوطن العربي وفصل مشرقة عن مغربه. كما أدي اغتصاب إسرائيل لجزء من الرقعة العربية في قرار التقسيم وضم الملك عبدالله الضفة الغربية إلى مملكته إلى صعوبة قيام الدولة الفلسطينية في القسم المتبقي ـ وهو قطاع غزة ـ ومن ثم وضعته مصر تحت إدارتها دون أن تضمه إليها.
وكان ثمن الهزيمة العسكرية خمسة عشر ألفاً من الشهداء، منهم ثلاثة عشر ألفاً من الفلسطينيين والباقي من قوات الدول العربية الأخرى المشاركة في الحرب، بالإضافة إلى نحو أربعين ألفاً من الجرحى كان معظمهم من الفلسطينيين وما يزيد على ثمانمائة ألف لاجئ (ذهب 60% منهم إلى الأردن، و20% إلى قطاع غزة، و20% آخرون إلى سورية ولبنان) شكل نزوحهم من فلسطين وتفاقم حالتهم ما عرف بمشكلة اللاجئين التي لم تحل حتى وقتنا هذا[2].
وقد أصابت الهزيمة العرب في كبريائهم وثقتهم بأنفسهم، وأشاعت الاضطراب في مجتمعاتهم، كما أدت إلى قيام المثقفين والعسكريين في البلاد العربية بمراجعة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في هذه البلاد، بحثاً عن أوجه القصور ومواطن الضعف التي أدت إلى تلك الهزيمة.
وأدت عمليات المراجعة إلى ظهور الحركات الثورية التي طالبت بالإصلاح وتوثيق عرى الوحدة العربية وتحسين أوضاع شعوب هذه الأمة. وإزاء عجز الأنظمة السياسية العربية عن تطوير نفسها لمواجهة متطلبات الأمن القومي في المرحلة التالية لقيام الدولة اليهودية، انطلقت جماعات من الجيش للاستيلاء على السلطة في سورية في نهاية مارس 1949. وفي الأردن اهتزت الأرض تحت عرش الملك عبدالله بفعل القلاقل الخطيرة بين الفلسطينيين الذين أصبحوا يمثلون ثلثي سكان مملكته، وأتهم الملك بخيانة القضية العربية نتيجة اتصالاته السرية بالإسرائيليين، وانتهي الأمر باغتياله في العشرين من يوليه 1951 بيد أحد اللاجئين الفلسطينيين في القدس. ولم يأت صيف عام 1952 حتى أطاح الجيش بالنظام الملكي في مصر، وبعد بضع سنوات أشعل النظام الجديد جذوة القومية العربية الخامدة.
وإزاء فشل الجهود السياسية الدولية نتيجة لتصلب الموقف الإسرائيلي تجاه عودة اللاجئين والانسحاب من الأراضي المغتصبة الزائدة عما خصصه قرار التقسيم، قرر العرب رفض أي نوع من المصالحة مع الدولة اليهودية، ولجأوا إلى سلاح المقاطعة الذي كان موجهاً في البداية ضد التجارة الإسرائيلية مع الدول العربية. وامتدت المقاطعة بعد ذلك لتشمل جميع أوجه النشاط الإسرائيلي، ثم أتسع نطاقها لتشمل جميع المؤسسات والشركات التي تتعامل مع الدولة اليهودية، كما كان يحظر على السفن والطائرات التي تذهب إلى إسرائيل الاستفادة من التسهيلات والخدمات في الموانئ والمطارات العربية.
ومن جانبها فرضت مصر حظراً جزئياً على استخدام إسرائيل لخليج العقبة وقناة السويس بمنعها للسفن الإسرائيلية من المرور في أي منهما، استناداً إلى أن الهدنة لم تنهي حالة الحرب مع إسرائيل وأن مدخل الخليج يُعد مياه عربية (مصرية ـ سعودية) وأن قناة السويس مياه مصرية، وهو ما كان من أسباب مشاركة إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وشن الحرب عليها عام 1967.
أما على الصعيد الدولي فيمكن القول أن الأمم المتحدة ودولها الكبرى تناست اغتصاب الأراضي العربية التي خصصها قرار التقسيم للدولة الفلسطينية، ولم تقم بدور حازم بَنَّاء ـ فيما كان يجب أن تقوم به ـ لحل المشكلة الفلسطينية حلاً عادلاً، خاصة وأن العرب في ذلك الوقت كانوا أكثر ميلاً لقبول قرار التقسيم الذي سبق أن رفضوه.
ومن ثم أدي فشل الأمم المتحدة والدول العظمي في حل المشكلة الفلسطينية وتصاعد الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي إلى استمرار حالة الحرب بين العرب وإسرائيل واستقطاب كل من الطرفين نحو أحد قطبي الحرب الباردة، فاتجهت إسرائيل نحو الولايات المتحدة الأمريكية واتجه العرب نحو الاتحاد السوفيتي (السابق) بعد انقلابه على إسرائيل، ومن ثم أصبح الصراع العربي ـ الإسرائيلي جزءاً من الحرب الباردة وأحد أدواتها، وهو ما أدي إلى استمرار ذلك الصراع وزيادة تعقد القضية الفلسطينية طوال ما يقرب من نصف قرن، كما أدي إلى اندلاع جولات عدة من الصراع المسلح والاحتياجات (خلال أعوام 1956، 1967، 1969، 1973، 1978، 1982 و1996) لم تُخف من حدة العداء بين العرب وإسرائيل، حتى وجدت قضية السلام من يعمل من أجلها.
وعندما بدأت بشائر السلام في أخريات هذا القرن ظلت أطماع الإسرائيليين فيما تبقي من الأراضي الفلسطينية ـ بما في ذلك القدس العربية ـ ورغبتهم في اعتصار الفلسطينيين حتى آخر قطرة من دمائهم هي الصخرة التي كانت تتحطم عليها دائماً جهود السلام. ***************************** [1] وسعت أسرائيل رقعتها خلال الحرب من 14100 كم3 خصصها لها قرار التقسيم لتصبح مساحتها 20700 كم3 بزيادة قدرها 6600 كم مغتصبة من المساحة التي خصصها قرار التقسيم لعرب فلسطين. [2] بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين عام 1950 طبقاً لإحصاء وكالة غوث اللاجئين 963908 لاجئاً فلسطينياً.
|
|