أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
ثواب وعقاب Oo12
ثواب وعقاب
بالقضاء على الثورة الوطنية وبدخول توفيق العاصمة في حماية جيش الاحتلال بدأ في تاريخ مصر عهد من أسوأ العهود التي يمنى بها تاريخ أمَّة من الأمم، فهو العهد الذي ينطوي فيه الأباة على ما في أنفسهم؛ خوف النكال والهلاك، والذي يمالئ المستضعفون فيه الأقوياء إمَّا جلبًا لمنفعة أو دفعًا لضرر، والذي ينتقم فيه من خصومه مَنْ واتته الفرصة للانتقام، والذي يرتزق فيه حثالة الناس بوشاية بعضهم ببعض، والذي يتسلط فيه المستبدون فيأخذون بالظنة؛ رغبة في إظهار جاههم وسلطانهم فحسب، والذي يضيع فيه الحق في ضجيج الباطل فلا سميع ولا شفيع…

هذا هو العهد الذي اختفت فيه روح الوطنية وتوارت شعلة الحرية، والذي وئد فيه الدستور وهو في مهده، وقُتلت القومية المصرية وهي لا تزال تحبو، والذي نفي فيه عن مصر أباة الرجال، وتسلط فيها الاحتلال…

وهذا هو العهد الذي بدأ فيه الإنجليز يبثون في النفوس هيبة الاحتلال وهيبة جيش الاحتلال، وأخذوا يعلمون الوزراء وكبار الموظفين من المصريين وعلى رأسهم الخديو — إن كانوا في حاجة إلى تعليم — أن السلطة للإنجليز، والطاعة للإنجليز، وأن نصائح المعتمد البريطاني في مصر واجبة الاتباع.

وقد افتتح هذا العهد بما يشاكله من الثواب والعقاب، أما الثواب فللذين عدَّهم الخديو من الموالين له والذين سماهم المصريون الخائنين، وأما العقاب فللذين كانوا في رأي الخديو عصاة ثائرين وإن عرفهم بنو مصر مجاهدين في الله والوطن صادقين…

وكان أول مَنْ حظى بالثواب محمد سلطان باشا الرئيس الأول للحزب الوطني والذي سَمَّاهُ الناس من قبل كما ذكرنا أبا المصريين وقد أنعم عليه توفيق بالوسام المجيدي من الدرجة الأولى؛ جزاء له على بث روح الخيانة في الجيش المصري، ثم منحه فوق ذلك عشرة آلاف من الجنيهات ذهبًا لا زيف فيه؛ وذلك كما قال الخديو: «لِمَا أظهره من الصداقة لحكومتنا الخديوية ومعارضته للعُصاة في جميع أمورهم وعزائمهم بالمخاطرة على حياته وما حدث له بسبب ذلك من الضرر والتعدي منهم على شخصه وأقاربه وإتلاف موجوداته ومقدار جسيم من مزروعاته»…

أمَّا الإنجليز؛ فقد جعلوه السير محمد سلطان فأنعمت عليه ملكة إنجلترا بوسام سان ميشيل وسان جورج مكافأة له على ما بذل في سبيل نجاح معركة التل الكبير…

وظهر الثواب بعد ذلك في المناصب بصورة واسعة ومن أمثلة ذلك إعادة إبراهيم أدهم باشا مديرًا للغربية وإعادة الشيخ محمد العباسي المهدي شيخًا للجامع الأزهر بعد إقالة الشيخ الإمبابي وذلك علاوة على منصب الإفتاء الذي كان يشغله وقد تجلت هذه الروح في تأليف وزارة شريف فرأينا فيها عمر لطفي ورياض ومبارك ومدحت.

وأمَّا العقاب؛ فقد بدأه الخديو بإلغاء الجيش المصري جملة بحجة أنه انضم إلى العصاة، وكان هذا توطئة لمحاكمة قواده وضباطه إلا من انحاز أثناء الحرب إلى الخديو…

وكان سلطان باشا يأمر بالقبض على من يشاء وإلقائه في السجن، ولذلك تم الكثير من الاعتقالات بأمره، قال عرابي في مذكراته: «إنه أمر بسجن جميع الضباط وجميع رجال الملكية والعلماء وخطباء المساجد والتجار والأعيان إلا من كان من الجواسيس والمنافقين حسب ما هو مندرج بسجلات الخديو، فسجنوا جميعًا إلا علي بك يوسف وأحمد بك عبد الغفار وعبد الرحمن بك حسن مكافأة لهم على خيانتهم وغدرهم في التل الكبير، وكذلك صار سجن جميع الذين بالمديريات والمحافظات من المستخدمين والموظفين والعمد والأعيان والقضاة والمفتين وغيرهم من عامة الناس حتى غصت بهم السجون بما يربو على ثلاثين ألفًا من المصريين».١

وللمرء أن يتصور مبلغ ما كان يرتكب من المظالم في حال كهذه يقع فيها القبض على الناس بغير حساب ولا رقابة من قانون أو عُرف، وما أشبه هذا الموقف بعهد الإرهاب الأكبر في فرنسا أيام ثورتها، يقول عرابي: «وانتهز حكام المديريات من رجال الاستبداد فرصة القبض على وجوه البلاد وأعيانها وانتزفوا مادة ثروتهم حتى أُثروا وامتلكوا الأراضي الواسعة ومن ضَنَّ عليهم بماله كان جزاؤه الإعدام بدعوى أنه من العصاة وأنهم مصرون على الانتقام»…

وقد اعتقل كبار رجال الجيش من الثوار وجميع زعماء الثورة من المدنيين إلا عبد الله نديم؛ فقد اختفى ولم يعرف له مقر، وعدد كبير من العلماء في مقدمتهم الشيخ محمد عبده والشيخ حسن العدوي والشيخ محمد الخلفاوي والشيخ محمد عليش، وعدد من كبار الموظفين كان بينهم أحمد رفعت بك مدير المطبوعات وأحمد بك ناشد مدير الشرقية ويعقوب بك صبري مدير الفيوم وعدد من النواب وعدد من الأعيان والتجار…

كما قُبض على حسن باشا الشريعي وزير الأوقاف في وزارتي البارودي وراغب، وعبد الله باشا فكري وزير المعارف في وزارة البارودي؛ وذلك لاستنكارهما انضمام توفيق إلى الإنجليز وعزله عرابي وهو بكفر الدوار…

هذا عدا من أشرنا إلى القبض عليهم من الكافة في القاهرة والإسكندرية وطنطا وغيرها من جهات الأقاليم، مما فزعت منه البلاد زمنًا كان في مصر حقًّا عهد الإرهاب.

وكان السيد حسن موسى العقاد والقائمقام سليمان سامي داود قد فرا على ظهر إحدى السفن إلى كريت، فعلمت الحكومة بمقرهما فأرسلت إلى الحكومة التركية تطلب تسليمهما فأرسلا إلى الإسكندرية مقبوضًا عليهما في ٩ نوفمبر سنة ١٨٨٢م.

وأصدر الخديو أمره بتأليف لجنة للتحقيق بالقاهرة وذلك في ٢٨ سبتمبر سنة ١٨٨٢م، وكانت تسمى القومسيون أو اللجنة المخصوصة، وقد تكونت من ١٠ أعضاء برئاسة إسماعيل أيوب باشا، وكُلِّفت باستجواب كل من اتُّهِمَ بجريمة العصيان أو التعدي على سلطة الخديو أو إتيان أي عمل فيه إهانة للجناب العالي، سواء كان المتهم فاعلًا أصليًّا أو شريكًا لغيره، وكان من سلطة هذه اللجنة القبض على أي شخص بمجرد أن تبلغ ذلك إلى وزير الداخلية، ولها أن تقدم من ترى أنه مدين إلى المحكمة العسكرية التي تؤلف للحكم في هذه التهم وإيفاد مندوب من قِبلها لإقامة الدعوى أمام هذه المحكمة.

وتألفت من هذه اللجنة لجنة فرعية لتحقيق التهم المنسوبة لأهل الأقاليم والمدن…

وصدر أمر من الخديو في نفس الوقت بتأليف محكمة عسكرية لمحاكمة من ترى اللجنة تقديمهم إليها، وجعل رئيسها محمد رؤوف باشا وهو من الموالين للخديو وكان أعضاء المحكمة — إلا واحدًا — من أصل تركي أو شركسي وكانوا جميعًا من الناقمين على عرابي وحركته القومية وممن يدركون حق الإدراك ماذا يريد الخديو؛ لأنه اختارهم على هذا الأساس.

•••

وأُلفت محكمة عسكرية بالإسكندرية تعاونها لجنتان لتحقيق حوادث الإسكندرية وطنطا على نحو ما يحدث في القاهرة واختير أعضاء اللجان جميعًا بالضرورة لا من المحايدين الذين يريدون وجه الحق ولكن من أنصار الخديو المملوءة قلوبهم غيظًا وحقدًا على عرابي وعلى الثورة…

وكان رياض باشا من أشد الناقمين على عرابي وزعماء الثورة، يتطلع في صبر فارغ إلى اليوم الذي يرى فيه وهو وزير الداخلية جسد عرابي متدليًا في حبل المشنقة أو ممزقًا برصاص الجند…

وكان شريف باشا كذلك ساخطًا على هؤلاء جميعًا منذ أن أخرجوه من الوزارة بسبب أزمة الميزانية ولئن ظل حريصًا على الدستور كمبدأ للحكم إلا أنه قد أمتلأ قسوة وغيظًا على الثوار، وقد كان بطبعه يكره التطرف ولذلك نظر بمنظاره إلى عرابي وأنصاره فكانوا عنده من أشد المتطرفين وإن لم ينكر بينه وبين نفسه أنهم طلاب دستور وحرية، وأنهم من حيث المبدأ كانوا في الواقع يتجهون اتجاهه القائم على محاربة الاستبداد والنفور منه…

---------------------------------------------------------------
١  ذكر محمود فهمي باشا أن عدد هؤلاء بلغ تسعة وعشرين ألفًا.