أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: عرابي ملاذ البلاد الإثنين 15 يوليو 2024, 1:58 am | |
| وسأل توفيق القنصلين ماذا يصنع فيما جاءه من الصدر الأعظم؟ وأبرق مالت إلى حكومته يقول: «لقد ذكرت للخديو أنه إذا كانت حياته معرضة للخطر، فلست أستطيع أن أنصح بشيء يخالف الخطوة التي يقترحها إذا ظهر أنها هي فرصة الخلاص الوحيدة، واقتصر مسيو سينكويكس على قوله إنه سيطلب رأي حكومته، ثم تركنا الخديو بدون أن نفضي إليه بأكثر من هذا، مع أن الخديو كان يلحّ علينا بضرورة إرسال رد عاجل إلى الصدر الأعظم».
ووصف مالت موقف توفيق في هذا الظرف بقوله: «إن موقف الخديو موقف مؤلم أعظم الألم، فهو مهدَّد بالقتل، ثم إننا صرفناه عن الذهاب إلى الإسكندرية حيث كان في الوقت متسع لهذا، وكذلك لم نخلِّ بينه وبين الالتجاء إلى الجهة التي يأتيه منها تأييد ذو أثر، ولذلك فهو والحال كما أذكر خليق بأن يشعر شعور المرارة تلقاء ما يبدو له الآن من عواقب اتباعه نصحنا واعتماده على تأييدنا».
وهكذا نرى مالت يضغط ضغطًا شديدًا على حكومته لتعجل بالتدخل المسلح المنشود، وكان من أثر ذلك أن كتب جرانفل دون أن ينتظر مشورة الحكومة الفرنسية إلى اللورد دوفرين في الآستانة بقول: «إن حكومة جلالة الملكة ترى الضرورة ملحة بألا يضيع السلطان شيئًا من الوقت دون أن يرسل أمرًا به يؤيد الخديو، ويرفض الاتهام الذي عزته الوزارة الساقطة إلى سموه، ويأمر كبار العسكريين الثلاثة، وكذلك رئيس الوزارة السابق إذا دعا الحال، بأن يحضروا ليشرحوا مسلكهم في القسطنطينية».
ويتضح من ذلك أن الحكومة الإنجليزية تخطو خطوة سريعة نحو الانفراد بالعمل وتنفيذ خطتها في التهام مصر، ولا نجد في تفسير سياستها خيرًا من قول كرومر في هذا الظرف تعليقًا على الموقف: «إن النتيجة على أي حال لم تكن بعيدة، فإنه كان يتّضح يومًا بعد يوم أن عرابي لن يخضع إلا بالقوة، فإذا لم تتبع القوة المطلوبة أي جهة أخرى فإن هذا العمل يُلقَى بالضرورة على عاتق إنجلترا».
هذا هو الذي كانت ترمي إليه السياسة الإنجليزية من جميع مراوغاتها واقتراحاتها، ولسوف تنفرد عما قريب بضرب الإسكندرية، وحجتها في ذلك تأييد سلطة الخديو تجاه عرابي الثائر الذي تحركه الأطماع والمآرب الشخصية!
واشتدَّ خوف الأجانب في مصر حين فهموا أن الخديو عاجز عن تأليف وزارة، فذهب وفد من القناصل إلى عرابي في الثامن والعشرين من مايو، وقد أشار عرابي إلى ذلك في قوله: «ولما تعاظم الخوف حضر لمنزلي جميع قناصل الدول ما عدا قنصلي إنجلترا وفرنسا يطلبون مني التأمين على رعاياهم فأجبتهم بأني قد استعفيْتُ ولا صفة لي تخوّلني تحمل هذه المسئولية العظيمة، فقالوا إن الجيش لا يخالف إرادتك، وأنت رئيس الحركة الوطنية فلا نأمن على رعايانا وأنفسنا إلا بإعطائك لنا كلمة الشرف بحفظ رعايانا، فلأجل طمأنينتهم وتسكين روعهم كتبت تلغرافًا إلى جميع مراكز العسكرية بصفة أني رئيس الحزب الوطني أرغب إليهم فيه أن يلتزموا الهدوء والسكينة، وأن يحافظوا على راحة العموم، وخصوصًا رعايا الدول الأجنبية، وأن يعاملوا الجميع بحسن المعاملة وكمال المجاملة».
وقابل هؤلاء القناصل الخديو، ورجوا منه أن يعيد عرابي إلى الجهادية حفظًا للأمن في مصر وتفاديًا للأخطار.
أما الوطنيون فقد اشتد قلقهم وقد مضى يومان والخديو عاجز عن إقامة وزارة، ونشط سلطان باشا، وأكثر من مقابلة الخديو، وفي نفس اليوم الذي قابله فيه القناصل، ذهب سلطان إلى سراي الإسماعيلية وتحدث مع الخديو طويلًا، ولكنه وجد منه تصميمًا على موقفه…
واجتمع بمنزل سلطان باشا عدد كبير من النواب والعلماء والأعيان وكبار ضباط الجيش، واتفقوا على أن يذهب وفد منهم إلى الخديو يرجو منه أن يعيد عرابي وزيرًا للحربية، ففي ذلك ضمان الأمن والسلامة.
وذهب وفد مؤلف من سلطان باشا وحسن باشا الشريعي وسليمان أباظة إلى سراي الإسماعيلية وقابلوا الخديو وعرضوا عليه ملتَمَسهم أن يعيد عرابي إلى الوزارة؛ فرفض الخديو وأصر على رفضه، وبعد طول توسّلهم وتوسط سلطان باشا أجابهم الخديو إلى طلبهم قائلًا: «بما أنكم أتيتم طالبين تقليد نظارة الجهادية لسعادة عرابي باشا حيث إنكم تظنون أن هذا التعيين يساعد على حفظ النظام فلا مانع من إجابتكم…»
وإن اتفاق هذا العدد الكبير من رجالات الأمة على إعادة عرابي حتى يطمئن الناس ويتحقق الهدوء لدليل لا شبهة فيه على أن الرجل فضلًا عما تحقق له من الزعامة قد أصبح بحقٍّ ملاذ البلاد، أما الخديو فلم يعد في رأي الناس إلا أداة طيِّعة في يد مالت يصرِّفه كيف شاء…
أشار إلى ذلك روثستين في كتابه بعد أن أشار إلى احتجاج ضباط الجيش ورؤساء الشرطة في الإسكندرية على الخديو بقوله: «وسرعان ما وصل نبأ هذا الاحتجاج إلى أهل القاهرة، فقام إلى الخديو وفد مؤلَّف من رؤساء الأديان المختلفة، علماء الإسلام، وبطريرك الأقباط، وحاخام اليهود، وطلب إعادة عرابي وزملائه، فكان ذلك مظهرًا من مظاهر إرادة الأمة غير متوقع بالمرة…
وعندما قَدِمَ سلطان باشا على الخديو مهرولًا يكاد يقتله الخوف، وتوسّل إليه أن يرجع النُّظّار إلى مناصبهم وإلا كانت حياته في خطر، نقول عند ذلك أذعن توفيق وأصحابه البررة، وأعيدت الوزارة، وأرسلت الأوامر إلى الأقاليم بإلغاء أوامر التسريح السابقة…
ولم تدم هذه المأساة الهزلية أكثر من ثلاثة أيام، ولكنها كانت كافية في إظهار شعور الأمة الحقيقي. وإنّ في السرعة التي أرسلت بها الأوامر إلى الأقاليم لوقف جميع وسائل الدفاع لبيانًا لسبب كره الدبلوماسيين البريطانيين عرابي ورفاقه، فقد رأوا أنه ما دام هؤلاء قابضين على أزمّة الأمور فلا يحتمل أن تقع مصر غنيمة باردة في أيدي المعتدين».
ولكن مالت لم يَرُقْهُ هذا المظهر فكان مما افتراه فيما أبرق به إلى حكومته ما جاء في قوله: «في هذا المساء توجّه رؤساء رجال الدين وفيهم البطريرك، والحاخام، كما توجه النواب جميعًا والعلماء وغيرهم إلى الخديو، وسألوه أن يعيد عرابي وزيرًا للجهادية، فرفض الخديو، ولكنهم توسلوا إليه قائلين: لئن كان الخديو مستعدًّا ليضحّي بحياته فينبغي ألا يضحي بحياتهم هم، وإن عرابي يهددهم جميعًا بالموت إن لم يحصلوا له على موافقة الخديو، وإن حرس القصر قد ضوعف، وإن أوامر صدرت إليهم بأن يمنعوا مغادرته القصر طلبًا لرياضته المعتادة، وأن يطلقوا النار إذا حاول أن يشق طريقه بالقوة… ولم يجد الخديو أمام هذه الظروف إلا الإذعان لا لينجي نفسه، بل لينقذ المدينة من سفك الدماء».
إلى هذا الحد يبلغ افتراء مالت فيصوِّر توفيقًا سجينًا في قصره ويجعله عرضة لأن يطلق حرسه النار عليه، وهذه رواية لم يوردْها غير مالت بين جميع من كانت لهم صلة بهذا الموقف من القناصل ومن المؤرخين. ومن الأمور البديهية أنه لم يحجم عن أن ينقل مثل هذه الشائعات المفزعة إلى توفيق نفسه ليملأ قلبه رعبًا، ويوحي إليه أن يطلب النجدة…
وفي مساء اليوم الثامن والعشرين من مايو، أصدر الخديو أمرًا إلى عرابي باشا بإعادته إلى وزارة الجهادية والبحرية هذا نصه: «ولو أنكم استعفيتم ضمن هيئة النظار التي استَعْفَت، ولكن مراعاة لحفظ الراحة والأمن رأينا بقاءكم على نظارة الجهادية والبحرية، وأصدرنا أمرنا هذا لكم لتعلموه وتبادروا بإجراء ما فيه انتظام أحوال العسكرية بالطريقة الكفيلة لحفظ الأمن العام على الوجه المرغوب كما هو مقتضى إرادتنا».
يقول عرابي في مذكراته: «حضر لي رئيس مجلس النواب سلطان باشا وحسين باشا الشريعي وسليمان باشا أباظة، وسلموني أمر الخديو القاضي برجوعي إلى نظارة الجهادية والبحرية، وأخبروني بأنهم لما وفدوا على الخديو وجدوا جميع القناصل في حضرته ما عدا قنصلي فرنسا وإنجلترا، وأنهم طلبوا من الخديو صدور أمره برجوعي إلى نظارة الجهادية والبحرية لأجل اطمئنان العموم، فكان القناصل مع النواب على رأي واحد، وحينذاك فرح الضباط والجنود وجميع الوطنيين وسُرُّوا بذلك سرورًا عظيمًا…
وبعد ذلك توالى اجتماع قنصلي إنجلترا وفرنسا الجنرالين بالخديو ليلًا ونهارًا، ثم إني أصدرتُ منشورًا إلى قناصل الدول، وتكفّلت لهم فيه بتأييد الأمن والراحة لجميع سكان القطر المصري وطنيين وأجانب، مسلمين وغير مسلمين، وطلبت من الخديو لزوم جمع العساكر لاستكمال الآلايات على مقتضى القدر المقرر في الفرمانات السلطانية فأجابني بالموافقة على ذلك، وصدر أمر الجهادية بجمع عساكر الإمدادية نمرة٢، ونمرة ٣، استعدادًا لما عسى أن يطرأ من الحوادث».
وأخذت الطمأنينة تحل محل القلق في نفوس الناس، إلا من كانوا يفطنون إلى حقيقة الموقف، فليست المسألة مسألة الخلاف بين توفيق وعرابي، وإنما المسألة هي نوايا السياسة الإنجليزية! ولذلك ما كانت أية تسوية داخلية لتجدي فتيلًا والإنجليز متربصون، ومالت يسعى جهده لتعكير الماء كي يسهل عليه الغدر…
والواقع أن تعلّق الناس بعرابي إلى هذا الحد واطمئنان الوطنيين والأجانب إليه، أقوى رد يدفع به باطل مالت وأشياعه ممن خوفوا أوربا من نفوذ الحزب العسكري وأنذروها بالويل والثبور، فها هم أولاء الناس من وطنيين وأجانب لا يجدون لهم ملاذًا غير عرابي ليطمئنوا على حياتهم وأمنهم…
وكان عجز الخديو كذلك عن إقامة وزارة أبلغ فشل لسياسة مالت، فإن طوائف الأمة تؤيد الجيش ما عدا سلطان ونفرًا من النواب، وما تلتف الأمة حول الجيش ورئيسه عرابي إلا لأنه اليوم في نظر الجميع أكثر مما كان من قبل أمل البلاد في إنقاذها من التدخل الأجنبي، وهل يقول أحد إن الأمة كانت في صف توفيق بعد قبوله المذكرة المشتركة الثانية؟
إذن فالقضية تزداد وضوحًا يومًا عن يوم، فهذه أمة تطلب الحرية، ولكن إنجلترا وعلى رأسها جلادستون زعيم الحرية تتهمها بالتمرد والفوضى، كي تتقدم لالتهامها، كما اتّهم الذئب الحمل في تلك الخرافة التي يقصونها على الأطفال بأنه يعكر عليه الماء، والذئب في رأس المنحدر، والحمل في أسفله؟!
وما أرذل موقف مالت بعد التفاف الأمة حول عرابي على هذه الصورة، وما أكثر ما يكشفه الموقف من صفاقته ولؤم طبعه… يقول روثستين: «لا شك أن السير إدوارد مالت قد ساءه الإخفاق الذي لقيه وهو يحاول التخلص من وزارة سامي، ولو أنه كان على شيء من الشعور بكرامة النفس لاستعفى وقتئذ من عمله. ولكن الرجل لم يكن يريد المحافظة على كرامة نفسه، وإنما كان يريد إحداث تدخّل مسلح، فإذا لم تؤده إلى ذلك طريق سياسة سلكها، فلا بأس بأن يعيد الكرّة ويسلك طريقًا أخرى تكون أقصد وأهدى إلى وجه النجاح. لذلك لم يكن الإخفاق الذي لقيه إلا ليزيده إقبالًا على العمل ومضيًّا فيه، فقد كتب عن رجوع الوزارة٧ إلى رئيسه في ٣٠ مايو يقول: إن القوم يعدونه إيذانًا بإخراج المسيحيين من مصر ورجوع الأرض التي يمتلكها الأوربيون أو يرتهنونها، كما يعدونه إيذانًا بإلغاء الدين العام…»
وكيف كان يطيق مالت أن يضمن عرابي الأمن في مصر؟ وكيف كان يطيق أن ينجح عرابي فيما تعهد به؟ إن معناه بطلان كل حجة له، بل بطلان حجته الوحيدة التي لا يفتأ يرددها ألا وهي اختلال الأمن في البلاد، وقلق الأجانب على أموالهم بسبب تسلُّط العسكريين…
لذلك يبالغ مالت في وصف ما يدعي من سوء الحال في مصر، ولا يكتفي بما ذكره فيما أورده روثستين، بل إنه يُبرق إلى حكومته في نهاية شهر مايو قائلًا: «ربما وقع تصادم في أي وقت بين المسلمين والمسيحيين»٨ ولنا عودة إلى هذه البرقية الخبيثة عند كلامنا على مأساة الإسكندرية…
ويذكر مالت فيما يذكره لحكومته أن البلاد في حالة ذعر، وأن الأوربيين يغادرون القاهرة أفواجًا، وأن الوزارات جميعًا ما عدا وزارة الجهادية تكاد تكون معطَّلة الأعمال، إلى غير ذلك من المفتريات الفاجرة… ويشايع مالت إنجليزي آخر، هو كوكسن قنصل إنجلترا في الإسكندرية الذي رأيناه يلعب دور الشيطان يوم عابدين، فقد أبرق قبل اليوم الأخير من مايو يقول:٩ «إن كل يوم نتأخره يزيد روح العسكريين الخطرة كما يزيد تحديهم المتواصل للنظام…»
ويقول كذلك وما أبعد ما يقول عن الحق: «إن ضباط الجيش يحصلون بالقوة على توقيعات من الناس على عريضة بطلب عزل الخديو. وإن رئيس مجلس النواب طلب إلى الأعضاء أن يستقروا في بيوتهم لكي يخلِّصهم من إرغام الجند إياهم على التوقيع».١٠
وللقارئ أن يتدبر في قول كوكسن: «إن كل يوم نتأخره»، ومعنى ذلك أنه كان كصاحبه مالت يستعجل دولته بالعدوان الغادر على البلاد… ------------------------------------------------------ ١ M. E. Cromer. ٢ M. E. Cromer. ٣ M. E. Cromer. ٤ من نسخة من مذكراته المخطوطة تحت يدي ص٢ الجزء الثاني. ٥ مذكرات عرابي المخطوطة: وقد أورد كرومر هذه الحادثة في كتابه وزاد عليها أن طلبه قال إن السلطان هو السلطة الوطنية التي يقرونها. ٦ M. E. Cromer. ٧ يقصد رجوع عرابي إلى الوزارة. ٨ M. E. Cromer. ٩ M. E. Cromer. ١٠ M. E. Cromer.
|
|