أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
بين عرابي وبلنت Oo12
بين عرابي وبلنت
نعود إلى عرابي، فنقول: إن الحكومة استدعته من مقره في رأس الوادي وأسندت إليه منصب وكيل وزارة الحربية، وصدر الأمر العالي بذلك في اليوم الرابع من شهر يناير سنة ١٨٨٢م، وهو يعزو ذلك إلى ما بلغ الحكومة على ألسنة جواسيسها أنه يجول في بلاد مديرية الشرقية فيتصل بالوجهاء وشيوخ العرب محرِّضًا داعيًا إلى مبادئه وأغراضه…

ويذكر عرابي أنه فوتح في أن ينعم عليه يومئذ برتبة اللواء فيصبح أحمد عرابي باشا، ولكنه رفضها مخافة أن يُتَّهَم أنه يعمل لشخصه، ولئن صحّ هذا —وهو ما لا نستبعده— لكان لنا فيه حسنة نضيفها إلى كبريات حسنات هذا الرجل، فإن التَّهافت على الرُّتَب والألقاب لم يزل حتى اليوم في بلادنا المسكينة داءً عياءً يتغلغل في نفوس سادتنا وكبرائنا…

ونقول: لئن صح ذلك لأن الخبر من جانب عرابي فهو في مرتبة الدعوى… ونقول: إنا لا نستبعده، مستندين في ذلك إلى شاهد قوي، فهذا الرجل كان بطل الانقلاب، وعلى يده وصلت إلى ما وصلت إليه، ولكنه لم يصب مغنمًا ما، ولو كانت في نفسه أطماع وقتئذ لرأيناه يصل إلى مرتبة الوزير، فقد كان في موقف تحكَّم فيه في الخديو وفرض عليه الشخص الذي يؤلّف الوزارة، وهو موقف يوحي إلى النفس بالغرور، فلو خالج نفس عرابي يومئذ طمع في جاه أو منصب لما وقف دونه إلى ما يبتغي حائل…

وأقام عرابي بالقاهرة في منصبه الجديد، وكانت داره تمتلئ كل يوم بالناس من كل نمط: الوطنيين، والأوربيين، ورجال الصحافة من الأجانب والمصريين، ورجال السياسة الذين كانوا يسألونه عن مرمى حركته، وعما يطمح إليه، ويستكتبونه البيانات عن آماله، فازدادت شخصيته بذلك خطرًا وذاع في الأوربيين صيته، وكانت زعامته تزداد رسوخًا في قلوب مواطنيه، حتى لقبوا بيته باسم «بيت الأمة»١ وبات يقصده كل متظلِّم يطلب معونته حتى في أتفه الأمور…

وكان ممن اتصلوا بعرابي يومئذ مستر بلنت فتعارفا، وجرى بينهما حديث أثبته كل منهما في مذكراته، وفيه أشار عرابي إلى ارتياحه لتخلص مصر من مساوئ حكم إسماعيل ومن دسائس الشراكسة، ولكنه أبدى مخاوفه من سياسة إنجلترا وفرنسا نحو مصر، وعبر في كياسة عن أمله في أن تعطف إنجلترا على حركة الحرية في مصر وهي الدولة التي تعلن دائمًا أنها نصيرة الحرية والديمقراطية.

وذكر عرابي أنه يتوقع العطف من إنجلترا أكثر مما يتوقعه من فرنسا، ولاسيما من جانب جلادستون الذي اشتهر بعطفه على الحرية في كل مكان…

وليت شعري ماذا يطلب الذين يرمون عرابيًّا بالطمع والجهل والنزق أكثر من هذه البراهين التي نسوقها على أنه كان بريئًا من هذا كله؟ ألم يأن لهؤلاء أن يقرءوا سيرة هذا الرجل في غير تحامل عليه حتى يعرفوا لهذا المصري المجاهد قدره وأثره في نهضتهم القومية؟ وهل يوجد في المعايب القومية عيب أشدّ قبحًا من جهل قوم برجالهم في الوقت الذي يرون فيه غيرهم من الأمم يمجِّدون ذكرى الرجال؛ فيوحون إلى الأجيال القادمة معاني البطولة بما يقدِّمون لهم من الأمثلة؟

لقد أعجب بلنت بعرابي ووقعت عباراته من نفسه موقعًا حسنًا، قال بلنت يصف كيف تعرَّف إلى عرابي وكيف كان وقع لقائه في نفسه: «كان عرابي يومذاك في قمة صيته، يتحدث عنه الناس في طول مصر وعرضها بقولهم «الوحيد»، أعني أنه الرجل الوحيد، وكان القوم من جميع أنحاء القاهرة يتزاحمون على داره حيث يدعون ظلاماتهم بين يديه، وكانت حجرته الخارجية تمتلئ كل يوم بالمتوسلين وكذلك كان مدخل داره من الشارع…

وكان قد سمع عني أني ممن يعطفون على قضية عنصر الفلاحين وأني من أصدقائهم، ولقيني بكل ما في وسعه من حفاوة، وبخاصة، كما قال لي: لما نمى إلى علمه من صلة أسرتي ببيرون ذلك الذي كانت له في نفسه مكانة عالية وإن لم يعرف شيئًا عن شعره، لما كان من عمله من أجل حرية اليونان… وهذا أمر جدير بالملاحظة لما فيه من دلالة خاصة على منحى عرابي بالنسبة للإنسانية كلها بغير تفرقة من جنس أو عقيدة. فلم يكن فيه شيء من التعصب إذا كان التعصب معناه الكراهية الدينية، وكان على أهبةٍ أبدًا لأن يتعاون من أجل قضية الحرية مع اليهود والنصارى أو مع الكفرة على الرغم من تقواه التي لا الْتِواء فيها بأية حال…

ولقد كلمته طويلًا وفي غير تحفظ، ودار الحديث حول المسائل التي كانت تشغل الأذهان يومئذ، ووجدته يصارحني كما أصارحه ويتكلم في يُسر، وقد عبّر عن ولائه التام للخديو طالما أنه يحافظ على وعوده ولا تظهر أية محاولة من جانبه ليسلب المصريين حريتهم الموعودة، ولكن كان من الأمور البيِّنة أنه كان لايثق فيه كل الثقة، وعدّ من واجبه أن يراقبه في حذر مخافة أن يتنكب الطريق…

وفي كتاب أرسلته إلى جلادستون بعد ذلك بقليل أي في ٢٠ ديسمبر بعد أن تمت مقابلات ومناقشات أخرى بيني وبين عرابي، قلت عن عرابي: إن الآراء التي يفصح عنها ليست تكرارًا للعبارات المتداولة في أوربا الحديثة، ولكنها تقوم على أساس من معرفته بالتاريخ والتقاليد الحرة للفكر العربي، تلك التقاليد الموروثة من عهد حرية الإسلام، وهو ينكر كما أعتقد كل مطمع شخصي، وليس هناك شك في إخلاص الجيش والأمة له… وقد تحدّث عن مكانه في تواضع قائلًا: إني أمثِّل الجيش لأن الظروف جعلت الجيش يثق بي، ولكن الجيش نفسه إن هو إلا ممثل الشعب وحاميه حتى يأتي الوقت الذي لا يحتاج فيه إليه، ونحن في الوقت الحاضر القوة القومية الوحيدة التي تقوم بين مصر وبين حكامها الأتراك، الذين لا يتورَّعون في أية لحظة إذا أُخْلِيَ سبيلُهم أن يجددوا مساوئ عهد إسماعيل.

وتحول المراقبة الأوربية دون ذلك، ولكن في صورة جزئية فحسب، ولا تتخذ شيئًا من الحيطة بتعليم الشعب حكم نفسه ارتقابًا لليوم الذي تتخلى فيه عن مهمتها المالية، وهذا أمر علينا أن ننظر فيه، لقد كسبنا للشعب حق التكلم في مجلس يضم الأعيان، وإنا لنعمل على ألا يُطْرَدُوا أو يُخَوَّفُوا فيخرجوا منه، وإنا في هذا لا نعمل لأنفسنا بل لأعقابنا وللذين وضعوا ثقتهم فينا… ونحن الجند الآن في وضع كالذي كان فيه أولئك العرب الذين أجابوا الخليفة عمر حين سألهم في شيخوخته عما إذا كانوا راضين عن حكمه وعما إذا كان فيه قد استقام على طريق العدالة، قالوا: يا ابن الخطاب، إنك استقمت على الطريق حقًّا ولهذا أحببناك، ولكنك لست تعلم أننا كنا قريبين منك وكنا على أهبة لو أنك سلكت سبيلًا معوجة لنردك إلى الطريق السوي بسيوفنا… وإني على ثقة من أنه لن تكون بنا حاجة إلى العنف، فنحن —معشر المصريين— لا نحب الدماء، ونأمل ألا نسفك شيئًا منها، ومتى تعلم برلماننا الكلام فسينتهي واجبنا، ولكنا نعتزم إلى أن نصل إلى ذلك الوقت أن ندافع عن حقوق الشعب مهما كلَّفَنا ذلك من ثمن، ولن نخاف بمعونة الله أن نثبت أهليَّتنا لرعاية تلك الحقوق إذا لزم الأمر ضد كل من يعمل على إسكاتها…

وقد أثّر فيَّ تأثيرًا جد عميق هذا النمط من الكلام الذي يختلف كثيرًا عما يستعمله السياسيون الشرقيون في أحاديثهم مع الأوربيين، وقد كشفت لي عن فارق عقلي كبير بين عرابي وبين زعيم آخر من زعماء الحرية قابلته في دمشق وحادثته، وهو مدحت باشا، فلم يكن في حديث عرابي شيء من ذلك اللغو حول السكك الحديدية والترع والترام كمشروعات للإصلاح يعمر بها الشرق، ولكن كان فيه كلمات تنفذ إلى أعماق الأشياء، وتحدد تبعة الحكومة الصالحة بحيث تلقيها على الكواهل التي تستطيع وحدها أن تحملها، وأحسست أن مثل هذه الكلمات خليقة بأن يصغى إليها في مجلس العموم إذا قُدِّر لها أن تُسمع هناك…

وأما عن السلطان وعلاقة مصر بتركيا، فقد كان كلام عرابي كذلك مبينًا، لقد أخبرني أنه لا يحب الأتراك الذين أساءوا حكم مصر عدة قرون، ولا يحب أن يسمع عن تدخل من القسطنطينية في شئون مصر الداخلية، ولكنه يجعل فرقًا بين الحكومة العثمانية وبين السلطة الدينية للسلطان، وذلك أنه كأمير للمؤمنين تحت طاعته والإجلال له إذا عدل، وكذلك يوحي إليه عمل فرنسا في تونس بعد أن انتزعتها من الإمبراطورية واستولت عليها، ضرورة المحافظة على الصلة برأس العالم الإسلامي، قال عرابي: نحن جميعًا أبناء السلطان ونعيش معًا كما تعيش أسرة في بيت، ولكن كما هو الحال في الأسر لكل منا نحن أهالي الأٌقطار الإسلامية، حجرة مستقلّة يُترك لنا أمر تنظيمها حسب إرادتنا، ولا يسمح حتى للسلطان نفسه بالتدخل في ذلك. ولقد اكتسبت مصر هذا الوضع بمقتضى ما منحته الفرمانات، وسنحرص على أن نحتفظ به، ونحن إذا طالبنا بأكثر من ذلك فإنا نركب متن الشطط، وربما فقدنا حريَّتَنا فقدانًا تامًّا…

وسألته في شيء من الثقل عما إذا كان ذا صلة شخصية بالقسطنطينية كما تؤكد الإشاعات، ولاحظت عليه شيئًا من التحفظ في الإجابة، فمما لا شك فيه أن حديثه مع أحمد راتب ذلك الحديث الذي لم يكن لي به علم وقتذاك، كان يجول بخاطره وسبَّب هذا التردد، ولكنه لم يشر إليه…

وأخيرًا تكلّمنا عن علاقة مصر بالمراقبة الثنائية، مراقبة إنجلترا وفرنسا، فأقرّ عرابي ما تمّ من خير في عهدهما كتحرير البلاد من إسماعيل، وتنظيم الشئون المالية، ولكنهما يجدر بهما ألا يقفا في سبيل الحركة القومية بتعضيدهما سلطة الخديو المطلقة ومَنْ حولَه من الباشوات الشراكسة، وقال إنه ينظر إلى إنجلترا أكثر مما ينظر إلى فرنسا لنصرة الحرية الوليدة في مصر، وبخاصة جلادستون الذي هو من أنصار الحرية، وشكا من مالت وتصرفاته، وعملت على أن أدخل الطمأنينة عليه من هذه الناحية بقدر ما استطعت، ثم افترقنا.

وقد أثَّر في نفسي أثرًا حسنًا هذا اللقاء الأول مع هذا القائمقام الفلاح، حتى لقد ذهبت من فوري إلى صديقي الشيخ محمد عبده لأعبر له عن تأثُّري، واقترحت عليه أن يكتب برنامج الحركة الوطنية بالمعنى الذي ذكره عرابي كي أرسله إلى جلادستون، فإني أعتقد أن برنامجًا كهذا لو أبلغ إليه من جهة يثق فيها جدير بأن يحدث في نفسه أثرًا طيبًا لصالحهم، وحدثت مالت كذلك بهذا الاقتراح فذكر أنه يعتقد أنه يحدث ذلك الأثر الطيب، وعلى ذلك وضعت بالاشتراك مع الشيخ محمد عبده وبعض زعماء الوطنيين، وكان يعاوننا سابونجي، برنامجًا يتضمن آراء الحزب الوطني، وعرضنا ذلك على البارودي فأقرَّه، وعرضناه كذلك على عرابي، وبعد أن تمّ ذلك أرسلته إلى جلادستون قائلًا: إنه وضع على علم من مالت، وبإقرار منه لما جاء فيه، وشرحت له الموقف كله، ورجوت منه أن يعطف على حركة هي قريبة من المبادئ التي يعتنقها.»

هذا هو كلام بلنت عن عرابي نقلناه عن كتابه، فماذا يرى فيه خصوم عرابي ممن جهلوا حقيقة أمره، ومن المتقوِّلين عليه؟

أيبقون على إصرارهم فلا يرون فيه إلا جاهلًا غرًّا لا دراية له بالسياسة وشؤونها؟ ألا يزال ينكر هؤلاء أنه كان مؤمنًا برسالة يطمع أن يؤديها إلى بني وطنه، رسالة الحرية والكرامة القومية؟

حسب المرء أن يذكر مبلغ ذلك العصر من العلم ومن اليقظة القومية، ومبلغ ما كان فيه من الرجال إذا قورن بالعصر الذي نحن فيه، ليرى كيف بلغ عرابي بحميته وإخلاصه وصادق حبه لوطنه مبلغًا من الزعامة خليقًا بأن يسلكه في عداد الأفذاذ من رجالنا في تاريخنا كله.

وإن الذي يخطو الخطوة الأولى في كل ما يتطلب جرأة ليعظُم فضله ويعلو اسمه على كل من يخلفه حتى ولو كان في هؤلاء الخلف من هو أكثر جرأة وأجلّ أثرًا وأعظم خطرًا وأكبر عقلًا، وذلك لأن الفضل للبادئ. ولن يوجد في الخلف من يكون أعظم فضلًا ولا أخلد مجدًا.

وإن الرجل الذي يقتدي بمن سبقه من الأبطال من بني قومه، أو الذي يلقي معاني البطولة في نفسه كثرة الأبطال من حوله ليحمد على بطولته، فكيف بمن ينشأ على غير سابقة وينهض مدفوعًا بما في فطرته من معاني الإباء والأنفة كهذا الفلاح الذي كبر عليه أول الأمر أن يستذلّه ويستذلّ إخوانَه المصريين رفقي، وما زال به حتى عزله، والذي تفتحت نفسه للدستور فوضع يده في أيدي الوطنيين وما استبعد الشقة أو قعد به ملل حتى ظفر لوطنه بالدستور، وأبعد رياضًا وأحل محله شريفًا، والذي يحرص بعد ذلك على القومية المصرية، ويخشى أن يعصف بها كيد الكائدين فيتربص كما يتربصون، ويتأهّب كما يتأهَّبون…

لقد أعجب بشخصه وبآماله بلنت، وحق له أن يعجب به. ولقد قارن بينه وبين مدحت باشا فرجحت كفته على كفة مدحت، وذهب من فوره يعلن للشيخ محمد عبده مبلغ تأثره بهذا الجندي الفلاح أو في الواقع بهذا الزعيم المصري الذي أنجبته مصر…

-----------------------------------------
١  كان في مكان عمارة تجاه وزارة الأوقاف، وكان الفضاء حوله متسعًا من كل ناحية بحيث يطل من الشرق على قصر عابدين ومن الغرب على قصر النيل.