أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
رجل أمَّة Oo12
رجل أمَّة
اغتدى اسم عرابي على كل لسان في مصر، فعلى يديه تم الانقلاب المنشود، وإليه نُسب كل فضل، وأصبح الناس في القاهرة وفي القرى يتحدثون في إعجاب عظيم عن الفلاح ابن الفلاح الذي أسمع الخديو كلمة مصر في إباء وعزة، وأجبره على أن يجيب الأمة إلى ما طلبت…

ومن السهل على المرء أن يتصور وقع هذه الأنباء في الناس في عصر كذلك العصر، فقد تناقل الناس كلمات عرابي للخديو وهم لا يكادون يصدقونها، ومن السهل كذلك أن يدرك المرء كيف اغتدى بحق عرابي في مصر رجل أمة، فقد اجتمع فيه رجالها، وأضحت تتفاخر به لأنه من صميم فلاحيها، ولأنها باتت تحتمي به وتحسّ إحساسًا واضحًا أن الرجل الذي كانت تتطلع إلى ظهوره كما تتطلع كل أمة في مثل موقفها، قد تهيَّأ لها في شخصه آخر الأمر…

ولقد نبه اسم عرابي وحقت له الزعامة عقب حادث قصر النيل، فلما كان يوم عابدين، وثق الناس من بطولته وركنوا إلى زعامته، واستمدوا حميتهم من حميته، وباتوا يربطون مصيرهم بما يفعل أو يقول…

عارض شريف أول الأمر في قبول الوزارة، وكانت حجته في ذلك أنه بقبوله الحكم من غير قيد ولا شرط إنما يضع نفسه تحت سلطة الحزب العسكري، الأمر الذي لا يطيق أن يحمل نفسه على قبوله، ولذلك دارت بينه وبين عرابي وزملائه مفاوضات استمرت بضعة أيام تحرّجت الأمور فيها حتى أوشك شريف أن يتنحّى عن قبول الوزارة…

ولكنَّ بَوارقَ الأمل ما لبثت أن لاحت، وكان جميلًا أن تلوح من جانب ذلك الرجل الذي لا يزال نفر من المصريين حتى وقتنا هذا يرمونه بالفوضى، ويردون أسباب ما لحق مصر من ويلات إليه، فيقيمون الدليل بذلك على أنفسهم أنهم إما ذوو أغراض أو أولو جهل بحقائق الأمور معيب…

كان جميلًا أن يبرق الأمل من جانب عرابي فيخفض جناحه لشريف ويذعن لما اشترط من شروط في صدق إخلاص وعن طيب خاطر…

دعا عرابي رجال الحزب الوطني وأعضاء مجلس شورى النواب المعطل، وعرض عليهم الأمر، وكان على رأسهم سلطان باشا، وذهب وفد من هؤلاء إلى شريف يرجون منه قبول الحكم، فعرفوا أنه يشترط ألا يتدخل الجند في شيء، وأن يرحل عرابي وعبد العال بفرقتيهما إلى مكانين يختاران لهما، وأن يترك حرًّا في اختيار وزرائه؛ لأن عرابيًّا كان يطلب إليه إعادة البارودي وإدخال مصطفى فهمي باشا في الوزارة، وكان شريف يرفض ذلك لأنهما لم يثبتا على عهدهما فدخلا وزارة رياض عقب إقالة وزارته…

وتعهّد سلطان ووفده أنهم يضمنون لشريف خضوع عرابي والحزب العسكري، وكان بين الوفد نفر من ذوي المنزلة في البلاد كأباظة والشريعي والمنشاوي والمويلحي والشمسي والوكيل، وهم أهل نفوذ وجاه يعرف شريف قيمة انضمامهم إليه…

تسمع عرابي ما عرضه سلطان ومن معه فذهب بنفسه إلى شريف يستحثه على سرعة تأليف الوزارة ويظهر له ما يخشاه من الإبطاء، قال عرابي: «وفي يوم ١٤ سبتمبر سنة ١٨٨١م، قابلته مرة أخرى وقلت إنه لا يمكن ترك البلاد بلا وزارة فأصرّ على الرفض فقلت له: إن لم تؤلف الوزارة اليوم فسنطلب غيرك ولا تظنّ أن ليس بالبلاد سواك ففيها بعون الله العلماء والحكماء، ولم يكن اختيارك لعدم وجود غيرك لهذا المركز… فاغرورقت عيناه بالدموع ولم يحر جوابًا، ثم خرجنا من عنده وبعد قليل جاءنا الشيخ بدراوي عاشور وكيل زراعته وقال: إن الباشا قبل ما عرضته عليه».

وألف شريف وزارته الثالثة، وكانت هذه أولى ثمار الثورة، وقد قبل الوزيرين اللذين أشار بهما عرابي، كما قبل رجاء الحزب العسكري وهو النظر في القوانين الخاصة بالجيش، وذلك في مقابل أن يخضعوا لحكمه ويبتعدوا عن كل تدخل في شئونه.

ودعا وزير الحربية عرابيًّا، فأفهمه رغبة الحكومة في أن يسافر بفرقته إلى رأس الوادي، وأن يسافر عبد العال إلى دمياط، فقبل عرابي ذلك، ولكنه اشترط أن يصدر أمر الخديو بالانتخاب لمجلس شورى النواب قبل السفر، ولا ريب أن هذا الشرط من جانب عرابي خروج منه على ما أخذه على نفسه من عدم التدخل في شئون الحكومة، وهو أمر لا يسعنا إلا أن نحسبه عليه، بل نلومه عليه مهما كان ما ينطوي عليه طلبه من خير للبلاد، ومهما كان في هذا الطلب من معاني حرصه على الدستور والحياة النيابية، وبخاصة لأن على رأس الحكومة رجلًا مثل شريف…

أما عن امتثاله لأمر الحكومة بقبول السفر، فهو في ذاته على الرغم مما أحيط به من اشتراط يعدّ من محامد عرابي، إذ يدل على مرونة وكياسة ورغبة في التفاهم شتان بينها وبين ما يعزوه إليه خصومه وجاهلو أمره من حماقة ونَزَق وعنف في كل ما يطوف بهم من سيرته، كما أنه يقدم بطاعته دليلًا على نبل غرضه وحسن طويته فيما سعى إليه…

وخرج عرابي في اليوم الثامن من شهر أكتوبر بقصد السفر بفرقته إلى رأس الوادي، وذلك بعد مرور أربعة أيام على موافقة الخديو على دعوة مجلس شورى النواب، وكان قد سبقه عبد العال في السفر إلى دمياط…

سار عرابي بطريق الحسينية حتى بلغ مسجد الحسين رضوان الله عليه «فوقف الآلاي مقابلًا للمسجد تعظيمًا وإجلالًا لسبط الرسول عليه الصلاة والسلام»، ودخل عرابي المقام الحسيني مع الضباط، «وأمر بيرق الآلاي على الضريح الشريف»…

وسار بعد ذلك إلى المحطة فما كاد يتوسط المدينة حتى ألفى الشوارع مكتظة بالناس، وإنهم ليهتفون باسمه في حماسة ويحيونه تحية الزعيم المنقذ، ويلقون في طريقه الزهر والرياحين.

وفي المحطة وجد عرابي جميع ضباط الجيش المصري وجمهورًا عظيمًا من الأعيان وذوي المكانة وعددًا هائلًا من عامة الناس فاحتفوا بمقدمه، وكانت توزع الحلوى وتنشر الزهور في فناء المحطة، وكان يتسابق الخطباء والشعراء في تمجيد ذلك الذي جرى اسمه على كل لسان في مصر، ووقف عرابي في هذا الجمع خطيبًا فقال: «سادتي وإخواني: بكم ولكم قمنا وطلبنا حرية البلاد، وقطعنا غرس الاستبداد، ولا ننثني عن عزمنا حتى تحيا البلاد وأهلها، وما قصدنا بشعبنا إفسادًا ولا تدميرًا، ولكن لما رأينا أننا بِتنا في إذلال واستعباد ولا يتمتع في بلادنا إلا الغرباء حركتنا الغيرة الوطنية والحمية العربية إلى حفظ البلاد وتحريرها والمطالبة بحقوق الأمة، وقد ساعدتنا العناية الإلهية ومنحنا مولانا وأميرنا الخديو ما طلبناه من سقوط وزارة المستبد علينا السائر بنا في غير طريق الوطنية، وتمتّعنا بمجلس الشورى لتنظر الأمة في شئونها وتعرف حقوقها كباقي الأمم المتمدّنة في العالم، ومن قرأ التاريخ يعلم أن الدول الأوربية ما نالت الحرية إلا بالثورة وإراقة الدماء وهتك الأعراض وتدمير البلاد، ونحن اكتسبناها في ساعة واحدة من غير أن نريق قطرة دم أو نخيف قلبًا، أو نُضيع حقًا أو نخدش شرفًا، وما وصلنا إلى هذه الدرجة القصوى إلا بالاتحاد والتضافر على حفظ شرف البلاد.» وهتف عرابي بحياة الخديو واهب الحرية، وحياة الجيش، وحياة الحرية، ثم امتدح الوزارة ورئيسها، ووصف البارودي بقوله: «رئيسنا الوطني الحرّ القائم بخدمة الوطن وأهله»، وحذر إخوانه في الجهادية من الوشاة والحسّاد، وحثهم على الاتحاد قائلًا: «البلاد محتاجة إلينا، وأمامنا عقبات يجب أن نقطعها بالحزم والثبات وإلا ضاعت مبادئنا ووقعنا في شرك الاستبداد بعد التخلص منه».

ولنا إلى هذه الفقرة من خطبته عودة كما أن لنا عودة إلى فقرة غيرها نكتفي الآن بالإشارة إليها وهي قوله: «وقد فتحنا باب الحرية في الشرق ليقتدي بنا من يطلبها من إخواننا الشرقيين على شرط أن يلزم الهدوء والسكينة ويجانب حدوث ما يكدر الراحة».

واختتم خطابه بعبارات ذات مغزى مثل قوله: «إن الطمأنينة عادت كما كانت، وعدنا إلى ما نشأنا عليه من طاعة مولانا الخديو وخضوعنا له ولوزرائه الفخام، فلا تأخذكم الأراجيف وإشاعات أعداء الوطن، وثقوا بسعي أميرنا ورجاله»، ومثل قوله: «إن قيامنا كان لطلب الحقوق لا للعقوق»، وقوله: «وبيننا من الأعداء من يسعى في تفريق كلمتنا وإضرام نار الفتنة بيننا».

•••

واستُقبل عرابي بحفاوة كبيرة في المحطات التي وقف بها القطار، وكان يخطب الناس مرافقه في الرحلة السيد عبد الله نديم كما حدث في الزقازيق حيث كان على رأس مستقبليه فيها أمين بك الشمسي، ووقف عرابي يخطب الناس هناك فكان مما قاله: «أنا أخوكم في الوطنية واسمي أحمد عرابي، ولدت في بلدة هرية رزنة من بلاد الشرقية هذه، فمن عرفني منكم فقد عرفني، ومن لم يعرفني عرَّفته بنفسي، وها أنذا واقف بين الأهل والخلان، وقد بلغكم ما طلبناه من قطع عرق الاستبداد وتحرير البلاد وأهلها، وبعناية الله سبحانه منحنا مولانا الخديو هذه الأمنية، فنحن لم نخرج من العاصمة عصيانًا ولا تظاهرًا بعدوان، وإنما سرت بالجيش ووقفت بين يدي الخديو وقفة الطالب الراجي كرم مولاه، فلا تعوِّلوا على الأراجيف وإشاعات أهل الفساد، واعلموا أن البلاد محتاجة إلى الخدمة بالقوة والفكر والعمل، فأما القوة فنحن رجالها، ولا ننثني عن عزمنا وفي الجسم نفس، وأما الفكر فهو منوط بأميرنا العظيم ووزرائه الكرام، وأما العمل فهو منوط بكم فإن القوة والفكر يعطلان بفقد ثروة تربتنا الطيبة المباركة، وقد طلبنا لكم مجلس الشورى لتكون الأمور منوطة بأهلها، والحقوق محفوظة لذويها».

وقال عرابي في خطبة أخرى بالزقازيق ألقاها في وليمة أعدّها له أمين بك الشمسي رئيس تجار الزقازيق: «سادتي وإخواني الأعزاء، أحلي أسماعكم باسم مولانا أميرنا الخديو الساعي في عمار الوطن وقطع عروق الاستبداد منه، وأذكركم بمدة حجبتْ عنا فيها أنوار الحرية واستعبدتنا فيها الظلمة حتى صرنا نتألم ولا يرحمنا أحد، وأصبحت أموالنا وأرزاقنا معرضة للنهب والسلب تتخطفها أيدي المستبدِّين قد تمكنت القسوة من قلوبهم، وألفوا الظلم وكرهوا العدل والإنصاف حتى كانت عاقبة أمرهم أن أصبح الناس قيد الفقر وذل الفاقة، والقطرُ معرضًا للأخطار مهيَّأً لامتداد أيدي الطامعين إليه فعزَّ على إخوانكم وأولادكم الجهادية حماة البلاد، وتحركت فينا الحمية العربية الوطنية، فتعاهدنا على حفظ البلاد ووقاية أميرنا من كل سوء، وسرتُ بهذا الجيش ووقفتُ بساحة عابدين أمام مولانا الخديو، حفظه الله، وقد اشتدت شوكة جيش البغي وقويت معارضته… وأنقذناكم من يد من لم يعرف لكم حرمة ولا يعترف بحق، ولا يرى أنكم مثله من نوع الإنسان، وشكرنا مولانا وأميرنا الخديو على حسن عنايته بنا وبالأمة وعلى ما تفضّل به من مجلس الشورى، أنتم الآن مهيَّئون للانتخاب؛ فلا تميلكم الأهواء والأغراض لانتخاب ذوي الغايات، بل عوِّلوا على الأذكياء والنبهاء الذين يعرفون حقوقكم ويدفعون المظالم عنكم، ويفتحون باب العدل والإنصاف في بلادنا».

•••

وفي الزقازيق دعى عرابي لوضع أساس المدرسة الأميرية فذهب ووضع الحجر الأساسي باسم الخديو.

قال: وتلوت على الحاضرين خطبة ذكرت لهم فيها فوائد التعليم ومنافعه وفضل العالم على الجاهل والبصير على الأعمى، وحرَّضتهم على الاهتمام بأمر تعليم أولادهم ليكونوا مستعدّين لخدمة بلادهم في المستقبل».

وأُولمت لعرابي عدة ولائم في دور بعض وجهاء مديرية الشرقية، سافر بعدها إلى رأس الوادي.

وليس يخفي ما ينطوي عليه من معانٍ تكريمُ هذا الفلاح الذي نشأ في بيت متواضع، على أيدي هؤلاء السادة والكبراء؛ ففي ذلك أول مظاهر الديموقراطية الوليدة في هذا الوادي الذي خضع قبل ذلك زمنًا طويلًا لمظاهر السيادة والأرستوقراطية.