الزعيم الثائر أحمد عرابي
ميثاق النزاهة Ocia2076
ميثاق النزاهة
(١) مؤتمر الآستانة
دعا المسيو دي فريسينيه رئيس الوزارة الفرنسية الدول الأوروبية الكبرى إلى عقد مؤتمر للنظر في المسألة المصرية، فلبى هذه الدعوة كلٍّ من إنجلترا وألمانيا والروسيا وإيطاليا والنمسا… أمَّا تركيا فإنها رفضت الفكرة بحُجَّة أن إيفاد مندوبها درويش باشا إلى مصر كافٍ لحل مشكلتها! وقد اعتزمت إيفاده إلى مصر في الوقت الذي علمت فيه باقتراح عقد المؤتمر؛ أي أنها عارضت المؤتمر بإرسال مندوب سامٍ إلى مصر، واتخذت من إرساله وسيلة لرفض عقد المؤتمر، واحتجَّت أيضًا بأن الأحوال في مصر لا تستدعي عقد مؤتمر بعد تأليف وزارة راغب باشا، واضطلاعها بأعباء الحكم وإعادتها الأمن إلى نِصابه، فلم يبقَ شيء يمكن أن يتفاوض فيه المؤتمر.

وقد أبلغ وزير خارجية تركيا سفراء الدول الأوروبية بالآستانة هذا القرار، ولكن الدول لم تعبأ به واعتزمت عقد المؤتمر، وبقيت تركيا على امتناعها ورفضت الاشتراك فيه حتى ضرب الإسكندرية، فكان من المهازل السياسية أن يجتمع مؤتمر دولي في الآستانة للنظر في المسألة المصرية دون أن تشترك فيه حكومة الآستانة ذاتها، ودون أن تشترك فيه مصر، وكان واجبًا على كلتيهما أن تشترك فيه.

وليس هذا المظهر وحده هو الذي يدل على اضطراب السياسة العثمانية في المسألة المصرية، بل إن مسلكها كله كان مجموعة متناقضات واضطرابات… فبينما كانت تتظاهر بتأييد سلطة الخديو، إذا بالسلطان عبد الحميد يُعلن عطفه على عرابي ويمنحه نيشانًا رفيع الشأن، ثم إذا جدَّ الجد ونشبت الحرب بينه وبين الإنجليز طعنه في الصميم بإعلانه عصيانه، فكان هذا الإعلان من أكبر أسباب هزيمته وخذلانه، فهذا التناقض والاضطراب، مُضافًا إليه قِصر نظر تركيا وسوء نيتها نحو مصر ورغبتها في إنقاص استقلالها، ثم ما جُبلت عليه من الدَّسِّ والوقيعة، وتأثر وزرائها بالمال والرِّشَا، جعل من السياسة التركية عامل فساد استخدمته بريطانيا لتحقيق أطماعها في مصر.

اجتمع المؤتمر بدار السفارة الإيطالية في «ترابيا» بضواحي الآستانة على شاطئ البوسفور يوم ٢٣ يونيو سنة ١٨٨٢م، وكان أعضاؤه سفراء الدول العظمى الست: بريطانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا والروسيا وإيطاليا، والسفير البريطاني هو اللورد دفرين.

(١-١) ميثاق النزاهة
ثم اجتمع للمرة الثانية يوم ٢٥ يونيو، وقبل البدء في مداولاته إبرام العهد المشهور بميثاق النزاهة Protocole de Désinteressement، وقد وضعه المسيو دي فريسينيه في ١٦ يونيو وعرضه على اللورد جرانفيل فقبِله.

وهذا نصه:
تتعهد الحكومات التي يوقِّع مندوبوها على هذا القرار، بأنها في كل اتفاق يحصل بشأن تسوية المسألة المصرية لا تبحث عن احتلال أي جزء من أراضي مصر، ولا الحصول على امتياز خاص بها، ولا على نيل امتياز تجاري لرعاياها لا يخوَّل لرعايا الحكومات الأخرى.

وقد وقَّع عليه أعضاء المؤتمر جميعًا… هذا هو العهد الذي ارتبطت به الدول، وفي مقدمتها إنجلترا في مؤتمر الآستانة… ولكن إنجلترا حين أبرمته كانت تنوي نقضه، كما نقضت سائر عهودها في المسألة المصرية، والدليل القاطع على ذلك أنها في الوقت الذي أبرمته —٢٥ يونيو سنة ١٨٨٢— كانت تُعد معدات الحرب والقتال وتجهز جيشها لاحتلال مصر، ولم يمضِ على هذا العهد ستة عشر يومًا حتى ضرب أسطولها مدينة الإسكندرية بمدافعه يوم ١١ يوليو.

واجتمع المؤتمر في جلسته الثالثة يوم ٢٧ يونيو، وأخذ أعضاؤه يتداولون في المسألة المصرية، وأخذ اللورد دفرين يُلقي بيانه عن الحالة في مصر، ذهب فيه إلى أن الفوضى قد تمكَّنت من مصر من جراء ثورة الجيش وانتقاضه على الخديو، وأن هذه الفوضى قد أدت إلى اختلال الإدارة وارتباك الأحوال، ووقوف حركة التجارة وفقدان الثقة وعجز الأهلين عن سداد الضرائب، وعجز الحكومة عن الوفاء بتعهداتها المالية حيال الدائنين الأجانب، ثم تعريض حياة الأوروبيين للخطر.

ويُؤخذ من بيان اللورد دفرين أن إنجلترا كانت تقصد من الاشتراك في المؤتمر إعلان أن الحالة في مصر تستدعي التدخل في شئونها، وأن هذا التدخل يجب أن يكون حربيًّا لقمع الثورة وإعادة سلطة الخديو، وكانت ترمي إلى أن يكون هذا التدخل إنجليزيًّا… ولكنها تظاهرت على لسان اللورد دفرين بأنها تبغي أن يكون تركيًّا، وهي عالمة بأن الحكومة التركية بلغت من الضعف والتردد بحيث لا تُقدم على هذه المهمة، ولو أنها تدخلت بجيشها لكان من المحتمل أن يكون ذلك إنقاذًا للموقف وتفاديًا من الاحتلال؛ لأن الدول الأوروبية ما كانت لتقبل بقاء جيش عثماني في مصر إلى ما شاء الله، وفي الحق أن الحالة لم تكن تستدعي إرسال جيش عثماني أو غير عثماني، فإن وزارة راغب باشا كانت تستطيع إعادة الأمن والنظام إلى نِصابه، لو لم تبادرها السياسة الإنجليزية بالعقبات والعراقيل.

كانت إنجلترا واثقة من جمود السياسة التركية وضعفها، مطمئنة إلى انقسام الدول الأوروبية في الرأي، وعدم اتخاذها قرارًا معينًا في المسألة المصرية… فانتهزت هذه الفرصة وأخذت قبل انعقاد المؤتمر وخلال انعقاده تُعد معدات الحرب والقتال؛ لتنتهك بأسطولها وجيشها حرمة العهود والمواثيق، وتحتل مصر تحت سمع المؤتمر وبصره.

وقد بدت منها نية الخداع جلية في مفاوضاتها بالمؤتمر، فقد اقترح السفير الإيطالي على الأعضاء بجلسة ٢٧ يونيو، أن تقرر الدول الامتناع عن التدخل المنفرد في مصر ما دام المؤتمر منعقدًا، ولو كانت إنجلترا حسنة النية لوافق مندوبها على هذا القرار، ولكن الواقع كما أسلفنا أنها كانت تجهز معدات لاحتلال مصر، فأخذ اللورد دفرين يُلَح في ضرورة وضع تحفُّظ لهذا القرار، حتى قرَّر المؤتمر إضافته وهو «فيما عدا الأحوال القهرية»، فنمَّ بذلك على ما كانت تضمره إنجلترا من مخادعة المؤتمر، وما كانت تبيته من نية الشر والعدوان ونقض العهد والميثاق، وقد اطمأنت بعد وضع هذا التحفظ، وتركت المؤتمر يجتمع ويقرر ما يشاء، إذ كانت هذه الكلمة كافية لتجعل قراراته عديمة القيمة.
•••
ومن الغريب أن المركيز دي نواي سفير فرنسا قد أيَّد اللورد دفرين في اقتراحه إضافة هذه الحاشية، فدلَّ بذلك على مبلغ تخبُّط السياسة الفرنسية في ذلك الحين، وقد اغتبط اللورد دفرين لهذه الإضافة، وأرسل في اليوم التالي إلى اللورد جرانفيل رسالة يقول فيها: «إننا في الواقع منذ أن تم تعديل اقتراح السفير الإيطالي هذا التعديل الهام لم نعُد نعتبر للاقتراح قيمة كبيرة».

قرَّر المؤتمر في جلسته الثالثة وجوب التدخل في مصر لإخماد الثورة، وأن يُعهد إلى تركيا بهذه المهمة، بأن ترسل إلى مصر قوة كافية من الجند لإعادة الأمن والنظام إليها، وأخذ يتداول في الجلسات التالية في شروط هذا التدخل وحدوده، واستفادت إنجلترا من هذا البطء لإتمام تدابيرها وإنفاذ خطتها في تدخُّلها المنفرد، ووضع المؤتمر في جلسته السابعة —يوم ٦ يوليو سنة ١٨٨٢م— قواعد هذا التدخل، وهي: أن يحترم الجيش الذي ترسله تركيا مركز مصر وامتيازاتها، التي نالتها بموجب الفرمانات والمعاهدات، وأن يخمد الثورة العسكرية ويعيد إلى الخديو سلطته، ثم يشرع في إصلاح النظم العسكرية في مصر، وأن تكون مدة إقامته في مصر ثلاثة أشهر، إلَّا إذا طلب الخديو مدها إلى المدة التي تتفق عليها الحكومة المصرية مع تركيا والدول الأوروبية العظمى، ويعيَّن قواد هذا الجيش بالاتفاق مع الخديو، وتكون نفقاته على حساب مصر، ويعيَّن مقدارها بالاتفاق مع مصر وتركيا والدول الست العظمى الأوروبية.

وقد صدر هذا القرار على أن يُعرض على الحكومة التركية والحكومات الأوروبية الست التي لها ممثلون في المؤتمر، وأُرسل نص القرار إلى هذه الدول فأقرته، ووافقت على تقديمه إلى الحكومة التركية، فأُرسل إليها ولكنها لم تقره، ووقفت موقف الإحجام والتردد، شأن السياسة التركية في ذلك العهد، واعتمدت في رفضها التدخل على تقارير درويش باشا الذي يقول فيها إنه ليس في مصر ما يُوجب تدخُّلها، وقد وافقت إنجلترا على دعوة تركيا إلى التدخل في هذا الوقت الذي كانت تُعد فيه معدات القتال لتتدخل هي بمفردها؛ ذلك لأنها كانت مطمئنة إلى بطء السياسة التركية وترددها، وأنها تستطيع خلق «الحالة القهرية» التي نوه إليها اللورد دفرين، فتتذرع بها إلى التدخل الحربي من جانبها ضاربة صفحًا عن قرار المؤتمر، وقد أنفذت خطتها، إذ ضرب الأسطول الإنجليزي مدينة الإسكندرية يوم ١١ يوليو قبل أن تتقدم الدول إلى تركيا بقرار المؤتمر، وقبل أن يتبين موقف تركيا حيال هذا القرار.

أمَّا التدخل في ذاته فلم يكن ثمَّة مُوجِبٌ له؛ لأن الحالة في مصر كانت طبيعية بعد تأليف وزارة راغب باشا… ومن الوقائع الثابتة أن إنجلترا أخذت تجهز معدات القتال قبل انعقاد المؤتمر، فقد أصدرت وزارة البحرية الإنجليزية في ١٥ يونيو تعليماتها إلى بواخر النقل بالاستعداد للسفر إلى مصر، مقلَّة كتائب الجنود في ذلك الحين لإرسالها إلى الديار المصرية.

وقد كانت آخر جلسة عقدها المؤتمر قبل ضرب الإسكندرية —وهي الجلسة السابعة— يوم ٦ يوليو، فلما وقع الضرب ظهر أن المؤتمر لم يكن إلَّا مهزلة اتخذتها إنجلترا وسيلة لشغل الناس عما تضمره من نياتها العدائية، واجتمع المؤتمر مع ذلك بعد الضرب يوم ١٥ يوليو، وأخذ يستأنف النظر في تدخُّل تركيا الحربي.

عرابي والمؤتمر
استمر المؤتمر كما أسلفنا يعقد جلساته على غير طائل، وإنجلترا تُعد المعدات للقتال، وقد كان انعقاده مدعاة إلى اعتقاد عرابي وصحبه أن المسألة المصرية ستُحل بطريق المفاوضات بين الدول، وأن انعقاد المؤتمر مانع من انفراد إنجلترا أو غيرها من الدول من التدخل الحربي في مصر، وكان هذا إغراقًا منهم في حُسن الظن أو الجهل بما تنويه إنجلترا… وفي الحق أن العرابيين كان ينقصهم الحصافة في الرأي وبُعد النظر السياسي، وأغلب الظن أنهم كانوا لا يعرفون الموقف السياسي على حقيقته، وكانوا يعتمدون على ما يتلقونه من بعض الأفراد الأوروبيين من الأوهام والأخبار الملفقة، ولم يكن لديهم قلم أخبار في مصر ولا في الخارج يُطلعهم على حقيقة الأحوال السياسية وتطوراتها.

هذا فضلًا عما اشتهروا به من الغرور والخيلاء، إذ كانوا يتوهمون أنهم قادرون على دفع اعتداء الإنجليز أو أية دولة أخرى دون أي استعداد جدي للحرب، ولم يكونوا يقدِّرون قوة أعدائهم ولا قوتهم هم أنفسهم، فبينما كان الإنجليز يستعدون للحرب والقتال ويحشدون جنودهم في إنجلترا ومالطة والهند، ويستطلعون قوة العرابيين ويقفون على حقيقة معداتهم، كان العرابيون لا يعرفون شيئًا عن معدات الإنجليز… بل كانوا يتوهمون أنهم لا يجرءون على إعلان الحرب والقتال أو النزول إلى البر، وكذلك كان شأن وزارة راغب باشا عامة، فإنها كانت لا تزيد كثيرًا عن مستوى العرابيين في العلم والمعرفة، وكان عرابي هو الآمر المتسلط عليها إذ كان وزير الحربية والبحرية فيها.
•••
ومما ساعد العرابيين على التمادي في غرورهم، رؤيتهم الأسطول الإنجليزي راسيًا في مياه الإسكندرية دون أن تنشب الحرب أو يتحفز للضرب، فخيَّل الوهم لهم أن مجيئه لم يكن إلَّا من قبيل التهديد والوعيد، وأنه لا يجرؤ على إنزال الجنود إلى البر، واتخذوا من موقف السكوت الذي لزمه يوم مذبحة الإسكندرية دليلًا على أنه لا قِبل له بالحرب والقتال… ولكن الواقع أن الإنجليز كانوا ينتظرون أن يهيئوا الجو في أوروبا لقبول تدخُّلهم الحربي… فدبَّروا مذبحة الإسكندرية حتى يُظهروا الحالة في مصر بأنها حالة فوضى واضطراب، ونهب وقتل لا يؤمن معها على حياة الأجانب، وأنها تستدعي تدخُّل الدول لوضع حد لهذه الفوضى، ثم اشتركوا والدول في عقد مؤتمر الآستانة للمفاوضة في إيجاد علاج لهذه الحالة الخطير… وهيئوا الأفكار في أوروبا لضرورة التدخل لقمع الثورة في مصر…

فلم يكن انتظارهم هذه المدة —ولم تكن في ذاتها طويلة— إلَّا لإحكام خطتهم وإتمام تجهيزاتهم الحربية، ثم لتمكين الجاليات الأوروبية من الهجرة قبل أن تضرب إنجلترا ضربتها في مصر، لكي يكون عدوانها مقرونًا بعطف الأوروبيين المهاجرين… وتكون في احتلالها كأنها نائبة عنهم وعن الدول الأوروبية جميعًا، كل ذلك والعرابيون غارقون في أحلامهم معتقدون أن الحرب بعيدة الوقوع؛ ولذلك لم يبدُ منهم أي عمل يدل على الاستعداد لخوض غمار القتال.

وكانت أحاديث العرابيين دائرة حول ما يتسقطونه من أخبار المؤتمر، وما تلوكه ألسنتهم من أن الأزمة ستُحل قريبًا بطريق السلم، وأنها ستنتهي بخلع الخديو توفيق وتعيين الأمير حليم باشا مكانه… وهذا كل ما كان يشغل بالهم ويستحوذ على أفكارهم في ذلك الوقت العصيب، أما الاستعداد للحرب والتهيؤ للقتال، فلم يفكروا فيه تفكيرًا جديًّا إلَّا في اللحظة الأخيرة بعد أن ضاع الوقت وسبق السيف العذل.