أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: على أريكة الخلافة الإثنين 08 يوليو 2024, 6:24 am | |
| الخليفة العباسي ولمْ يكن الخليفة العباسي حاكمًا مدنيًّا فحسب؛ بل هو أيضًا حاكم روحي يحاط بهالة من ضروب الشرف والتوفير والاحترام، فلما مات الهادي بويع الرشيد كما تجري المراسم، فجلس على سرير المُلك، وامتلأت الأبهاء على سعتها بكبار رجال الدولة، ومن يُسَمَّون عادة أهْل الحَلِّ والعقد، وبدأت البَيْعة أولًا بالأمراء الذين يتقدمون إلى العرش، ويقرأون صحيفة البَيْعة، وينفذون الأيمان التي أُخذت عليهم مِن قَبْل، وبايع بعدهم الوزراء وأولادهم، ثم أصحاب الشرطة.
وبعْد أَنْ تم ذلك، انعطف إخوة الخليفة والوزراء والأشراف على شكل دائرة بجانبي العرش، ووقف الحاجب بالباب يأخذ البَيْعة مِن الناس، وكتب إلى أمراء الأمصار ليأخذوا البَيْعة مِن كبار الرجال في دائرتهم، فلمَّا تم ذلك تمت الصبغة القدسية للرشيد، وتمت له السلطة المدنية والروحية، وهي حالة لا نستطيع أَنْ ندركها في عصرنا اليوم. ••• فَمِمَّا فَعَله الرشيد أَنْ سَمَّى بغداد مدينة السلام تشبيهًا لها بدار السلام، وسَمَّى قصر الخلافة بالحريم تلميحًا إلى البيت الحرام، وجلب بعضًا مِنْ أبناء الأنصار، وسمَّاهم بالأنصار، وجَعَل بابًا مِنْ أبواب بغداد قليل الارتفاع، لكي ينحني الداخل منه تشبيهًا بالسُّجُود احترامًا للخليفة… كما يفعل الداخل إلى الكعبة، وسَمَّى الخيزران أُم الخلفاء تشبيهًا بما سَمَّى به الرسول عائشة أُم المؤمنين.
واستكتب العلماءَ في وضع الأحاديث التي تمجد بيت بني العباس؛ كالذي رواه الطبراني عن ابن عُمَر كان رسول الله ﷺ في نفر مِن المهاجرين والأنصار، وعلِي بْن أبي طالب عن يساره، والعباس عن يمينه، فتلاحى العباس ونفر مِن الأنصار فأغلظ الأنصاري للعباس.
فأخذ النبي ﷺ بِيَدِ العباس وبِيَدِ علِي، وقال: «سيخرج مِن صُلب هذا فتًى يملأ الأرض جورًا وظلمًا، وسيخرج مِن صُلب هذا فتًى يملأ الأرض قسطًا وعدلًا، فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التميمي، فإنه يُقبل من قِبَلِ المشرق، وهو صاحب راية المهدي».
ويظهر أَنَّ واضع هذا الحديث ماكر زائد في المكر؛ فإنه جعل روايته ذات وجهين، حتى إذا غلب فريق ادَّعى أنه هو المُراد؛ لأنه لمْ يعَيِّن المُشار إليه في كُلِّ مَرَّةٍ فأخذه دُعاة بني العباس وأولوه لهم؛ لأنهم أصحاب الرَّايات.
وأغرَب مِن هذا ما رواه الحاكم عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال مجاهد: قال لي ابن عباس: «لو لمْ أسمَع أنك مِن أهْل البيت ما حَدَّثْتُك بهذا الحديث» قال: فقال مجاهد: «فإنه في ستْر لا أذكره لمن يكره»، قال: فقال ابن عباس: «منَّا أهْل البيت أربعة: منَّا السَّفَّاح، ومنَّا المنذر، ومنَّا المنصور، ومنَّا المهدي»، قال: فقال مجاهد: بيِّن لي هؤلاء الأربعة، فقال ابن عباس: «أمَّا السَّفَّاح؛ فربما قَتَل أنصاره، وعفا عن عدُوِّه، وأمَّا المنذر؛ فإنه يعطي المال الكثير، ولا يتعاظم في نفسه، ويمسك القليل مِنْ حقِّه، وأمَّا المنصور؛ فإنه يُعطى النصر على عدُوِّه، ويَرْهب منه عدُوُّه على مسيرة شهر، وأمَّا المهدي فإنه الذي يملأ الأرض عدلًا كما مُلِئَتْ جُورًا، وتامن البهائم السّباع، وتُلقي الأرض أفلاذ كبدها، قال: قلت: «وما أفلاذ كبدها»؟ قال: «أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة»».
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ومنه إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، وقد خرَّج له مسْلم، والحديث كما يظهر مصنوع حكي بمهارة كما يُحكى الحديث الصحيح.
وكلها أحاديث وضعت لخدمة البيت العباسي، والإشاعة بين الناس أنه بيت مؤيَّدٌ مِن الله مقدر على العباد فلا معنى لمقاومته.
يحيى البرمكي ولَمَّا تَربَّع الرشيدُ على كرسي الخلافة الذي كان متربعًا عليه مِن قَبْل أخوه الهادي، وأبوه المهدي، كان أول ما فعل أَنْ أسند الوزارة إلى يحيى البرمكي؛ اعترافا بجميله… فقد كان مربيًا له في صغره، وكان المدافع عن ولايته للعهد في شبابه، وكان الرشيد يناديه: يا أبت! دلالةً على حبه والوفاء له، وكان يستشيره في جميع الأمور ما صغر وما كبر، وَمَنَحَهُ سلطةً مطلقةً لتسيير أمور الدولة كما يرى.
وكانت وزارته وزارة تفويض، والوزارة في الدولة الإسلامية تنقسم إلى قسمين؛ وزارة تفويض، ووزارة تنفيذ… فوزير التفويض يستطيع أَنْ يَفعل ما يشاء مِن غيْر أن يرجع إلى خليفته، وله الحق أَنْ يولِّي مَن يشاء، ويعزل مَن يشاء، وأما وزير التنفيذ فليس له أن يفعل أمرًا ابتداءً مِن عنْد نفْسه، إنما يَفعل ما يأمر به الخليفة، وكان لِيَحيَى هذا أبناء أربعة: الفضل، وجعفر، وموسى، ومحمد… وكلهم على جانب عظيم من الحنكة السياسية، ووُلُّوا أعمالًا عظيمةً في الدولة، واشتهر منهم الفضل بْن يحيى، وجعفر بْن يحيى.
اشتهر الفضل بالكرم الذي لا حد له، وكان في ذلك يفوق كُل أهْل بيته، واشتهر جعفر بالقرب الشديد من الرشيد، وبالكرم دون كرم الفضل، وبالبلاغة فوق بلاغة الفضل.
وكان الخليفة في هذا العصر حاكمًا مستبدًا برأيه، يهيمن على كُل شئون الدولة، وفي يده جميع السُلطات، ويشرف على الرسائل الرسمية، وعلى تعيين أمراء الأمصار وعزلهم، ووزيره ينوب عنه في ذلك، وكانت كُل الأعمال التي يتولاها الوزير يتولاها إما برأيه أو منفردًا عنه، ولم تكُنْ شئون الدولة مقسمةً إلى وزارات، كُل وزارة لها اختصاص، فإنَّ بغداد لم تَعرف هذا النظام، بل كان الوزير وزير كُل شيء؛ وزيرًا للمال، ووزيرًا للشئون الاجتماعية، ووزيرًا للأشغال، إلى غير ذلك، كما كان الخليفة كُل شيء، وإنما عَرف نظام التخصيص، وإسناد كُل طائفة من الأعمال إلى وزير، وتعدُّد الوزراء الأندلسُ لا الشرق… وهذا ما جعل الوزير في الشرق واسع السلطان، يحمل كُل المسئوليات. ••• وبجانب الوزير والخليفة، كان هناك مجلس استشاري، يتألف من الوزير وبعض العائلة المالكة، وهذا المجلس يُستشار في المسائل العامة الكبيرة؛ كإيرادات الدولة ومصروفاتها، وتعيين كبار الموظفين وعزلهم، ومِن الأسف أنْ ليس لدينا تفصيل كبير عن عدد أعضاء هذا المجلس، ولكنا نعلم أنه مجلس استشاري، للخليفة والوزير أن يأخذا برأيه أو يخالفاه، لا كما كان نظام الشورى في عهْد النبي ﷺ والخلفاء الراشدين، ولا كما كان مجلس الشورى في الأندلس؛ إذ كان له من السلطان ما يستطيع به أنْ يقضي على الخليفة ويُلزمه بحُكمه.
وبجانب ذلك كان صاحب البريد، وكان ذا شأن عظيم في الدولة؛ فهو بطبيعة عمَله يجمع الأخبار مِن كُل قُطر بواسطة أتباعه، ويتجسس بواسطتهم على مَن بِيَدِهم السلطة، وإذا كانت هنالك مؤامرة أو دسيسة، أو حضٌّ على الثورة أخبر بها الخليفة سريعًا، وكانت إدارة البريد منظمةً تنظيمًا دقيقًا، وإذا استطاع الخليفة أَنْ يحْجب كُل إنسان فلا يصح له أنْ يحجب صاحب البريد؛ لأن تأخير ساعة واحدة ليلًا أو نهارًا قد يجعل الأمر الخفيف مستفحلًا، ويجعل ما كان يُتغلب عليه باليسير لا يُتغلب عليه بالكثير، وكان مِن شأن صاحب البريد التجسس في الداخل وفي الخارج جميعًا، ومِن المتجسسين رجال ونساء، ومنهم تجار متخفون، وغيْر تجار، مما يشبه ما عليه الأمم الغربية في هذا العصر.
توزيع الأمراء وهناك أمير على كُل قُطر ينوب عن الخليفة؛ يَضرب الضَّرائب، ويُحَصِّل الأموال، ويَصرف مما تحصَّل على الإصلاحات العامة، وما بقي منها يرسله إلى الخليفة في بغداد، وقد بلغ ما دخل خزانة الخليفة كُل سَنة في عهْد الرشيد حوالي ٤١١ مليون دينار، وكانت الإمارات في عهْد الرشيد تتألف مِن الجزيرة، وأذربيجان، وأرمينيا، ومكة، والمدينة، واليمامة، واليمن، والكوفة، والبصرة، والبحرين، والسواد، وعُمان، وعراق العجم، وخراسان، وما وراء النهر، والبنجاب، والسِّند، والأهواز، وجنوبي فارس، والموصل، والشام، ومصر، وعلى كُل إمارة مِن هذه الإمارات أمير يتولى أمورها، وهو مسئول عن شئونها المادية والروحية أمام الخليفة، وإذا حصلت ثورة أُخبر الخليفة، وكان عليه أنْ يُخْمدها.
وبجانب ذلك أيضًا كان أستاذ الدار —أو كما يقال مختصرا الأستاذ— أو كما يسمى اليوم: ناظر القصر، وهو يقُوم بكُل شأن مِن شئون الدار، ومراعاة زواره، وما يأمر به الخليفة مِنْ تنظيم حفلات كما يقوم على طعام الخليفة وشرابه، وطعام حاشيته وشرابها، إلى غير ذلك.
ثُم كان ديوان الرسائل يتولى تدوين توقيعات الخليفة، وإعداد المراسيم، وما يصدر عن الخليفة، وما يَرِدُ إليه.
وكان بكُل مدينة شُرطة يحملون ألقابًا عسكريةً خاصةً… ثم كان المحتسب الذي يشرف على كثير مِن الشئون الاجتماعية؛ فيؤدب السِّكير، والمطفف في الكيل والميزان، ومَن احترف حِرْفة ليس أهلًا لها، ويستوثق من صلاحية السلع التي تباع، وعدم بهرجة النساء، ونحو ذلك. ================================= |
|