صُوَرٌ مِنْ مِحَنِ العُلَمَاء

إنَّنا أمَّة لا مَثِيل لها، أمَّة الرِّجال والأبطال على مَرِّ التاريخ، ولكلِّ حقبة من الزَّمان رجالُها الذين قامُوا بتلك الشَّريعة؛ علمًا بأحكامها، وعمَلاً بما علِمُوه، ودعوة لما تعلَّموه وعمِلُوا به، فرَفَع الله بهم هذا الدِّين، وأعزَّ بهم المسلمين، وحَفِظَ بهم هذه الشريعة الغرَّاء من كلِّ مفتونٍ مُضِلٍّ.
 
ولا تحسبنَّ أنَّ هؤلاء الأكابِر وصَلُوا لما وصَلُوا إليه براحَة الجسَد، أو بالخمول والدَّعَة، بل بشِقِّ الأنفُس، ومُجاهَدة وصبْر، وترْك كلِّ عزيزٍ وغالٍ في سبيل إعلاء مَنار هذا الدِّين، فكان دِينُ أحدِهم أغلى عليه من ولَدِه ووالِدِه والناس أجمَعِين، بل أعزّ عليه من نفسه التي بين جنبَيْه، وبعدما وصَلُوا إلى ما وصَلُوا إليه من تلك المكانة الرَّفيعَة إذا بهم يُفتَنون ويُعرَضون على مِسبار الاختِبار الحقيقي الذي يُبيِّن نقيَّ المعادِن من رَدِيئها؛ قال -تعالى-: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2 - 3].

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ من أشدِّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يَلُونَهم» [1]، فثبَّتهم الله أمامَ تلك المِحَن، وتوفَّاهم وهو عنهم راضٍ، فرَحِمهم اللهُ ورَضِي عنهم، وحشَرَنا معهم يوم القِيامَة، وجعَلَنا معهم في جنَّات النَّعيم.

ومعلومٌ مدى أهميَّة الوُقُوف على سِيَر هؤلاء ومَواقِفهم ومِحَنهم، وما تعرَّضوا له من شَدائِد وابتِلاءات؛ حتى نقف ونتعرَّف على أقدار هؤلاء الأئمَّة، ومِقدار ما بذَلُوه في سبيل دينِهم، وكذا حتَّى نَسِير على درْبهم مُقتَدِين بهم، مُنتَهِجين نهجَهم على بصيرةٍ من أمرِنا، حتى نموتَ على ما ماتُوا عليه، مُتَمسِّكين بحبْل دينِنا القَوِيم على هدْي سيِّد المرسَلين - صلَّى الله عليه وسلَّم.

وبين يدَيْك - أخي القارئ - جمعٌ من صور لابتِلاءات واختِبارات ومِحَن لبعض أكابر أئمَّة هذا الدِّين، الذين ابتُلُوا في سبيل الله، فصبَرُوا على ما أُوذُوا، وما فرَّطوا وما بدَّلوا حتى أتاهم نصرُ الله وهم على ذلك، ولم أراعِ في هذا الجمع الاستِقصَاء؛ إنما هو الانتِقَاء والاختِيَار.

1 - سعيد بن المسيب:
عن عبدالله بن جعفر وغيره قالوا: إنَّ عبدالعزيز بن مَرْوان تُوُفِّي بمصر سنة أربعٍ وثمانين، فعقد عبدالملك لابنَيْه (الوليد وسليمان) بالعهد، وكتَب بالبَيْعة لهما إلى البُلدان، وعامِلُه يومئذٍ على المدينة هشامُ بن إسماعيل المخزومي، فدَعَا الناسَ إلى البَيْعة، فبايَعُوا، وأبَى سعيدُ بن المسيب أنْ يُبايِع لهما وقال: حتى أنظُر، فضرَبَه هشامٌ ستِّين سَوْطًا، وطافَ به في تُبَّان من شَعر، حتى بلَغ به رأس الثنيَّة، فلمَّا كرُّوا به قال: أين تكرُّون بي؟ قالوا: إلى السجن، فقال: والله لولا أنِّي ظنَنتُه الصلب ما لبست هذا التُّبَّان أبدًا، فرَدُّوه إلى السِّجن، فحبَسَه وكتَب إلى عبدالملك يُخبِره بخِلافِه، فكتَب إليه عبدالملك يَلومُه فيما صنَع به ويقول: سعيدٌ كان والله أحوجَ إلى أنْ تَصِل رحمَه من أنْ تَضرِبَه، وإنَّا لَنعلَمُ ما عنده خِلاف  [2].

وقال أبو يونس القوي: دخَلتُ مسجدَ المدينة، فإذا سعيد بن المسيب جالسٌ وحدَه، فقلت: ما شأنُه؟ قيل: نُهِي أنْ يُجالِسَه أحدٌ [3].

وقال قتادة: كان ابن المسيب إذا أراد أحدٌ أنْ يُجالِسَه قال: إنهم قد جلَدُوني، ومنَعُوا الناس أنْ يُجالِسوني  [4].

2 - محنة الإمام سعيد بن جُبَير:
خرَج سعيد بن جُبَير مع ابن الأشعَثِ على الحجَّاج، ثم إنَّه اختَفَى وتنقَّل في النَّواحِي اثنتي عشرة سنة، ثم وقَعُوا به، فأحضَرُوه إلى الحجَّاج، فقال: يا شقيَّ بن كُسَير - يعني: ما أنت سعيد بن جُبَير - أمَا قدمت الكوفة وليس يؤمُّ بها إلاَّ عربيٌّ فجعلتُك إمامًا؟! قال: بلى، قال: أمَا وليتُك القَضاءَ، فضجَّ أهلُ الكوفة وقالوا: لا يَصلُح للقَضاءِ إلاَّ عربيٌّ، فاستَقضَيْت أبا بردة بن أبي موسى وأمَرتُه ألاَّ يَقطَع أمرًا دونَك؟! قال: بلى، قال: أمَا جَعلتُك في سُمَّارِي، وكلُّهم رؤوسُ العرب؟! قال: بلى، قال: أمَا أعطَيْتُك مائة ألف تُفرِّقها على أهل الحاجة؟! قال: بلى، قال: فما أخرَجَك عليَّ؟! قال: بَيْعةٌ كانَتْ في عنقي لابن الأشعَث، فغَضِبَ الحجاج وقال: أمَا كانتْ بَيْعة أمير المؤمنين في عُنقِك من قبلُ؟! يا حرسي، اضرب عنقه، فضرب عنقه - رحمه الله [5].

قال سالم بن أبي حفصة: "لَمَّا أُتِي الحجَّاج بسعيد بن جُبَير، قال: أنا سعيد بن جُبَير، قال: أنت شَقِيُّ بن كُسَير، لأقتلنَّك، قال: فإذا أنا كما سمَّتني أمِّي، ثم قال: دَعُوني أُصَلِّ ركعتَيْن، قال: وجِّهوه إلى قبلة النَّصارَى، قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، وقال: إنِّي أستعيذُ منك بما عاذَتْ به مريم، قال: وما عاذَتْ به؟ قال: قالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18]" [6].

قال الذهبي: ولَمَّا عَلِمَ من فضْل الشهادة ثبَت للقتْل ولم يكتَرِث، ولا عامَل عدوَّه بالتقيَّة المباحَة له - رحمه الله تعالى [7].

3 - محنة الإمام أبي حنيفة النُّعمان بن ثابت:
إنَّ الابتِلاء والاختِبار لا يَكون بالضرَّاء وشظف العَيْش فحسب، إنما يكون أيضًا بالسرَّاء وفتنَة الدُّنيا وبهارِجها، فهذا الإمام أبو حنيفة النُّعمان، إمام المذهب الحنفي، والذي تعرَّض لفتنةٍ شديدة؛ روى يحيى بن عبدالحميد عن أبيه قال: كان أبو حنيفة يَخرُج كلَّ يومٍ - أو قال: بين الأيَّام - فيُضرَب ليدخل في القَضاء فيأبى، ولقد بكَى في بعض الأيَّام، فلمَّا أُطلِق قال لي: كان غمُّ والدتي أشدَّ عليَّ من الضَّرب [8].

قال بشر بن الوليد: طلَب المنصور أبا حنيفة فأرادَه على القضاء، وحلَف ليلينَّ، فأبَى وحلَف: إنِّي لا أفعل، فقال الربيع الحاجب: ترى أمير المؤمنين يحلف وأنت تحلف! قال: أميرُ المؤمنين على كفَّارة يمينِه أقدَرُ مِنِّي، فأمَر به إلى السجن، فمات فيه ببغداد [9].

4 - محنة الإمام سفيان الثوري:
قال عَطاء بن مسلم: لَمَّا استُخلِف المهدي بعَث إلى سفيان، فلمَّا دخَل خلَع خاتمه فرمَى به إليه وقال: يا أبا عبدالله، هذا خاتمي فاعمَل في هذه الأمَّة بالكتاب والسنَّة، فأخَذ الخاتم بيده وقال: تأذَنْ في الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال عبيد: قلت لعَطاء: يا أبا مخلد، قال له: يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قال: أتكلَّم على أنِّي آمن؟ قال: نعم، قال: لا تبعَثْ إليَّ حتى آتِيَك، ولا تُعطِني شيئًا حتى أسأَلَك، قال وغضب من ذلك وهَمَّ به، فقال له كاتِبُه: أليس قد أمنتَه يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى، فلمَّا خرَج حفَّ به أصحابُه فقالوا: ما منَعَك يا أبا عبدالله وقد أمَرَك أنْ تَعمَل في هذه الأمَّة بالكتاب والسنَّة؟ قال: فاستَصغَر عقولهم، ثم خرَج هارِبًا إلى البصرة [10].

قال ابن سعد: وطلب سفيان فخرَج إلى مكَّة، فكتب المهدي أمير المؤمنين إلى محمد بن إبراهيم وهو على مكة يَطلُبه، فبعَث محمَّد إلى سفيان فأعلَمَه ذلك، وقال: إنْ كنت تُرِيد إتيان القوم فاظهَر حتى أبعَثَ بك إليهم، وإنْ كنتَ لا تُرِيد ذلك فتَوارَ، قال: فتَوارَى سفيان، وطلَبَه محمد بن إبراهيم وأمَر مُنادِيًا فنَادَى بمكَّة: مَن جاء بسفيان فله كذا وكذا، فلم يزل مُتَوارِيًا بمكَّة لا يَظهَر إلاَّ لأهْل العلم ومَن لا يخافُه.

فلمَّا خافَ سفيان بمكَّة من الطَّلَب خرَج إلى البصرة فقَدِمَها فنَزَل قربَ يحيى بن سعيد القطَّان، فقال لبعض أهل الدار: أما قربكم أحدٌ من أصحاب الحديث؟ قالوا: بلى، يحيى بن سعيد، قال: جِئنِي به، فأتاه به فقال: أنا هاهنا منذ ستَّة أيام أو سبعة، فحوَّلَه يحيى إلى جواره وفتَح بينه وبينه بابًا، وكان يأتيه بمحدِّثي أهل البصرة يُسلِّمون عليه ويَسمَعون منه، فكان فيمَن أتاه جرير بن حازم، والمُبارَك بن فَضالَة، وحمَّاد بن سلمة، ومرحوم العطَّار، وحمَّاد بن زيد وغيرهم، وأتاه عبدالرحمن بن مهدي ولزمه فكان يحيى وعبدالرحمن يَكتُبان عنه تلك الأيَّام، وكَلَّمَا أبا عَوانة أنْ يأتيه فأبى وقال: رجلٌ لا يعرفني كيف آتِيه؟ وذاك أنَّ أبا عَوانَة سلَّم عليه بمكَّة فلم يردَّ عليه سُفيان السلامَ، وكلّم في ذلك فقال: لا أعرفه، ولَمَّا تخوَّف سفيان أنْ يشهر بمقامه بالبصرة قرب يحيى بن سعيد، قال له: حوِّلني من هذا الموضع، فحوَّلَه إلى منزل الهيثم بن منصور الأعرجي من بني سعد بن زيد مَناة بن تميم، فلم يزل فيهم، فكلَّمَه حماد بن زيد في تنحِّيه عن السلطان وقال: هذا فعلُ أهل البِدَع وما تخاف منهم، فأجمع سفيان وحمَّاد بن زيد على أنْ يقدما بغداد [11].

5 - محنة الإمام مالك بن أنس:
قال الإمام الذهبي: قال محمَّد بن جرير: كان مالكٌ قد ضُرِب بالسِّيَاط، واختُلِف في سبب ذلك؛ فحدثني العبَّاس بن الوليد، حدثنا ابن ذَكوان، عن مَروان الطاطري، أنَّ أبا جعفر نهى مالكًا عن الحديث: ((ليس على مُستكرَهٍ طلاقٌ))، ثم دَسَّ إليه مَن يسأَلُه، فحدَّثَه به على رؤوس الناس، فضرَبَه بالسِّياط [12].

قال أبو نعيم: حدثنا أحمد بن إسحاق، ثنا أبو بكر بن محمد بن أحمد بن راشد قال: سمعت أبا داود يقول: ضرب جعفر بن سليمان مالك بن أنس في طلاق المُكرَه، وحكى لي بعضُ أصحاب ابنِ وهْبٍ عن ابن وهْب أنَّ مالِكًا لَمَّا ضُرِبَ حُلِق وحُمِل على بعيرٍ، فقيل له: نادِ على نفسك، قال: فقال: ألاَ مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي، وأنا أقول: طلاق المُكرَه ليس بشيءٍ، قال: فبلغ جعفر بن سليمان أنَّه يُنادِي على نفسه بذلك، فقال: أَدرِكُوه، أَنزِلوه [13].

قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر قال: لَمَّا دُعِي مالك بن أنس وشُوور وسُمِع منه وقُبِل قوله، شنف الناس له، وحسَدوه وبغوه بكلِّ شيءٍ، فلمَّا ولي جعفر بن سليمان على المدينة سعَوْا به إليه، وكثروا عليه عنده وقالوا: لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيءٍ، وهو يأخُذ بحديثٍ رواه عن ثابت الأحنف في طلاق المُكرَه أنَّه لا يجوز، فغضب جعفر بن سليمان فدَعَا بمالك، فاحتجَّ عليه بما رقي إليه عنه، ثم جرَّده ومدَّه وضرَبَه بالسِّياط، ومدَّت يده حتى انخَلَع كَتِفَاه وارتُكِب منه أمرٌ عظيم، فوالله ما زال بعد ذلك الضربِ في رفعةٍ عند الناس، وعلوٍّ من أمره، وإعظام الناس له، وكأنما كانت تلك السِّياط التي ضربها حُلِيًّا حُلِّي بها [14].

وعقَّب الإمامُ الذهبيُّ بعد نقْل تلك القصة قائلاً: هذا ثمرة المحنة المحمودة؛ أنها تَرفَع العبد عند المؤمنين، وبكلِّ حالٍ فهي بما كسَبَتْ أيدينا، ويعفو الله عن كثيرٍ، ((ومَن يُرِد الله به خيرًا، يُصِب منه))، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كلُّ قَضاء المؤمن خيرٌ له»، وقال الله -تعالى-: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ}﴾ [محمد: 31]، وأنزَلَ -تعالى- في وقعة أُحُدٍ قوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].

وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

فالمؤمن إذا امتُحِن صبَر واتَّعَظ، واستَغفَر ولم يَتشاغَل بذمِّ مَن انتَقَم منه، فالله حكمٌ مُقسط، ثم يحمَد الله على سَلامَة دينِه، ويعلم أنَّ عقوبة الدنيا أهوَنُ وخيرٌ له [15].

6 - محنة الإمام أحمد بن حنبل:
الإمام أحمد، وما أدْراك ما الإمام أحمَد؟! رجل من طِرازٍ فَريدٍ، ومَعدِن نَفِيس، يقول عليُّ بن المَدِيني: أعزَّ اللهُ الدِّينَ بالصِّدِّيق يومَ الرِّدَّة، وبأحمدَ يومَ المِحنَة [16].

ومِحنَة الإمام أحمد فيها من الأهوال والعَظائِم ما تقشعرُّ لها الجُلُود، ولكنْ حسبُنا منها خُيوطُها العامَّة التي تُعرِّفنا بِالمَلامِح العامَّة لهذه المِحنَة.

في عام (218هـ) وبسبب شِرذِمَة هَلكَى من ضُلاَّل المعتَزِلة يرأَسُهم أحمد بن أبي دؤاد، ظهَرت بدعة القول بخلْق القرآن، واستَطاعوا أنْ يُلبِّسوا على الخَلِيفَة بهذا القول حتى اعتَقدَه، فكتَب الخليفة المأمون إلى نائِبِه ببغداد إسحاق بن إبراهيم يأمُرُه أنْ يَمتَحِن القُضاةَ والمحدِّثين بالقَوْل بخلق القرآن، وأمَرَه بأنَّ مَن أجابَ منهم شهر أمره في النَّاس، ومَن لم يُجِب منهم أنْ يبعَثَه إلى عسكر أمير المؤمِنين يَرسُف في أغلالِه، حتى يصل إلى أمير المؤمِنين فيَرَى فيه رأيَه، فأجابَ أكثَرُهم إلاَّ أربعة؛ وهم: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والحسن بن حمَّاد "سجادة"، وعُبَيدالله بن عمر القَوارِيري، ثم أجابَ سجادة، ثم أجاب القَوارِيري، وأُرسِلَ أحمدُ وابن نوح إلى الخليفة، فسارَا مقيَّدين في مَحمَل على جملٍ، وفي الطريق جعَل الإمام أحمد يدعو الله - عزَّ وجلَّ - ألاَّ يَجمَع بينهما وبين المأمون، وألاَّ يَرَياه ولا يَرَاهُما، فلمَّا كانوا ببعض الطريق بلَغَهم موتُ المأمون، فعادوا إلى بغداد.

فلمَّا كانَا ببلاد الرحبة جاءَهما رجلٌ من الأعراب من عُبَّادِهم يُدعَى جابر بن عامر، فسلَّم على الإمام أحمد وقال له: يا هذا، إنَّك وافِد الناس، فلا تكن شُؤمًا عليهم، وإنَّك رأس الناس اليومَ فإيَّاك أنْ تجيبَهم إلى ما يَدعُونك إليه فيُجِيبوا فتَحمِل أَوْزارَهم يومَ القِيامة، وإنْ كنتَ تحبُّ الله فاصبِر على ما أنت فيه، فإنَّه ما بينك وبين الجنَّة إلاَّ أنْ تُقتَل، وإنَّك إنْ لم تُقتَل تَمُتْ، وإنْ عِشتَ عِشتَ حميدًا، قال أحمد: وكان كلامُه ممَّا قوَّى عزمي على ما أنا فيه من الامتِناع من ذلك الذي يدعونني إليه.

ثم جاء الخبر بأنَّ المعتصم قد ولي الخلافة، وقد انضَمَّ إليه ابنُ أبي دُؤاد، ومات محمدُ بن نوح في الطريق إلى بغداد، فلمَّا رجَع الإمام أحمد إلى بغداد دخَلَها في رمضان، فأُودِع السجن نحوًا من ثمانية وعشرين شهرًا، وقيل: نيفًا وثلاثين شهرًا، ثم أُخرِج بين يدي المعتصم...

قال صالح ابن الإمام أحمد: فمكَث أبي في السجن نحوًا من ثلاثين شهرًا، فكنَّا نأتيه، وقرأ عليَّ كتاب "الإرجاء" وغيره في الحبس، فرأيتُه يصلِّي بأهل الحبس وعليه القيد، فكان يخرج رجلَه من حلقة القيد وقت الصلاة والنوم.

قال الإمام أحمد: حتى جِئنا دارَ المعتَصِم، فأُدخِلتُ في بيتٍ وأُغلِق عليَّ وليس عندي سِراج، فأرَدتُ الوضوءَ فمدَدتُ يدي، فإذا إناءٌ فيه ماءٌ فتوضَّأت منه، ثم قمتُ ولا أَعرِف القِبلَة فلمَّا أصبحتُ إذا أنا على القبلة - والحمد لله - ثم دُعِيت...

فأُدخِلت على المعتصم، فلمَّا نظر إلَيَّ وعنده ابنُ أبي دُؤاد، قال: أليس قد زعمتُم أنَّه حدَث السنِّ، وهذا شيخ كهل؟ فلمَّا دنَوْت منه وسلَّمتُ قال لي: ادنُه، فلم يزَلْ يُدنِيني حتى قربت منه، ثم قال: اجلس، فجلَستُ وقد أثقَلنِي الحديد، فمكثتُ ساعةً ثم قلت: يا أمير المؤمنين، إلى ما دعا إليه ابنُ عمِّك رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قلت: فإنِّي أشهد أن لا إله إلاَّ الله، قال: ثم ذكرتُ له حديثَ ابنِ عبَّاس في وفْد عبدالقيس، ثم قلت: فهذا الذي دعَا إليه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ثم تكلَّم ابنُ أبي دُؤَاد بكلامٍ لم أفهَمْه؛ وذلك أنِّي لم أتفقَّه كلامَه، ثم قال المعتصم: لولا أنَّك كنت في يد مَن قبلي لم أتعرَّض إليك، ثم قال: يا عبدالرحمن، ألَمْ آمُرك أنْ ترفع المحنة؟ قال أحمد: فقلت: الله أكبر، هذا فرَج المسلمين، ثم قال: ناظِرْه يا عبدالرحمن، كلِّمْه، فقال لي عبدالرحمن: ما تقول في القرآن؟ فلم أُجِبه، فقال المعتصم: أَجِبْه، فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكَتَ، فقلت: القرآن من عِلمِ الله، ومَن زعَم أنَّ عِلمَ الله مخلوقٌ فقد كفَر بالله، فسكَتَ.

فقالوا فيما بينهم: يا أميرَ المؤمنين، كفَّرَك وكفَّرَنا، فلم يلتَفِت إلى ذلك، فقال عبدالرحمن: كان الله ولا قُرآن، فقلت: كان الله ولا عِلم؟ فسكَتَ، فجعَلُوا يتكلَّمون من هاهنا وهاهنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنَّة رسولِه حتى أقول به، فقال ابن أبي دُؤاد: وأنت لا تقول إلاَّ بهذا وهذا؟!

فقلت: وهل يقوم الإسلام إلاَّ بهما؟! وجَرَتْ مُناظَرات طويلة، واحتجُّوا عليه بقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]، وبقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وأجابَ بما حاصِلُه أنَّه عامٌّ مخصوصٌ كقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25]، فدمَّرت إلاَّ ما أرادَ الله، وأنَّ الله -تعالى- قال: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1]، فالذكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألف ولام.

وكان يُناظِر من الصَّباح حتى الزَّوال ولا يلحن لشدَّة قلبه وشَجاعته، وكان يعلو صوتُه عليهم، وتغلب حُجَّتُه حُجَجَهم، وكان يُناظِر أكثر من شخصٍ في وقتٍ واحد.

قال الإمام أحمد: فإذا سكَتُوا فتَح الكلام عليهم ابنُ أبي دُؤاد، وكان من أجهَلِهم بالعلم والكلام، وقد تنوَّعت بهم المسائل في المجادَلة، ولا علم لهم بالنَّقل؛ فجعَلُوا يُنكِرون الآثار ويَرُدُّون الاحتِجاج بها، وسمعتُ منهم مقالاتٍ لم أكنْ أظنُّ أنَّ أحدًا يقولها!

وكان يتَلطَّف به الخليفةُ ويقول: يا أحمد، أجِبني إلى هذا؛ حتى أجعَلَك من خاصَّتي وممَّن يطَأ بساطِي، فأقول: يا أمير المؤمنين، يأتوني بآيةٍ من كتاب الله أو سنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أُجِبهم إليها.

واستمرَّت المناظَرة على هذه الحال ثلاثةَ أيَّامٍ كاملة.

قال محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة: سمعتُ شاباص التائب يقول: لقد ضرَبتُ أحمد بن حنبل ثمانين سوطًا، لو ضربته فيلاً لهدته.

ويُروَى أنَّه لَمَّا أُقِيم ليُضرَب انقَطعَتْ تكَّة سَراوِيله، فخشي أنْ يسقُط سروالُه فتنكَشِف عورتُه، فحرَّك شفتَيْه فدَعَا الله، فعاد سروالُه كما كان، ويُروَى أنَّه قال: يا غِياث المُستَغِيثين، يا إله العالمين، إنْ كنتَ تعلَم أنِّي قائمٌ لك بحقٍّ، فلا تهتك لي عورةً.

قال الإمام أحمد: فلمَّا كان في الليلة الرابعة، وجَّه - يعني: المعتصم - بِبُغَا الكبير إلى إسحاق، فأمَرَه بحملي إليه، فأُدخِلت على إسحاق، فقال: يا أحمد، إنها والله نفسك، إنَّه لا يقتلك بالسيف، إنَّه قد آلَى إنْ لم تُجِبْه أنْ يَضرِبَك ضربًا بعد ضرْب، وأنْ يقتُلَك في موضعٍ لا يُرَى فيه شمسٌ ولا قمر.

وقال الإمام أحمد: فقال لي رجلٌ ممَّن حضَر: كببناك على وجهِك، وطرَحنا على ظهْرك بارية ودُسنَاك!

قال الإمام أحمد: فما شعرت بذلك، وأتوني بسويق، وقالوا: اشرب وتقيَّأ، فقلت: لا أفطر، ولَمَّا ضُرِبت بالسِّياط، جعَلتُ أذكُر كلامَ الأعرابي، ثم جاء ذاك الطويل اللحية - يعني: عجيفًا - فضربَنِي بقائم السيف، ثم جاء ذاك، فقلت: قد جاء الفرج، يضرب عنقي فأستَرِيح، فقال له ابن سماعة: يا أمير المؤمنين، اضرب عنقَه ودمُه في رقبَتِي، فقال ابن أبي دُؤاد: لا، يا أمير المؤمنين، لا تفعَل؛ فإنَّه إنْ قُتِل أو مات في دارك، قال الناس: صبَر حتى قُتِل، فاتَّخَذَه الناسُ إمامًا، وثبَتُوا على ما هم عليه، ولكن أطلقه الساعة، فإنْ مات خارجًا من منزلك شكَّ الناس في أمره، وقال بعضُهم: أجاب، وقال بعضهم: لم يُجب، فقال الطفاوي: وما عليك لو قلت؟ قال أبو عبدالله: لو قلتُ لكفرتُ.

وبه قال ابن أبي حاتم: سمعتُ أبا زرعة يقول: دعا المعتصمُ أحمدَ، ثم قال للناس: تَعرِفونه؟ قالوا: نعم، هو أحمد بن حنبل، قال: فانظُروا إليه، أليس هو صحيح البدن؟ قالوا: نعم، ولولا أنَّه فعل ذلك لكنتُ أخافُ أنْ يقَع شيءٌ لا يُقام له.

قال: ولَمَّا قال: قد سلَّمتُه إليكم صحيحَ البدن، هدَأ الناس وسكَنُوا.

وقال حنبَل: فأُخرِج على فرسٍ لإسحاق بن إبراهيم عند غُروب الشمس، فصار إلى منزله، ومعه السلطان والناس، وهو منحنٍ، فلمَّا ذهَب لينزل احتَضَنتُه ولم أعلَمْ، فوقعَتْ يدي على مَوضِع الضرب، فصاحَ فنحَّيْتُ يدي، فنزل مُتَوَكِّئًا عليَّ، وأغلَق الباب ودخَلنا معه، ورمَى بنفسه على وجهِه لا يقدر أنْ يتحرَّك إلاَّ بجهد.

وقال صالح: صار أبي إلى المنزل، ووُجِّه إليه من السَّحَر مَن يُبصِر الضرب والجِراحات ويُعالِج منها، فنظر إليه وقال: أنا والله لقد رأيتُ مَن ضُرِب ألفَ سَوْطٍ، ما رأيتُ ضربًا أشدَّ من هذا، لقد جرَّ عليه من خلفه ومن قدَّامه، ثم أُدخِل ميلاً في بعض تلك الجِراحات وقال: لم ينضب، فجعل يَأتِيه ويُعالِجه، وكان قد أصابَ وجهَه غيرُ ضربةٍ ثم مكَث يُعالِجه ما شاء الله، ثم قال: إنَّ هاهنا شيئًا أريد أنْ أقطَعَه، فجاء بحديدةٍ، فجعل يُعلِّق اللحم بها ويَقطَعُه بسكِّين، وهو صابِرٌ -بحمد الله- فبَرَأ، ولم يزَل يتوجَّع من مَواضِع منه، وكان أثَر الضرب بيِّنًا في ظهره إلى أنْ تُوُفِّي.

ثم هلَك الواثق وتولَّى المتوكِّل، ففرَّج الله به على الإمام أحمد الكرْب، وعادَ الإمام إلى دَرْسِه، وأذهَبَ الله بهذا الخليفة حَرَّ هذه الفِتنة عن المسلمين، وأطفأ نارها إلى الأبد - إنْ شاء الله.

وبعدَ أنْ شَفاه الله قال صالح بن أحمد: وسمعتُ أبي يقول: لقد جعلتُ الميت في حلٍّ من ضربِه إيَّاي، ثم قال: مررتُ بهذه الآية: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، فنظَرتُ في تفسيرها فإذا هو ما أخبرنا هاشم بن القاسم، أخبرنا المبارَك بن فضالة، قال: أخبرني مَن سمع الحسن يقول: إذا كان يومُ القيامة، جثَت الأُمَم كلُّها بين يدي الله ربِّ العالمين، ثم نُودِي ألاَّ يقوم إلاَّ مَن أجرُه على الله، فلا يقوم إلاَّ مَن عفَا في الدنيا، قال: فجعَلتُ الميت في حِلٍّ.

ثم قال: وما على رجلٍ ألاَّ يُعذِّب الله بسببه أحدًا [17].

7 - محنة الإمام محمد بن إسماعيل البخاري:
قال الخطيب البغدادي: أخبرني الحسن بن محمد الأشقر، قال: أنبأنا محمد بن أبي بكر الحافظ، قال: سمعت أبا عمرو أحمد بن محمد بن عمر المقرئ يقول: سمعت أبا سعيدٍ بكر بن منير بن خليد بن عسكر يقول: بعَثَ الأميرُ خالد بن أحمد الذُّهلي والِي بُخارَى إلى محمد بن إسماعيل: أنِ احمل إلَيَّ كتاب "الجامع" و"التاريخ" وغيرهما لأسمع منك، فقال محمد بن إسماعيل لرسوله: أنا لا أذلُّ العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإنْ كانت لك إلى شيءٍ منه حاجة، فاحضرني في مسجدي أو في داري، وإنْ لم يعجبك هذا، فأنت سلطان فامنعني من الجلوس ليكون لي عذرٌ عند الله يوم القيامة؛ لأنِّي لا أكتم العلم؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سُئِل عن علمٍ فكتَمَه أُلجِمَ بلِجامٍ من نارٍ»، قال: فكان سبب الوحشة بينهما [18].

وقال الخطيب أيضًا: أخبرني الحسن بن محمد الأشقر، قال: أنبأنا محمد بن أبي بكر الحافظ، قال: سمعت أبا عمرو أحمد بن محمد بن عمر المقرئ يقول: سمعت أبا سعيدٍ بكر بن منير بن خليد بن عسكر يقول: كان سبب مُفارَقة أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري البلدَ -يعني: بُخارَى- أنَّ خالد بن أحمد الذُّهلي الأمير خليفة الظاهريَّة ببُخارَى، سأله أنْ يحضر منزله فيقرأ "الجامع" و"التاريخ" على أولاده، فامتَنَع أبو عبدالله عن الحضور عنده، فراسَلَه أنْ يعقد مجلسًا لأولاده لا يحضُره غيرُهم، فامتَنَع عن ذلك أيضًا وقال: لا يسعني أنْ أخُصَّ بالسَّماع قومًا دون قوم، فاستَعان خالد بن أحمد بحريث بن أبي الورقاء وغيره من أهل العلم ببُخارَى عليه، حتى تكلَّموا في مذهَبِه ونَفاه عن البلد، فدَعَا عليهم أبو عبدالله محمد بن إسماعيل فقال: اللهم أَرِهِم ما قصَدُوني به في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم؛ فأمَّا خالد فلم يأتِ عليه ألاَّ أقلُّ من شهرٍ حتى ورَد أمر الظاهريَّة بأنْ يُنادَى عليه، فنُودِي عليه وهو على أتان وأشخص على إكافٍ، ثم صارَ عاقبة أمرِه إلى ما قد اشتَهَر وشاعَ، وأمَّا حريث بن أبي الورقاء فإنَّه ابتُلِي بأهله، فرأى فيها ما يجلُّ عن الوصْف، وأمَّا فلان أحد القوم -وسمَّاه- فإنَّه ابتُلِي بأولاده وأراه الله فيهم البلايا [19].

وقال: قال ابن عدي: سمعت عبدالقدوس بن عبدالجبار السمرقندي يقول: جاء محمد بن إسماعيل إلى خرتنك -قرية على فرسخَيْن من سمرقند- وكان له بها أقرباء، فنزَل عندهم، فسمعتُه ليلةً يدعو، وقد فرَغ من صَلاة الليل: اللهم إنَّه قد ضاقَتْ عليَّ الأرض بما رحبَتْ، فاقبِضني إليكَ، فما تَمَّ الشهر حتى مات [20].

8 - محنة شيخ الإسلام ابن تيميَّة:
تُعتَبر محنة شيخِ الإسلام ابن تيميَّة محنةً من نوْعٍ خاص؛ حيث إنَّه -رحمه الله- كانت حياتُه كلُّها محنةً مستمرَّة؛ فقد ظَلَّ ينتَقِل من اختبارٍ لآخَر، ومن سجنٍ لآخَر، ومن بلدٍ لآخَر، من سلطان جائرٍ، لفقيه متعصِّب، لحاسد حاقد؛ وما ذلك إلاَّ لأنَّ الله -سبحانه- أنار عقلَه وقلبَه، فأراد أنْ ينهض بهذه الأمَّة من شِراك البِدَع والمحدَثات، فوقَع له ما وقَع.

ظلَّ شيخُ الإسلام يتفكَّر في أسباب تقَهقُر الأمَّة وكبوتها، فجعَل كلَّ همِّه ينصبُّ في التفكير في الخروج من تلك الحال السيِّئة التي أُصِيبت بها الأمَّة، حتى أكرَمَه الله ووقَف على أسباب ذلك الداء العُضَال الفتَّاك، فراح يُحارِب كلَّ محدَثة، ويقوِّم كلَّ معوجٍّ، ويُناهِض كلَّ مبتدع، وكان -رحمه الله- يحارِب في مختلف الجبهات وعلى كلِّ الأصعِدَة في وقتٍ واحدٍ؛ من أجل تَوحِيد الأمَّة على كلمةٍ سَواء، على العقيدة الصافية والمنهَج الوَسَط الذي خَصَّها الله -تعالى- به، وسنكتَفِي هنا بإيراد ثلاثة أمثِلَة للابتِلاءات والمِحَن التي وقَع فيها -رحمه الله- وكيف نجَّاه الله منها - سبحانه.

في السبت التاسع من جُمادَى الأولى سنة خمسٍ وسبعمائة اشتَكَت الصوفيَّة الأحمديَّة إلى أمير دمشق الأفرم من شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ لكثْرة إنْكاره لبِدَعِهم، فما كان من الوالي إلاَّ أنَّه أمَر بإحضار الشيخ إلى قصره، وطلَب منه أنْ يخفَّ وطأتَه عليهم، وألاَّ يشتدَّ في النَّكِير عليهم، ولكنَّه رفَض بشدَّة وقال بعِزَّة العالِم العامِل: "هذا ما يُمكِن، ولا بُدَّ لكلِّ أحدٍ أنْ يدخُل تحت الكتاب والسنَّة قولاً وعمَلاً، ومَن خرَج عنهما وجَب الإنكارُ عليه"، فأرادَت الأحمديَّة استِخدَام حيلهم المعروفة من اللعب بالحيَّات ودخول النِّيران؛ من أجْل إقناع الوالي والحاضِرين بصحَّة أفعالهم، فأبطَلَ شيخُ الإسلام هذه الحِيَل، وخرَج من هذه المُناظَرة منصورًا مظفرًا، وقد ألزمت الصوفيَّة الأحمديَّة بترْك أحوالهم البدعيَّة وكُتِب محضرٌ بذلك [21].

وفي السنة نفسها اجتَمَع عُلَماء الأشاعرة وفُقَهاؤهم وقُضَاتهم عن بكْرة أبيهم عند أمير دمشق، وطلَبُوا من ابن تيميَّة الحضورَ لمناظَرته في كتابه "العقيدة الواسطيَّة"، وعقَدُوا له ثلاثةَ مجالس للمُناظَرة، استَطاع خلالَها ابنُ تيميَّة أنْ يظهَر عليهم بالحجَّة والبُرهان؛ حتى ألزَمَهم بتقرير صحَّة ما جاء في "الواسطيَّة"، وقد أدَّى ذلك لتَشوِيشٍ كبيرٍ في دمشق، واستَشاط الأشاعِرة غيظًا وغضبًا وأخَذُوا في الاعتِداء على تَلامِيذ ابن تيميَّة، ومنَعُوا الحافظ جمال الدين المزِّي من التَّحديث بالجامع وحبَسُوه.

وفيها أيضًا تكاتَبَ أشاعِرة الشام مع أشاعِرة مصر؛ للضَّغط على السلطان من أجْل نفْي ابن تيميَّة من الشام إلى مصر ومحاكمته هناك، وبالفعل حُمِل ابنُ تيميَّة إلى مصر في رمضان، وعُقِدت له مناظرةٌ مع العُلَماء والفُقَهاء بها، ولم يمكنوه من الدِّفاع عن نفسه أو الكلام أصلاً، وكان زعيمهم ابن مخلوف قاضي المالكيَّة، وكان من أشدِّ خُصوم ابن تيميَّة وحُسَّاده؛ وذلك لقلَّة علمه وكثْرة خطئه في الفتوى، وأيضًا الشيخ الصوفي الضالُّ الحلولي الاتِّحادي نصر المنبجي، وكان صاحِبَ حظوة ووَجاهَة عند أمير مصر بيبرس الجاشَنكِير، وقد انتَهَى الأمر لسجن ابن تيميَّة في القلعة بالقاهرة، ثم وضع بالجب هو وأخوه عبدالله وأخوه الثالث عبدالرحمن، وكتب كتابًا بالحطِّ على الشيخ ابن تيميَّة وعلى عقيدته، وقُرِئ هذا الكتاب في الشام ومصر، وأجبَرُوا الحنابلة على مخالَفته، وحصَلتْ لهم إهانةٌ كبيرةٌ، ومِحنَة عظيمة في سائر البلاد، وعادَت البِدَع للظُّهور بدمشق في أثناء سجن الشيخ بمصر؛ فصُلِّيت الرَّغائب في النِّصف من شعبان سنة سبع وسبعمائة، وأُوقِدت النِّيران كالعادة، وكان ابن تيميَّة قد أبطَلَ ذلك كلَّه منذ عدَّة سنوات، وقد حاوَل بعض العُلَماء إخراج ابن تيميَّة من السجن مُقابِل أنْ يرجع عن بعض الأشياء في عقيدته، ولكنَّ ابنَ تيميَّة رفَض وآثَر السجن على التنازُل عمَّا يعتَقِد، وقد ظَلَّ الشيخ في سجنه قرابة العامَيْن، ثم خرَج بشفاعة الأمير حسام الدين مهنا ملك العرب، وظلَّ مُقِيمًا بالقاهرة.

هكذا مَضَتْ سنَّة الله في ابتِلاء عِبادِه الصالِحين من العُلَماء العامِلين، حتى يَمِيزَ الله الخبيثَ من الطيِّب، وقد صبَر هؤلاء العُلَماءُ الأجلاَّء لما تعرَّضوا له من الفِتَن والمِحَن، وما ضَعُفوا وما استَكانُوا، وآوَوْا إلى ركنٍ شديدٍ؛ فنجَّاهم الله ممَّا ابتَلاهُم به، ورفَع قدرَهم في الدُّنيا، وجعَل لهم الذِّكر الحسن إلى يوم الناس هذا، ويجعَلُهم في الآخِرة -بإذن الله- من المقرَّبين.

نسأل الله أنْ يرفَعَ قدرَهم في الدار الآخِرة، وأنْ يجمَعَنا بهم في جنَّات النَّعيم.
=========================================
الهوامش
 [1] "المقصد العلي في زوائد مسند أبي يعلى الموصلي"؛ للهيثمي (1/1461).
 [2] "سير أعلام النبلاء"؛ للذهبي (4/229-230)، "شذرات الذهب"؛ لابن العماد الحنبلي (1/103).
 [3] "الطبقات الكبرى"؛ لابن سعد (5/128)، "سير أعلام النبلاء" (4/232).
 [4] "سير أعلام النبلاء" (4/232).
 [5] "وفيات الأعيان"؛ لابن خلكان (2/373)، "تاريخ الإسلام"؛ للإمام الذهبي (6/367-368).
 [6] "تهذيب الكمال"؛ للحافظ المزِّي (10/368)، "سير أعلام النبلاء" (4/328).
 [7] "سير أعلام النبلاء" (4/340).
 [8] "تاريخ بغداد"؛ للخطيب البغدادي (13/327).
 [9] "سير أعلام النبلاء" (6/401).
 [10] "حلية الأولياء"؛ لأبي نعيم (7/40-41).
 [11] "الطبقات الكبرى"؛ لابن سعد (6/372-373)، بتصرفٍ يسير.
 [12] "سير أعلام النبلاء" (8/79-80)، "وفيات الأعيان"؛ لابن خلكان (4/137).
 [13] "حلية الأولياء" (6/316).
 [14] "الطبقات الكبرى" (القسم المتمم) (ص441-442).
 [15] "سير أعلام النبلاء" (8/81).
 [16] "سير أعلام النبلاء" (11/196).
 [17] انظر تفصيل محنته - رحمه الله - في: "الكامل في التاريخ" (3/180)، "البداية والنهاية" (10/274)، "سيرة الإمام أحمد"؛ لابنه صالح ص78، "تاريخ الإسلام" (18/99)، "سير أعلام النبلاء" (11/243).
 [18] تاريخ بغداد (2/33).
 [19] "تاريخ بغداد" (2/33-34).
 [20] "تاريخ بغداد" (2/24)، "سير أعلام النبلاء" (12/466).
 [21] "البداية والنهاية"؛ لابن كثير (14/41) بتصرُّف يسير.

المصدر:
موقع طريق الإسلام