الوقفة الخامسة: مفهوم العولمة

إن "أدبيات" هذا الموضوع (العولمة) مليئة بصورة مذهلة من الطرح الإيجابي لهذا التوجُّه، كما أن هذه الأدبيات نفسها مليئةٌ كذلك -بالصورة المذهلة نفسِها- من الطرح السلبي لحركة العولمة (1)، ومَن يسعى إلى تعضيد أيٍّ من الرأيين لن يَعْدِم وجود الجدليات المقنعة (2).

لست أريد أن أكون من أولئك الذي ينهجون أحد النهجين؛ إذ إن هناك موقفًا ثالثًا، نُسمِّيه في ثقافتنا موقف "التوقُّف" حتى يتبيَّن الأمر، وتكون هناك قدرة على الموازنة بين ايجابيات التوجه وسلبياته؛ مما يَعني أنه توجُّه لا يخلو من الإيجابيات، كما أنه لا يخلو كذلك من السلبيات (3)، لكن دون المبالغة المفرِطة في هذا التوقُّف؛ إذ إنَّ الأحداث المتتالية بسرعة هذا الزمان لا تسمح بمزيدٍ من التردد بحجة التوقف.

قد يتَّهم بعض المتابعين هذا الموقف المتمثل في "التوقف" أنه مَدْعاة إلى مُضيِّ القطار دون اللَّحاق به، ومع هذا فمَن قال: إن العبرة في ركوب هذا القطار؟! ذلك أنه قطارٌ يمر بعددٍ من الأنفاق، وقد يؤدي إلى نفَق مظلم يصعب الخروج منه، وقد يكون عدم ركوب هذا القطار آمَنَ مِن ركوبه؛ لا سيما مع احتمال توقفه معطوبًا في أي لحظة.

يصعب تتبُّع الوقفات السلبية إزاء العولمة الحديثة، كما يصعب في هذا المجال الضيق تحليلُ بواعث الوقفات السلبية، إلا أن المتتبع لأدبيات العولمة التي ركَّزَت هذه النظرة السلبية يَرى أنها لا تقوم بالضرورة على منطلق التحفُّظ لدوافعَ ثقافية فحسب، بل إن مِن دوافعها عدمَ الرضا عن المد الغربي، وهو المسمَّى بالهيمنة التي جاءت بديلًا للاحتلال الآفل، تلك الهيمنة التي يُراد لها أن تكون بديلًا لما تُنادي به بعضُ التيارات المحلية أو الإقليمية، إلى درجة الدعوة إلى "العولمة المضادَّة" من منطلق فكري، يوحي بالرغبة في تسجيل مواقف ضدَّ وجه فكري آخر قادمٍ من الآخر (4).

لقد أسهم خمسة عشر كاتبًا -في ندوة العولمة والتحولات المجتمعة في الوطن العربي التي عقَدها مركز البحوث العربية والجمعية العربية لعلم الاجتماع في القاهرة 1419هـ/ 1998م- في معالجةٍ متفاوتة للعولمة، وجاءت إسهاماتهم لتصبَّ في هذه النظرة السلبية تجاه العولمة، بالإضافة إلى ما ظهرَت به بعض الأطروحات من أسلوب "جَلْد الذات" (5).

إن هذا المفهوم المضطرب للعولمة، وإن جاء جديدًا في إطلاق المصطلح "العولمة"، إلا أن المعنَيَين بالمفهوم يؤكدون أن العولمة مفهوم قديمٌ قِدَم الحضارات، التي سعَت إلى أن تكون هي المهيمنةَ متى ما وضَح بُروزها وتبنِّيها، وفي هذا يذكر الأستاذ كامل الشريف، الأمين العام السابق للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة رحمه الله أنه "إذا كانت العولمة المعاصرة قد اعتمدت الغزو الثقافيَّ مآخذَ الأسلحة لحماية الغزو السياسي والاقتصادي، وشلِّ القدرات الوطنية عن المقاومة؛ فهو سلاح قديم أيضًا استخدمه الاستعمار القديم على نطاق واسع، وخصوصًا في العالم الإسلامي، فالدولة الشيوعية حرَّمَت دراسة القرآن الكريم، وأغلقَت المدارسَ الدينية، ومنعَت بناء المساجد إلا في الإطار الذي يخدم السياسة الشيوعية، ويفتح لدعايتها مساربَ في العالم الإسلامي" (6).

إذا أقحمنا الاحتلال على أنه أداةٌ من أدوات بسط العولمة القديمة، فلا بد من التعريج على مؤثِّرَين آخرين، ولا يُستهان بأثرهما في هذا المنحى؛ أحدهما التنصير (7)، ويعبَّر عنه أحيانًا بالتبشير، والآخر الاستشراق (8)؛ بصِفتِهما أداتين أُخريَين من أدوات تسويق العولمة، بالمفهوم الواسع لهذا المصطلح (9)، وإن لم يَكونا واضحين في التأثير؛ إذ إنَّ الأول نحَى المنحى التبشيريَّ والثاني نحى منحى البحث العلمي، إلا أنهما سخَّرا مهمَّتهما التنصيريَّة/ التبشيرية، والبحثية العلمية في سبيل هيمنة ثقافة الرجل الأبيض، مُتلبِّسة بالدِّين على غيرها من الثقافات الأخرى، ومن ثَم فإن هناك مَن ينظر إلى العولمة في ثوبها الجديد على أنها "نوع جديد من أنواع الاستعمار، فيه كلُّ ما في الاستعمار القديم من صفات، وله ما لسَلفِه من الأهداف والغايات" (10).

-----------------------------------------
الهوامش
الوقفة الخامسة: مفهوم العولمة Aaa18
1.    انظر: نعوم تشومسكي وآخرين العولمة والإرهاب: حرب أمريكا على العالم السياسة الخارجية الأمريكية وإسرائيل/ ترجمة حمزة بن قبلان المزيني - القاهرة: مكتبة مدبولي 2003م، ص 276.
2.    انظر في نقاش البعد الثقافي للعولمة كلًّا من: سعيد بن سعد المرطان البعد الثقافي لمنظمة التجارة العالمية - وعبدالله السيد ولد أباه، مستقبل الثقافة العربية بين تحديات العولمة وانفصام الهوية - وإحسان علي أبو حليقة، تطورات اقتصادية مؤثرة على مستقبل الوطن العربي: الحالة السعودية، وعبدالله بن يحيى المعلمي الاقتصاد والثقافة في الوطن العربي: نظرة مستقبلية - وحسن بن فهد الهويمل الثقافة وتحديات العولمة، ص 415 - 560 - وقد وردت في ندوة مستقبل الثقافة في العالم العربي - الرياض: مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، 1423هـ/ 2002 م، ص 1190.
3.    انظر: موضوع الجدل المستمر حول سلبية العولمة أو إيجابيتها في: نجاح كاظم، العرب وعصر العولمة، المعلومات البعد الخامس - الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي 2002م، ص 161 - 170.
4.    انظر: عبدالسلام المسيدي - العولمة والعولمة المضادة - (القاهرة): مجلة سطور (1999م)، ص 238 - 356.
5.    انظر: عبدالباسط عبدالمعطي/ محرر، العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي - القاهرة: مكتبة مدبولي - 1999م، ص 292.
6.    انظر: كامل الشريف - الشباب المسلم والعولمة، في: المؤتمر العالمي الثامن للندوة العالمية للشباب الإسلامي، الشباب المسلم والتحديات المعاصرة - عمان 29 جمادي الآخرة - 3 رجب 1419هـ/ 20 - 23 تشرين الثاني/ أكتوبر 1999م، ص 4.
7.    انظر: علي بن إبراهيم الحمد النملة، التنصير: مفهومه وأهدافه ووسائله وسبل مواجهته - ط 4، الرياض، المؤلف 1426هـ/ 2005م، ص 243.
8.    انظر: علي بن إبراهيم الحمد النملة، ظاهرة الاستشراق: مناقشات في المفهوم والنشأة والدوافع والأهداف - ط 2، الرياض مكتبة النوبة، 1423هـ/ 2003م. ص 210.
9.    انظر: فقرة: الاستشراق والتغريب، وآثارها غير الإيجابية، ص 269 - 270، في سيار الجميل العولمة والمستقبل: إستراتيجية تفكير من أجل العرب والمسلمين في القرن الحادي والعشرين - عمان: الأهلية للنشر والتوزيع 2000م، ص 439.
10.    انظر: كامل الشريف الشباب المسلم والعولمة - مرجع سابق، ص 15.