طارق بن زياد وموسى بن نصير.. لقاء الأبطال
أ.د. راغب السرجاني

    ملخص المقال
    طارق بن زياد وموسى بن نصير - لقاء الأبطال، مقال د. راغب السرجاني يتناول خط سير موسى بن نصير وعبد العزيز بن موسى وفتح البرتغال غرب الأندلس ولقاء البطلين,

طارق بن زياد وموسى بن نصير.. لقاء الأبطال
    فتوحات موسى بن نصير
    كان موسى بن نصير قائدًا مُحَنَّكًا، له نظرة واعية وبُعْدُ نظرٍ ثاقب، ولم يكن يومًا كما يَدَّعِي أناس أنه عطَّل طارق بن زياد عن الفتح؛ حسدًا أن يُنسَب إليه وحده فتحُ بلاد الأندلس[1]؛ ومن ثَمَّ أراد أن يشترك في الأمر معه؛ ذلك أنَّ طارق بن زياد من عُمَّال موسى بن نصير، وواليه على الأندلس، وحسنات طارق بن زياد تُعَدُّ في ميزان موسى بن نصير رحمهما الله؛ فقد دخل الإسلام على يديه، ولكن كانت رؤية موسى بن نصير تستند إلى الحِفَاظِ على جيش المسلمين من الهَلَكَةِ وهو بعيد عن أرضه لم تستقر خطوط إمداده؛ لا سيما والجيش قد اخترق أرض الأندلس نحو العاصمة، وظلَّت كثير من المدن في ظهره غير مفتوحة ولا آمنة[2].

    خط سير موسى بن نصير
    من ثَمَّ فقد قَدِمَ موسى بن نصير وسلك بالجيش نحو المُدُنِ التي لم يفتحها طارق، فتوجَّه نحو إِشْبِيلِيَة وفي الطريق أعاد إخضاع شَذُونَة، وافتتح قَرْمُونَة -وهي يومئذٍ من أمنع معاقل الأندلس- ثم حاصر إِشْبِيلِيَة حصارًا شديدًا، طال مداه شهورًا حتى فَتَحت أبوابها أخيرًا، ثم تجاوزها موسى بن نصير إلى الشمال، ولم يكن يفتح المناطق التي فتحها طارق بن زياد، وإنما اتجه ناحية الشمال الغربي، وهو الاتجاه الذي لم يسلكه طارق بن زياد؛ فقد أراد استكمال الفتح ومساعدة طارق بن زياد؛ وليس أخذ النصر أو الشرف منه.

    واصل موسى بن نصير سيره نحو طارق بن زياد، وفي طريقه فتح الكثير من المناطق العظيمة حتى وصل إلى منطقة تسمى مَارِدَة[3]، كل هذا وطارق بن زياد في طُلَيْطِلَة ينتظر قدومه، وكانت مَارِدَة من المناطق التي تجمَّع فيها كثير من القوط النصارى، فحاصرها موسى بن نصير حصارًا بلغ مداه -أيضًا- شهورًا، كان آخرها شهر رمضان، ففي أواخره وفي عيد الفطر المبارك وبعد صبر طويل فتحت المدينة أبوابها، وصالح أهلها موسى بن نصير على الجزية، وهكذا كانت تمرُّ الأعياد على المسلمين في جهاد لنشر دين الله في ربوع العالمين[4].

    عبد العزيز بن موسى بن نصير
    فاتح البرتغال
    لم يكتفِ موسى بن نصير بذلك، بل أرسل ابنه عبد العزيز بن موسى بنِ نصير -رحمهم الله جميعًا- الذي تربَّى كأبيه وجدِّه على الجهاد؛ ليفتح مناطق أوسع ناحية الغرب، وقد توغَّل عبد العزيز في الغرب كثيراً؛ حتى إنه في فترات معدودة فتح كل غرب الأندلس، التي تُسَمَّى حاليًا دولة البرتغال، فقد وصل إلى لَشْبُونَة وفتحها ثم فتح البلاد الواقعة في شمالها، وبهذا يُعَدُّ عبد العزيز بن موسى بنِ نصير فاتح البرتغال.

    موسى بن نصير وطارق بن زياد.. لقاء الأبطال واستكمال الفتح
    تذكر بعض المصادر أنه لَمَّا التقى موسى بن نصير وطارق بن زياد أمسك موسى بطارق وعنَّفه ووبَّخه، بل تذكر -أيضًا- أنه قيَّده وضربه بالسوط، وبعضها يقول: إنه حبسه وهمَّ بقتله[5].

إلاَّ أننا نقطع بأن هذا لم يحدث، وإنما الذي حدث أن موسى بن نصير قد عنَّف طارق بن زياد بالفعل على معصيته له بعدم البقاء في قُرْطُبَة أو جَيَّان واستمراره حتى طُلَيْطِلَة -كما ذكرنا- وقد كان تعنيفًا سريعًا؛ ولا نشكُّ في أنه كان لقاءً حارًّا بين بطلين افترقا منذ سنتين كاملتين، منذ رمضان سنة 92هـ = يوليو 711م وحتى ذي القعدة سنة 94هـ = أغسطس 713م، فقد أخذت الحملة التي قادها طارق بن زياد حتى وصلت إلى طُلَيْطِلَة عامًا كاملاً، وكذلك استغرقت الحملة التي قادها موسى بن نصير حتى قابل طارقًا في المكان نفسه عامًا كاملاً.

    ومما يدلُّ على تلك العلاقة السامية بين هذين القائدين العظيمين ما جاء في نفح الطيب من أن موسى بن نصير لَمَّا سمع بانتصار طارق عَبَرَ الجزيرة بِمَنْ معه ولَحِقَ به، فقال له: يا طارق؛ إنه لن يجازيك الوليد بن عبد الملك على بلائك بأكثر من أن يمنحك الأندلس فاستبحه هنيئًا مريئًا.

فقال له طارق: أيها الأمير؛ والله! لا أرجع عن قصدي هذا ما لم أنتهِ إلى البحر المحيط، أخوض فيه بفرسي -يعني البحر الشمالي أي: المحيط الأطلنطي- من ناحية شمال شبه جزيرة الأندلس[6].

    فكأن موسى بن نصير تنازل عن الأندلس لطارق من قبل أن يأتيه أمر الوليد بهذا؛ لِمَا أُعجب به من عمل طارق وجهاده، بل وتنازل عنها إعجابًا وبطيب نفس: «هنيئًا مريئًا»، ثم إن طارقًا لم يكن مِمَّنْ يهمه الولاية والإمارة، بل شغله حُبُّ الجهاد، وما رضي عنه بغيره، ولو كان المنصب على الجزيرة الغنية.

    وبعد اللقاء اتَّحَدَا معًا واتجها إلى فتح منطقة الشمال؛ لاستكمال عمليات الفتح، ففتحا مناطق عِدَّة؛ كان منها -على سبيل المثال-: منطقة بَرْشُلُونَة ففتحاها[7]، ثم اتجها إلى مدينة سَرَقُسْطَة؛ وهي أعظم مدن الشمال الشرقي ففتحوها[8]، وفي منطقة الشمال قام موسى بن نصير بعملٍ يُحْسَد عليه؛ فقد أرسل سريَّة خلف جبال البِرِينيه، وهي الجبال التي تفصل بين فرنسا وبلاد الأندلس، وتقع في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، عبرت هذه السرية جبال البرينيه، ثم وصلت إلى مدينة تُسمَّى أرْبُونَة، وتقع هذه المدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وبذلك يكون موسى بن نصير قد أسَّسَ نُوَاةً لمقاطعة إسلامية سوف تكبُر مع الزمان، كما سيأتي بيانه بمشيئة الله.

    وبعد هذه السرية الوحيدة التي فتحت جنوب غرب فرنسا اتجه موسى بن نصير بجيشه إلى الشمال الغربي حتى وصل إلى آخره، وقد ظلَّ المسلمون يفتحون مدن الأندلس؛ المدينة تلو الأخرى حتى تمَّ الانتهاء من فتح كل بلاد الأندلس، إلاَّ منطقة واحدة في أقصى مناطق الشمال الغربي وتُسمى منطقة الصخرة أو صخرة بلاي، وهي تقع على خليج بسكاي عند التقائه مع المحيط الأطلنطي[9].

    ففي زمن قُدِّر بثلاث سنوات ونصفٍ -ابتدأ من سنة 92هـ = 711م وانتهى في آخر سنة 95هـ = 714م- كان قد تمَّ للمسلمين فتح كل بلاد الأندلس عدا صخرة بلاي هذه، وحين عزم موسى بن نصير على أن يُتِمَّ فتح هذه الصخرة ويستكمل الفتح إلى نهايته، أتاه ما لم يكن يتوقَّعه.

    لو لم تكن البراهين ثابتة على تمام الفتح في هذه المدة القصيرة لَمَا صَدَّقَهُ أحَدٌ؛ لأن شبه الجزيرة الأندلسية قطر عسير فسيح لا يسهل على أحَدٍ فتحه أو إخضاعه... والحق أن فتح المسلمين للأندلس معجزة في حَدِّ ذاته؛ إذ لا يُصَدِّق المرءُ وهو يتتبَّع أخبار هذا الفتح أن الذين كانوا يقومون به -بهذا النظام، وبهذا النظر البعيد- إنما كانوا بربرًا لم يسبق لهم عهد بالنظام ولا الجيوش ولا المعاهدات، الحق أن الإسلام قد خطا بمُعتنقيه خلال القرن الأول بضعة قرون إلى الأمام، وهذا تاريخ الرومان في إفريقية: لم يوفقوا إلى تحضيرها على نحو يُقارب ما فعله الإسلام -ولو من بعيد- في بضعة قرون، فما بالك وقد فعل الإسلام ذلك في نحو نصف قرن؟!

    ولو ذكرنا أن موسى أكمل عمل طارق، وأن عبد العزيز أكمل عمل الاثنين لاستبان أن العرب ساروا في فتح هذه البلاد على خطَّةٍ مُحكمة لم يكن من الميسور وضع أحسن منها: فقد قُضِيَ على المقاومة واحتلت العاصمة في أول وثبة، ثم اتجهت الهمَّة إلى إخضاع كُبريات مُدن الغرب، ثم فتح المسلمون إقليم سَرَقُسْطَة وتتبَّعوا فلول المقاومة في معاقلها في الشمال والشمال الغربي، ثم فتحوا أقصى الغرب، وخُتم العمل بفتح الجنوب الشرقي.

ولو أن مجلسًا للحرب من كبار العسكريين اجتمع ليضع خطة لفتح البلاد لَمَا وُفِّقَ إلى خير من ذلك، وتلك ناحية ينبغي ألاَّ تغيب عن ذهن أحدنا وهو يدرس هذا الفتح؛ لأنها في الواقع تدلُّ على نبوغ حربي عند هؤلاء المسلمين الأولين[10].

-----------------------------------------------
    [1] تذكر بعض الروايات ذلك، انظر: مجهول: أخبار مجموعة ص24، والمقري: نفح الطيب 1/269.
    [2] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص79 وما بعدها.
    [3] مجهول: أخبار مجموعة ص26، وابن عذاري: البيان المغرب 2/14،.
    [4] مجهول: أخبار مجموعة ص26، وابن عذاري: البيان المغرب 2/14، 15، والمقري: نفح الطيب 1/271.
    [5] مجهول: أخبار مجموعة ص26، 27، وابن عذاري: البيان المغرب 2/16، والمقري: نفح الطيب 1/271.
    [6] المقري: نفح الطيب 1/242.
    [7] من المؤسف أن الكثيرين من المسلمين لا يعلمون عن برشلونة شيئًا إلا فريق كرة القدم المشهور، ولا يكاد يدور بخَلَدِهم أنها كانت في يومٍ ما مسلمة يُحكم فيها بشرع الله عز وجل.
    [8] المقري: نفح الطيب 1/273.
    [9] ابن الأثير: الكامل 4/270، والمقري: نفح الطيب 1/274-276.
    [10] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص106، 107.