هل أحرق طارق بن زياد سفنه؟
د: خالد الخالدي

    ملخص المقال
    ذكرت بعض المصادر الأندلسية أن طارق بن زياد أقدم قبيل معركة برباط الفاصلة على حرق جميع السُّفُنِ التي عَبَرَ بها جيشه المضيق إلى الأندلس.. فهل أحرق طارق بن زياد؟

هل أحرق طارق بن زياد سفنه؟
    ذكرت بعض المصادر الأندلسية أن طارق بن زياد أقدم قبيل معركة برباط الفاصلة سنة (92هــ/ 711م) على حرق جميع السفن التي عبر بها جيشه المضيق إلى الأندلس، وذلك حتى لا يُفكِّر جُنُودُهُ بالهرب من الجيش القوطي بعد أن فوجئ بتفوقه على جيش المسلمين في العَدَدِ والعُدّةِ، إذ بلغ أربعين ألف مقاتل حسب بعض الروايات، ومائة ألف حسب روايات أخرى، بينما لم يزد عدد جنده عن اثني عشر ألف مجاهد.

    وقد اشتهرت رواية حرق السفن، وتناقلها الناس كثيرًا، ولكن عند إخضاعها للتدقيق والتمحيص يتبيَّن أنها ليست إلا أسطورة وضعها القُصَّاصُ بهدف الإثارة والتشويق.

    والأسباب الآتية تؤكد ذلك: أولاً:
وردت هذه الرواية في مصادر أندلسية متأخرة، بينما لم تذكرها المصادر الأندلسية الأولية الأقرب إلى زمن الحَدَثِ، مع أنه من الأهمية والغرابة بحيث يُستبعد أن تُهمله أو تغفل ذكره تلك المصادر لو أنه وقع فعلاً.

    ثانيًا:
إذا كان هدف طارق من حرق السفن هو إرغام جنوده على القتال ومنعهم من الهرب، فتاريخ المسلمين العسكري يشهد بشجاعة المسلمين وإقدامهم، وهم أصلاً لم يُجبروا على الانضمام إلى جيش طارق، إذ لم يكن الجهاد لفتح الأندلس فرضُ عَيْنٍ عليهم، بل فرضُ كِفَايَة يُشارك فيه مَنْ شاء من المسلمين، وعادةً ما يُقْدِمُ على المُشاركة الشُّجعان المُتحمّسُون الرَّاغبُون في الأجْرِ.

    ثالثًا:
ليست هذه هي المعركة الأولى التي يكون فيها عدد جنود المسلمين أقل بكثير من عدد جنود عدوهم، بل إن معظم معاركهم التي فتحوا بها المشرق والمغرب كان عددهم أقل بكثير من عدد أعدائهم، فقد هزم ثلاثون ألف مجاهد نحو مائتي ألف رومي في معركة اليرموك، وفتح ثلاثة آلاف وخمسمائة مجاهد يقودهم عمرو بن العاص مصر التي كانت مركز تجمع النواة الصلبة للجيش البيزنطي، وهزم عشرون ألفًا يقودهم عبد الله بن سعد بن أبي السرح مائة وعشرين ألفًا من الروم يقودهم جريجوريوس في معركة سبيطلة بشمال إفريقيا سنة 28هــ.

    رابعًا:
لم يُفَاجَأ طارق بكثرة جنود القوط قبيل بدء المعركة، بل علم بتفوقهم العددي قبل المعركة بمدة؛ إذ أرسل إلى موسى يطلب منه المدد لمقابلة جيش القوط الكبير، فأمَدَّهُ بخمسة آلاف، وبعث إليه برسالة يذكّره فيها بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لن يُغلب اثنا عشر ألفًا من قلة».

ولولا أن موسى وطارق يعلمان أن المسلمين بهذا العدد مؤهَّلُون للنصر على جيش القوط الكبير، لأمروا الجنود بالانسحاب بسلام، وما عَرَّضُوا المسلمين للهزيمة والقتل، أو لوفّرا مزيدًا من المقاتلين.

    خامسًا:
لو كان طارق يُعاني من قِلَّةِ الجنود، ووجد نفسه مضطرًّا لخوض القتال بهذا العدد القليل لاكتفى بالانتصار في معركة برباط الفاصلة التي خسر فيها نحو ثلاثة آلاف من جُنده، لكنه واصل الفتح بِمَنْ تبقَّى معه، وظل يُطارد القوط ويفتح مُدنهم الرئيسة لشهور عِدَّةٍ دون أن يطلب مددًا، حتى وصل إلى عاصمتهم طليطلة وأتَمَّ فتحها.

    سادسًا:
لا يمكن لقائد عاقل مثل طارق بن زياد -اختاره موسى واليًا على طنجة، ثم قائدًا لأول جيش يفتح الأندلس- أن يُقدِم على حرق السفن التي يحتاج إليها للتواصل مع القيادة في المغرب، فهي تمثل خط الاتصال والإمداد الوحيد مع القيادة، ولا يُعقل أن يقطع قائد خطوط اتصالاته وإمداداته بيده.

    سابعًا:
لا شك أن طارق يعلم أن نتيجة أي معركة هي النصر أو الهزيمة، ولا يمكن أن يقطع على جنوده فرصة الانسحاب والنجاة إذا ما دارت عليهم الدائرة، ويكون سببًا في إبادة اثني عشر ألف مسلم.

    ثامنًا:
لو أقدم طارق على هذا القرار المتهور فلن يسمح له القادة الكبار وخصوصًا من العرب الذين كانوا معه في الجيش، أمثال مغيث الرومي وعبد الملك بن أبي عامر المعافري وعلقمة اللخمي.

    تاسعًا:
ليس كل السفن التي عبر بها المسلمون ملكًا لهم، فهناك بعض السفن استعارها المسلمون من يوليان حاكم سبتة، ولا يمكن أن يقدم طارق على حرق سفن استعارها، ولم يَرِدْ ما يدلُّ على أن المسلمين عَوَّضُوا يوليان ثمنها.

    عاشرًا:
لا يمكن أن يُقْدِمَ طارق على حرق سفن بذل المسلمون في بنائها أموالاً طائلة، ووقتًا كبيرًا، وكان بإمكانه أن يأمر قادة السفن بالعودة إلى المغرب دون حرقها، إذا وجد أن بقاءها يؤثر على معنويات جنوده.

    أحد عشر:
لو أن طارق أقدم على حرق السفن لحاسبه موسى على ذلك عندما التقى به، ولطالبه بثمنها، ولفعل ذلك الخليفة في دمشق مثلما فعل مع موسى، إذ طالبه الخليفة سليمان بدفع ما تصدَّق به من غنائم أثناء عودته إلى دمشق، واستجاب موسى ودفعها إلى بيت مال المسلمين.

    اثنا عشر:
لا شك أن هذه الرواية نسجها خيال القُصَّاص بهدف الإثارة والتشويق، مثلما نسجوا الخطبة العصماء التي نسبوها إلى طارق وأثبت المُحققون بطلانها.

    المصدر:
موقع فلسطين أون لاين.