الرؤية الشرعية أم الحساب الفلكي؟
الرؤية الشرعية أم الحساب الفلكي؟ Ocia1869
جاء الإسلام بتشريعات تؤدى في أوقات محدودة، منها الصيام والحج، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وقال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].

وما كانت هناك وسيلة في الماضي لمعرفة هذه المواقيت إلا رصد القمر، الذي يبدأ هلالاً ينمو ويكبر حتى يكتمل بدرًا، ثم يتناقص ويصغر حتى يعود دقيقًا كالعرجون القديم، ثم يختفي ليظهر من جديد هلالاً يبدأ به دورة ثانية، وهكذا تتم دوراته تستغرق كل منها شهرًا، تتكون وحداته من أيام ترتبط بالليل والنهار اللذين يحددهما جغرافيًّا مشرق الشمس ومغربها.

والإسلام عُني بضبط شهر رمضان بالذات؛ لأن كمال عدته لا يكون إلا بصيام جميع أيامه، وعلق ذلك على رؤية الهلال، فقال صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» [رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة]، وقال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له» [رواه البخاري ومسلم عن عبد اللَّـه بن عمر]، وقال: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يومًا» [رواه مسلم عن أبي هريرة]، وغبي بمعنى غم، أي خفي عليكم.

غير أن شهر رمضان، وكذلك غيره من الشهور، لا يكون دائمًا ثلاثين يومًا، وقد نص على ذلك رسول اللَّـه صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث، منها: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا» يعني ثلاثين، ثم قال: «وهكذا وهكذا وهكذا» يعني تسعة وعشرين، [رواه البخاري ومسلم].          

ويوضح ذلك ما جاء في روايات أخرى، منها: «الشهر كذا وكذا وكذا»، وصفق بيديه مرتين بكل أصابعهما، ونقص في الصفقة الثالثة إبهام اليمنى أو اليسرى، ومنها: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا» وعقد الإبهام في الثالثة، و«الشهر هكذا وهكذا وهكذا» يعني تمام الثلاثين [رواه أبو داود].

والسبب في ذلك أن دورة القمر الشهرية تتم في تسعة وعشرين يومًا واثنتي عشرة ساعة وأربع وأربعين دقيقة وثانيتين، كما يقول علماء الفلك، حيث إن السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يومًا وخمس يوم وسدس يوم، لو قسمت على اثنا عشر شهرًا كان هناك كسر من اليوم في الشهر.          

ومن أجل هذا خصمت الكسور من بعض الشهور لتكون تسعة وعشرين يومًا، وضمت إلى الشهور الأخرى لتكون ثلاثين يومًا.

وإذا كانت عدة الشهور مختلفة فأيها يكون تسعة وعشرين، وأيها يكون ثلاثين؟
إن رجال الفلك وواضعي التقاويم اختلفوا في ذلك، فبعضهم جعل شهرًا تسعة وعشرين، والذي بعده ثلاثين، والذي بعده تسعة وعشرين، وهكذا.          

وبعضهم عين الأشهر الكاملة فجعلها:
المحرم وربيعًا الأول ورجب ورمضان وذا القعدة، وعد منها ذا الحجة في السنة الكبيسة، وباقي الأشهر جعلها ناقصة، ولكن على أي أساس كان هذا الاختيار؟

إن الخلاف ما يزال قائمًا في تعيين الأشهر الكاملة والناقصة، ولا يدري من أيها يكون شهر شعبان ورمضان، ومن هنا كان الاعتماد في الالتزام بالأحكام الشرعية على رؤية الهلال متى كانت ممكنة.

ولكن متى تمكن الرؤية؟
إنها لا تمكن إلا بعد ولادة الهلال بوقت كافٍ، ذلك لأن ميلاده فلكيًّا محسوب بوضع معين للشمس والقمر، يطلق عليه اسم "الاجتماع" وقد يكون في وقت لا يمكن أن يرى فيه القمر، وأنسب الأوقات لرؤيته هو عقب غروب الشمس.

ولَمَّا كانت مناطق الأرض -على الرغم من وحدة اللحظة التي ولد فيه القمر- مختلفة بالنسبة لدرجة ظهور الهلال بعد غروب الشمس، فقد تراه المناطق ولا يراه بعضها الآخر، ومن هنا كان الاعتماد في الصيام والفطر والتكاليف الأخرى على رؤية هذه المنطقة، لا على الحساب الذي يحدد ميلاد الهلال، وإن كان يستعان به على معرفة إمكان رؤيته.

وعلماء الفلك أنفسهم مختلفون في تقدير المدة التي يمكث فيها القمر بعد غروب الشمس حتى تمكن رؤيته، فبعضهم يقول: تكفي دقيقة واحدة، ويقول بعضهم: لا يكفي أقل من ستة عشرة دقيقة، ويقول بعضهم غير ذلك.          

وما دامت مناطق ظهور الهلال بعد ميلاده مختلفة فلا يجوز الاعتماد على تقدير واحد لكل المناطق.

والرؤية المذكورة في الأحاديث هي الرؤية البصرية، سواء أكانت بالعين المجردة أم بالاستعانة بالأدوات الحديثة، لكن هل يجب على كل مكلف أن يتصدى لرؤية الهلال حتى يصوم أو يفطر؟ إن هناك من فقدوا أبصارهم، ومن حبسوا فلا يتمكنون من الرؤية، إن الرؤية في حق هؤلاء وأمثالهم تعني العلم عن طريق الخبر، الذي جاء إليهم ممن رأوا الهلال بأبصارهم، وقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يحتمل الأمرين.

إن الْتماس الرؤية فرض كفاية عند بعض الأئمة، وسنة عند بعضهم الآخر، كتحمل الأحاديث التي هي الأحكام الشرعية، لا بد أن يقوم به بعض المسلمين، ويجب على من رأى الهلال أن يخبر به كتبليغ الأحاديث وروايتها، بل قال العلماء: يرفع ذلك إلى المسئولين لإعلانه على الناس كافة إن اطمأنوا إليه.

فقد جاء أعرابي إلى رسول اللَّـه صلى الله عليه وسلم، وقال: أبصرت الهلال، فقال: «أتشهد أن لا إله إلا اللَّـه وأن محمدًا رسول اللَّـه؟»، قال: "نعم". فقال عليه الصلاة والسلام: «قم يا بلال وأذن في الناس ليصوموا غدًا». [رواه أصحاب السنن والدارمي من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس به].

قال الترمذي: "حديث ابن عباس فيه اختلاف، وأكثر أصحاب سماك يروونه عنه عن عكرمة عن النبي مرسلاً".          

وقال النسائي: "إنه أولى بالصواب، وسماك إذا تفرد بأصل لم يكن حجة".

وعن ابن عمر قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أني رأيته فصامه، وأمر الناس بصيامه". [رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان].

فمن رأى الهلال بنفسه فقد رآه ببصره، ومن لم يره فقد علم به.

وفي قبول خبر مَنْ رأى الهلال كلام للفقهاء نوجزه فيما يلي:
قال الأحناف يكفي في ثبوت شهر رمضان خبر واحد عدل عدالة رواية، ما لم يكن تفرده مظنة الغلط أو الكذب، وإلا فلا بد من عدد تتحقق به غلبة الظن.

وقال الشافعية:
يكفي -على الراجح- خبر عدل واحد في ثبوت هلال رمضان.

وقال المالكية:
لا بد من رؤية عدلين من الرجال.

وقال الحنابلة:
يكفي خبر عدل واحد لقبول النبي -صلى الله عليه وسلم- خبر الأعرابي، ولأنه خبر ديني، وهو أحوط ولا تهمة فيه، ويُقبل فيه خبر المرأة.

والخلاصة:
أن جمهور الفقهاء على الاكتفاء بخبر العدل الواحد متى غلب على الظن صدقه، ولم يكذب الحساب الموثوق به الذي يقضي باستحالة الرؤية، أمَّا ثبوت شهر شوال فعند الأحناف خلاف في قبول خبر الواحد، والرَّاجح عند الشافعية اثنان، والمالكية والحنابلة لا يكتفون بأقل من اثنين، احتياطًا لعدم إفطار يوم من رمضان.

وضمانًا للإفادة من الرؤية وضع العلماء لها شروطًا، منها:
1- أن تكون بعد مولد الهلال، ومكثه مدة بعد غروب الشمس بحيث يتمكن من رؤيته، على خلاف في مقدار هذه المدة كما سبق.          

فلو دَلَّ الحساب الدقيق المقطوع به على عدم مولده، وعدم مكثه المدة الكافية لرؤيته رفض الخبر أو الشهادة؛ لأنهما في هذه الحالة ظنيان فلا يقدمان على القطعي.

2- ألا تكون هناك غيوم أو عوائق أخرى تحول دون الرؤية.

3- اعتبار مكان الراصد وارتفاعه، وذلك لاختلاف الأماكن التي يظهر فيه الهلال على الأرض.

4- أن يكون الرائي عدلاً بمقومات العدالة التي وضعها العلماء.

5- سلامة بصره، ومهارته وتمرسه على المشاهدة، وتكرارها؛ بحيث لا تكفي مرة في لحظة واحدة.

6- خلوه من العوامل النفسية التي قد تهيئ له الشيء على أنه هلال، وهو ما يُعرف بالهلوسة البصرية، كما يقول علماء الطب الثقات.

الحساب الفلكي:
لكن إذا لم تمكن الرؤية للظروف الجوية مثلاً، فماذا يكون العمل لإثبات دخول الشهر؟
إن الحديث الشريف أجاب على هذا السؤال بقوله: «فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له»، ولكن كيف نقدر له؟

إن الاختلاف في الإجابة أيضًا نشأ عنه مذهبان:
1- مذهب جمهور الفقهاء من السلف والخلف، الذي يعتمدون على الرؤية فقط إن أمكنت، أو إتمام الشهر ثلاثين يومًا إن لم تمكن؛ لأن الروايات الأخرى للحديث نصت على ذلك، وخير ما يفسر به الحديث ما يرد في رواية أخرى له.

والإمام أحمد فهم عبارة «فاقدروا له» على أنها البحث والتقصي تحت السحاب، فإن رؤي الهلال وجب الصيام حتى لو كانت عدة شعبان تسعة وعشرين يومًا، والكل متفقون على أن الرؤية إذا لم تمكن لا يرجع إلى الحساب الفلكي، بل إلى إتمام الشهر الثلاثين.

وحجتهم في ذلك تقوم على أمرين: أحدهما:
إعمال النص، وهو رواية البخاري ومسلم في تعليق الصيام والفطر على الرؤية، وإلا فعلى إتمام الشهر.

وثانيهما:
عدم الثقة فيما يقوله الفلكيون في هذا الموضوع بالذات، سواء منهم المنجمون الذين يربطون دخول الشهر بنجم معين، والحاسبون الذين يعتمدون في ذلك على سير القمر في منازله.

وعدم الثقة هذه إمَّا لأنهم يعتمدون على ميلاد الهلال في تقدير أوائل الشهور حتى لو لم تكن رؤيته، وإما لعدم اتفاقهم على طريقة جبر الكسور من اليوم ليكون بعض الشهور ناقصًا وبعضًا كاملاً، وإما لاختلافهم في تقدير المدة التي يجب أن يمكثها الهلال بعد غروب الشمس حتى تمكن رؤيته، كما تقدم ذكره.

2- مذهب مَنْ يقول بالأخذ بالحساب الفلكي عند عدم التمكن من رؤية الهلال، الذي يفسر ما جاء في الحديث «فاقدروا له»، ومن القائلين بذلك ابن سريج ومطرف بن عبد اللَّـه، وابن قتيبة وآخرون.

ورَدَّهُ الجمهور بما جاء في (فتح الباري لابن حجر):
قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف، وأمَّا ابن قتيبة فليس ممن يعرج عليه في مثل هذا، ولا كما نقله ابن العربي عن ابن سريج أن قوله: «فاقدروا له» خطاب لمن خصه اللَّـه بهذا العلم، وقوله: «فأكملوا العدة...» خطاب للعامة؛ لأنه -كما قال ابن العربي أيضًا- يستلزم اختلاف وجوب رمضان، فيجب على قوم بحساب الشمس والقمر، وعلى آخرين بحساب العدد. قال: وهذا بعيد عن النبلاء، (نيل الأوطار للشوكاني، ج4، ص201).

الشيخ إبراهيم الجنادي
المصدر: موقع لواء الشريعة
ملفات متنوعة