العمدة في الرَّهن
العمدة في الرَّهن Ocia1829
قال عيسى بن هشام: ولَمَّا ارتفع وجه النهار أو كاد، ومسحنا عن النواظر كحل الرقاد، بادَرنا كل الإبدار، بالخروج من الدار، لنلحق بأولئك الرفقاء، في المكان المُعيَّن للقاء، فقصدنا «قهوة القزاز بالموسكي» فوجدناها تتموَّج بالداخلين، وتضطرب اضطرابًا بالواقفين والقاعدين، فوقفنا هنيهةً نرسل النظر إرسالًا، ونتصفّح الوجوه يمينًا وشمالًا، حتى اهتدينا إلى «الصديق» جالسًا فجلسنا عن جانبيه، ورأينا العمدة جالسًا بجانبنا مع صاحبيه، فإذا العمدة يئن تحت الهموم المتقاطرة، من سواد ليلته الغابرة، حيث ناله فيها من الهوان ما ناله، وأضاع تحت أقدام الراقصات شرفَهُ وماله، ورهن ما رهن من حِلية ومتاع، من غير لذة ولا استمتاع، فهو متخاذل متضائل: «له شقٌّ مائل، ولونٌ حائل، ولعابٌ سائل»، وسحنة مغبَّرة، وأنامل مصفرة، وجفونٌ محمرة وأحداقٌ جامدة، وأعضاء هامدة، ورأسٌ متصدع، ونفس متقطع، يفتح تارة فاه، ويحك طورًا في قفاه، فيخاله كل من يراه، نضو سفر١ أضناه السرَى وبراه، أو حِلْف تسخير أدمته العصا وألهبه السوط؛ ليبلغ من جهد «السخرة» منتهى الشوط، وإذا التاجر بجانبه يقلب حدقتيه ويتحلب بشفتيه، ويصعد أنفاسًا كالحريق، في ميزاب من الريق٢ كأنه ذئب يهم بالعثيان، ويخشى صولة الرُّعيان، أو صائدٌ يخاف أن يخونه كيده، ويُفلت منه صيده، والخليع بينهما يطرق برأسه، ويكتم ما في نفسه، متفكِّرًا ينكُت الأرض بعصاه، ويحاول أن يبلغ من الغرض أقصاه، دائبًا يبرم الخديعة ويهيئ العُدة؛ ليسقطها على رأس التاجر ودماغ العمدة، ورأينا هنالك من دونهم نفرًا لا يحولون عنهم نظرًا، كأنهم الطيور الجارحة تترقب حمامة سانحة، فاستخبرنا من الصديق، عن شأن هذا الفريق، فقال: هم جماعة من الفئة الباغية الماكرة، والطائفة الرابحة الخاسرة، طائفة الوُسطاء والسماسرة، وشاهدنا الخليع يُوحي إليهم باللحظ والنظر، كأنه يعاهدهم على النجح والظفر، ثم سمعناه يقول للعمدة تهوينًا لأمره، وتيسيرًا عليه من عسره:

الخليع: لا تهتم يا مولاي ولا تغتم، فالخطب أهون مما تظن والأمور بأمر الله ميسرة والحاجات بإذنه مقضية.

التاجر: إن كان التيسير من جهة الاقتراض، فأنا لا أتصور أن أرباب الأموال يقرضون اليوم أحدًا بدون التوثق من الرهن لزوال الثقة بين الناس في هذا العهد عهد المماكسة والمضاربة، وفي هذه الحالة أراني أولى الناس بتأدية هذه الخدمة لصاحبي، فإني له أرجح جانبًا وأربح معاملة وأنقص في قدر «الفائدة» من سواي.

العمدة: لا أرى في ذلك من بأس لو كان في الوقت سعة وفي الحالة مهلة تسمح بما يقتضيه إجراء الرهن من الكشف والمعاينة، والتحديد والتقويم والتقدير والتحرير، والتقييد والتسجيل إلى غير ذلك.

الخليع: ولا تنس ما يكون وراء ذلك من سوء السمعة وقبح الشنعة بين الأهل والجيران، وصدق من قال: «بيع الشيء خير من رهنه، والرهن بيعٌ وغبن».. وأنت بحمد الله لك صيت بالغنى وشهرة بالثروة، وأنا أضمن أن توقيعك وحده يكفيك مؤونة الرهن عند الاقتراض.

التاجر (للخليع): ما أحسن هذا لو أنه يتم، ولكن لا تنس أنت أيضًا ما قيل: «إن الذي يقرضك على الشهرة والسمعة، لا بد أن يأخذ فائدة شهر في جمعة»، ولن يخاطر أحد من أرباب الأموال بمالِهِ من غير رهن إلا مَنْ ضمن الفائدة الجسيمة والربح الطائل.

الخليع (للتاجر): ما بالك تُعَسِّرُ علينا في الأمور مع إمكان تيسيرها، ولا يأخذك شكٌّ فيما أقول فأنا أضمن الحصول على القرض في هذه الساعة في هذه القهوة في هذه الجلسة، ولا محل للتخوف من جسامة الفائدة ما دام وقت الحصاد قريبًا والتسديد عتيدًا.

العمدة (للخليع): هكذا يكون التسهيل والتيسير بين الأصحاب والأصدقاء، وهكذا تكون محاسن الشيم، يا أبا المكارم والهمم.

التاجر: قد قلت ما عندي، وكل إنسان حرّ في عمله.

الخليع (للعمدة): قل لي كم تريد أن يكون مبلغ القرض؟

العمدة: يكفيني على ما أظن مقدار مائة جنيه لسداد الحاجة في الحالة الراهنة.

الخليع: هذا التقدير ضعيف، وماذا ينفع مثل هذا القدر القليل وبماذا يفيد؟ وعليك قبل كل شيء تسديد ما لصاحبنا هذا في ذمتك من الدَّيْنِ، ثم يتبعه ما لصاحب الحان لفك رهن الساعة والخاتم، وأضف إلى ذلك ما يلزم لك من المال لتأجير البيت الذي تريد سكناه في حلوان وما يتبعه من أثمان الفرش والأثاث، هذا غير ما يجب أن يكون في يدك للبذل والإنفاق في أوقات الأنس والطرب، وأنت بلا شك في حاجة عظيمة إليها بعد كل هذا التعب والكدر، فلا بدَّ لك حينئذ من اقتراض مبلغ خمسمائة جنيه على الأقل، ولا سيما أن أرباب الأموال الذين أعرفهم لا يقرضون أقل من هذا المقدار إن كانت مدته قصيرة.

(وهنا يُومئ الخليع إلى جماعة السماسرة بالحضور فيتقاطرون عليه، فيهمس في أذن أحدهم كلامًا ثم يجهر بالخطاب فيقول):

الخليع: اعلموا أن سعادة البك هو العمدة فلان الفلاني من كبار المزارعين، الذين يمتلكون من الأطيان والعقار ما هو معروف مشهور، ولم يسبق له اقتراض مال قط، وليس عليه دَين مطلقًا وأطيانه وأملاكه خالصة له بلا منازع ولا مشارك، وقد حلّت به ظروف استنفدت جميع ما كان يحمله معه للإنفاق في مدة وجوده بالقاهرة، وهو الآن في حاجة إلى اقتراض خمسمائة جنيه يقوم بتسديدها في أوان الحصاد الآتي، ولست أرضى له أن يقترض مثل هذا المبلغ الزهيد بالرهن من أرباب المصارف الكبيرة لِمَا يجري عندهم من طول التَّحرّي والتنقيب، وتضييع الوقت جهلًا منهم بحالة أعيان البلاد.

أحد السماسرة: مرحبًا بسعادته مرحبًا، وما هو بالمجهول عندنا فإننا نعرفه كلنا وبما وصفتَه من شرف البيت وسعة المال زاده الله منه، كان للمرحوم والدي مع المرحوم والده معاملة قديمة وصحبة أكيدة، وطالما سمعت من والدي وأنا صغير السن أنه لا يوجد بين أعيان القطر مثل المرحوم في الصدق والأمانة وكرم الخلق وسماحة النفس، ولكنك تعلم أن الدراهم عزيزة المنال في هذه الأيام وقلّ من يخاطر بقرض هذا المبلغ من غير رهن يوازيه أضعافًا مضاعفة، ولو كان الأمر لي وحدي لَمَا تأخرت عن إجابة الطلب بدون ميثاق أو رهن أو فائدة إكرامًا للصحبة القديمة بين والدَينا وتوثيقًا لِعُرَى المحبة بيننا، ولكن شريكي في الأشغال رجل متفرنج من أبناء هذا العصر لا يعرف حقوق المودة القديمة، ولا يرضى بقرض المال إلا إذا كان مستجمعًا للشروط القانونية، ومع ذلك فأنا أعمل معه جهدي وأترضَّاهُ بضمانتي أولًا و«بتشريف» مقدار «الفائدة» ثانيًا، فإن اتفقتم معي على أن تكون الخمسمائة بثمانمئة إلى وقت الحصاد باشرت معه الأمر وقمت بالخدمة الواجبة عليَّ لسعادة البك.

التاجر: سلامٌ قولًا من رب رحيم، أيكون مقدار الرِّبَا فوق مقدار نصف القرض… ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين؟

السمسار (للتاجر): لعل مولانا من المجاورين بالأزهر الشريف، فإنه لا يستعظم مثل هذه «الفائدة» في الأحوال الحاضرة إلا مَنْ يعتقد بتحريمها، على أن الرِّبَا مُحَرَّمٌ عندنا أيضًا كما هو مُحَرَّمٌ عندكم، ولكن «الضرورات تبيح المحظورات».

العمدة: حضرته ليس من المجاورين بل هو من التجار المشهورين.

السمسار: إذا كان حضرته من التجار، فلا بد أن يكون واقفًا على ضيق الحال وقلة المال وكساد السوق وعالمًا بمقدار «الفائدة» في قرض من غير رهن، ثم إنه لا يجهل في الأشغال تكاليف المشاركة… والمساهمة… والمقاسمة… إن شاء الله.

التاجر: نعم نعم ولكن يجب إنقاص مقدار «الفائدة» على كل حال، فإن أنت رضيت بأن يكون مبلغ الخمسمائة بسبعمائة وخمسين رضيت أنا لسعادة العمدة بالاقتراض منك وحكمت بذلك عليه.

السمسار: ما أصعب المعاملة مع التجار! وما دمت حكمت حكمك فلا مردَّ له عندنا وما علينا إلَّا الطاعة والقبول إكرامًا لسعادة البك، فتفضلوا بالذهاب معي إلى المحل على بركة الله لإتمام الأمر مع شريكي.

الخليع: لا حاجة إلى ذهابنا جميعًا ويكفي أن يذهب معك سعادة البك وحده، فإن المسألة صارت بسيطة ونحن نمكث هنا في الانتظار.

قال عيسى بن هشام: وقام العمدة مع السمسار وأقمنا جالسين في مكاننا نتشاغل بالحديث مع الصديق، ونستفيد من واسع علمه أمورًا شتى مدة من الزمن، وإذا بالعمدة عائدًا وحده مقطب الوجه منقبض النفس، فأسرع الخليع والتاجر إلى لقائه واستخباره عمَّا جرى له.

العمدة: لعن الله الحاجة والاضطرار، وما كان أغنانا عن هذا الخراب والدمار.

الخليع: وماذا وقع بك ودَهَمك، هل خاب الأمل في عقد القرض أم عقدته وسُرقت منك الدراهم؟

العمدة: لم تسرق كلها بل نصفها.

التاجر (شاهقًا والخليع محملقًا): وكيف كان ذلك؟

العمدة: ركبت مع الرجل وذهبنا إلى محل شريكه، فأجلسني هناك ناحية وكتب الصك وختمتُه، ثم إنه انفرد بشريكه يناقشه ويجادله، ثم عاد إليَّ عابس الوجه يقول لي: إن الأمر مُتَعَذِّرٌ مُتَعَسِّرٌ وإنه بذل كل ما في وسعه من طرق الإقناع والرجاء؛ ليقبل شريكه بقرض المبلغ، فلم يقبل ولم يتحوَّل عن رأيه، ثم أخذ يظهر لي أنواع التأسُّف والتوجُّع لخيبة مسعاه ويُشِيرُ عَلَيَّ بالصبر أيامًا حتى تنفرج الشدة وتنقضي الأزمة، فأريتُهُ شدة ما بي من الحاجة إلى الدراهم في هذا الوقت، وليس في الاستطاعة تأجيل الاقتراض وهممتُ بالرجوع إليكما لترشداني إلى باب آخر يأتي بالتيسير المطلوب، فدنا مني شريكه عند ذلك، وقال لي يعز عليَّ والله أن أرُدَّكَ خائبًا وأرفض رجاء شريكي، ولكنك تعلم مقدار العُسر والضيق الذي لحق بهذا القطر في هذا العام من كساد الموسم، وانخفاض النيل وانتشار الدودة وكثرة المضاربات، وظهور الأوبئة والطواعين، وأنا أقسم لك بشرفي وذِمَّتِي وأولادي أنه لا يوجد في محلنا من الدراهم الآن سوى أربعمائة جنيه هي أمانة عندي لطفل يتيم من أقاربنا نشتغل له في استثمارها بكل احتراس واحتياط، وأنا أضنُّ بها وأحرص عليها أشَدَّ من حرصي على أموالي، ومع ذلك فقد فكرتُ طويلًا وعوَّلت على أن أضعها بين يديك لشرف مكانتك عندنا وحُسن سيرتك، وجعلتها أول خدمة جليلة نقدمها إليك، فأسرعت إلى قبولها مع الشكر والامتنان، فأخرج صُرَّةً ووزن ما فيها من الذهب ثم سلَّمه إليَّ فعددته فوجدته أربعمائة تمامًا، ثم وضعتها في جيبي وطلبت منه تغيير الصك؛ لأن المبلغ المسمَّى فيه يزيد مائة جنيه عما قبضته من الذهب، فتلكأ في الإجابة واعتذر إليَّ بأن فرق ما بين المبلغين يبقى عنده بعضه لربح اليتيم وبعضه لنفقات القضية من رسوم وأتعاب محاماة إن وقع مني تقصير في التسديد عند الميعاد —لا سمح الله— كما هي العادة السائرة اليوم، فهالني الأمر ونبذتُ الدراهم وطلبت منه أن يرد لي الصك في الحال، فلم يلتفت لقولي واشتغل عني بالكلام مع بعض الوافدين إليه وأنا مقيم على مثل الجمر، وكلما أشرت إليه بإشارة من بعيد ليكلمني لَوَى وجهه عني وأظهر الاشمئزاز مني، فتفقدت السمسار الشريك داخلَ المكان وخارجه فلم أجد له أثرًا، فاشتدَّ بي الكرب وحرقني الغيظ فلم أتمالك نفسي وهجمت على صاحب المحل، فأمسكت بتلابيبه أطالبه برد الصك، فأظهر لي حينئذ من الملاينة والملاطفة ما حل خناقه من يدي، وقال لي: إنه لا يمنعه عن إجابة طلبي إلَّا غياب الشريك فإن الصك كتب بحضوره، ولا يجوز أن يسلمه إليَّ بدون علمه، فعليَّ أن أنتظر أوبته، وبينما نحن على هذه الحال وإذا بسعادة عمر بك صهر مديرنا قد دخل علينا فما وقع بصري عليه حتى تراخت مفاصلي خجلًا منه، وحياءً أن يسمع ما يجري بيننا ويراني في مثل هذا الموقف فتسقط منزلتي في عينه وعين صهره، فتقدمت إليه وسلّمت فرد علي التحية بالتكريم والتعظيم، فلحظ اللئيم صاحب المحل ما أنا فيه فانتهز الفرصة وقَصَّ على سعادة البك قصتنا على حسب هواه، وطلب حُكمه في الأمر، فقال له سعادة البك: لا يليق بك أن تتنازع مع حضرة العمدة فأنا أعرفه رجلًا من عيون المديرية التي يديرها صهري وله شهرة عظيمة بحُسن السيرة وسعة الثروة، ثم التفت إليَّ وقال: وأنت لا يجدر بك أن تخالف حضرة الخواجة وهو رجل مشهور بالأمانة وحُسن المعاملة، وإذا كانت نقطة الخلاف في مائة الجنيه التي حجزها عنده لنفقات القضية، فأنا لا أشك في أنه سيردها إليك بتمامها عند إيفاء الدَّين في ميعاده، وأنت بحمد الله في ثروة لا يُتصور معها التأخر عن التسديد، وإن كنت لم تتعامل مع الخواجة إلَّا في هذه الدفعة ولم تجرب مقدار أمانته وحُسن عهده فإني أكفل لك صدقه ووفاءه، فاضطررت من كل الوجوه إلى التسليم والإذعان، وأخذت الدراهم وسلَّمتُ على سعادة البك وقلت له عند خروجه: لا يظنن سيدي أنني اقترضت هذه الدراهم للضرورة والعُسر فإن الأمور ميسرة بفضل الله، ونعمةُ الله وافرةٌ عليَّ كما يعلمه سعادة صهركم المدير، ولكنني وجدت فرصة لا تعوض في أثناء إقامتي بالعاصمة وهي مشترى أطيان من أحد أولاد الذوات، وهو في حاجة الليلة إلى استلام العربون، ولا يمكنه أن يمهلني ريثما أستحضر له المبلغ من البلد، فاضطررت للاقتراض على هذه الصورة، فقال لي: نِعْمَ ما تفعل وبارك الله لك في البيع والشراء، ثم إنه حَمَّلَنِي سلامًا وكلامًا لسعادة المدير، وانصرفت وخلفته مقيمًا مع الخواجة، وحضرت إليكما ولم يدخل في يدي من مبلغ الدَّين المسمَّى بسبعمائة وخمسين جنيهًا إلا أربعمائة جنيها فقط، فهذا معنى قولي لكما لم تُسرق مني الدراهم كلها، ولكن سُرِقَ نصفها.

قال عيسى بن هشام: وكنا نشاهد في أثناء هذا الحديث رجلًا واقفًا على رأس العمدة ينتظر انتهاءَه من الكلام، وهو يمدّ إليه يديه ويحرك شفتيه، فتبينا من هيئته أنه سائق المركبة يطالب العمدة بالزيادة في قيمة الأجرة، ولَمَّا فرغ العمدة من كلامه بادره السائق بقوله:

السائق: خلصنا من فضلك يا سيدنا فقد طال وقوفي وعطلتني عن شغلي.

العمدة: أنا لا أعطيك شيئًا زيادة عما دفعته إليك ففيه الكفاية.

السائق: مَن يقول يا حضرة الشيخ: إن خمسة قروش، تكفي في أجرة المركبة مدة ساعتين تنقلت في أثنائها من مكان إلى مكان، ثم عدت بك إلى هذه القهوة، وأنا لا أبرح مكاني حتى تعطيني الأجرة اللائقة بهذه المدة، وإن كان الذنب من جهتي؛ لأنني قبلت أن تركب معي ورفضت ركوب الخواجة الذي استوقفني قبل ركوبك ظنًّا مني أنك من كبار العمد الذين لهم تردد كثير على العاصمة، ويعرفون مقدار أجرة المركبات، ولكن ظهر لي الآن أن هذه أول مرة لك في زيارة العاصمة، وفي ركوب المركبات وجعلتني أفضل «برنيطة» الخواجة على عمامة السيادة، فلا حول ولا قوة إلا بالله، خلصنا يا سيدي.

الخليع (للسائق): اسكت عن هذا الكلام البارد، وهاك قرشًا سادسًا خذه وانصرف.

السائق: كن محضر خير يا حضرة الأفندي، واعلم أنني لا أقبل زيادة قرش أو قرشين مطلقًا، فإمَّا الأجرة اللائقة وإمَّا الذهاب معي إلى صاحب المركبة؟

العمدة: دونك قرشًا آخر فاتركنا واذهب لحالك.

السائق: كيف أذهب وكيف أقبل سبعة قروش في أجرة هذه المسافات الطويلة مع طول الانتظار، فهل تحسبها أجرة ركوبك من هنا إلى محل الخواجة أو أجرة انتظاري هناك زيادة عن الساعة، أو أجرة ركوبك من محل الخواجة إلى دكان الكوارع، وانتظارك مدة الأكل، أو أجرة رجوعك إلى هنا ووقوفك في الطريق عند بائع الفاكهة؟

التاجر: دكان الكوارع…! وبائع الفاكهة…! «واحرَّ قَلْبَاه مِمَّنْ قلبُهُ شبِمُ».٣

أهكذا يكون شرط الصُّحبة والوفاء تتركنا على الجوع، وتنفرد دوننا بالأكل ونحن معك لم نذق منذ أمس طعامًا؟

العمدة: ما ألجأني إلى ذلك وحقِّ الصُّحبة إلا الجُوع المُفرط، واحتياج الجسم إلى ما يقيمه، فإني أحسستُ بالنور ظلامًا في عيني من خلو البطن، وأشهد أن الجوع كافر.

السائق: أدركوني برحمتكم فهذا جندي البوليس يأخذ نمرة المركبة؛ ليكتبها في المخالفات حيث خلَّفتها واشتغلت عنها بكم.

الخليع: لقد صدَّعتنا وشغلتنا فخذ هذا القرش أيضًا، وأنا أخلصك من جندي البوليس، وإلا فإني أقوم إلى «القسم» وأرفع الشكوى لاجترائك علينا، ولا تجد في «القسم» مَنْ يرحمك.

السائق: ما باليد حيلة، أعطني ما تريد وقم اشهد عند جندي البوليس بأنني في انتظاركم حتى أخلص من المخالفات، والله يعوضني خيرًا ولا يحكم عليَّ بركوب أمثالكم مرة ثانية.

الخليع (للعمدة عائدًا): قد انتهينا والحمد لله من جميع العقبات، فلننظر الآن في تدبير شئوننا، وهلمّ فادفع أولًا مبلغ الصك المطلوب منك لصاحبنا هذا، ثم نثنّي بصاحب الحان لفك الرهن، ثم نثلث بمشتري المقتنيات اللازمة لك.

العمدة: نعم لك ذلك وهذا هو المبلغ المطلوب لصاحبنا جزاه الله خيرًا.

التاجر (بعد استلام المبلغ): أستغفر الله فالفضل والشكر لك على كل حال، ولكن يتعذر عليَّ أن أرد إليك الصك في الحال؛ لأنني تركته بالمنزل فالأليق أن تُبقي المبلغ حتى آتيك به غدًا.

الخليع: سبحان الله ما هذه المعاملة التجارية بين الأصدقاء الأوفياء، وهل يجوز بينهم ذكر الصكوك والخطوط في معاملتهم؟ فتقديم الصك وبقاؤه عندك سيّان ما دام المبلغ تَسَدَّدَ لك ودخل في جيبك.

العمدة: صدقت صدقت فليس بين الإخوان ما يدعو للتوقِّي والتَّحَرُّسِ في مثل هذه الأمور، وقوموا بنا إلى صاحب الحان.

الخليع (للتاجر ضاحكًا): انظر إليه فلا يزال قلبُه يحن وهواه يميل إلى سكان تلك المعاهد والديار.

العمدة: أقول لك الحق، إن غيظي من معاملة تلك المرأة القاسية شديد وحِنقي عظيم، ولست أنسى ضروب تفننها في التدلل عليَّ والتمنُّع مني، ولا أغفل عن تلك النظرات التي كانت ترسلها إليَّ بالتعطف والتلطف وأنا أسحبها من شعرها، وبودي لو أراها مرة ثانية فأوسعُها عتابًا وأشبعها تأنيبًا.

الخليع (مبتسمًا): أنا فهمت غرضك وعرفت نيَّتك، تريد من العتاب أن ينتهي بك إلى العُتبَى وتخرج بها من التعنيف إلى التلطيف، وما ألذَّ الرضى بعد الغضب! وما أمتن الصداقة بعد العداوة! لكني أقول لك قول المشفق الناصح: إنك مهما حاولت مع هذه المرأة، فلا يمكن أن يخلو لك وجهها بالليل مطلقًا لكثرة شغلها وازدحام الحائمين عليها، وإنما الرأي لك أن تلتمسها نهارًا وتدعوها للغداء معك في بعض جهات النزهة، وأنا أفضل نزهة الأهرام على سواها، فإنها تكون هناك خالصة لك من دون الناس بمعزل عن العذَّال والرقباء.

التاجر: ما أدقَّ الحيلة وما ألطف الرأي!

العمدة (للخليع): لله درك فما حار مَنْ أنت حاديه، ولا ضّلَّ مَنْ أنت هاديه، وهيا بنا إلى الحان أولًا لفك الرهن.

الخليع: ولعلنا نصيب خادم المرأة هناك فنرسله إليها بعرض التماسنا، ولا شك عندي في إجابة سُؤالنا.

العمدة: نعم نعم وليكن الاجتماع بها غدًا فخير البر عاجله.

الخليع: لك ذلك بكل تأكيد.

قال عيسى بن هشام: وقاموا ونحن نعجب من كيد الإنسان للإنسان بما لا يأتيه حيوان مع حيوان، ثم بادرنا نحن أيضًا إلى القيام، على أن يكون الاجتماع غدًا في الأهرام.

----------------------------------
١  النضو: المهزول من الحيوان.
٢  الميزاب: القناة يجري فيها الماء.
٣  الشبم: البارد.