العمدة في المجمع
العمدة في المجمع Ocia1825
قال عيسى بن هشام: وخرجنا في أثر الخليع والعمدة والتاجر، وقد ألقت ذكاء يمينها في كافر،١ ثم أضيئت بعد ذلك شموع الكهرباء، فعادت الشمس متوزعة في مصابيح الضياء، كالنجوم تتلألأ في أفق السماء، وتقشع دياجي الظلماء، ولما توسطنا ساحة «الأوپرا» و«الأوپرا بار»، وقف الباشا وقفة الإعظام والإكبار، يكفكف غرب الدمع والاستعبار، ويقول: سلامٌ على إبراهيم، أإبراهيم في النار، كيف لا يضطرم القلب استعارًا، ويجري الدمع مدرارًا، فلا أستطيع أواري،٢ ولا أستطيع أواري، وقد تمثل أمامي في هذه البقعة، وهي موسومة بسوء السمعة، بطل مصر، ورافع بنود النصر، وقائد جيوش الحرب وهاديها، في مفاوز الأرض وبواديها، وموقد نيران الوقائع وصاليها، وخائضُ غمرات المعامع وجاليها:

في كل منبت شعرةٍ من جسمه
أســدٌ يمــدُّ إلى الفريسة مخلبا


وكيف جاز لهم أن يضعوا عنوان البأس والجدّ، في مواضع الهزل والدَّد،٣ ويقيموا لإبراهيم صنمًا على صورته، في وسط سوق الفسوق وسرته، مشيرًا بيمناه إلى مواطن اللهو والفجور، وأماكن الفحش والعهور، ودينه ينهاهم عن تشييد الأصنام وإقامتها، ويأمرهم بكسرها وإبادتها، ويا بؤس قوم جعلوا اليد التي كانت تشير للكماة والفرسان، في ميدان الضرب والطعان، بمصافحة المنايا، ومقارعة الأفران، تشير اليوم وسط هذا الميدان، بمغازلة البغايا، ومعاقرة الدنان، فسبحان محوِّل الأحوال ومبدّل الأزمان، فقلت له: ما هذه الأفكار المحزنة، أحنينًا إلى تلك الأزمنة، وقد انقضت بخيرها وشرها، وذهبت بحلوها ومرها، وأين أنت من طريقك في الحكمة والسداد، ومن سبيلك في الهداية والرشاد؟ فخفِّض عليك من حزنك وهمك واترك تلك الهواجس فأنت ابنُ يومك، ولا تجعل لهواك القديم عليك سلطانًا مطاعًا، فذهب ما استفدناه من العلم ربحًا مضاعًا، أما إقامة التماثيل في الميادين، ومخالفتها للشرع والدين، فقد أقامها حكامنا تقليدًا للغربيين، ولمن ينكرها أحد من طلبة العلم وعلماء المسلمين، فاستنامت إليها الأفكار، ولم يوقظها التحريم والإنكار.

وأمَّا وضع التمثال في هذا المكان دون سواه، وإشارته فوق الحصان بيمناه، فلعل الآمر بوضعه أراد أن يذكر هؤلاء الغافلين الذاهبين بما كان لآبائهم الأولين، من الشأن الرفيع، والركن المنيع، أيام إمارته، وينبههم على ما انتشر ذكره في الآفاق، وخلَّدته لهم بطون الأوراق، من اقتحام المهالك، وافتتاح الممالك، تحت قيادته، وهو يشير اليوم بتلك اليد؛ ليستفزهم إلى مواقف العز والمجد، ويستنفرهم عن مواطن الخلاعة والبطالة إلى مواطن الشجاعة والبسالة، فتبسم الباشا من قولي ضاحكًا، وقال: ما عهدتك في الجواب محاولًا مماحكًا، فقلت له: دَع هذا وانظر إلى هذه البنية الإيوانية، ذات الأرائك الخسروانية، فقال: أعظم به من بناء، بين بيوت الكبراء! قلت: هو بيت لهو رفع إسماعيل قواعده، وبوأ الناس مقاعده، يشاهدون فيه صنوف الألاعيب، وضروبَ الأعاجيب، مما يؤخذ عن أساطير الأولين، وأقاصيص الراوين، وما تفتن فيه كل غادة حسناء، من جمال الزينة وحسن الرُّواء، وتفتن به كلُّ قينة هيفاء، من فنون الرقص والغناء، اقتداءً بالغربيين في ديارهم، واحتذاءً لآثارهم، وقد بقي من بعده تنفق عليه الحكومة من عيش الصانع والفلاح، لتفكهة النزلاء والسُّياح، ثم انظر أمامك إلى هذا المجتمع الملتحم، والموقف المزدحم، فالتفت فقال: ما هذه الضوضاء العظيمة؟ أمأتمٌ ما أرى أم وليمة؟ قلت له: لا بل هو مجتمعٌ عام تتزاحم فيه المناكب والأقدام، لمسامرة الأصحاب، ومعاقرة الشراب، وبينا نحن كذلك؛ إذ وقف بأصحابنا المسير، عند باب هذا الحان الشهير، فسرنا في عقبهم، ولحقنا بهم، فسمعنا الخليع يقول لصاحبيه: كونا هنا في الانتظار، حتى أعود إليكما بالأخبار، إنجازًا لوعدي، وإيفاءً بعهدي، فأجاباه بالقبول، وتقدمَا للدخول، فقال العمدة للتاجر: ما أحوجني إلى تضييع الزمن، ورياضة البدن، بشرب كأس من العقار، ولعب دور من «البليار» وقال التاجر: وما أحوج يدي إلى ملامسة ورق القمار، وأذني إلى رنين الدرهم والدينار! ثم صعدنا وراءهما إلى قاعدة بأعلى المكان، أُعدت للعب والرهان، فتقدم العمدة وهو يهزّ أعطافه وأردانه، فتسلم كُرَة «البليار» وصولجانه، وقعد التاجر وهو يرتعد من الفرق، في مجلس اللاعبين بالورق، وجلسنا نحن للنظر والسمع، في غمار ذلك الجمع، فسمعت عن يميني أحد السماسرة المعروفين بالدهاء، يقول في مناقشة لأحد أرباب الثروة والغناء:

السمسار: لا نزاع ولا جدال في أن ينابيع الثروة قد نضبت بذهاب تلك الأيام الماضية، التي يغتني الرجل فيها بكلمة ويُثري بإشارة فيصبح بها أغنى الأغنياء بعد أن كان معدودًا من الفقراء، ولقد وصل المصريون الآن إلى زمن كله ضيق وعسر ولم يبق من حكامهم من يقطع الأقطاع ويهب الضياع، وبقيَ الغني الحازم فيهم على الحال الخمول والانكماش لا يستثمر أمواله، ولا يستربح ثروته، وقد زادت الحاجات وتعددت وجوه المطالب يومًا بعد يوم، فأصبح مضطرًّا إلى الإنفاق من تليده فَسَرَى النقصان إلى رأس المال حتى إذا مضى لسبيله لم يترك لأهله وذريته، إلا ما يقوم بالكفاف وحده بعد توزعه بينهم، وكن على يقين أنه لا يمضي جيل واحدٌ على هذه الحال إلا ويندثر بين المصريين ما بقي من بيوت المجد والغنى، واعلم أنه لم يبق أمامنا اليوم سوى بيت واحد هو منبع المنابع في الثروة والمال، وكنزُ الكنوز في الغنى واليسار؛ يقوم للمصريين مقام أعظم بيت من بيوت الحكام الذين كانوا ينعمون عليهم بالسيب والعطاء، ويدفعون عنهم الضراء بالسراء، وما يخفى عليك أنه بيت البورصة.

الغنيّ: اسكت ولا تذكر لي اسم البورصة، فقد سمعنا في هذه الأيام عن فعلها بفلان وفلان ما فيه عبرة للمعتبر وموعظة للمتدبر.

السمسار: ألتمس من سعادتكم غض النظر عن الاستشهاد بفلان وفلان، فإن الخسارة لحقتهما من سوء رأيهما وشدة جهلهما، أما أحدهما فإنه كان يعتمد في المضاربة بأمواله على التفاؤل والتطير، وكان لا يأخذ إلَّا بكلام إحدى العرافتين: العرافة السودانية أو العرافة الإفرنجية، تلك بودعها، وهذه بورقها، ومن نوادره في الأخذ بالتفاؤل أنه سمع رجلًا مجذوبًا يصيح في الطريق بقوله: «اذهبْ يا يزيد» وكان لا يزال مترددًا بين البيع والشراء لا يرجح بين الهبوط والصعود، فتفاءل بالكلمة واعتمد عليها وسار من تَوِّه إلى سمسار، فأمره أن يشتري له عشرين ألف قنطار، فنصحه وحاول أن يحوّله عن رأيه فلم ينتصح ولم يتحوَّل، وهبطت الأسعار في اليوم الثاني وتوالَى هبوطها فكان ما كان من خسارته، وأما الثاني فكان جلُّ اعتماده على الأخذ بأفكار أرباب الجرائد والثقة بالأخبار الكاذبة من الموظفين، ولم يعمل برأي السماسرة الذين هم أدرى الناس بوجوه المضاربة، وأعلمُهُم بطرق الصواب فيها.

الغني: لن تزيدني والله براعتك في البيان والبرهان إلا ابتعادًا عن مضاربة البورصة وعن أهوالها، ولا أعتبرها في نظري إلا أكبر باب من أبواب المقامرة، والمقامرة هي عين المخاطرة.

السمسار: أما المخاطرة فهي لاصقة بالإنسان في كل حركة وسكون وملازمة لعمله في كل زمان ومكان، ومن أراد أن يتوقَّى الأخطار ويسلم من المخاوف، فلا يباشر عملًا من الأعمال، والأولى له أن يترك هذا العالم إلى سواه، واسمح لي بآخر قول أقوله لك في هذا الباب وهو أنك أخبرتني بمقدار محصولك في هذا العام، وهو ثلاثة آلاف قنطار مخزونة عندك إلى اليوم، لم تبعها تربصًا لصعود الأسعار، ولم تبال بما يلحق القطن في طول خزنه من نقص الوزن وما يتهدده من بقية الأخطار كالسرقة والحريق، فإذا كنت فضَّلت الانتظار لصعود الأسعار على هذه الحال في ثلاثة آلاف قنطار، فما الذي يمنعك عن مثل هذا العمل في ثلاثين ألف من «الكونتراتات» دون كلفة ولا مشقة، كالتي احتملتها في استخراج المحصول؟ فإنك لا تدفع هنا ثمن أرض ولا تنفق على حرث ولا تؤدي ضريبة، ولا تبذل ماء وجهك لري الأطيان، ولا تحني ظهرك لأصاغر الحكام، وما دخلت في قضية ولا وقعت في منازعة ولا تخوفت شيئًا من الآفات، سماوية كانت أم أرضية، بل هو ربح يأتيك عفوًا صفوًا ولا رأس مال له سوى أربعة حروف أو خمسة تخطها بيمينك في التوقيع.

الغني: يجوز أن يكون في قولك هذا بعض ما يقنع، ولكني لا أجد نفسي تطمئن يومًا إلى ولوج هذا الباب.

السمسار: أنا لا أكلفك أمرًا عظيمًا ولا أدعوك إلى أدنى خسارة، وما عليك إلا أن تجرب صدق نصيحتي، فتشتري ألفين من «الكونتراتات» فتنتظر بها صعود الأسعار مع أقطانك المخزونة، وأنا أضمن لك الربح ما دمت آخذًا برأيي، ولا تستمر في هذا الانكماش والحذر اللذين هما علة تأخر المصريين، وخذ في النشاط والإقدام اللذين هما سبب تقدم الغربيين، واعلم أن الفرق في سرعة الربح بين ما يشتغل به الناس من التجارة والصناعة والزراعة، وبين أشغال البورصة و«الكونتراتات» كالفرق ما بين السفر على ظهور الجمال والطيران على أجنحة البخار، أو ما بين نسخ الكتب بالخط ونسخها بالطبع، ولكل زمان ما يقتضيه من العمل ويحكم به من السير، وأنت المخير مع ذلك فيما ترضاه لنفسك.

الغني: وكيف حال الأسعار اليوم؟

السمسار: كما كانت أمس وهي فرصة ثمينة للشراء.

الغني: خذ لي اليوم خمسمائة قنطار للتجربة.

قال عيسى بن هشام: وتركنا هذا العصفور قد وقع في يد الصائد المحتال، والتفتنا إلى ذات الشمال، لسماع ما يدور من الجدال، بين رجل فرغ كيسُه من المال، وامتلأت رأسه من الآمال، وبين تبِيع محامٍ من الأجانب، يتلقَّط القضايا من كل جانب:

التبيع: لا أشير عليك أبدًا برفع هذه القضية أمام المحاكم الأهلية، وهي معروفة بجبنها وخوفها من الحكم على الحكومة في مثل هذه القضايا، ولئن حكمت مرة فقلما تبادر إلى التنفيذ، أما المحاكم المختلطة فإنها لا تحسب لغير الحق حسابًا، وسواء لديها الحكومة والأهالي، والتنفيذ فيها أسرع من نفاذ السهم عن القوس، كما أن المحاكم الأهلية لا تعرف قدر هذه القضية ومنزلتها من التاريخ، ولا تقدر لك الفائدة من عهد وضع اليد عليها إلى الآن، فلا مندوحة لك عن المحاكم المختلطة، ولكن أخبرني قبل كل شيء عن تلك الشجرة هل لها ذكرٌ في الحجة باسمها التاريخي المعلوم، وهل يمكنك إثبات نسبك متصلًا إلى الواقف؟
صاحب القضية: أما الشجرة فمذكورة في حجة الوقفية أنها «شجرة العذراء»، وهي قائمة على أرض سواد، وأما نسبي فهو متصل بأحد عتقاء الواقف السلطان الغوري، ولكن من لي بدخول القضية في المحاكم المختلطة وأنا رجل من رعايا الحكومة؟ ومن لي بمحامٍ أجنبي وأنت تعلم ما يلزم لمثله من المبلغ الجسيم في «مقدَّم الأتعاب» الجعالة؟

التبيع: هون عليك الأمر، أما رفع القضية إلى المحاكم المختلطة، فإنه سهل هين يكون بالتنازل عن القضية لأحد الأجانب، وأما المحامي الأجنبي فأنا أتكفل لك بإقناع المحامي الذي أشتغل معه ليقبل القضية غير أن يلتفت إلى «مقدم الأتعاب»، وإنما يتفق معك على مناصفتك فيما تأتي به القضية من الأموال، وأما الأجنبي الذي تتنازل له عن القضية فهو حاضر في مكتبنا تحت يدنا لتسخيره في مثل هذه القضايا، وما عليك الآن سوى النفقات والرسوم القضائية.

صاحب القضية: لا بأس بما تقول ولكن ليس عندي ما أستغني عنه اليوم لتلك النفقات، ولو كنت واثقًا بعض الوثوق بكسب القضية لبادرت إلى بيع الحصة، التي بقيت لي من العقار، ولكنني أخشى أن تذهب الحصة وأخسر القضية فأصبح بلا مال ولا أمل.

التبيع: لو كنت تعلم بمهارة معلمي وما له من علو الشأن في المحاكم المختلطة، ومن الاتصال بقناصل الدول لاستخرت الله في بيع الحصة ورفع القضية.

صاحب القضية: استخرت الله واعتمدتُ على هذا الرأي.

التبيع: فقد أذنتني حينئذ بالكلام مع المعلم، ولك أن تحضر غدًا لعقد الشروط.

صاحب القضية: أمهلني أيامًا حتى أجد من يشتري الحصة بالثمن المناسب.

التبيع: أنت في سعة من الوقت لبيع الحصة، إنما يجب أن تبادر بإحضار الأوراق والمستندات من الغد للاطلاع عليها ودرسها.

صاحب القضية: بيني وبينك مساء الغد في هذا المكان.

قال عيسى بن هشام: وتركنا أيضًا هذه السمكة، تتخبط في الشبكة، ثم حولنا النظر إلى العمدة في لعبة البليار، فما راعنا منه إلا أن ضرب الكرة بصولجانه ضربة أفقية فأطارها إلى وجه أحد الجالسين من الأجانب، فاستشاط غضبًا واحتدم غيظًا، وقام هاجمًا على العمدة يريد به شرًّا وهو يدمدم ويطمطم والعمدة يجمجم ويغمغم، وكاد يقع ما تسوء عقباه لولا أن أسرع التاجر، فحال بينهما وأخذ بيد الأجنبي يستعطفه، ويبالغ في الاعتذار إليه حتى لانت شكيمته بافتتاح زجاجتين من «الشمبانيا» لعقد الصلح على حساب العمدة، ثم عمد العمدة إلى الجلوس فلم يمهله الذي كان يلاعبه وطلب منه استكمال اللعب، فقام إليه مكرهًا وقلبُهُ يرتجف ويده ترتعش، فما هي إلا الضربة الثانية حتى أخطأ الكرة بصولجانه، فأصاب غشاء البليار فخرَّقه وشقه، فذهب الخادم مسرعًا وعاد بصاحب «البار» ومن ورائه بقية الخدم وهو يقول لهم بصوت عالٍ: كيف تسلمون عصا البليار لهذا الفلاح الأخرق فيخرقه ويتلفه؟ ثم وقف للعمدة يطالبه بثمن ما أتلف وتعويض ما عطل وقدَّره له بخمسة عشر جنيهًا لا يتجاوز عن درهم واحد منها، فأخرج العمدة كيسه، فأحصى ما فيه عدًّا فإذا هو لا يزيد عن ثلاثة عشر جنيهًا فلم يقبل منه، فتوسط إليه بعض الحاضرين، فقبلها متكرهًا وجلس العمدة متكدرًا، ولقد كان اللعب بالأفعوان، أقرب إلى السلامة من هذا الصولجان، ثم استمر جالسًا ينتظر انتهاء التاجر من لعبه حتى قام عنه زاعمًا أنه خسر فيه ثلاثة جنيهات، وقعد بجانبه يظهر التأسف والتندم فقال له العمدة: دع عنك الأسف والكدر فالضائع ضائع ومصيبتك على كل حال أخف وقعًا من مصيبتي، وبينما هما على هذه الحال إذا بالخليع قد حضر من غيبته يقول لهما هاشًّا باشًّا وفرحًا مرحًا:

الخليع: أشرق أنسنا وسعدت ليلتنا وطاب وقتنا وانقضت حاجتنا، وأسأل الله أن يطيل لنا ليلنا ويبعد عنا نهارنا فقد تم مرادنا وهلم بنا.

العمدة: ونحن نسأل الله أن يقصر ليلنا ويدني منا نهارنا، فاقعد معنا نقصص عليك ما دهانا في غيابك.

الخليع (بعد سماع القصة): وَيْلِي ثم وَيْلِي فأنا الملوم؛ إذ تركتكما فوقع لكما ما وقع، ولكن قدر الله لكما ولطف بكما، أما مصيبتي الآن فهي أعظم من مصيبتكما وأبلغ، فماذا أقول وماذا أفعل؟ وكيف أدفع وبأي عذر أعتذر، وقد أخرجتُ البيضة من خدرها والظبية من كناسها، واستعدَّ المجلس لحضورنا وأنسنا؟

التاجر: الأمر أيسر مما تخشاه فما يفوتنا الليلة ندركه غدًا.

الخليع: ذاك شيء لا يُدرك في كل وقت وحين، وهذه المرة هي بيضة الديك لبيضة الخدر، وكيف يمكن فضّ هذا المجلس وتأجيله وقد مضى قطع من الليل وتعذرت سبل الرجوع.

كيف الرجوعُ بها وحول قبابها
سُمْــرُ الرمــاح يمـلن للإصغاء؟

فخلصاني ناشدتكما الله مما وقعت فيه وأنقذاني من هذا البلاء العظيم.

التاجر: وما وجه الخلوص وقد علمت بتفصيل الحال؟

العمدة: تالله إن الحرمان من هذا المجلس النادر لأعظم مصابًا من كل ما نابنا، ولو كان الوقت نهارًا لأسرعت إلى «البنك»، فأخذت ما يلزم لنا من الدراهم.

التاجر: إذا كانت الرغبة انتهت بك إلى هذا الحد، فالأمر يسير ومعي الآن ما يكفي وأنا أقوم لك مقام «البنك» فكم تطلب، ولأي ميعاد تكتب؟

الخليع: هكذا يكون الصديق، في وقت العسر والضيق، فحيَّاك الله وأبقاك.

العمدة (للتاجر): أعطني عشرين جنيهًا تكون معي على سبيل الاحتياط.

التاجر: ولك الفضل، هاك سبعة عشرًا جنيهًا تبلغ العشرين المطلوب بالثلاثة التي خسرتُها هنا أمامك، وألتمسُ منك كتابة ورقة على سبيل التقييد.

قال عيسى بن هشام: فما كان أسرع من الخليع في استحضار الدواة والقرطاس، لإجابة هذا الالتماس، فطلب العمدة منه أن يكتب الصك عنه، ثم خرجوا والعمدة يجرر أذياله، ويحكُّ قَذَالَه،٤ وخرجنا خلفهم في الحال، نتبعهم متابعة الظلال.

------------------------------------------
١  ذكاء: اسم للشمس. والكافر: الليل.
٢  الأوار: حر النار.
٣  الدد: اللهو اللعب.
٤  القذال: ما بين الأذنين من مؤخر الرأس.