أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: سياسة الرسول التوحيدية الخميس 08 فبراير 2024, 4:47 pm | |
| الفصل الثالث سياسة الرسول التوحيدية الرسول ورسالة التوحيد إن المسيرة الكفاحية للدعوة الإسلامية، ونضال الرسول الملحمي لنشر رسالة الإسلام، ومن ثم الحروب التي خاضتها الدعوة ضد الأنظمة القبلية الوثنية، جميع هذه الأمور التي استعرضناها في الصفحات السابقة، كان هدفها نشر راية التوحيد في ربوع الجزيرة العربية... وإذا كانت الدعوة الإسلامية توحيدية على صعيد الفكر الديني فهي بدورها توحيدية على الصعيدين السياسي والاجتماعي، إذ استطاعت عبر نضال الرسول الملحمي أن تتوج بتوحدي جزيرة العرب وصهر القبائل المتنافرة في بوتقة الإسلام كتلة واحدة متراصة.
هذا، وقد ظهرت سياسة الرسول التوحيدية مع استقراره في المدينة التي فتحها بالقرآن الكريم وحده في أعقاب الهجرة، وإرساء قاعدة الدولة الإسلامية الأولى، ووضع أول دستور للمدينة، وهكذا أخذت تبلور مفاهيم الأمة الإسلامية...
الأمة الإسلامية كانت الحياة العربية قبل الإسلام تقوم أساساً على نمطية خاصة، فالقبيلة هي التنظيم الاجتماعي السياسي الذي يظم حياة الفرد في القبيلة، فكان انتماء العربي الجاهلي انتماء قبلياً، وليس هناك أية رابطة عملية توحد القبائل وتجمعها، بل على العكس كانت القبائل متناحرة متحاربة، وإذا ما قامت أحلاف قبلية، فلمناصرة قبيلة على أخرى، وبالتحديد كانت القبيلة العربية تشكل وحدة سياسية مستقلة..
ومن هنا كان الانقلاب الذي أحدثه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عميقاً في حياة الجزيرة العربية إذ استطاع بسياسته الكفاحية التي تمليها روح الإسلام أن يحول هذه الوحدات القبلية المستقلة ويرتقى بها على سيد التطور الاجتماعي لتظهر في إطار الأمة الإسلامية... ويبحث المستشرق مونتجمري وات الفرق بين مفهومي القبيلة والأمة، بقوله: ((الفرق البديهي بين الأمة والقبيلة هو أن الأمة تقوم على الدين، بينما تقوم القبيلة على القرابة، ولا نجد هذه الفكرة في أية نظرية، ولكنها فكرة ضمنية كامنة)).
وكان التطور السياسي للأمة الإسلامية التي وضع أسسها في المدينة، ثم تطورت بإجلاء اليهود عنها، وانتشار الإسلام في جزيرة العرب، يعني فيما تعنيه الجماعة في زمن خلفاء الرسول فغدا يشمل الجماعات والأجناس والشعوب التي تعيشها في ظل « دار السلام » تمييزاً لها عن « دار الحرب »...
هذا، ويناقش المستشرق الفرنسي مارسيل بوازار في كتابه: « إنسانية الإسلام » فكرة « الأمة الإسلامية » ومغايرتها المفهوم الغربي، وعلاقة الفرد بهذه البلاعة، يقول: ((ليس لفكرة " الأمة " الإسلامية مقابل في فكر الغرب ولا في تجربته التاريخية. فالجماعة الإسلامية، وهى تجمع من المؤمنين يؤلف ينهم رباط سياسي وديني في آن واحد، ويتمحورون حول كلام الله القدسي وتوحدهم العزة بالانتساب إلى التنزيل الأخير والحقيقي لا تطابق فكرة « الشعب » التي كانت سائدة عند مسيحي القرون الوسطى، ولا فكرة " الأمة " الغربية التي راجت في القرن الثامن عشر. وصعوبة التوافق منبثقة عن فكرة الكائن البشري. فالإنسان يسهم، بالنسبة إلى الفكر الغربي، في الحياة الاجتماعية المقسمة إلى طبقات ومراتب بنشاطه الخارجي والفعلي، وعلى العكس من ذلك فإن الفرد يندمج في الإسلام بالجماعة المؤمنة بالتساوي عن طريق شهادته، الفردية واستبطان إرادته وصفاته الخاصة كمؤمن، فالنية المعلنة والجهر بالكلام شرطان من شروط الانتماء إلى المجتمع. وبصورة تلازمية يحدد الامتثال لمشيئة الله البنية الاجتماعية. وهكذا تكون النظم التأسيسية للجماعة مشروطة بالعبادة الواجبة عليها نحو الله)).
كسب القبائل العربية بالمعاهدات السياسية إلى جانب النضال العسكري كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعمل على كسب القبائل العربية ولم قامة المعاهدات والمواثيق ينهما، وأوضح دليل على ذلك دستور المدينة، الذي وحد المسلمين واليهود في المدينة والقبائل العربية المجاورة، وجعل من النبي الحاكم السياسي والإداري للمدينة، إن خولته الوثيقة أن يكون المرجع الوحيد لحل الخلافات التي قد تنشب بين أطراف التحالف، وكان الاعتراف السياسي بقيادته اعترافاً ضمنياً بنوته.
وكان دستور المدينة نصياً سياسياً للرسول ولرسالته التوحيدية، فقد سرت فيه القبائل العربية القاطنة في المدينة حتى رغبت عدة قبائل أن تدخل في ظل وثيقة المدينة، لتتمتع بحماية السلم الإسلامي، الذي شكل قاعدة الأمة الإسلامية المقبلة القائمة على أسس دينية.
يقول مونتجمري وات: ((وكانت المشكلة الأولى هي استتباب السلم بين مختلف قبائل المدينة. وكانت مشكلة ليست في المدينة فقط بل في كل شبه الجزيرة العربية. ولما نجح محمد في إقامة « السلم الإسلامي » في المدينة مع القبائل المجاورة، أرادت قبائل أخرى أن تستفيد من النظام الجديد. ولم يعارض محمد من جهة امتداد نظام السلامة الذي أقامه إذا كانت الترتيبان التفصيلية مرضية، فإن امتداده يؤدي إلى قدر كبير من السلامة. تخيل محمد نفسه يتوسع بالأمة الإسلامية -أي جماعة الذين يعتنقون الإسلام أو يؤمنون بالله-، دون اعتناق الإسلام، وقد احتموا به أو برسوله)).
ويرى كثير من الباحثين في الشرق والغرب، وكذلك لفيف من المستشرقين أن اهتمام الرسول بقبائل الشمال، كان من أهدافه الإسلامية توجيه العرب نحو بلاد الشام إدراكاً منه لأهمية هذه المنطقة استراتيجياً لمستقبل الدعوة الإسلامية، لتكون مجالاً للفتوحات المقبلة.. وتأمينا "للسلم الإسلامي" الذي يقوم حق التقويم القضايا الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية معاً انطلاقاً من ((اعتبار رسالة محمد على أنها بناء نظام سياسي اجتماعي واقتصادي على أسس دينية)).
ويبحث المفكر مونتجمري وات في مكان آخر الأهمية الاقتصادية للتجارة مع بلاد الشام بالنسبة لجزيرة العرب ولمستقبل الفتوحات الإسلامية، يقول: ((وكانت مسألة أخرى تشغل حكم محمد. وهي أنه كان يحرم القتال والنهب بين المسلمين وبهذا إذا دخل عدد كبير من القبائل أو قبلت زعامة محمد لها، فكان عليه أن يبحث عن متنفس آخر لطاقاتها، وقد نظر محمد إلى المستقبل ووجد أنه يجب توجيه غرائز الغزو لدى العرب نحو الخارج، نحو المجتمعات المجاورة لشبه الجزيرة العربية، كما أدرك إلى حد ما أن نمو طريق سورية هو إعداد للتوسع)).
هذا، وناقش الباحث العسكري محمود الدرة، ما ذهب إليه الباحثون العسكريون الغربيون والمستشرقون ورد عليهم بما يؤكد عالمية الرسالة وطموح الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يعم الإسلام المعمورة وخاصة البلدان المجاورة لجزيرة العرب.
يقول الباحث العسكري محمود الدرة: ((والحقيقة هي أن محمداً قد رسم لأمته خطوط السياسة السوقية (الاستراتيجية) ساعة حصار المدينة، فضلا عن الحركات العسكرية التمهيدية التي أمر بها باتجاه الديار الشامية، وبأحاديثه المعروفة بهذا الخصوص. كما أن رسالته كما جاء في القرآن الكريم تؤكد على أنها للعالمين جميعاً)).
ومن الثابت أن الرسول في أحاديثه ورؤاه المستقبلية كان مدركاً بإيمان النبي المرسل أن رسالة الإسلام ستعم الأرض، وقناعته هذه لم تتزحزح البتة حتى في أحلك الظروف السياسية وأشدها خطورة على مستقبل الإسلام إبان موقعة الخندق أو الأحزاب حيث تجلت شخصية الرسول العظيمة ورؤاه العملاقة مما حفر في وجدان المسلمين عميقاً، وغدت نبوءة الفتوحات واقعاً، حين انطلقت رايات الفتح خارج الجزيرة تأكيداً على عالمية الرسالة.
ولندع الباحث الإسلامي مولانا محمد بتحليل هذه القضية النبوءة، يقول: ((أن التاريخ لم يدون لنا غير حادثة مفردة عن شخصية كان لها سلطان روحي وزمني - أيضاً على أمة من الأمم. ومع ذلك فقد عملت مثل عامل عادى، جنباً إلى جنب مع أتساعها في ساعة الحرج الوطني العظيم.
إنه لمن سمات شخصية الرسول المميزة أنه كان يضفي رواء على أيما شيء يشارك في صنعه. فحيثما وضعته أدى واجبه في كياسة عجيبة. ولئن كان، من ناحية، حكم الملوك رجولة، لقد كان -في الوقت نفسه- أكثر الرجال جلالاً ملكياً. وفيما هم يحفرون انتهوا إلى حجر صلد. وبذلوا كلهم قصارى جهدهم لتحطيمه.
وهكذا اقترح على الرسول، الذي كان قد رسم حدود الخندق بيديه الاثنتين، أن يجيز لهم الانحراف بعض الشيء، عن الخطة الأصلية، فلم يكن منه إلا أن تناول معولاً وانهمك في أداء المهمة التي أعجزت رجاله لا لقد هبط إلى جوف الخندق وراح يقرع الصخرة بعنف، فانزاحت مطلقة في الوقت نفسه شرارة نار لم يكد الرسول يلمحها حتى صاح، يتبعه أصحابه، « الله اكبر» وقال إنه رأى في الشرارة أن مفاتيح قصر الملك في الشام قد آلت إليه. وضرب الصخرة كرة أخرى فانشقت، مطلقة شرارة النار نفسها. وكرة ثانية ارتفع التكبير: « الله أكبر» ولاحظ الرسول أنه وهب مفاتيح المملكة الفارسية. وعند الضربة الثالثة تناثرت الصخرة قطعا وأعلن الرسول أنه رأى مفاتيح اليمن تصبح ملك يديه ثم أوضح قائلاً إنه، في المرة الأولى، اهلع على قصر قيصر، وفي المرة الثانية على قصر أكاسرة فارس، وفي المرة الثالثة على قصر صنعاء ،وإنه أنبىء، أن أتباعه سوف يمتلكون تلك البلاد كلها.. إنها لظاهرة رائعة.
ولقد كانت قوة جبارة، تتألف من أربعة وعشرين ألف رجل، تقف عند أبواب المدينة نفسها على أتم الاستعداد لسحق الإسلام، وكانت بلاد العرب كلها متعطشة لدماء المسلمين، وفي غمرة من سحب هذا الخطب الرهيب تلمح عين الرسول شعاعاً قصياً يؤذن بالقوة التي ستتم للإسلام في المستقبل، أليس ذلك شيئاً يتخطى أبعد طاقات الخيال البشري؟ ومن غير الرب الكلي الحكمة والكلي العلم يستطيع أن يكشف للرسول أسرار المستقبل هذه في لحظة كان الإسلام مهدداً فيها بالفناء المطلق؟)).
رسل محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك وعالمية الإسلام بعد صلح الحديبية الذي عقده الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- مع قريش، وظهور الإسلام كقوة في جزيرة العرب، ونضوج الدعوة الإسلامية، كان قرار الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يؤكد على عالمية الإسلام، وأنه دين الله للناس كافة، وذلك بإيفاده الرسل إلى ملوك الدول المجاورة، يدعوهم فيها إلى الإسلام، وذلك في السنة السابعة للهجرة، فحملوا له الرسائل إلى كل من هرقل الروم، وكسرى الفرس، ومقوقس مصر، ونجاشي الحبشة، وعامل كسرى في اليمن، وعامل الروم شرحبيل بن عمرو على بصرى على الحدود الشمالية لجزيرة العرب عند تخوم بلاد الشام.
هذا، وإن دلت هذه الرسائل على أمر فتلك الغاية التي كانت وراء قصد الرسول، وهي نشر العقيدة الإسلامية خارج جزيرة العرب، لأن الإسلام دين عالمي، وأنه رسول الله إلى الناس كافة. أن اشتملت هذه الرسائل جميعها على الدعوة إلى الوحدانية، وكانت متوجة بالآية الكريمة التي تدعو أهل الكتاب إلى تحقيق ما هو، مشترك بين جميع الأديان السماوية، أي عبادة الله وحده وأن لا يكون له شريك من آلهة أخرى، أو بشر، تقول الآية الكريمة: (قل يا أهل الكتاب تعالواً إلى كلمه سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) (س3، الآية 64).
يقول الباحث الإسلامي مولانا محمد علي: ((والواقع أن الآية تلفت الانتباه إلى مبدأ لو اصطنع اليوم إذن لوضع حداً لجميع المنازعات الدينية، صاهراً مختلف الأنظمة في دين كوني واحد، وصاهراً البشرية كلها في أخوة كلية واحدة. إنه يقرر، ابتغاء إزالة الفروق جميعاً، أن كل ما هو مشترك بين جميع الأديان يجب أن يقبله الجميع، كأساسي يبدأ به، ثم تشاد فوق الأساس بيع التفاصيل الدينية المتناغمة مع هذه الحقيقة الأساسية. وهكذا تستطيع أديان العالم كلها أن تتلاقى على أرض مشتركة وتسوي خلافاتها بطريقة حبية. والواقع أن فكرة الدين الانتقائي التي انبثقت مؤخراً تنسجم مع الحقيقة نفسها التي دعا إليها الإسلام منذ ثلاثة عشر قرناً)).
لقد كانت مواقف الحكام والملوك مختلفة في ردود أفعالها حين تلقت رسائل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول آتيين دينيه في كتابه: "حمد رسول الله": ((فتلقي المنذر، ملك البحرين الرسالة فأسلم، وكذلك فعل نائب ملك اليمن. وبعث المقوقس ملك مصر بالهدايا الثمينة إلى محمد، وكان من بين تلك الهدايا جارية شابة بارعة الجمال يقال لها: مارية القبطية، تزوجها محمد. وكان من بينها أيضاً حمار يقال له يعفور وبغلة تدعى دلدل. أما هرقل إمبراطور الرومان والنجاشي ملك الحبشة، فقد رد كل منهما الدعوة برسالة غاية في التلطف والاحترام.
غير أن كسرى ملك الفرس أقسم ليعاقبن النبي على جرأته، فنزل عليه في الحال غضب الله، أن اغتاله ابنه شيرويه، وتبوأ عرشه، ومزق الحارث بن أبي شمر رسالة النبي، فرأى مُلكه يتمزَّق، جزاءً له من الله على تمزيق رسالة محمد، وكان الحارث بن عمير الرسول الوحيد الذي استقبل استقبالاً مشيناً، ثم اغتيل عند الكرك بالبلقاء بأمر من شرحبيل الغسانى حاكم تلك البلاد التي كانت تخضع للرومان)).
هذا وتتفاوت مواقف المستشرقين والباحثين الغربيين من مسألة حقيقة الوفود، بين التصديق والإنكار والدهشة والإعجاب، والتشكيك في صحة الأمر... رغم ثبوتها وخاصة بعد العثور على الرسالة التي وجهها الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المقوقس حاكم مصر.
يقول الباحث العسكري غلوب باشا: ((حكم بعض المؤرخين المعاصرين أثاروا بعض الشكوك في موضوع الرسائل فليس هناك في ما حفظ عن حياة النبي ما يشير أن النبي قد تصور أو توقع احتلال سورية وفارس. ولقد أدهشت الانتصارات العظيمة التي حققها العرب بعد وفاة النبي المسلمين أنفسهم، وهي انتصارات ما كانت لتتحقق لولا أن النبي قد تنبأ بوقوعها. لكن مارية القبطية كانت من الناحية الأخرى شخصية تاريخية)).
هذا وقد ناقش الباحث الإسلامي مولانا محمد على، الظروف التي أحاطت بتوجيه الرسائل إلى الملوك وإيمانه العميق بالانتصار النهائي للإسلام، وأن ضياءه سيعم المعمورة، وأن الإسلام يمتلك القوى الذاتية للصمود، رغم كل القوى المضادة وأنها تشير إلى نقطة هامة أخرى هي أن محمداً كان رسولا من الله، وهيهات أن يكون دجالاً أو صاحب عقلية منحرفة، كما ذهب إلى ذلك بعض المستشرقين المُعادين لرسالة الإسلام.
|
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: سياسة الرسول التوحيدية الخميس 08 فبراير 2024, 4:47 pm | |
| يقول الباحث الإسلامي مولانا محمد على: ((إن الظروف التي أحاطت بتوجيه هذه الرسائل إلى الملوك والأمراء لتستحق شيئاً من التأمل والاعتبار. فلو أن الرسول وجهها بعد إخضاع بلاد العرب برمتها إذاً لكان في أمكان الباحث أن يعتبرها إجراء أوحى به الطموح. ولكن ما الظروف التي كانت سائدة فعلاً في تلك الآونة؟
كانت المدينة قد حوصرت قبل ذلك باثني عشر شهراً ليس غير، وكان ثمَّة أمل ضئيل في نجاة نفس مسلمة واحدة. لقد كان المسلمون، حتى في ذلك الحين أضعف من أن يشقوا طريقهم إلى مكة لأداء فريضة دينية هامة كالحج. وكان المشركون لا يزالون هم أصحاب السلطان، حتى لقد فرضوا شروط الصلح، منذ فترة يسيرة، على المسلمين. وفي كل ناحية من بلاد العرب كان الإسلام محاطاً بالأعداء. وكان تناثر المسلمين هنا وهناك لا يغير من الموقف إلا قليلاً.. ومع ذلك فإن إيمان الرسول بانتصار الإسلام النهائي لم يتزعزع لحظة واحدة، في وجه تلك الظروف الموئسة كلها، كان الرسول واثقاً كل الثقة من أن الإسلام سوف يسود آخر الأمر، وكان في ميسوره أن يرى بعين بصيرته النافذة ذلك اليوم الذي سينير ضياؤه فيه كل زاوية من زوايا العالم. إلى هذا الحد كان إيمانه بقوة الإسلام عميق الجذور، وإن في هذا لدرسً نافعاً لبعض مسلمي العصر الحاضر الضعيفي الثقة بإمكان انتشار الإسلام في ديار الغرب، ذلك بأنهم يعتقدون بأنه ليس ثمة إمبراطورية جبارة تسنده وتدعمه. "أن الحق لا يعتمد، في بقائه وانتصاره، على القوة. إن له من القوة الذاتية ما يمكنه من الصمود". وهذه النقطة جديرة أيضاً باعتبار الناقد العادي للإسلام. أمن الممكن لدجال من الدجالين أن ينعم بمثل هذا الإيمان الراسخ بنجاحه النهائي؟
مردها إلى عقلية منحرفة أن يتأملوا قليلاً في النجاح العظم الذي حظي به الإسلام بعد سنوات معدودات انقضت على توجيهها. وإذا كانت هذه الوقائع تشير إلى أن محمداً لم يكن لا دجالاً ولا معتوهاً فلم يبق إذاً غير استنتاج واحدا يفرض نفسه على الناقد النزيه -أعنى أنه كان رسولاً من رسل الله- إن هذه الرسائل لتثبت أيضاً الحقيقة القائلة بأن الرسول اعتبر الإسلام منذ البدء، ديناً عالمياً. لم النصرانية لم تدع العالمية. ويسوع نفسه لم يدع مثل هذا الوضع لقد قال، في وضوح، انه جاء لهداية خراف إسرائيل الضالة. بل رفض أن يصلى على امرأة غير إسرائيلية. أما محمد، صلوات الله عليه -، فقد أعلن على العكس منذ فجر بعثته بالذات، أنه مرسل إلى البشر كافة. ولم تكن هذه دعوى فارغة. والحق أنه لم يدخر وسعاً لتحقيق هذا المثل الأعلى في حياته هو، فدعا مختلف الملوك إلى قبول الحق الذي جاء به الإسلام)).
عام الوفود وانتشار الإسلام في جزيرة كان العام التاسع للهجرة حافلاً بأحداث ترسيخ الرسالة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية، أن أخذت القبائل العربية البعيدة تدين بالإسلام، وتظهر للرسول -صلى الله عليه وسلم- الطاعة والإذعان.. وفي هذا العام تدفقت على المدينة الوفود التي تمثل مختلف القبائل، مظهرة رغبتا في الانضواء تحت راية الهداية الإلهية باعتناقها طوعاً الإسلام ديناً.
ويتحدث المستشرق الروماني جيورجيو عن هذه المرحلة في حياة الرسول فيقول: ((ونصل هنا إلى نقطة هامة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- متصلة بعام الوفود، فالمسلمون يسمون هذه السنة التاسعة "عام الوفود" أي "سنة السفراء والبعثات" فمحمد -صلى الله عليه وسلم- قبل تسع سنوات من هذا التاريخ خرج من مكة كيلا يقتله المشركون، وهاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر. وكانت الهجرة كما رأينا ذات قيمة معنوية كبيرة للمسلمين. ولم ننس أن قريشاً منحت جائزة قدرها مئة ناقة لمن يمنع محمداً عن هذه الهجرة حياً أو ميتاً. في ذلك الوقت، وقد مضى تسع سنوات على الهجرة، وفق النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى فتح مكة، كما وفق إلى دخول خصومه الذين كانوا يرغبون في قتله، في الإسلام، حتى عكرمة بن أبى جهل أسلم، وسقط في ميدان الجهاد شهيداً، كما أسلم أبو سفيان الذي كان قائد جيش مكة في أحد والخندق، وعينه النبي -صلى الله عليه وسلم- حاكماً على نجران، وغدا خالد بن الوليد أحد القواد البارزين من المشركين، من أبرز قواد الإسلام، وملقب بسيف الله. ولم يفتح محمد في هذه السنة (التاسعة) مكة وحدها، بل فتح الجزيرة كلها، وغدا الجميع مسلمين أو إلى جانب المسلمين. وقد انتشر الإسلام من السنة الأولى للهجرة إلى السنة العاشرة بمساحة قدرها 822/ ألف كم 2 تقريباً)).
وينتقل المستشرق جيورجيو للحديث عن كيفية استقبال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفود القبائل العربية، بكل بساطة وتواضع جم، وهو الحاكم الفعلي لكل جزيرة العرب يقول: ((وقد استقبل النبي في ذلك العام السفراء والممثلين عن القبائل في المدينة ولكثرة هذه الاستقبالات سمي هذا العام «بعام الوفود». ولان محمد في ذلك الوقت رئيس الجزيرة العربية كلها دينياً وسياسياً وعسكرياً. ومع هذا فإن الوفود، عندما كانت تفد عليه، تراه جالساً على حصير مضفور من ورق شجر النخيل، وهذا هو أثاث المنزل كله. وعندما كان يفد الوفد يستقبله بلال المؤذن الحبشي، ويدخله غرفة النبي -صلى الله عليه وسلم-. وحين تحط الوفود في المدينة كانت تنزل في بيت "رملة بنت الحارث" الواقع في محلة (النجارية)، ضيوفاً على الحكومة. وكثيراً ما ان يفيض عدد الوفود، فيضيق المنزل بهم، مما حدا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يأمر بأن تنصب الخيام في المسجد، لينزل فيها من لا يجد مكاناً في المنزل)).
ويقول الباحث مونتجمري وات: ((تقول الرواية التقليدية للسنتين الأخيرتين من حياة محمد إن معظم القبائل في شبه الجزيرة العربية دخلت الإسلام وتسمي السنة التاسعة للهجرة (نيسان 630-631م) « عام الوفود » فقد أرسلت كل قبيلة وفدها إلى محمد لاعتناق مبادىء الدين الجديد)).
رَدَّ المفكر الإسلامي مولانا محمد على، في عام الوفد خير رد على أولئك المتعصبين من أعداء الإسلام الذين لم يروا أنه انتشر إلا بحد السيف وحده... وأن السلام كان من أقوى بواعث نشره في سائر أرجاء الجزيرة العربية... وأن الرسول الذي كان يعرض نفسه على أفراد القبائل ووجوهها فلا يرى سوى الإعراض عنه والسخرية به، بله الإهانة والتعذيب قد أخذت هي تسعى إليه، وكيف كان يستقبلها، وأنه -عليه السلام- لم يرفع الحسام إلا دفاعا عن حق، فذوداً عن وجود، وإعلاء لكلمة الله في ربوع الجزيرة العربية.
يقول المفكر الإسلامي مولانا محمد على: ((وكان الإسلام قد اكتسب الآن شعبية عامة، في طول بلاد العرب وعرضها. لقد انتشر نباً الانتصار النهائي إلى أقص زوايا الجزيرة. ولم يكن الناس غافلين عما جرى، طوال سنوات وسنوات ، بين الرسول وقريش، في لهفة وشوق، مراحل الصرع كلها. لقد عرفوا كيف عذبته قريش وعذبت أصحابه لتبشيرهم بالفضيلة وبوحدانية الله، وكيف قامت - بعد هجرتهم - بمحاولات متعددة استمرت ثماني سنوات ، لسحق المسلمين. والواقع أن الذين شهدوا مواسم الحج السنوية حملوا هذه الأنباء إلى زوايا البلاد القصوى. وكان الناس على علم أيضاً بنبوءة الرسول القائلة بأن كل مقاومة للإسلام سوف تتلاشى آخر الأمر..
وهكذا أخذت الوفود تتدفق على المدينة من كل حدب وصوب. فكان الرسول يستقبلها في حفاوة بالغة، ويعلمها مباديء الإسلام في لطف ليس بعده لطف. وكان يبعث مع الذين يعتنقون الإسلام بمعلم يفقههم في الدين. وهكذا تقاطرت إلى المدينة في النصف الأول من هذه السنة بالذات وفود مقبلة من مواطن قصية، كاليمن وحضرموت والبحرين وعمان لا والتخوم الشامية والفارسية. يالتحريف الحقائق! إن الجهل والهوى يعزوان انتشار الإسلام إلى اصطناع السيف. على حين أن الواقع يقول إن انتشار الإسلام ظل راكداً ما بقيت حالة الحرب بين المسلمين والمشركين. فما إن أقر السلام حتى انتشر الإسلام في كل ناحية بخطى واسعة لا لقد بدا وكان قوة غير منظورة كانت تعمل على إدخال الناس في دين الله أفواجاً بعد أفواج. ولم يبعث في أيما يوم بحملة عسكرية إلى أيما بلد من تلك البلاد التي أقبلت الوفود منها. تلك هي الحقيقة التي شاءت سخرية القدر أن تحرف إلى اليوم تحريفاً متعمداً. فلطالما ساعدت الحرية والسلام، ولسوف يظلان يساعدان إلى الأبد، على انتشار الإسلام)).
الرسول وسياسة التسامح الديني هذا، وقد تجلت سياسة التسامح الديني في عهد الرسول عام الوفود حين استقبل وفوداً مسيحية وبعث برسالة إلى أسقف نحران..
ويتحدث الباحث الروماني ك. جيورجيو عن أوضاع أصحاب الديانات السماوية في ظل الحكم الإسلامي فيقول: ((مع أن الإسلام عم الجزيرة كلها في السنة التاسعة فإن محمداً لم يُكْرِهْ اليهود ولا النصارى على قبول دينه، لأنهم أهل الكتاب. وقد جاء في رسالة محمد إلى أبي الحارث أسقف نجران أن وضع المسيحيين في الجزيرة بعد الإسلام تحسن كثيراً.
يقول في الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي الحارث أسقف نجران الأكبر وقساوسته وأساقفته.. أمَّا بعد، فليعلم الأسقف الأكبر وقساوسته وأساقفته أن كنائسكم ومعابدكم وصومعاتكم ستبقى كما هي، وأنكم أحرار في عباداتكم. ولن يزاح أحد منكم عن منصبه ومقامه، ولن يبدل شيء. كما لم يبدل في مراسم دينكم، ما دام الأساقفة صادقين، ويعملون حسب تعاليم الدين. فمن أدى ذلك فإن له ذمة الله وذمة رسول -صلى الله عليه وسلم-، ومن منعه فإنه عدو الله ولرسوله.
تشير هذه الرسالة إلى أن المسيحيين (وكذلك اليهود) في الجزيرة أحرار في أداء شعائرهم، ولن يزاحمهم من المسلمين مزاحم. وقد قدم في السنة التاسعة وفد من مسيحي نجران يرأسهم أبو الحارث الأسقف الأكبر، وعبد المسيح الأسقف، والأيهم رئيس القافلة، وحين أرادوا الدخول على النبي -صلى الله عليه وسلم- ارتادوا ألبستهم الدينية الرسمية الكاملة، فأخذ سكان المدينة بهذه الثياب. وبعد أن زاروا النبي -صلى الله عليه وسلم- سألوه أن يسمح لهم بأداء شعائرهم فطلب منهم أن يؤدوا صلواتهم في مسجد المدينة، فدخلوا واتجهوا نحو بيت المقدس » وتعبدوا هناك..
لا شك أن النبي كان يحترم المسيحين احتراماً خاصاً، لأن القرآن ذكرهم وأكرمهم. وقد أشار الله تعالى إلى هذه النقطة في مُحكم كتابه في سورة المائدة (الخامسة) في الآية (82): (لتجدن اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) ويقول في الآية التي بعدها: (وإذا سمعوا ما انزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين)، ويقول بعدها كذلك: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) ويقول بعدها: (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك جزاء المحسنين).
هذا ويجدر القول إن سياسة التسامح الديني التي اتبعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- تجاه أصحاب الديانات الأخرى استلهاماً لروح الإسلام، غدت -فيما بعد- قاعدة لخلفاء الرسول، في ظل الدولة ألإسلامية العظمى التي ضمت وأمما مختلفة وأصحاب ديانات ظلوا يمارسون شعائرهم في ظل الحماية الإسلامية، وكان لسياسة هذه التسامح أن حظيت باحترام وتقدير المفكرين والمستشرقين المنصفين فعقدوا المقارنة بن تسامح الإسلام وتعصب الصليبيين.
يقول المستشرق ميشون في كتابه: « تاريخ الحروب الصليبية»: ((إن الإسلام الذي أمر بالجهاد متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وهو الذي أعفى البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب وحرم قتل الرهبان -على الخصوص- لعكوفهم على العبادات ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس.. وقد ذبح الصليبيون المسلمين وحرقوا اليهود عندما دخلوها)).
ويزيد الباحث نفسه في كتابه، "سياحة دينية في الشرق"، متحدثاً عن تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية، وكيف أن المسيحيين تعلموا الكثير من المسلمين في التسامح وحسن المعاملة، يقول: ((وإنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التعامل وفضائل حسن المعاملة، وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم، كل ذلك بفضل تعاليم نبيهم محمد)).
وكان لهذا التسامح أثره في أن يصبح الدين الإسلامي ديناً عالمياً، بدءاً من مراحله الأولى أيام الرسول في جزيرة العرب إلى أن عم أصقاعاً شاسعة.
يقول المستشرق جولد تسهير: ((سار الإسلام لكي يصبح قوة عالمية على سياسة بارعة، ففي العصور الأولى لم يكن اعتناقه أمراً محتوماً فإن المؤمنين بمذاهب التوحيد أو الذين يستمدون شرائعهم من كتب منزلة كاليهود والنصارى والزرادشتية كان في وسعهم متى دفعوا ضريبة الرأس (الجزية) أن يمتعوا بحرية الشعائر وحماية الدولة الإسلامية، ولم يكن واجب الإسلام أن ينفذ إلى أعماق أرواحهم أنما كان يقصد إلى سيادتهم الخارجية. بل لقد ذهب الإسلام في هذه السياسة إلى حدود بعيدة، ففي الهند مثلاً كانت الشعائر القديمة تقام في الهياكل والمعابد في ظل الحكم الإسلامي)).
حَجَّةِ الوَدَاع كان الإسلام يتوطد بقوة وثبات، وتطهرت البلاد من الوثنية إلى الأبد، وأدرك الرسول أنه قد أدى الرسالة، وأتم الأمانة بنشر دعوة التوحد حين دانت له جزيرة العرب وانضوت تحت الراية الإسلامية الظافرة.
وفي حجة الوداع، التي اجتمع فيها مئة وأربعة وعشرون ألف مسلم قصدوا البيت الحرام في مكة من سائر أرجاء الجزيرة العربية، خطب فيهم الرسول خطبته الأخيرة التي عرفت باسم خطبة حجة الوداع، والتي أعلن فيها بعد أن نزل عليه الوحي الإلهي:
(اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً)، أعلن أن الشيطان قد يئس أن يُعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه رضي أن يُطاع فيها سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم...
وقال في خطبته: أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه: تعلمن أن كل مسلم أخو المسلم، وأن المسلمين أخوة، فلا يحل لامرىء من أخيه، إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم.
وقال: اللهم هل بلغت؟ فأجاب المسلمون: نعم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «اللهم فاشهد».
أجل، لقد بلغ الرسول رسالات ربه، وبلغ الإسلام مرحلة الكمال في جزيرة العرب، فكانت هذه الخطبة بمثابة، إعلان ذلك النبأ العظيم، نبأ استكمال الدين على خير وجه... وكان أن تحقق ذلك الانقلاب التاريخي الكبير الذي غير مسار بلاد العرب، فحولها من مجموعة قبائل متناحرة تدين بالوثنية إلى أن تتوحد في كتلة متراصة تحت راية الإسلام الظافرة لتبدأ بعد وفاة الرسول وانتقاله إلى الرفيق الأعلى في العام الحادي عشر للهجرة (632 م) بنشر راية الإسلام خارج بلاد العرب، ليعم المناطق الشاسعة من العالم تأكيدا على أنه دين سماوي للناس كافة...
يقول المستشرق الإنجليزي سبربت و. أرنولد: ((وقبيل وفاة محمد نرى جميع أنحاء الجزيرة العربية تقريباً تدين له بالطاعة، وإذا ببلاد العرب التي لم تخضع إطلاقاً لأمير من قبل تظهر في وحدة سياسية وتخضع لإرادة حاكم مطلق. ومن تلك القبائل المتنوعة، صغيرها وكبيرها، ذات العناصر المختلفة التي قد تبلغ المائه والتي لم تنقطع عن التنازع والتناحر، خلقت رسالة محمد أمة واحدة، وقد جمعت فكرة الدين المشترك تحت زعامة واحدة شتى القبائل في نظام سياسي واحد، ذلك النظام الذي سرت مزاياه في سرعة تبعث على الدهش والإعجاب. وأن فكرة واحدة كبرى هي التي حققت هذه النتيجة، تلك هي مبدأ الحياة القومية في جزيرة العرب الوثنية، وهكذا كان النظام القبلي لأول مرة، وإن لم يقض عليه نهائياً (إذ كان ذلك مستحيلا)، شيئاً ثانوياً بالنسبة للشعور بالوحدة الدينية.
((وتكللت المهمة الضخمة بالنجاح، فعندما انتقل محمد إلى جوار ربه كانت السكينة وترفرف على أكبر مساحة من شبه الجزيرة العربية، بصورة لم تكن القبائل العربية تعرفها من قبل، مع شدة تعلقها بالتدمير وأخذ الثأر. وكان الدين الإسلامي هو الذي مهد السبيل إلى هذا الائتلاف)).
ويقول الباحث الإسلامي مولانا محمد علي: ((وبكلمة موجزة، فقد انقضت فترة الحرب ودخل الناس في دين الله أفواجاً، فلم تكد تنقض سنتان حتى لم يبق في طول جزيرة العرب المترامية الأطراف غير دين واحد -الإسلام- وبعض الجاليات اليهودية والنصرانية الضئيلة المتناثرة هنا وهناك لقد ترددت صيحة: « الله اكبر » في كل أرجاء من أرجائها. يالها من ظاهرة أعجوبية. لقد أتى على الرسول عهد طاف فيه بمختلف القبائل -وكان ذلك في أشهر الحج- يدعوها إلى الإسلام، ولكن أحداً منهم لم يصغ إليه. أمَّا الآن، فهاهي ذي القبائل نفسها تبعث إليه بوفودها وتعتبر انضواءها تحت راية الدين الجديد شرفاً لها عظيماً. فخلال سنتين اثنتين ليس غير انقضتا على انتهاء حالة الحرب وفق الرسول لا إلى ضم بلاد العرب كلها إلى الحظيرة الإسلامية فحسب، بل وفق في الوقت نفسه إلى إحداث تحوّل جبَّار في حياة الأمَّة العربية أزال جميع مفاسدها ورفعها إلى أسمى مراتب الروحانية)).
|
|