أولًا: طبيعة المسيح عليه السلام
نحن ندرس طبيعة المسيح عيسى ابن مريم -عليهما السلام- من منطلق أنه بشر مخلوق مولود بمعجزة -كما سيأتي- قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 59، 60]، ولا ندخل في نقاش طبيعته عليه السلام، من حيث لاهوتيته أو ناسوتيته، فهذا الأمر محسوم عندنا، من مقتضيات عقدية لا تؤمن بأن لله تعالى صاحبة ولا ولدًا، وأن المسيح هو في حقيقته إنسان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وعبد من عبيد الله، ورسول من رسله، آتاه الله تعالى الحكمة، وجعله نبيًّا، وجعله مباركًا أينما كان، وأنه عليه السلام من أولي العزم من الرسل؛ قال تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 30 - 33]، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35].

وتأتي الوقفات مع هذا الموضوع الحيوي لدى غالبية المجتمع الغربي، المتدين منه وغير المتدين، فيما له علاقة بمناقشة أولئك الذين يراوحون في طبيعة المسيح عيسى ابن مريم -عليهما السلام- بين الناسوتية واللاهوتية من قبل النساطرة واليعاقبة، وغيرهم من أتباع الكنائس، ومن لا يزال هذا الموضوع يشغل نقاشهم، ويزيد من اختلافهم وفرقتهم بينهم، فالخلاف في طبيعة المسيح عليه السلام خلاف محتدم، ليس بين المسلمين والنصارى، بل بين النصارى أنفسهم.

وعليه وبما أن المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام-، رسول بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]، فتنتفي مسألة أنه ابن الله تعالى أو أنه ثالث ثلاثة، وهذه حقيقة لا يزال النصارى يتحاورون حولها، رغم أنها محسومة عند المسلمين، فبشرية المسيح عيسى ابن مريم تُنفي أن يكون شريكًا لله، أو أن يلجأ المُصِرُّونَ على ألوهيته إلى القول: إنه -عليه السلام- ابن الله، أو إنه ثالث ثلاثة.

على أن البحوث في الأناجيل والمكتشفات الأثرية تؤكد نفي التثليث، وأنه لا علاقة له بالمسيح عيسى ابن مريم -عليهما السلام- ومن أوائل مَنْ بدأ بهذا البحث وبرهن على نفي التثليث ريماروس (1694 - 1768م)، وخرجت بعده أبحاث كثيرة استفادت من مواد جديدة، بعضها مكتوب، والآخر يعتمد على نصوص الأناجيل الأربعة وغيرها.

وكذلك تحجم هذه الوقفات عن التفصيل؛ لئلا يخرج الموضوع عن مجرد إثارة مجالات الحوار والنقاش من منطلق استغرابي، لا يسعى إلى أي شكل من أشكال الإساءة والاستخفاف بالثقافات الأخرى، بقدر ما يسعى إلى تشخيص بعض القضايا التي يقع فيها الخلاف والاختلاف، من منطلق المقياس الإسلامي الصريح في طبيعة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وفي أن الله تعالى واحد أحد.

وعدم الدخول في هذا النقاش بتفصيل قائم على اعتبار أن المنطلق للأديان السماوية كلها هو منطلق توحيدي لإله لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك؛ ولذلك فإن أي قول يذهب إلى خلاف ذلك فإنه غير مقبول دينًا، لا إسلامًا فقط؛ أي إنه غير مقبول -في الأصل- من جميع الأديان التوحيدية.

وفي القرآن الكريم تركيز قوي على هذا الجانب، فيما ينفي أن يكون عيسى ابن مريم -عليهما السلام- ابن الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88 - 95]، وقال تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 4، 5]، {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]، {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يونس: 68]، {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 116، 117]، {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101]، {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن: 3].

والاستشهاد بآيات من القرآن الكريم في موضوع الاستغراب الديني عمومًا، وفي النظر في طبيعة المسيح عيسى ابن مريم -عليهما السلام- خصوصًا يأتي من منطلق أن هذا الكتاب لم يعد -ولم يكن- مقصورًا على المسلمين، بل هو اليوم مقروء أكثر من ذي قبل، إمَّا قراءة مباشرة بلغته العربية التي نزل بها، أو بقراءة ترجمة معانيه التي شملت معظم لغات العالم، وتجاوزت خمسًا وخمسين لغة.

وعلى سبيل المثال، عندما قرر القس الأمريكي تيري جونز حرق المصحف -لا القرآن الكريم- سنة 2010م، قابله أحَدُ المُحققين في قناة Cable أو News network أو CNN وسأله عَمَّا إذا كان قد قرأ الكتاب الذي يريد أن يحرقه، فأفاد القس بأنه يعرف شيئًا عنه، فَألَحَّ عليه المُحقق في مسألة قراءته، فعندما لم يُجِبْ القِسُّ بالإيجاب سأله المُحقق: وكيف تريد أن تحرق كتابًا لم تقرأه؟! عندها قيل: إن الناس قد أقبلوا على شراء النسخ الورقية لترجمات القرآن الكريم الموجودة في المكتبات التجارية في الولايات المتحدة الأمريكية تحديدًا، حتى نفدت من بعض المكتبات، هذا عدا عن الاستعانة بالشبكة العنكبوتية في التعرف على القرآن الكريم، مما يقود إلى التعرُّف على رؤية القرآن الكريم لطبيعة المسيح عليه السلام.