البيعة العامة وإدارة الشئون الداخلية
أولاً: البيعة العامة:
بعد أن تمت بيعة أبي بكر البيعة الخاصة في سقيفة بني ساعدة، كان لعمر في اليوم التالي موقف في تأييد أبي بكر، وذلك في اليوم التالي حينما اجتمع المسلمون للبيعة العامة،
قال أنس بن مالك: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله،
ثم قال: أيها الناس، إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدًا عهده إليَّ رسول الله، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا –يقول: يكون آخرنا- وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله رسوله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم؛ صاحب رسول الله، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر بعد بيعة السقيفة..

ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم قال: أما بعد:
"أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله.
لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله".
وقال عمر لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة.
وتعتبر هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب الإسلامية على إيجازها، وقد قرر الصديق -رضي الله عنه- فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم، وركز على أن طاعة ولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهمية ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد.
من خلال الخطبة والأحداث التي تمت بعد وفاة الرسول يمكن للباحث أن يستنبط بعض ملامح نظام الحكم في بداية عهد الخلافة الراشدة، والتي من أهمها: (1)
عرف العلماء البيعة بتعاريف عدة، منها تعريف ابن خلدون: العهد على الطاعة لولي الأمر.
وعرفها بعضهم بقوله: البيعة على التعاقد على الإسلام، وعرفت كذلك بأنها: أخذ العهد والميثاق والمعاقدة على إحياء ما أحياه الكتاب والسنة، وإقامة ما أقامه.
وكان المسلمون إذا بايعوا الأمير جعلوا أيديهم في يده؛ تأكيدًا للعهد والولاء، فأشبه ذلك الفعل البائع والمشتري، فسمي هذا الفعل بيعة.
ونتعلم من مبايعة الأمة للصديق بأن الحاكم في الدولة الإسلامية إذا وصل إلى الحكم عن طريق أهل الحل والعقد، وبايعته الأمة بعد أن توفرت فيه الشروط المعتبرة، فيجب على المسلمين جميعاً مبايعته والاجتماع عليه، ونصرته على من يخرج عليه؛ حفاظاً على وحدة الأمة وتماسك بنيانها أمام الأعداء في داخل الدولة الإسلامية وخارجها.
قال رسول الله:  «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، فهذا الحديث فيه حث على وجوب إعطاء البيعة والتوعد على تركها، فمن مات ولم يبايع عاش على الضلال ومات على الضلال.
وقال رسول الله: «ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر».
فالشارع الحكيم قد رتب القتل وأمر به نتيجة الخروج على الإمام، مما يدل على حرمة هذا الفعل؛ لأنه يطلب بيعة أخرى بالبيعة الأولى التي هي فرض على المسلمين.
والذي يأخذ البيعة في حاضرة الدولة هو الخليفة، وأما في الأقاليم فقد يأخذها الإمام وقد يأخذها نواب الإمام، كما حدث في بيعة الصديق، فبيعة أهل مكة والطائف أخذها نواب الخليفة.
والذي تجب بيعتهم للإمام هم أهل الحل والعقد، وأهل الاختيار من علماء الأمة وقادتها، وأهل الشورى وأمراء الأمصار، وأما سائر الناس وعامتهم فيكفيهم دخولهم تحت بيعة هؤلاء، ولا يمنع العامة من البيعة بعد بيعة أهل الحل والعقد.
وهناك من العلماء من قال: لا بد من البيعة العامة؛ لأن الصديق -رضي الله عنه- لم يباشر مهامه كخليفة للمسلمين إلا بعد البيعة العامة من المسلمين.
والبيعة بهذا المعنى الخاص الذي تم للصديق لا تعطى إلا للإمام الأعظم في الدولة الإسلامية ولا تعطى لغيره من الأشخاص، سواء في ظل الدولة الإسلامية أو عند فقدها؛ لما يترتب على هذه البيعة من أحكام.

وخلاصة القول:
إن البيعة بمعناها الخاص هي إعطاء الولاء والسمع والطاعة للخليفة مقابل الحكم بما أنزل الله تعالى، وأنها في جوهرها وأصلها عقد وميثاق بين طرفين: الإمام من جهة وهو الطرف الأول، والأمة من جهة ثانية وهي الطرف الثاني، فالإمام يبايع على الحكم بالكتاب والسنة والخضوع التام للشريعة الإسلامية عقيدة وشريعة ونظام حياة، والأمة تبايع على الخضوع والسمع والطاعة للإمام في حدود الشريعة.
فالبيعة خصيصة من خصائص نظام الحكم في الإسلام تفرد به عن غيره من النظم الأخرى في القديم والحديث، ومفهومه أن الحاكم والأمة كليهما مقيد بما جاء به الإسلام من الأحكام الشرعية، ولا يحق لأحدهما سواء كان الحاكم أو الأمة ممثلة بأهل الحل والعقد الخروج على أحكام الشريعة أو تشريع الأحكام التي تصادم الكتاب والسنة، أو القواعد العامة في الشريعة، ويعد مثل ذلك خروج على الإسلام؛ بل إعلان الحرب على النظام العام للدولة الإسلامية، بل أبعد من هذا نجد أن القرآن الكريم نفى عنهم صفة الإيمان، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
فهذا مفهوم البيعة من خلال عصر أبي بكر الصديق.
------------------------------------------------