وأنت تربي ابتسم من فضلك
وأنت تربي ابتسم من فضلك Ocia_759
كم هو مقدار السعادة التي تصل إلينا كلما قرأنا هذا الحديث: عن جرير بن عبد الله البجلي قال: «ما رآني رسول الله منذ أسلمت إلا تبسم في وجهي» [رواه ابن ماجه في سننه].

إن المشاعر الرائعة، التي غمرت الصحابي الجليل من أثر تبسم النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه كلما رآه، تنتقل إلينا عبر كلماته وهو يسجل هذا التصرف النبوي الرائع، معتزًا به أشد الاعتزاز، سعيدًا به أيما سعادة، فلو سأل المربي نفسه: كم مرة أبتسم فيها لأبنائي في اليوم والليلة؟ تُرى ماذا ستكون الإجابة؟

أصحاب مبدأ العُبوس:
هناك طائفة من الآباء والمربين رضوا بالعبوس وتقطيب الجبين منهجًا وطريقًا يسلكونه في التعامل مع أبنائهم، فلا انبساط معهم، ولا ابتسام، وحجتهم في ذلك: (لا بد أن يكون هناك حدود صارمة حتى يتسنى لنا أن نربيهم).

لقد ظنوا أن دوام التبسم والانبساط مع الأبناء يفسد عليهم تربيتهم واستقامة الأبناء على طاعتهم، وأن العبوس وتقطيب الجبين يمثلان الانضباط والحزم اللازم لنجاح التربية!

ولكن أعزائي، يؤسفنا أن نقول لهؤلاء: إن هذا بعينه هو منطق الضعفاء، الذين لا يتقنون فن التسلل إلى القلوب؛ بل وقلوب أقرب الناس إليهم؛ فلذات أكبادهم!

فأصحاب النفوس الكبيرة فقط هم الذين يتقنون الجمع بين الانبساط مع الأبناء ودوام البشر، وبين السيطرة على خيوط العملية التربوية، بحيث تظل المسافة بينهم وبين أبنائهم كافية لأن يأخذوا عنهم ويطيعوا أمرهم، في مناخ أسري حميم العاطفة، دافئ الهواء.

والمربي الحكيم يستطيع أن يوجّه أبناءه من خلال البسمة والنظرة والهمسة، ويضم ولده إلى صدره، ويقبله ويلاعبه، ويصبر على معالجة أخطائه. [محمد بدري، اللمسة الإنسانية، ص551].

إن هذه الابتسامة الصغيرة قد يكون لها أثر كبير في نفس الابن، خاصةً أنه يتلقاها ممن يمثلون له الحماية والأمان والمثل الأعلى.

ودوام الابتسام من هَدْي سيد الأنام:
وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في انبساط الوجه رائع وعجيب في الوقت ذاته، فقد كان دائم البشر والابتسام في وجه أصحابه، فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: «ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت إلا تبسم في وجهي» [رواه البخاري].

وليست هذه الإبتسامة مع جرير فقط؛ بل ورد عن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال: «ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم» [رواه الترمذي].

وكان صلى الله عليه وسلم شديد العناية بالصغار، وبمراعاة مشاعرهم ونفسياتهم، فلم يذكر عنه صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة أنه عبس أو تجهم في وجه أحدهم؛ بل كان ما إن يراهم إلا ويبش لهم، حتى لو كان في مجمع من الصحابة رضوان الله عليهم، فعن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعينا إلى طعام، فإذا الحسين يلعب في الطريق مع صبيان، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم أمام القوم ثم بسط يده فجعل يفرُّ هاهنا وهناك، فيضاحكه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخذه، فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى بين رأسه وأذنيه ثُم اعتنقه وقبّله، ثُم قال: «حسين منّي وأنا منه، أحبَّ اللهُ من أحبَّه، الحسن والحسين سبطان من الأسباط» [رواه البخاري في كتاب (الأدب المفرد)].

بالابتسامة تحتوي أبناءك:
ويعلمنا صلى الله عليه وسلم أن الابتسامة تمكننا من احتواء الآخرين، خاصة من هم تحت رعايتنا، قال صلى الله عليه وسلم، كما في مصنف ابن أبي شيبة: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق».

ومن منا لا يحتاج اليوم أن يسع أبناءه بوجهه المبتسم وخلقه الحسن؟ خاصة في هذه الأوقات التي صارت فيها مهمة المربي من أصعب المهمات، وأصبحت وقايتهم من الفتن مسألة تحتاج إلى دعاء عريض، واتزان كبير في شخصية المربي حتى يستطيع أن يحتوي أبناءه، وتكون علاقته الناجحة الحميمة بهم بمثابة الجاذبية الأرضية التي تشدهم دائمًا إلى أصولهم الطيبة، ويثبتون بفضلها أمام رياح الفتن الهوجاء، التي تجتاحهم من كل جانب.

وهو الأصل في معاملة الأبناء:
إن التبسم في وجوه الأبناء يبقى هو الأصل، كما علّمنا المربي الأول صلى الله عليه وسلم، أما العبوس وتقطيب الجبين فغاية كل منهما أن يوضع في قائمة العقوبات التربوية، التي تستخدم بانضباط إذا لزم الأمر، ومن المؤكد أن الأسلوب الباسم البشوش يؤدي إلى تقوية الصلة ما بين المربي والولد، بينما يؤدي أسلوب العبوس إلى نفور الولد من أبيه، ويقطع حبال المودة بينهما.

يقول الفاروق عمر رضي الله عنهما: «ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي، فإذا التمس ما عنده وُجِدَ رجلًا» [كنز العمال (16/ 573)].

والمعنى: أن الأُنس والبِشْرَ وسهولة الخلق، والمداعبة، والمضاحكة مع الأهل والأبناء، هي الطريق الأصوب لقيادتهم، ما لم يخرج الأب عن وقاره وهيبته.

بل حتى أثناء العقوبة عليك أن تكون مبتسمًا!
يستطيع المربي أن يعتمد أسلوب الابتسامة حتى أثناء المعاتبة، أو كعقاب صامت ومؤثر، اسمه "ابتسامة المغضب"، كما علمنا سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فقد كان التبسم ميزته حتى في غضبه، يقول كعب بن مالك رضي الله عنه، كما في الصحيحين، في قصة تخلفه وما كان من شأنه في غزوة تبوك، قال: «فلما قفل النبي صلى الله عليه وسلم راجعًا حضرني همّي»، ثم ساق كلامًا قال: «فجئته، فلما رآني تبسَّم تبسُّم المغضب، وقال لي: «ما خلَّفك؟»».

فلتبتسم عزيزي المربي.
من أجل طفل هادئ:
إن روح الدعابة والمرح تساعد الأطفال على التغلب على مشاعر الغضب والإحراج، كما أنها تشيع السعادة في البيت، وتبعث الدفء إلى القلب، وتمنح الأبناء شعورًا كبيرًا بالأمان، يفتقرون إليه إذا كان مربيهم من أصحاب منهج العبوس الخاطئ!

ينمو جيدًا:
فقد أثبتت الدراسات، التي قام بها علماء النفس الألمان، أن الضحك، وخاصة من الأعماق، له أثر فعّال في نمو الطفل في سنوات عمره الأولى، وأكد العلماء في هذه الدراسة أن الضحك لا يقل أهمية عن الطعام، وأن الطفل الذي يضحك كثيرًا ينمو نموًا سليمًا.

ويتفوق دراسيًا:
فما زال علماء النفس يؤكدون الأثر الإيجابي للابتسامة في التربية والتعلّم فيقولون: «إن المرح يوجد مناخًا نفسيًا مشحونًا بالسرور والغبطة والارتياح، ومثل هذا النموذج الصحي يطلق القدرات العقلية للتعلم بسهولة ويسر، فالانشراح يهيئ الطاقات العقلية للامتلاء والتمدد، بخلاف مناخ الكآبة والحزن أو التشاؤم الذي يعلم دروسًا متشنجة عن الحياة».

ويرتبط بوالديه:
إذا كانت ابتسامتك من داخلك، ومعبرة عن شعورك وحبك لولدك، وإعجابك به، فإنها تترك في نفس الطفل أثرًا طيبًا وراحة نفسية وذكريات سعيدة فيما بعد تجاه الوالدين، خاصة لو أحدثت اتصالًا بين عينيك وعيني طفلك ليصل إليه حبك الصادق وتقديرك له. [محمد سعيد مرسي، كيف تكون أحسن مُرَبٍّ في العالم، ص217، بتصرف].

وهكذا يتضح لنا، أعزائي القراء والمربين، أن الأب كلما كان سهلًا، طليق الوجه، كلما اتسعت دائرة علاقته بأبنائه، وأما إذا كان فظًا غليظًا فإن هذه الدائرة قد تضيق حتى يصبح قياسها صفرًا!

قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].

فلا تنس الابتسام لولدك إذا دخل عليك في المكان الذي تجلس فيه.

وعند وداعه إذا خرجتَ من البيت أو خرج هو وأنت فيه.

وعند استقباله عائدًا من مدرسته، وعند دخولك عليه قادمًا من عملك.

ابتسم وأنت توقظه من نومه؛ لتكون ابتسامتك أول ما يفتح عليه عينيه.

ابتسم وأنت تودعه إلى فراشه وتتعهد غطاءه؛ ليكون صاحب أسعد حلم.

ابتسم وأنت تسأله عن أخطائه؛ ليأمنك فيصدق، فإن الخائف لا يَصْدُق.

وأخيرًا، ابتسم لتفتح لأبنائك، بين أحضانك، حصنًا منيعًا تُؤمّنهم فيه من مشاعر الخوف، وتزيح عنهم سُحُب الكآبة القاتمة، ولتظل علاقتهم بك منظومة رائعة من التواصل الناجح، يستجيبون فيها، بكل رضًا، لتوجيهاتك، ويتشوقون إلى لقائك، ولا تحدثهم أنفسهم بفعل ما يثير غضبك، فهم لا يريدون أن تغيب عنهم ابتسامتك مهما حدث!

------------------------------------
المراجع:
- اللمسة الإنسانية، د. محمد بدري.
- منهج التربية النبوية للطفل، محمد نور بن سويد.
- كيف تكون أحسن مُرَبٍّ في العالم؟ محمد سعيد مرسي.
- أطفال المسلمين كيف رباهم النبي الأمين؟ جمال عبد الرحمن.