لقاء الأرواح المؤمنة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن أرواحكم تعرض على موتاكم، فإذا مات الميت استقبلوه كما تستقيل البشارة بالجنة، ثم يقولون دعوه حتى يسكن روعه، فإنه كان في كرب وغم، ثم يسألونه عن الرجل فإذا كأن خيراً حمدوا الله تعالى واستبشروا له، وإذا قالوا عن إنسان مات قبله " ، قال: إنه مات قبلي، فما مر بكم؟ فيقولون: والله ما مر بنا، وذهب إلى أمه الهاوية، إنا لله وإنا إليه راجعون ".
وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: "إذا مات المؤمن أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما منكر والآخر نكير، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله، جاءنا بالبينات فآمنا به واتبعناه، فيقولان: قد كنت تقول هكذا، فيفسح له في قبره سبعون ذراعاً".
وقال عبد الله بن عبيد رضي الله عنه: " عدت مريضاً فقلت له: كيف نجدك؟
فأنشد يقول:
خرجت من الدنيا وقامت قيامتي... غدا يثقل الأشخاص حمل جنازتي
وتضحك أهلي حول قبري وصيروا... خروجي وتعجيلي إليه كرامتي
كأنهم لم يعرفوا قط صورتي... عليهم غدا يأتي كيومي وساعتي
وقال آخر في المعنى:
إن للملوك الذي عن حظها غفلت... حتى سقاهم بكأس الموت ساقيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها... ودورنا لخراب الموت نبينها
نلهوا ونأمل آمالاً تعدلنا... سريعة الطي تطوينا ونطويها
وكان عطاء السلمي رضي الله عنه إذا جن عليه الليل خرج إلى المقابر، ويقول: " يا أهل المقابر، متم فواموتاه، وعاينتم عملكم، فواعملاه " ، ثم يقول: " غدا أغطى في القبر ".
ولا يزال يبكي إلى الصباح.
وأنشد في المعنى:
ينادي ربه والليل داج... ألك العقبى قلني من ذنوبي
وحقك لا أعود لكسب ذنب... بحق حمد أستر عيوبي
قال بعض الصالحين: " دخلت ديوان التحقيق، فرأيت جماعة من العمال بأيديهم صحائف الأعمال والأعوان وقوف وقد نصبت الموازين، ونشرت الدواوين، وجرت الأوامر بتحرير العمال واستخراج الأعمال، فوقفت أتأمل ووجهي يتململ وقد حضروا بثلاثة نفربريء، ومقصر، وجان، وقد عرضوا للحساب.
فتقدم الأول، فقيل له: أين أعمالك التي قدمتها وحسناتك التي أخرجتها؟ فقال وهو ذليل: حسابي منتظم مستطر، وعملي حاضر، فعرضت أعماله على البصير، وأطلع عليها العالم الخبير، فقيل له: هنيئاً لك من خادم، بحق سعد في أحواله، ووقف فطولع، فخرج الأمر بإكرامه وإجلاله، وكتب له القبول وخلعت عليه خالع الوصول.
وقدم الثاني، وهو المخلط المتواني عن مثل تلك المعاني، وحوسب فظهر أنه فرط في البعض، وشقي بحسابه يوم العرض، فلما دقق عليه ونوقش وشدد عليه، وحقق بعد حاصلة، وارتعدت مفاصله، فلم يزل يتردد بين لعل وسوف، والوقوف بين الرجاء والخوف، إلى أن خرج الأمر بتسليم لم ما في يده، وأن يسقط ما بقي عليه، ثم قيل له: إياك أن تعود إلى التخليط، وأحذر من أن تأتي بتفريط، وكن مطيعاً سامعاً، فما كل وقت تجد شافعاً.
ثم جيء بالثالث وهو الجاني الساكت، فتلجلج في الجواب، إذا لم يكن معه عمل ولا حسنات، فقيل له: ما الذي دهاك وغرك ولهاك، فقال: شغلني جرمي ومصابي عن نظم حسابي، وانقطع زماني بالشهوات والأماني، فقيل له: ما بهذا أمرت ولا عليه عوملت، يا قليل الفلاح، هذه أعمالك القباح، ألك ما ينجيك؟ آلك عمل يوفيك؟ فقال: والله ما لي ذخيرة، ولو كنت أعقل أمري ما انهتك اليوم ستري، فحوسب بأعماله فحرج الأمر بنكاله، فخرج يتعثر في أذياله، متحيراً لسوء أفعاله، فحمل إلى ضيق السجون وهو على حاله، متحسر مغبون ".
وهذا مثل مضروب لتصغي إليه أرباب العقول.
وقيل في المعنى شعر:
يا ويح قلي ما له لا يلين... قد أتعب القراء والواعظين
يا نفس كم تبيتين من مرة... وكم تقولين ولا تفعلين
وكم تنادي فلا تسمعي... وكم تقالين فلا ترجعين
حتى متى يا نفس حتى متى... يراك مولاك مع الغافلين
فاستغفري الله لما قد مضى ثم... أستحي من خالق العالمين
وقال عليه الصلاة والسلام: " التوبة معلقة ما بين السماء والأرض تقول من يقبلني قبل أن يعذب إلى أن تطلع الشمس من مغربها ".
وقيل لبعض الرهبان: " لأي شيء قست قلوبنا وكثرت ذنوبنا ولا نتوب إلى ربنا؟ قال: لأنكم تركتم الاخرة، وأعمالكم خاسرة، وظهر منكم الظلم، وضيعتم ع الأمانة، وأظهرتم الخيانة، ودخلكم الكبر، وظهر فيكم الغدر، وضيعتم الصلاة، ومنعتم الزكاة، ومشيتم بالغيبة والنميمة، وظلمتم الأيتام، وجرتم في الأحكام، وعصيتم الرحمن، وأطعتم النساء والشيطان، وأكلتم الربا، وتركتم ما أمرتم به، وملتم إلي الفجور، وشهدتم الزور، وتواضعتم للأغنياء، وتكبرتم على الفقراء، فقست قلوبكم، وكثرت ذنوبكم، فلا واعظ زاجراً، ولا خائف حاذر كلامكم حلو، وفعلكم مر، وألسنتكم فاشية، وقلوبكم قاسية، فلا من الله تستحون، ولا إليه تتوبون، ولكن سوف تبعثون وتسألون عما كنتم تعملون.
قال بعض الصالحين: مر بنان رضي الله تعالى عنه ببعض الأسواق، فرأى رجلاً ذا ثروة وعنده بناؤون وفعلة، ويعطي كل شخص أجرته، فمد يده بنان من جلة الأيدي، فقال الرجل: هذه اليد لم تعمل لنا عملاً، فبكى بنان وخر مغشياً عليه، وحمل من عنده، فلما أفاق قال: " إذا كان لا يأخذ إلا من عمل فمن يجود على الفقراء والمساكين.
وأنشد في ذلك شعراً:
نحن قوم أثقلتنا ذنوب... ومنعنا الوقوف بين يديه
فتركنا بين الأنام حيارى... وخجلنا من القدوم عليه
قيل: إنه يقف العبد بين يدي الله تعالى يوم القيامة، فيقول الله عز وجل: عبدي، أما تستحي مني، أما راقبتني، أرخيت الستور، وأغلقت الأبواب، وتجرأت علي، فيقول العبد: بكتابك وقلت ذلك وقولك الحق " الله لطيف بعباده " ، فيقول الله عز وجل: أنا أولى أن أفعل ما أقول.
قيل: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: لطفي بالعصاة من أهل القبور، كلما بليت أبدانهم غفرت لهم، وكلما صارت عظامهم نخرة محوت عنهم ذنوبهم جوداً مني وكرماً.
يا موسى، إني لم أنسهم أحياء مرزوقين، فكيف أنساهم وهم موتى مقبورين، ما من عاصي عصاني حتى إذا كان في كرب الموت لم أنظر إلى جهله وتقصيره، ولكن أنظر إلى ضعفه ومسكنته، وإذا نظرت إلى حاله ألهمته وحدانيتي أريد له بها النجاة، الله لطيف بعباده، خلقي خلقتهم، وعبادي رزقتهم وجعلت ذنوبهم مستورة مغفورة، وجعلت لهم محمداً صلى الله عليه وسلم شفيعاً، وأن الله تعالى لا ينظر إلى شيء إلا رحمه، ولو نظر إلى أهل النار لرحمهم، ولكن قضى الله لا ينظر إليهم.