أقوال الصالحين في التوبة والإقلاع عن الذنوب
وقال أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه: حججت سنة من السنين إلى بيت الله الحرام، فجعلت أدعو وأتملّق تملقاً، وإذا بهاتف يقول: يا أبا يزيد، لو دعوتنا بهذا الدعاء ألف سنة، وحججت ألف حجة ما قبلنا ولا ذرة واحدة، فقلت: لماذا؟ قال: لأنك ترى عملك ولا ترى مَنْ استعملك، قلت: يا رب، إذا لم تقبل مني عبادتي ولا عبري، وعزتك لأتقطعن الوصال بيني وبينك، فقيل له: يا أبا يزيد إن كان بيدك فاقطعه، نحن أوصلناك نسيتنا، فقلت: وعزتك لا ألبرح من حرمك حتى أعلم رضاك عني، فقل لي: قل يا أبا يزيد، ما تريد؟ وعزتي وجلالي لو يعلم العالم ما أعلمه من باطنك لرجوك، فقلت: وعزتك وجلالك، لو يعلم العالم ما أعلمه من كرمك ما عبدوك.
وإذا بهاتف يقول: يا أبا يزيد، لا نقول ولا تقول، أنت عندنا مقبول.
وقال يحيى بن سعيد رضي الله عنه: رأيت رب العزة في المنام، فقلت: يا !لهي أدعوك وأنت لا تستجيب لي، فقال لي: إني أحب أن أسمع صوتك.
وقال سفيان الثوري رضي الله عنه: سمعت أعرابياً يقول في الطواف: إلهي مَنْ أولى بالتقصير مني وقد خلقتني ضعيفاً، ومَنْ أولى بالكرم منك وقد سَمَّيْتَ نفسك رؤوفاً، ولك المِنَّةُ علي وقد عصيتك بعلمك، ولك الحجة علي فبانقطاع حجتي ووجوب حجتك وفقري إليك وغناك عني إلا ما غفرت لي.
وقال بشر بن الحارث رضي الله عنه: رأيت شاباً ولع به الوله، وهو يقول هذه الأبيات:
كم زللت فلم أذكرك في زلل... وأنت يا واحد في الغيب تذكرني
كم أهتك السر جهراً عند معصيتي... وأنت تلطف بي حباً وتسترني
ولا بكيت بدمع العين من أسف... ولا بكيت بكاء الواله الحزن
وقال بعض السلف الصالحين رضي الله عنهم: رأيت شاباً في سفح جبل وعليه آثار القلق، ودموعه تنحدر كالموج إذا اندفع، فقلت له: ما أنت؟ فقال: عبد آبق من مولاه، فقلت له: يعود ثم يعتذر، فقال: العذر يحتاج إلى إقامة حجة ولا حجة للمفرط، فقلت: يتعلق بشفيع، فقال: كل الشفعاء يخافون منه، قلت: من هو؟ قال: مولاي، رباني صغيراً فعصيته كبيراً، قد حباني من حسن صنعه فقابلته بقبيح فعلي، ثم صاح صيحة عظيمة ووقع مغشياً عليه، فخرجت عجوز وقالت: من أعان على قتل هذا اليائس الحيران، فقلت: عبدك يعينك عليه، فقالت: دعه ذليلاً بين يدي قاتله عسى أن يراه بعين عفوه ورحمته.
وقيل في المعنى شعر:
إلهي لا تعذبني فإني... مقر بالذي قد كان مني
ومالي حيلة إلا رجائي... وعفوك إن عفوت وحسن ظني
وكم من زلة لي في الخطايا... وأنت علي ذو فضل ومن
إذا فكرت في جرمي عليها... قرعت أناملي غيظا بسني
يظن الناس بي خيراً وإني... أشر الناس إن لم تعف عني
وقال كعب الأحبار رضي الله عنه: أتى رجل فاحشة فدخل نهراً يغتسل فيه، فناداه إن تتب من هذا الزنا، فخرج من النهر فزعاً مرعوباً، وهو يقول: والله لا أعصى الله بعدها ابداً.
وقال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه: أتيت يوماً من الأيام بيت المقدس، وإذا فيه حلقة عظيمة وفيهم شاب حسن الثياب وهو جالس على كرسي وعنده أشربة وأدوية، وهو يصف لكل علة دواء، فأردت أن امتحنه، فقلت له: يا أخي، عندك دواء لهذا الجرح الذي أعضل وتكامل، فنظر إلي وقال لي: إليك عني يا بطال، هذا الكلام كلام من عصى الله وساء عمله، قل أستغفر الله، يا أخي عصيته ليلاً أو نهاراً؟ فقلت: نهاراً، فقال: صوماً أو إفطاراً؟ فقلت: صوما فنظر إلي وقال: يا أخي، عليك بصحبة الأبرار، واجتناب الأشرار، واخلع نعل الفخر من قدميك، ورداء الكبر من منكبيك، وخذ من أهليج الخشوع، وماء القنوع، وسناء الزهد، وورق الفقر، وعيدان الصبر، ودقه في هون التوكل، واطرحه في طاجن القلق و أوقد تحته عيدان الصفا، فإن على فعليك بتحريكه بمغرفة المعرفة، وإذا أزيد الحكمة حركه بأسطام الخشية، وفرغه في أقداح الفكرة، وروح عليه بمراوح الاستغفار، واشربه بالعشي والأسحار، وتمضمض، عليه بالمراقبة، وقل في غسق الدجى:يا من لا يقطع الرجاء.
وقيل في المعنى شعر:
يا رب أنت أمرتني ونهيتني... وسلكت في طرق الضلالة والهدى
وعلمت أني لا أفر من الذي... قدرت لي إن كان خيراً أوردي
وسلكت بي ما شئت للسر الذي... في الخلق قد أخفيته يا سيدي
ودخلت في غير اختيار تحته... فالعبد محكوم عليه وإن عدى
فأقبل بفضلك توبتي لك مخلصا... فارحم فإني قد بسطت لك اليدا
وحكي عن بعض الصالحين أنه كان يقول في مناجاته: إلهي، كيف أفرح وقد عصيتك؟ وكيف أحزن وقد عرفتك؟ وكيف أدعوك وأنا خاطئ، وكيف لا أدعوك وأنت كريم؟
وقيل في المعنى شعر:
ذنوبي وإن فكرت فيها عظيمة... ورحمة ربي من ذنوبي أوسع
وما طمعي في صالح قد عملته... ولكنني في رحمة الله أطمع
وقال آخر:
إلهي أنت ذو فضل ومنّ... وإني ذو الخطايا فاعف عني
فظني فيك يا ربي جميل... فحقق يا إلهي فيك ظني
يظن الناس بي خيراً وإني... أشر الناس إن لم تعف عني
وقيل: أذنب عبد لعبد العزيز بن عمر رضي الله عنهما ذنباً، فأوقفه بين يديه وأمر بضربه، فقال له: يا مولاي، أما بينك وبين الله تعالى ذنب فأمهلك فيه، فقال: وأي ذنب ما أمهلني، فقال: بالذي أمهلك إلا ما أمهلتني. فعفا عنه وتركه.
تم أذنب ثانياً، فأوقفه بين يديه وأمر بضربه، فقال: مولاي، أما عصيت الله تعالى ثانياً فأمهلك، قال: بلى، فقال: يا مولاي، بالذي أمهلك إلا ما أمهلتني، فعفا عنه وتركه.
ثم أذنب ثالثاً، فأوقفه بين يديه وأمر بضربه، فاًطرق برأسه إلى الأرض ولم يتكلم، فقال له سيده: ما بالك لا تقول القول الذي كنت تقوله في كل مرة، فقال: يا سيدي، منعني الحياء من كثرة ما أتوب ثم أعود.
وقيل في المعنى شعر:
عصيت مولاك يا سعيد... ما هكذا تفعل العبيد
فراقب الله واتقيه... يا عبد سوء غداً الوعيد
قال الحسن البصري رضي الله عنه: رأيت رب العزة في المنام، فقلت له: اللهم اغفر لي، فقال: إن أحسنت فيما بقي غفرت لك فيما مضى، وإن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي.
وقال بعض الصالحين: رأيت شاباً وهو يقول: يا قديم الإحسان إحسانك القديم، فقلت له يوماً: أراك لا تغفل عن هذه الكلمة، فقال لي: لذلك سبب عجيب، وذلك أن من عادتي إذا كانت ضيافة أو عرس أبرز مثل النساء فاًتزر وأتقنع وأدخل بينهن وأجلس، فاتفق أن كأن عرس في دار الأمير، فحضرت على العادة فضاعت جوهرة في دار الأمير، فأمر الأمير بتفتيش النساء، فكشفوا عن اقنعتهن، وأنا كنت اقول: يا قديم الإحسان إحسانك القديم، ونذرت مع الله نذراً إن سترني لا أعود إلى ذلك أبداً، فلما وصلوا إلي نودي في القوم: أن اتركوا البقية فقد وجدنا الدرة.
قال: فتبت من ذلك اليوم وعاهدت الله أن لا أعود.
وقيل في المعنى شعر:
لا عدت أفعل ما قد كنت أفعله... جهلاً فخذ بيدي يا خير من رحما
هذا مقام ظلوم خائف وجل... لم يظلم الناس لكن نفسه ظلما
فاصفح بعفوك عمن جاء معتذرا... بذلة سبقت منه وقد ندما
مالي سقاك و لا علم و لا عمل... فامنن بعفوك يا من عفوه كرما
وقال بعض الصالحين: رأيت كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس يُساقُون إلى الحساب، وأنا مع طائفة منهم عليهم الحُلل والتيجان، فمروا إلى ساحل بحر فجلسوا، فأردت أن أجلس معهم، فقالوا: إليك عنا، فلست منا أطلب أصحابك المذنبين، فسرت قليلاً وإذا أنا بأقوام على كراسي من نور فأردت أن أجلس معهم، فقال لي قائل منهم: لا تجلس معنا اطلب أصحابك المذنبين، فمشيت قليلاً وإذا أنا بأقوام عليهم ثياب رثة، ووجوه غبرة مصفرة، فقالوا: إجلس معنا فأنت منا، فقلت: مَنْ أنتم؟ قالوا: " أصحابك المذنبين، فجلست معهم وبقيت متفكراً في أمري.
وإذا بسفينة من الذهب الأحمر، وشراعها من السندس الأخضر، وإذا بمناد ينادي ويقول: هذه سفينة الأبرار المستغفرين بالأسحار، فقامت طائفة وقالت: لبيك داعي ربنا وسعديك، ثم ركبوا فرحين مستبشرين حتى غابوا عن أعيينا.
ثم أقبلت سفينة من لؤلؤة بيضاء شراعها من السندس الأخضر، وإذا مناد ينادي ويقول: أين العلماء ورثة الأنبياء، فقالوا: لبيك داعي ربنا وسعديك، فركبوا حامدين شاكرين فرحين مستبشرين حتى غابوا من أعيننا ولم يبق على ساحل البحر غيرنا.
فبينما نحن في كرب شديد وغم وحزن ما عليه من مزيد، وإذا بسفينة قد أقبلت، وهي من الياقوت الأحمر وشراعها من السندس الأخضر، فتأمَّلت الشراع فإذا هي مكتوب عليها: (ورحمتي وسعت كل شيء)، ومناد ينادي ويقول: هذه سفينة الرحمة والتعطف، أين أهل العصيان والتخلف؟
فركبنا مستغفرين ذاكرين الله تعالى.
ولم نزل في الرجاء والامتنان حتى أشرفنا على وادي العفو والغفران، فجاءنا توفيق من الكريم المنان قد غفر لنا، فلمَّا غفر لنا ما غفر لنا، وسر لنا ما سر لنا، ووهب لنا ما وهب لنا، حمدنا الله تعالى على مَنِّهِ وكرمه.
وقال مالك بن دينار رضي الله عنه: رأيت إبن بشار في النوم بعد موته بسنة، فسلّمتُ عليه، فلم يرد عليَّ السلام، فقلت له: ماذا لقيت بعد الموت؟
فدمعت عيناه، وقال: لقيت أهوالاً وزلازلاً عظاما شداداً.
فقلت: وما كان بعد ذلك؟
فقال: وما يكون من الكريم، قبل مِنَّا الحسنات، وعفا عن السيئات، وضمن لنا الدرجات، ثم شهق مالك شهقة عظيمة فخر مغشياً عليه.
وقيل: إن الحجَّاج الزاهد رآه بعض أصحابه في النوم، فقال له: فيما ترى حالك؟ فقال: الأمر سهل، وما رأيت شيئاً مما كنت أخاف منه والحمد لله.
وقيل: إن الشبلي رحمه الله لَمَّا رُؤيَ في النوم فقيل له: ما فعل الله بك؟
فقال: حاسبني وناقشني حتى يئست، فلمَّا رآني يئست تغمَّدنِي برحمته.
وقال احمد بن العربي: رأيت أحمد بن الحسن الرازي في المنام بعد موته، فقلت له: ما فعل الله بك؟
فقال: أوقفني بين يديه، وقال لي: يا عبد سوء فعلت وتركت وصنعت، فقلت: يا سيدي، ما بلغني عنك هكذا، فقال: ما بلغك عني؟
فقلت: بلغني عنك انك كريم، والكريم إذا قدر عفا، فقال: خدعتني بقولك، فقلت: يا رب، هبني لمن شئت، فقال: إذهب فقد وهبتك لك.
وقيل: إن منصور بن عمَّار رضي الله عنه روي في المنام بعد موته، فقبل له: ما فعل اللهُ بك؟ فقال: أوقفني بين يديه، وقال لي: يا منصور، أتدري لم قد غفرت لك؟ فقلت: لا يارب، فقال: انك جلست للناس يوماً تحدثهم فاًبكيتهم، فبكى منهم عبد من عبادي لم يبك قط من خشيتي فغفرت له ووهبت كل من في المجلس له، وهبتك فيمن وهبت.
وقال أحمد الخواص رضي الله عنه: رأيت يحيى بن أكثم في النوم بعد موته، فقلت له: ما فعل الله بك؟
فقال أوقفني بين يديه وقال لي،: يا شيخ السوء تنسى تخاليطك الكثيرة فتحيَّرت، ثم قلت: يا رب ما بلغني هكذا، فقال: وما بلغك عني، فقلت: يا رب، سمعت في بعض الأخبار أنك قلت: "مَنْ شاب شيبةً في الإسلام إستحييت أن أعذبه في النار"، فقال: صدقت، يا ملائكتي اذهبوا بعبدي إلى الجنة.
وقيل: أوحى إلى داود عليه السلام: يا داود، إني لأنظر إلى الشيخ في كل يوم صباحاً ومساءً وأقول له: يا عبدي، كَبُرَ سِنُّكَ، ورَقَّ جلدك، ودَقَّ عظمك، وحان قدومك علي، فاستحيي مني فإني أستحيي منك.
وحكي أن الشبلي رحمه الله تعالى وعظ الناس يوماً وبكى بُكاءً شديداً، فقام إليه شيخ وهو قابض على لحيته وعيناه تذرفان بالدموع، فقال له: يا شبلي: انصف بيني وبينك وبين ربك، فقال: وما ذاك؟
قال: يا شبلي، كلما قمت أقعدني، وكلما نهضت نحوه قطعني، وكلما قصدت الباب وجدته مغلقاً في وجهي وقد كَبُرَ سِنِّي، ووهن عظمي، وقَلّتْ حيلتي، فما ترى في قضيتي، فقال له الشيخ: نعم يا سيدي، هذه عِلّتِي، فقال له: يا سيدي، أريد فتى من الفتيان يحمل عني أوزاري وذنوبي، فليس لي طاقة على حملها، فقد أثقلت ظهري وأعجزت مقدرتي.
وقيل في المعنى شعر:
يا مالكي يا خالقي يا رازقي... يا من إليه تحركي وسكوني
إني ضعيف عن عذابك سيدي... ومقصر عن حمل قبيح ذنوبي
قال: فأطرق الشيخ رأسه متعجباً لأمره، وإذا امرأة قد قامت وقالت: يا سيدي، أنا من الخاطئات المذنيات، وأنا أكثر ذنوباً من هذا الشيخ، وقد تحمَّلت ذنوبه مع ذنوبي أقدم بها على ربي.
فقال الشيخ الشبلي رحمه الله تعالى: فما استتمَّت كلامها حتى هتف في المجلس هاتف، وهو يقول: يا شبلي: قد غفرنا لِمَنْ في المجلس كلهم لأجل هذه المرأة لِحُسْنِ ظنّها بنا.
وقيل في المعنى شعر:
يا ذا المكارم والعلا إن... يا ذا الجلال الأوحد
إن العصاة تجمعوا... لوجود عفوك سيدي
قصدتك كل قبيلة... فلمن يروح ويغتدي
حطو إليك رحالهم... يستشفعون بأحمد
قال بعض الصالحين رضي الله عنهم: رأيت جارية تطوف حول البيت وهي تقول: أتراك تقبلني وتغفر زلتي، فقلت لها: ما فعلت؟
فقالت: أنا امرأة عاصية فخرجت يوماً أتحدَّثُ مع أعرابي، إذ مَرَّ بي هاتف وهو يقول: يا ملعونة، كيف تقتني عباد الله؟
فقلت له: مَنْ أنت؟
فقال: أنا الرقيب، ما في صحيفتك قط عندي حسنة، وهذا العبد قد امتلأت صحيفته من السيئات، فقلت له: إذا أنا تبت يقبلني؟
فقال: وهل التوبة إلا لمثلك، فخرجت من وقتي وساعتي، ولبست هذا الثوب الشعر، وقلت: عسى يقبل توبتي، وقد تبت إليه عمَّا كان مِنّي.
قال: فبينما هي تكلمني وإذا بهاتف يقول: لقد قبلناك وقبلنا توبتك، ثم شهقت شهقة عظيمة وفارقت الدنيا.. فرحمة الله عليها.
وقال وهب بن الوردي رضي الله عنه: بينما امرأة تطوف وهي تقول: يا رب ذهبت اللذات وبقيت التبعات، يا رب ما لك عقوبة إلا النار، أمَا في عفوك ما يسعني يا أرحم الراحمين.
قال: فما استتمت كلامها إلا وقائل يقول: قد عفونا وغفرنا لك.
قال الجنيد رحمه الله: كان بجواري رجل شرطي، فلمَّا مات حمل إلى مسجدي لأصلى عليه، فامتنعتُ من الصلاة عليه لِمَا أعرفه من ظلمه، فقلت: أصرفوه عني، فصرفوه وصلّوا عليه ودفنوه، فرأيته في تلك الليلة في منامي وهو في قبة خضراء، فقلت له: أنت فلان الشرير، قال: نعم، قلت: بِمَ نِلْتَ هذه المنزلة؟
قال: بإعراضك عني، فأقبل عَلَيَّ الجليلُ جل جلاله وقال: أقبل على المطرودين.
وقال مالك بن دينار رضي الله عنه: كان لي جار مسرف على نفسه كثير الخطايا، قد تأذَّى الجيران منه، فأخبرته بذلك، وقلت له: أخرج من البلد، فقال لي: أنا في منزلي لا أخرج، فقلت له: بع منزلك، فقال: لا أبيع منزل ملكي، فقلت له: أشكوك إلى السلطان، فقال: أنا من أعوانه، فقلت له: أنا أدعو عليك، فقال: إن الله أرحم بي منك.
فهممتُ أن أدعو عليه، فهتف بي هاتف: لا تدعُ عليه فإنه وليٌ من أوليائي، فجئت إلى باب داره، فنظر إليَّ وظن أني أخرجه، فقام لي كالمُعتذر، فقلت: ما جئت إلى هذا، ولكني سمعت كذا وكذا، فوقع عليه البُكاء وقال: إني تبت عمَّا كان مني.
وقيل لذي النون المصري رضي الله عنه: ما كان بدء أمرك؟
فقال: كنت شاباً في لهو ولعب وتعب، فخرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام، بينما أنا راكب في المركب وقد توسطنا البحر، ففقد من بيننا كيس ففتش كل من في المركب، وكان بيننا شاب لا نبات بعارضيه، فلمَّا وصلوا إلى الشاب ليفتشوه، فوثب من المركب وثبة حتى جلس على أمواج البحر، وقال: يا مولاي، إن هؤلاء اتهموني، وأني أقسم عليك يا حبيب قلبي أن تأمر كل دابة في البحر أن تخرج رأسها، وفي فم كل واحدة منهن جوهرة.
قال ذو النون رضي الله عنه: فما استتم كلام الشاب حتى رأينا دواب البحر وقد أخرجت رؤوسها وفي فم كل واحدة منهن جوهرة تتلألأ وتلمع، ثم وثب - على الماء يتبختر وهو يقول: (إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
وقيل لمالك بن دينار رضي الله عنه: كيف سبب توبتك؟
فقال: كنت شرطياً وكنت منهمكاً على شرب الخمر، وكانت لي جارية، فولدت لي بنتاً فلمَّا دَبَّتْ على الأرض ألفتها وألفتني، وكنت إذا شربت الخمر جاءت إلي وأهرقتها علي، ثم أنها ماتت.
فلما كانت ليلة النصف من شعبان وأنا نائم سكران، فرأيتُ كأن القيامة قد قامت، فالتفتُ فإذا بتنين عظيم وهو من أعظم ما يكون، قد فتح فاهُ وهو مُسرع إلِيَّ، فولَّيتُ هارباً منه مرعوباً، فرأيت شيخاً نقي الثوب، طيب الرائحة، فقلت له: أجرني من هذا التنين أجارك الله، فبكى الشيخ، وقال: إني ضعيف وهذا أقوى مني، فولَّيتُ هارباً حتى أشرفتُ على طبقات النيران، وكدتُ أن أهوي فيها، فصاح صائح: إرجع فلست من أهلها، فاطمأننت إلى قوله فرجعت.
فإذا التنين قد قرب مني وتحيَّرتُ في أمري، وإذا بإبنتي التي ماتت وقد أشرفت وقالت: يا أبت، أنت أبي والله، ومدَّت يدها اليمنى إلِيَّ فتعلّقت بها، ومدَّت يدها اليُسرى إلى التنين فولَّى هارباً، ثم أجلستني وقَعَدَتْ في حِجْري، وقالت: يا أبت، (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله؟).
فقلت لها: وأنتم تقرأون القرآن؟
قالت: نعم، ونحن أعرف بحروفه منكم.
فقلت لها: أخبريني عن التنين الذي أراد هلاكي؟
قالت: يا أبت، هذا عملك السُّوء قويته عليك.
فقلت: أخبريني عن الشيخ الذي مررتُ به؟
قالت: ذلك عملك الصالح أضعفته فلم يكن له قوة ولا طاقة بعملك السُّوء.
فقلت لها: وما الذي تصنعون ههنا؟
قالت: نحن أطفال المؤمنين قد أسكننا اللهُ تعالى في هذا الجبل ننتظر قدومكم علينا فنشفع لكم، فانتبهت فرحاً مسروراً.
وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام، يا داود: ليس كل الأولاد أولاداً صُلحاء، منهم ولد يسعر على والديه ناراً، وولد يشفع في أبويه فيدخله الجنة.
يا داود، كم من مملوك عندي أقرب من سيده، وكم من ولد أطهر من أبيه.
يا داود، إن السعيد عندي هو السعيد أبداً وربما حال إلى الشقاوة، وإن الشقي عندي هو الشقي أبداً ولربما حال إلى السعادة، ثم لا رَادَّ لحُكمي ولا دافع لقضائي.
وقال بعض الصالحين رضي الله عنهم: كان بجواري رجل مدمن على الخمر فمات، فساًلتُ اللهَ أن أراه في المنام، فرأيته بعد ستة أعوام وعليه حُلَّةٌ خضراء، فقلت له: ما فعل الله بك؟
فقال: يا سيدي، لَمَّا مِتُّ دُفِعْتُ إلى جهنم، فضربوني بسياط من نار، بكل كأس شربته ألف ضربة، وكنت تركت زوجتي حاملاً، فولدت لي غلام فلمَّا تكلّم وقال: لا إله إلا الله أعتقني اللهُ من النار.
فلمَّا تَمَّ له خمسة أعوام دخل المكتب فلقَّنَهُ المعلم: بسم الله الرحمن الرحيم، فقالها فأدخلني الله تعالى الجنة وأعطاني فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
قال صلى الله عليه وسلم: "ما من شفيع أفضل عند الله منزلة يوم القيامة من القران".
وقال عليه الصلاة والسلام: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلّمَ القُرْانَ وَعَلَّمَهُ".
وحكي عن وهب بن منبه رضي الله عنه أنه اشترى جارية أعجمية أصبحت فصيحة، فقالت: يا مولاي، علّمني فاتحة الكتاب.
فقال لها: ويحك، أمسيت أعجمية وأصبحت فصيحة، وسألها سيدها عن ذلك؟
فقالت له: يا سيدي لرؤيا رأيتها البارحة.
فقال لها: وما هي؟
قالت: رأيت كاًن الدنيا كلها أوقدت ناراً، وفتح لي منها طريق إلى الجنة، وكأن موسى عليه السلام أقبل على الطريق وخلفه اليهود، فالتفت إليهم وقال: أنا ما أمرتكم أن تتهودوا، فسقطوا يميناً وشمالاً على وجوههم في النار، وموسى وحده دخل الجنة.
وإذا بعيسى عليه السلام قد أقبل وخلفه النصارى، فوقف والتفت إليهم وقال: أنا ما أمرتكم أن تنصروا، فسقطوا يميناً وشمالاً على وجوههم في النار، ومَرَّ عيسى عليه السلام وحده ودخل الجنة.
وأقبل على أثره محمد صلى الله عليه وسلم وأمَّته خلفه، فوقف والتفت، وقال: "أنا أمرتكم أن تؤمنوا بربكم فأمنتم فلا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون".
فمروا خلفه حتى دخلوا الجنة وبقيت أنا وامرأتان على باب الجنة، فقال الله تعالى لنا: هل قرأتم القرآن، فقال المَلَكُ الذي على باب الجنة للمرأتين: قرأتما سورة الفاتحة؟
فقالتا: نعم، فقال رضوان: ادخلوا الجنة.
فعلّمني يا مولاي سورة الفاتحة.
وقال إدريس الحداد رضي الله عنه: دخلت على حمزة بن حبيب الزيات وهو يبكي، فقلت له: ما يُبكيك؟ فقال: يا آخي رأيت البارحة في منامي كأن القيامة قد قامت، وقد دُعِيَ بأهل القرآن، فكنت فيمَنْ حضر، فسمعتُ قائلاً يقول: لا يدخل الجنة إلا مَنْ يعمل بالقرآن، فرجعتُ، فهتف باسمي هاتف، فقلت: لبيك اللهم لبيك، فدخلت داراً، فسمعتُ فيها ضجيج القران، فوقفت أرعد، فسمعت قائلاً يقول: لا باس عليك، إقرأ سورة الأنعام، وأنا لا أدري على مَنْ أقرأ القرآن.
فقرأت حتى بلغت: (وهو القاهر فوق عباده)، فَقِيلَ: صدقت، فقرأتها حتى ختمتها، فقيل لي: إقرأ، فقرأت سورة الأعراف حتى بلغت إلى آخرها، وأومأت للسجود.
فقيل لي: يا حمزة، لا تسجد، وحق القرآن لأكرمن أهل القران، إدن مني، فدنوت منه، فدعا بسوار من ذهب فَسَوَّرَنِي به وقال: هذا بقراءتك القرآن، ثم دعا بمنطقة من ذهب فمنطقتي بها، وقال لي: هذا بصومك بالنهار، ثم دعا بتاج من ذهب مُكلّلٌ بالياقوت والزبرجد، فتوَّجني به، وقال: هذا بتعليمك الناس القرآن.
يا حمزة، وعزتي وجلالي ليس أفعل هذا بك وحدك، فقد فعلت ذلك مِمَّنْ هو فوقك ومَنْ هو دونك مِمَّنْ قرأ القرآن.
يا حمزة، وعزتي وجلالي لا أعذب لساناً تلا القرآن بالنار، ولا قلباً وعاه، ولا أذناً سمعته، ولا عين نظرته.
وقال عليه الصلاة والسلام: "إن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطو على قلب بشر، وان الرجل من أهل الجنة ليتزوج باثنتي عشرة ألف حورية، يعانق كل واحدة منهم بمدة عمره".
وقال سفيان رضي الله عنه: والله لقد بلغني أن أهل الجنة يكونون في منازلهم فيتجلّى عليهم نور تُضِييءُ منه الجنان الثمانية، فيظنون أن ذلك نور الحق سبحانه وتعالى، فيخرُّون ساجدين، فيُنادون: ارفعوا رؤوسكم، ليس الذي تظنون، إنما هو نور جارية تبسَّمت في وجه زوجها من أهل علّيّين.
وقال الربيع بن خيثم رضي الله عنه: رأيت في المنام قائلاً يقول لي: يا ربيع، إن ميمونة السوداء زوجتك في الجنة، فلمَّا أصبحت سألت عنها؟
فقيل لي: هي تسكن الشام، فقصدتها، فوجدتها ترعى غنماً، فسلّمت عليها، فقالت: يا ربيع، ليس المأوى ههنا، فقلت لها: ما أكثر كلابك، وأقل غنمك، فقالت: ما هم كلاب ولكنهم ذئاب، فقلت لها: كيف تجمعي الذئاب مع الغنم؟
فقالت: أصلحت ما بيني وبين مولاي فأصلح اللهُ ما بين الذئاب والغنم.
وقال الأصمعي رحمه الله تعالى: دخلتُ على حي من أحياء العرب، فإذا بجارية فاستوقفني حُسْنُهَا، فقلت: فاز مَنْ هذه لَهُ، فإذا برجل قبيح المنظر، فإذا هو أتاها وأخذ بيدها، فقلت: ما هذا منكِ؟
قالت: بعلي، فقلت لها: أترضين لهذا الوجه الجميل لمثل هذا؟
فقالت: بسبب ما قلت، لعله أحسن فيما بينه وبين الله فجعلني ثوابه، ولعلي أسأتُ فيما بيني وبين الله فجعله عقوبتي.
وحكي عن بعض الصالحين رضي الله تعالى عنهم أنه رأى رجلاً يبكي خلف جنازة امرأة، فقال له: يا أخي، ما هذه منك؟ قال: زوجتي، قلت: كم لها في صحبتك؟
قال: أربعين سنة،. قلت: فما كان سبب زواجك لها؟
قال: كنت كثير الصلاة في مسجد يحيى بن نعيم، فلمَّا كان في بعض الأيام خرجت من المسجد، وإذا بي لمحتها، فوقعت في نفسي ووقعت في نفسها، فلم أزل حتى تزوجت بها، فلمَّا دخلت معي في البيت، قلت لها: ما جزاء مَنْ جمع بيننا ومَنَّ علينا بالاجتماع، قالت: نقوم له هذه الليلة شكراً إلى السَّحَر معاً.
ففعلنا ذلك، فلمَّا صلينا الصُّبح، قالت: ما جزاء من مَنَّ علينا بالاجتماع حلالاً لا حراماً، فقلت لها: نصوم هذا اليوم شكراً لله تعالى، ولم نزل هكذا أربعين سنة.
وقال بعض الصالحين رضي الله عنهم: رأيت بعض الصالحين في النوم بعد وفاته، فقلت له: ما فعل الله بك؟
قال: أدخلني الجنة، قلت: أي الأعمال أفضل عندهم، قال: التوكل، وقصر الأمل.
وقيل: مكث عيسى عليه السلام سبعين صباحاً يُنَاجِي ربه، فلم يأكل شيئاً، فخطر بباله الأكل، فانقطعت عنه المناجاة، فقعد يبكي، وإذا بشيخ قد أقبل، فقال له عيسى عليه السلام: يا شيخ، إدع الله لي، فإني كنت في حالة فخطر ببالي الخبز فانقطعت عني تلك الحالة.
فقال الشيخ: اللهم إن كان الأكل خطر ببالي منذ عرفتك فلا تغفر لي.