البغــــال
ورد ذكر البغال في آية واحدة في كتاب الله العزّيز حين حدثنا بما أنعم الله على الإنسان بخلقه دواب الركوب وحمل الأثقال.
وإن ذكر البغال كنوع من دواب الركوب والحمل في القرآن الكريم هي أحد مظاهر الإعجاز القرآني فيما أتبعه في سرد هذه الأنواع الثلاثة من الحيوانات: الخيل، والبغال والحمير، وترتيب ورودها في الآية الكريمة دليل على أحكام آيات القرآن المجيد وفق منطق إلهي يستند إلى أنّه سبحانه هو العليم الحكيم، ويؤكد لنا أنّ كلمات القرآن ومفرداته إنما تتبع نظاماً مُحكماً يضبط أولوية تواردها ولهذا مغزى يتطلب منا دقة تأمل وتدبر لأنه لا مبدل لكلماته جلّ شأنه
وقد ذكرت البغال في موضع معين في الجملة يسبقها اسم الخيل ويعقبها الحمير وإذا ما رجعنا إلى الحقائق العلمية لتعرفنا على مغزى هذا الترتيب في ذكر الأسماء وترتيبها على هذا النحو: فالبغل حيوان عقيم لا يلد ولا يُنجب ولا يتناسل بل يتوالد من تزاوج الحصان والحمار، وهو توالد قد يكون في الطبيعة، ويتأتَّى من تدبير الإنسان، لكنّه في جميع الأحوال هو خلق من نوع يختلف عن توالد وتناسل بقية أنواع الحيوان التي تتوالد من بني جنسها.
وذكر تعالى البغال بين هذين النوعين من الحيوان اللذان ينجبانه وهو الفرس من ناحية والحمار من ناحية أخرى، أي انه يرد في الجملة بموقع يتوسَّط طرفي توالده وأسباب وجوده كما في سورة النحل /8: "والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون".
إنّ هذا الإبداع البلاغي في الآية المباركة لا يبين لنا مغزى ترتيب مفردات الآية فحسب بل يؤكد أيضاً انه سبحانه وتعالى خالق كل شيء وفقا لمشيئته ولما قدره لكل نوع من أنواع الخلق من أسباب الوجود والنشوء والتناسل.
وعندما نرجع إلى دوائر المعارف العلمية لنعرف المزيد من الحقائق عن هذا الحيوان الذي يولد نتيجة تزاوج ذكر الحمير وأنثى الخيل أي الفرس كما يمكن أن يتوالد من ذكر الخيل أي الحصان وأنثى الحمار.
وقد استخدمت البغال كحيوانات للحمل منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وتتميَّز بأنها تجمع ما بين قوة الخيل وتحمُّل الحمير وقدرتها على تحمل المشاق، وهي حيوانات عقيمة ويرجع ذلك إلى أن ما يعرف بالكروموزومات في السائل المنوي للبغال أقل من تخصيب البويضة ليحدث الحمل والتناسل، لذا أصبحت عقيمة.
لكن المعروف علمياً إنّ التزاوج بين أي نوعين مختلفين من الحيوان لابد وأن يكون ثمرة ذلك التناسل حيوانات عقيمة، وتلك الحقائق العلمية كان العرب يجهلونها مع غيرها من الأمم وقت نزول القرآن الكريم، ومن هنا يتضح معنى ومغزى العبارة القرآنية من آية سورة النحل التي اختتمت بها هذه الآية: "ويخلقُ ما لا تعلمون".
فلم يكن العلم قد توصَّل إلى شيء من هذه الحقائق العلمية التي تكشَّفت مؤخراً.
وحينما ذكرت الخيل والبغال والحمير في الآية الكريمة ذكر الغاية من خلقها وهو الركوب والزينة بمعنى إنها تركب وهي زينة لمن يركبها: "والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة".
لكنّ الآية الكريمة التي تسبقها في سورة النحل تلقي المزيد من الضوء على الحكمة الإلهية من خلق هذه الحيوانات الثلاثية وأسباب ذكرها فيما خلقه تعالى من نِعَم، ونجد أنّ حمل الأثقال يرد في المقام الأول باعتبارها من حيوانات الحمل التي خلقت لتخفف عن الإنسان مشاق ومتاعب حمل الأمتعة والبضائع تخفيفا من الله تعالى ورأفة ورحمة كما في سورة النحل/ 7: "وتحمل أثقالكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيهِ إلا بِشِقِّ الأنفس إن ربكم لرؤفٌ رحيمٌ".
كذلك يخبرنا تعالى أنّه رحمة منه بالإنسان خلق له تلك الدواب التي تحمل أثقاله من بلد إلى علم الله تعالى إن الإنسان لم يكن له ليحمل تلك الأثقال وينتقل بها إلاّ بجهدٍ وبشقِ الأنفُسِ، فَنِعَم الله القدير عديدة لا تحصى: "وإن تَعُدُّوا نعمة الله لا تُحصُوهَا".
لقد خلق الحق العزّيز الدواب ويسرّ للإنسان أن يقهرها لتصبح ذليلة له لا تمتنع منه تنصاع لكبارهم وصغارهم، يقول ابن كثي: لو جاء صغير إلى بعير لأناخه، فهو ذليل منقاد له ولو كان خلفه مائة بعير لساروا جميعا خلف الصغير.
وأجملت للإنسان في البحر والبر آيتان في سورة الزخرف /12-13: "والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون . لِتَستَوُوا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخَّر لنا هذا وما كُنَّا له مُقرنين".
فالجميع يركب على ظهر الخيل والبغال والحمير كما يركب على ظهر الفُلك فهو يستوي على ظهورها وعليه أن يشكر ربه على نعمه ويسبح بحمده ويروى عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا وضع رجلّه في الرِكاب قال: باسم الله فإذا استوى على الدابة قال: الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وكبر ثلاثاً وهللَ ثلاثاً.
لكنّ تحديد الخيل والبغال والحمير للركوب والحمل في سورة النحل السابقة يجعلها تختلف عن الأنعام والتي قصد بها: الإبل والبقر والأغنام، كما ورد في سورة النحل /5: "والأنعام خلقها لكم فيها دِفْئٌ ومنافعُ ومنها تأكلون".
فالخيل والبغال والحمير حيوانات خلقها تبارك وتعالى للركوب وحمل الأثقال ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكل لحومها.
روى الإمام أحمد قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير".
كما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم رأس وأذن في لحوم الخيل"، وعنه أيضاً قال: "ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمير والبغال ولم ينهنا عن الخيل".