إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ ٣٦
إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ٣٧
خواطر محمد متولي الشعراوي
القرآن الكريم أعطانا صوراً متعددة للحياة الدنيا تدل في مجملها على أنها حياة قصيرة هيِّنة تغرُّ الناس وتخدعهم، من هذه الصور قوله تعالى: { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ } [الكهف: 45].
وهنا: {إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ..} [محمد: 36] وهذا أسلوب قصر يؤكد أن الدنيا ما هي إلا كذلك لعب ولهو، فليحذرها العاقلُ ولا يغترُّ بها.
اللعب أنْ تنشغل بشيء لا يضر لكنه لا ينفع، لذلك أخذتْ بعض المجتمعات المتقدمة تُرشِّد لعب الأطفال، بحيث تؤدي الغرض في تسلية الطفل، وأيضاً تعلمه شيئاً للمستقبل.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "علِّموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل".
واللعب بالنسبة للطفل يكون قبل التكليف، أما اللهو فهو الانشغال بعمل لا يفيد ولا ينفع ويلهيك عن عمل مفيد نافع، كالذي يجلس على القهوة مثلاً يلعب الشطرنج، ويؤذن للظهر فلا يقوم للصلاة.
وفي سورة الجمعة: { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } [الجمعة: 11].
والمتتبع لآيات القرآن يجدها تصف الدنيا في أكثر من موضع بهذا الوصف، لعب ولهو بهذا الترتيب الوجودي، لأن اللعب للأطفال واللهو للكبار إلا في سورة العنكبوت، فيقول: { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [العنكبوت: 64] لأن الكلام هنا عن الفتن التي تضرُّ بالآخرة وتبعدك عن ثوابها، فذكر اللهو قبل اللعب.
ثم يكفي في تحقير الدنيا وهوان شأنها اسمها {إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا..} [محمد: 36] فلا أقل من هذا الوصف، وأنت حين تقول (الدنيا) تتذكر المقابل لها وهي (الآخرة)، فإنْ كانت هذه دنيا فهذه عُلْيا، وإنْ كانت هذه فانية فهذه باقية.
ومع ذلك لا تُذمُّ الدنيا عموماً، وإنما تُذمُّ إنْ حدث فيها ما يُذم، وتُمدح إنْ حدث فيها ما يُمدح، وهي مزرعة الآخرة ولا تدخل الجنة إلا بعمل الدنيا، فالدنيا موضوع الدين أما الآخرة فجزاء، والجزاء على الشيء ليس هو الشيء.
وسبق أنْ قلنا: إن الدنيا في نظر المؤمن أهم من أنْ تُنسى لأنها تُوصِّلك للآخرة، ولكنها أتفه من أنْ تكون غاية لأن غاية الشيء نهايته والدنيا ليست نهايتك، إنما وراءك غاية أهم منها هي الآخرة، هي الغاية الحقيقية التي ليس بعدها بعد.
وقوله سبحانه: {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ..} [محمد: 36] أي: تؤمنوا بالله وتُطبقوا منهجه في افعل ولا تفعل {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ} [محمد: 36] يعني: يعطيكم أجور الأعمال كاملة دون نقصان، ولا يأخذ منك الأموال التي تفضل بها عليكم.
بدليل أنه سبحانه حين يأمرك بأنْ تتصدَّق يعتبر هذه الصدقة قرضاً يرده إليك مع الزيادة { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً.. } [البقرة: 245].
وقوله تعالى: {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 37] الحق سبحانه لا يسألنا أموالنا، لأن الإنسان جُبل على حب المال ويشق عليه أن يؤخذ منه، فالله يقول: لو سألتكم الأموال سيحتاج السؤال إلى إلحاح.
{فَيُحْفِكُمْ..} [محمد: 37] يلح عليكم في السؤال وأنتم تكرهون ذلك؛ لأنه يُظهر ما عندكم من البخل، ويُظهر ما في نفوسكم من ضغائن وأحقاد.
وحين تظهر أضغان النفوس تفسد العلاقات بين أفراد المجتمع وقد رأيتم ذلك مثلاً في مسألة التأميم التي حدثتْ؛ لأن المال عادة تكسبه بتعب وعرق فيعزّ عليك أنْ يؤخذ منك ويُعطي لغيرك، وهنا يظهر الضغن.
وقوله تعالى: {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ..} [محمد: 37] كما في قوله سبحانه: { لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً.. } [البقرة: 273].
وقالوا في {وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ} [محمد: 36] أنها تفيد عموم السلب لا سلب العموم، كيف؟ كما نقول مثلاً: لم ينجح كل الطلاب، هذا يعني أن البعض نجح، فالسلب هنا للعموم على خلاف لو قلت: كل الطلاب لم ينجحوا.
هذا عموم السلب حيث لم ينجح منهم أحد.
كذلك {وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ} [محمد: 36] أي: كلها، فالمعنى أنه يسألكم بعضها كما يحدث في الزكاة والصدقات والفدية والكفارات.