أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة مُحَمَّدْ الآية رقم 22-23 الجمعة 13 يناير 2023, 10:17 pm | |
| فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ ٢٢ أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ ٢٣ خواطر محمد متولي الشعراوي هذا استفهام من الله بهل، ورجاء من الله بعسى، والله لا يستفهم ليعلم إنما يستفهم ليقرر حقيقة واقعة. كلمة (عسى) فعل يدل على الرجاء وبعدها الشيء المرجو، والرجاء يكون لأمر محبوب متوقع الحدوث وممكن الحدوث، على خلاف التمني فهو لشيء محبوب، لكن مستحيل أنْ يتحقق كقول الشاعر: ألاَ لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْماً فَأُخبرهُ بمَا فعَلَ المشِيبُ أما الرجاء فتقول: عسى إنْ ذاكرتَ أنْ تنجح، لكن يختلف الرجاء باختلاف القائل والمقول له، فعندما أقول لك: اذهب إلى فلان عسى أن يقضي حاجتك، أو عساني أفعل لك شيئاً فالرجاء هنا في بشر، فإذا كان الرجاء في الله كان أقوى كأنْ تقول: عسى الله أن يغفر لي. فقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] لعلكم يحدث منكم هذا ويتوقع منكم، إذن: ظلوا على ما أنتم عليه من الإيمان والطاعة ولا تدخلوا من باب الذنوب والمعاصي. {إِن تَوَلَّيْتُمْ..} [محمد: 22] أي: أعرضتم عن الإيمان، أو توليتم بعض المناصب كالرئاسة مثلاً تأتي لك بالمصيبة إليك. {أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ..} [محمد: 22] يعني: مع الخَلْق جميعاً {وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ..} [محمد: 22] رقَّى المسألة إلى الأقارب والأرحام يعني: يتعدى فسادكم الناس جميعاً إلى الأقارب والأرحام. أو نقول: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ..} [محمد: 22] ما الذي صرفكم عن الحق الذي جاء به محمد، ولماذا تضعون في طريقه العقبات؟، وأولها أنْ تسخروا منه، وأنْ تصفوه بما ليس فيه من قولكم: ساحر، وكاهن، وشاعر، وكذاب. ثم آذيتموه في نفسه بالسب وفي بدنه وفي أهله وفي أصحابه، بل بيَّتم له لتقتلوه، ما الذي جعلكم تفعلون ذلك؟ هل ظننتم ورجوتم أنكم إذا فعلتُم ذلك تصبحون على حَلِّ شعوركم للإفساد في الأرض وقطع الأرحام. والحق سبحانه يريد أنْ يُعلمنا أن الرسل لا تتدخل ولا تأتي السماء بمنهج جديد إلا إذا عَمَّ الفسادُ المجتمع كله، لأن الفساد له مراحل: أولها: فساد النفس وهذا له رادع من النفس اللوّامة، وهي مناعة في النفس الإنسانية تعود بها إلى الجادة وتُقوِّم سلوكياتها. فإذا فسدتْ النفس وتلاشى دور النفس اللوامة جاء دور الرَّدْع من المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم يكُنْ رادع من المجتمع وعَمَّ الفساد الجميع هنا تتدخل السماء برسول جديد يأتى بمعجزة ليقنع الناس ليؤمنوا بما جاءهم به. فأنتم حين توليتم عن الدعوة وأعرضتم عنها ووضعتم في طريقها العراقيل تنتظرون أنْ تظلوا على الفساد الذي نشأتم عليه في الأرض عموماً أو في تقطيع الأرحام، لا فأنتم تجنون على أنفسكم، ألم تنظروا إلى مَنْ سبقكم من الآباء والأجداد أين ذهبوا، إن مصيركم كمصيرهم، فاحذروا { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [الزخرف: 66]. وقال: { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [الزمر: 55-58] إذن: لماذا لا تعملون حساباً لهذا اليوم؟ والذين استشروا في الفساد ظنوا أنه ينفعهم، لكن الفساد في الكون يضر الجميع، فالذين ينهبون أموال الناس سيأتي مَنْ هو أقوى منهم وينهب أموالهم، فأنت إذن لست بمنجى عن أنْ يطولك الفساد وتكتوي بناره، لأن المجتمع مركب واحد يضم الجميع. ثم إن القيم ثابتة لا اختلاف عليها، فالخير خير حتى عند أهل الشر، والدليل على ذلك لو أن هناك صحبة من الأشرار، وأراد واحد منهم أنْ يتزوج أخت الآخر، فقال له: لا لا أزوجك أختي (أنا ملقتش غيرك أنت يا حرامي) إذن: القيم هي القيم.فالكذاب يحترم الصادق، والمنحرف يحترم المستقيم، وهكذا. إذن: الحق سبحانه يقول لهم لا تفسدوا في الأرض، وأحرصوا على إنهاء الإفساد في مجتمعكم، فإنْ كانت لكم الآن قوة تفرضون بها الفساد على الناس فسوف يأتي مَنْ هو أقوى منكم، ويفرض عليكم مثله وأكثر. وكلمة {تَوَلَّيْتُمْ..} [محمد: 22] أي: أعرضتم تدل على أنهم سمعوا كلاماً لا يعجبهم، فلو أعجبهم لَسمعوا وما أعرضوا عنه، لكن كيف وهم يريدون الفساد الذي يحقق لهم شهواتهم، فالفساد سبقه تولٍّ وإعراض. لذلك يقول تعالى: { أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } [العلق: 13] كذب لأن الكلام لا يوافق هواه، لا أنه لا يوافق الواقع، إذن: أنت مخطئ في هذه المسألة ومخطئ في تكذيبك. ثم نشأ عن هذا الخطأ خطأ آخر بأنْ توليت وظننتَ وتوقعت أنْ تظل على حالك في الإفساد في الأرض وتقطيع الأرحام. والإفساد في الأرض أنْ تجعل الصالح فيها غير صالح، لأن الخالق سبحانه خلق الكون على هيئة الصلاح المطلق قبل أنْ يخلق الإنسان، إذن: عليك أنْ تزيد في صلاح الكون بما لديك من طموح للأفضل وللأرقى، أو أنْ تيسِّر الصلاح للناس، وإذا لم تزد في صلاح الكون فلا أقلَّ من أنْ تتركه على صلاحه لا تفسده. لذلك رأينا أن عورات المجتمع ظهرت بظهور الفساد في الأرض والملوِّثات في البيئة التي أفسدتْ الماء والهواء والطعام وكل شيء { ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاسِ.. } [الروم: 41]. والحق سبحانه وتعالى حينما يحذرنا من الإفساد في الأرض إنما يريد منا أنْ يستطرق الخير في المجتمع كله ويعمّ الجميع. وقال بعدها: {وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] لأن الإفساد في الأرض يكون عاماً لكل الناس أقارب وغير أقارب، فخصّ الأقارب لأنهم الأَوْلى بالمعروف والإحسان لا بالقطيعة والهجر، والأقارب إما ذكور وإما إناث، الذكور لهم قوة تحمل، أما النساء ففيهم ضعف وحاجة. لذلك كانت قطيعتهم أشدّ وأعظم عند الله. لذلك يصل المجتمع إلى قمة الفساد حين يصل الفساد إلى هذه المرحلة، مرحلة إهانة المرأة أو قطيعتها وهي من رحمك. وإذا رأيتَ المرأة في مجتمع مهيضة الجناح، أو وقع عليها ظلم أو تُركتْ لكسب العيش والسعي على المعيشة، فاعلم أن هناك خللاً في الأسرة، وأن الرجل فيها لا يقوم بدوره، أو قُلْ ليس عنده شهامة ولا نخوة، فترك زوجته للشقاء ولم يكْفها مؤنة لقمة العيش، لكن متى تخرج المرأة للعمل؟ وكيف تخرج؟ نجد الجواب في قصة سيدنا موسى مع ابنتيْ سيدنا شعيب عليهما السلام، اقرأ: { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [القصص: 23]. إذن: علة الخروج أن أباهما سيدنا شعيب شيخ كبير لا يقدر على القيام بهذه المهمة، ثم لما اضطرتهما الظروف للخروج لم يتخليا عن الوقار والحشمة ولم يختلطا بالرجال { لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ.. } [القصص: 23] يعني: حين ينصرف الرجال. ثم يأتي دور المهمة الإيمانية في المجتمع { فَسَقَىٰ لَهُمَا.. } [القصص: 24] لابد أن يوجد هذا النموذج الشهم في المجتمع، وأن يكون للرجولة دور، ذكرت لكم زمان لما سافرتُ للسعودية سنة خمسين، وفي يوم ركبتُ السيارة للذهاب إلى الكلية، وفجأة نزل السائق وأخذ طاولة عليها عجين من أمام أحد البيوت، فسألته: لماذا أخذته والباب مغلق؟ فقال: هذا العجين يعني أن صاحب البيت غير موجود، وعلى مَنْ يراه أنْ يأخذه ويخبزه ويعيده إلى مكانه. وقوله تعالى: {أَوْلَـٰئِكَ..} [محمد: 23] أي: الذين ارتضوا التولِّي والإعراض عن دعوة الحق وتكذيب الداعي؛ ليفسدوا في الأرض ويقطعوا الأرحام. {ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ..} [محمد: 23] يعني: طردهم من رحمته وأبعدهم عن رضوانه، والذين يلعنهم الله تلعنهم كذلك الملائكة، ويلعنهم اللاعنون في كل زمان ومكان، ويلعنهم كل مَنْ شقي بفسادهم. {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23] هذه نتيجة طبيعية لمنْ لعنه الله أنْ يصم آذانهم عن سماع الحق ويُعمي أبصارهم عن رؤية الآيات فلا يتدبرونها. إذن: هم يسمعون ويبصرون، لكن لا يسمعون إلا الشر، ولا يرون إلا الباطل، فقد حجبهم الله عن كل خير، وفتح عليهم باب كل شرٍّ جزاء وفاقاً، لأنهم أغلقوا قلوبهم عن الحق وأحبوا الباطل فأعانهم الله عليه ويسَّر سُبله لهم.
|
|