أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة محمد الآية رقم 19 الجمعة 13 يناير 2023, 10:08 pm | |
| فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ١٩ خواطر محمد متولي الشعراوي معنى {فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ..} [محمد: 19] لا تطلب بأي شيء سبباً غير الله، ولا يجوز لك أنْ تلجأ لغير الله، فاللجوء لغير الله لا يفيد، وقوله: {فَٱعْلَمْ..} [محمد: 19] العلم إما علم يقين إذا أخبرك به مَنْ تثق في صدقه، وعَيْن يقين حينما تراه بعينك وترى أثره، وحَقَّ اليقين حينما تباشره بنفسك. والحق سبحانه حينما يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ..} [محمد: 19] هل يعني هذا أنه لا يعلمها؟ لا بل المراد داوم عليها، وكما علمتها في الماضي فاجعلها في الحاضر وفي المستقبل. وهذا من باب قوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ.. } [النساء: 136] فيأمرهم بالإيمان وقد ناداهم به. قالوا: إذا أمر الله أمراً وهو موجود بالفعل في المأمور فالمراد داوم عليه، فأنت مؤمن لكن مطلوب منك أنْ تداوم على إيمانك في المستقبل. والحق سبحانه حينما يأمر نبيه هذا الأمر إنما ليُطمئنه على أنه إنْ جُحد وعُودِيَ وأُوذِيَ بشتَّى أنواع الإيذاء والاستهزاء لا يحزن ولا يهتم، لأن الله بجواره ينصره ويؤيده، ومهما فعل البشر فلن يمنعوه من إنفاذ دعوته. فسُنة الله في الرسل أنْ ينصرهم: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 171-173] لذلك قلنا: إذا رأيتَ جندياً منتسباً للإسلام وغُلِب، فاعلم أن شروط الجندية اختلَّتْ عنده وإلاَّ ما هُزم. وأخذنا مثالاً على ذلك بما حدث للمسلمين يوم أُحُد من مخالفة أمر رسول الله فهُزموا وهو بينهم، وهذه سنة الله ولن تجد لسنةِ الله تبديلاً، ولو انتصروا بعد أنْ خالفوا أمر الرسول لهان عليهم أمره بعد ذلك، ولقالوا في أنفسهم: لقد خالفناه وانتصرنا. إذن: جاءت الهزيمة لتردهم إلى الصواب وتوقظ غفلتهم في مسألة طاعة أمر رسول الله. وقوله سبحانه: {وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ..} [محمد: 19] فهل يعني هذا أن للرسول ذنباً يجب الاستغفار منه؟ هذه من المسائل التي دار حولها جدل كثير، والمعنى هنا: إذا سَهتْ نفسك فأذنبتَ فاستغفر لا أنه أذنب بالفعل، يقول له ربه: إذا حصل منك ذنب فاستغفر له، وكذلك استغفر للمؤمنين والمؤمنات. وفي آية أخرى قال تعالى: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ.. } [الفتح: 1-2] فذكر الذنب في حق الرسول رغم أنه معصوم. والعلماء حينما بحثوا مثل هذه الآيات قالوا: هي من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين. ومعلوم أن المقربين درجة من درجات الطاعة والامتثال لله أعلى من درجة الأبرار، لأن الأبرار هم الذين يطيعون الله ويفعلون الخيرات وينفذون الأوامر. أما المقربون فهم الذين يزيدون على ذلك تقرباً إلى الله، حتى في عُرْف الناس المقرَّب منك هو الصديق الملازم لك الذي لا يفارقك ويحبك ويخاف عليك. كذلك المقرب من الله، له قانون آخر في التعامل غير قانون الأبرار، ومقياس آخر للحسنات والسيئات يناسب درجة قُربه من ربه عز وجل. ترى لو أنك مثلاً مرضت لا قدر الله وجاءك أحد معارفك وزارك في مرضك ولو مرة واحدة ماذا تفعل؟ تشكره وترى أنه أدى الواجب. أما صديقك المقرب لو زارك مرة واحدة مثله ماذا تفعل؟ تعاتبه وتلومه لأنك كنت تنتظر منه أكثر من زيارة، هذا هو معنى: حسنات الأبرار سيئات المقربين. إذن: الحسنة من الإنسان العادي قد تُعدُّ سيئة بالنسبة للنبي، فالنبي مقرب وللمقرب حساب آخر، ولهذه القربى ثمن، وكان الله يقول لك: حافظ على هذه الدرجة من القرب مني، وإياك أن يحدث منك ولو شيء بسيط بالنسبة لغيرك. أو أن سيدنا رسول الله كما قال: "رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فقوله (عن أمتي) يعني: أنه غير داخل في هذا الحكم، فلا يجوز منه النسيان الذي يجوز من غيره والنسيان في حقه إذن يُعدُّ ذنباً. "لذلك لما صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة رباعية وسلَّم منها بعد ركعتين قال له أحد الصحابة وهو ذو اليدين: أقصرتْ الصلاة أم نسيتَ يا رسول الله؟ قال: كل ذلك لم يكُن، قال: بل بعض ذلك كان". انظر عظمة الصحابي في السؤال، وعظمة رسول الله في الرد، وعظمة الإيمان الذى ربَّى هؤلاء. إذن: من الممكن أنْ ينسى رسول الله ويُعد نسيانه ذنباً لماذا؟ لأنه رسولٌ وصاحبُ رسالة مكلَّف بتبليغها وإشراقات النبوة لا تفارقه فكيف ينسى؟ لذلك لَمَّا سأل أحد العامَّة العالم العابد المنقطع لله وقال له: ما حكم مَنْ سها في الصلاة؟ قال له: عندنا أم عندكم؟ قال: بل عندنا. قال: يسجد للسهو، قال: وعندكم؟ قال: نقتله. ولماذا نذهب بعيداً وقصة معصية سيدنا آدم معروفة للجميع، قال تعالى - في حق آدم { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [طه: 121] فسمى نسيان آدم معصية، لماذا؟ قالوا: لأن آدم خلقه الله بالمباشرة، خلقه الله بنفسه ونفخ فيه من روحه، فله ميزة في الخَلْق ليستْ لغيره، ولم يكلف إلا تكليفاً واحداً هو عدم الأكل من الشجرة، فأيّ شيء ينساه وأي شيء يذكره وهو أمر واحد. لذلك كان النسيان في حقه معصية، لأنه نبي رسول وهو أبو البشر، لذلك معصية آدم جاءت لحكمة لأنه أبو البشر، والبشر على قسمين: معصوم وغير معصوم، المعصوم هم الرسل. وغير المعصوم هم بقية الخلق فلا بدّ أنْ يتمثل في آدم القسمان. فحينما يخاطب الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم ويقول له: {وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ..} [محمد: 19] أي: من النسيان الذي تجاوزتُ عنه لأمتك استغفر أنت منه لأنه لا يغفر لك كما يغفر لأمتك. ثم تعال وانظر في المواضع التي عاتب الله فيها نبيه محمداً، اقرأ مثلاً: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [التحريم: 1] مجرد أن واحدة من زوجاتك غضبت من شيء تحرمه على نفسك وقد أحله الله لك، فعدّ هذا ذنباً. كذلك لما أذن لبعض الصحابة في التخلف عن القتال عاتبه ربّه: { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ } [التوبة: 43] إذن: عاتبه على ذلك، لكن بدأه بالعفو عنه. ثم إن الرسول فيه جانبان جانب البشرية وجانب الرسالة، فآدم عليه السلام عصى ببشريته بدليل قوله تعالى: { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ * ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } [طه: 121-122] إذن: ما جاءته الرسالة إلا بعد أنْ خاض هذه التجربة، وكان منه ما يكون من البشر، ثم اجتباه ربه بالرسالة. وحين نتأمل القضايا التي عاتب فيها نبيه محمداً نجدها مسائل عامة ليس فيها نصّ ولا حكم شرعي خالفه رسول الله، فكان يجتهد فيها برأيه كبشر وكما يمليه الموقف. فمثلاً في قصة عبد الله بن أم مكتوم الذي عاتب الله رسوله من أجله، فقال: { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } [عبس: 1-2] تجد هذا العتاب ليس اعتراضاً على ما فعله رسول الله إنما رحمة به وشفقة عليه. لأنه ترك عبد الله وهو مؤمن جاء ليسأله عن حكم من أحكام الشرع، وأعرض عنه ليتفرغ لبعض صناديد الكفر، فهو صلى الله عليه وسلم بتفكيره البشري حريص على هداية هؤلاء، أما عبد الله فهو مؤمن بطبيعة الحال. إذن: رسول الله يشقّ على نفسه في سبيل دعوته، ثم اقرأ إلى نهاية القصة { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ * أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ * وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ } [عبس: 3-10]. فكأن الحق سبحانه يقول لنبيه: يا محمد ليست مهمتك أنْ يؤمن الناس، مهمتك أنْ تدلهم وأنْ ترشدهم فقط { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ.. } [آل عمران: 20] وخاطبه في موضع آخر بقوله: { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3]. وفي الكهف: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6] يعني: ما عليك إلا أن تُبلغ، أما مسألة الإيمان فأريدهم مؤمنين قلباً لا قالباً، طواعية لا إجباراً. وقال تعالى: { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء: 4] أي: أجبرناهم على الإيمان. وقوله سبحانه: {وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19] معنى {مُتَقَلَّبَكُمْ..} [محمد: 19] ذهابكم إلى أعمالكم وسعيكم في أنحاء الأرض الواسعة طلباً للرزق. و{وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19] مرجعكم إلى بيوتكم ومأواكم إلى مضاجعكم بالليل. والمعنى: أنه سبحانه يعلم كل أحوالكم ولا يخفى عليه شيء من أموركم. وسبق أنْ تحدَّثنا عن فَضل السعي في مناكب الأرض واستنباط خيراتها، لأنك في بيتك ستأخذ خيرات هذه البيئة وحدها، أمَّا حين تنتقل في شتى نواحي الأرض فإنك تجد ألواناً أخرى من الخيرات. الخالق سبحانه وزَّع خيره على جميع أرضه، فكل أرض ولها عطاء، الصحراء لها عطاء، والأرض الزراعية لها عطاء، ليس هناك أرض فقيرة وأخرى غنية، بحيث لو أخذتَ قطاعاً طولياً من الكرة الأرضية لوجدتَ فيه من الخيرات مثل ما في القطاعات الأخرى. وقد كنا نظن أن الصحراء الجرداء لا خير فيها، والآن هي مصدر الرزق الوفير لأصحابها الذين صبروا على شظف العيش فيها أعماراً طويلة. لذلك يقول تعالى: { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ.. } [النمل: 69] وقال: { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ.. } [الأنعام: 11] أي: تأملوا ما فيها من آيات وعبر، والإنسان يسافر ويتنقل إما للسياحة، وإما لطلب الرزق، وفي كلتا الحالتين ينبغي ألاَّ يغفل عن الاعتبار والنظر في آيات الكون. وفي موضع آخر قال تعالى: { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا.. } [النساء: 97] فالتقلُّب هو الخروج من المكان الذي تستوطنه إلى مكان لا تستوطنه، وهذا يحتاج إلى قدرة مالية وصحبة وقوة، لذلك قال سبحانه { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } [النحل: 46]. قالتقلُّب إذن دليل القوة، فالرجل الغني هو الذي يسافر كل يوم إلى مكان يتقلب في أنحاء الأرض، أما الفقير فيلزم مكانه لا يبرحه.
|
|