وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ٢٦ - الأحقاف
خواطر محمد متولي الشعراوي
هذا خطاب لقريش ولَفْتٌ لهم أن هؤلاء المعذّبين من قوم عاد كانوا أقوى منكم وأحسن أثاثاً ورئياً، وأكثر منكم أموالاً، وأثاروا الأرض وعمروها، ولهم حضارة من أعظم حضارات الدنيا.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ} [الفجر: 6-8].
ومع ذلك كان هذا مصيرهم فلم تُغنْ عنهم قوتهم، ولم تدفع عنهم الحضارة شيئاً من عذاب الله وأنتم لستُم أقوى منهم، فاحذروا ما وقعوا فيه من تكذيب الرسول، واحذروا أنْ يُصيبكم ما أصابهم.
فقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ..} [الأحقاف: 26] يعني: مكنَّا قوم عاد.
والتمكين يعني: أعطيناهم القوة والاستطاعة، وبسْطنا لهم في أسباب الدنيا حتى عملوا ما لم يعمله غيرهم من الأمم.
{فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ..} [الأحقاف: 26] إن هنا نافية كما في قوله تعالى: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ..} [المجادلة: 2] ما أمهاتهم إلا اللائي ولدْنَهم، وهنا مكنَّا لهم ما لم نُمكِّن لكم، وبسطنا لهم ما لم نبسط لكم من الأسباب.
ثم {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ..} [الأحقاف: 26].
السمع والأبصار والأفئدة هي وسائل الإدراك الرئيسية في الإنسان، وقد وردتْ في كُلِّ مواضعها في القرآن بهذه الصيغة: السمع مفرد، والأبصار والأفئدة جمع.
وهذه من دقائق التعبير في القرآن، فالسمع لا تُجمع لأن الصوت يسمعه الجميع كأننا في السماع واحد، ترى مصدر الصوت أو لا تراه لكن تسمعه.
أما البصر فيختلف من شخص لآخر، فواحد يرى والآخر لا يرى، واحد نظره حَادّ، وآخر نظره كليل، وآخر أعور.
إذن: الأبصار مختلفة، كذلك تختلف الأفئدة في استقبال الأشياء.
وقد ثبت في علم وظائف الأعضاء أن الأذن هي أول جهاز يعمل في الطفل بعد ولادته مباشرة، أما العين فترى بعد ثلاثة إلى عشرة أيام، ثم بعد ذلك تعمل الأفئدة.
إذن: هذا هو الترتيب الطبيعي لعمل الجوارح التي هي وسائل الإدراك، ولأهمية السمع جعله اللهُ أول هذه الجوارح عملاً، فهو أول ما يستقبل من مُدركات بعد الولادة، وهو الحاسَّة التي لا تنتهي مهمتها حتى في النوم.
فالعين مثلاً لا ترى أثناء النوم، أما الأذن فتسمع لأنها وسيلةُ الاستدعاء للنائم، فلا بدّ أنْ تكون مستعدة دائماً للتلقَّي والسماع.
وهذه المسألة رأيناها في قصة أهل الكهف في قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} [الكهف: 11] لأن الكهف في صحراء يكثر بها الأصوات المزعجة ليلاً بالإضافة إلى أصوات الرعد والبرق والريح، فلو كانت الأذنُ على طبيعتها لأزعجتْهم هذه الأصواتُ، لكن ضرب الله عليها حتى لا تسمع.
ولأن السمع هو وسيلة التلقِّي واستقبال البلاغ عن الله جعلها الله سبحانه أول هذه المدارك عملاً، لذلك سَنَّ لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ نُؤذِّن في أذن الطفل بمجرد أنْ يُولد.
ولو كانت الأذن لا تعمل في هذا الوقت كان التكليف عبثاً، فإذا قلت مثلاً: وهل يفهم الطفل هذا؟ نقول: نعم يفهم بما فيه من العهد الذي أُخذ على آدم ونحن في مرحلة الذر.
إذن: أول ما يجب أنْ يُعنى به الوالدان أنْ يُسمعا الطفل هذا النداء: الله أكبر الله أكبر من كل شيء آخر، وهذه هي الخميرة الإيمانية التي تدور حولها كل خمائر الإيمان.
ما زلتم تذكرون حديثنا عن قوله تعالى: {وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ..} [الأحقاف: 17] فماذ يشغل هذين الوالدين في هذه المرحلة من عمر الابن؟ لم ينشغلا بالقبول ثم الثانوية ثم الجامعة، أبداً إنما بالأمر الأحق والأهم، وهو مسألة الدين والعقيدة، فهذه أوْلى بالاهتمام في الصِّغَر حتى يشبّ عليها.
لذلك نستقبل المولود بألفاظ الأذان لنغرسها فيه وفي تكوينه وهو صافي الذهن نقي القلب، فترسخ عنده، وتتمكن منه ولا تفارقه، على حَدِّ قول القائل:
أتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أنْ أعرِفَ الهَوَى فَصَادفَ قَلْباً خَالياً فَتمكنَّا
قلنا: إن السمع مُقدّم على البصر، هذا في الدنيا، أما في الآخرة قالوا: {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا..} [السجدة: 12] فقدَّم البصر على السمع؛ لأنه حين تقوم القيامة يُفاجأ الإنسان بمنظر رهيب، فيرى قبل أن يسمع.
ثم يقول تعالى في وصف قوم عاد: {فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ..} [الأحقاف: 26] إذن: سمعوا وكأنهم ما سمعوا، وأبصروا وكأنهم ما أبصروا لم يستفيدوا من هذا، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً..} [الإسراء: 46].
وبالتالي أصبحت أفئدتهم خالية، كما قال سبحانه: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} [إبراهيم: 43].
وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
لكن، ما العلاقة بين السمع والبصر والفؤاد أي القلب؟ ولماذا جمع بينهم؟ قالوا: لأن السمع يدرك المسموع، والبصر يدرك المرئي، ومن هذه الإدراكات يُكوِّن الإنسان الفكر ثم يعرضه على العقل ليختار منه ويفاضل بين مكوِّناته، فيأخذ الطبيب ويترك الخبيث، يأخذ الصواب ويترك الخطأ، يأخذ ما وافق الشرع ويترك ما خالفه.
فإذا استقر على أمر ألقاه إلى القلب ليثبت فيه، ويكون عقيدة راسخة لا تتزحزح، وإيمان لا يتذبذب ولا يطفو إلى العقل ليُناقش مرة أخرى، فالقلب إذن هو محلُّ العقائد.
لذلك قال عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
لأنه الوعاء الذي حمل سائل الحياة ويضخه لجميع أجزاء الجسم، وحين يمتلىء بالإيمان يضخ هذا الإيمان مع الدم إلى جميع أجزاء الجسم، فتأتي التصرفات والأفعال على وفق هذا الإيمان، وتؤدي كل حاسة مهمتها بدقة.
وهكذا تجد أن واهب الحياة لك لا يعطيك ما يُعوِّقك عنه، ولا ما يعطل عندك أداء منهجه.
لذلك اقرأ: {وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ} [القصص: 55].
وقال: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱلْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء: 140].
إذن: إذا تمكَّن الإيمان من قلب العبد لا يصدر منه إلا ما يوافق مقتضيات الإيمان قولاً وعملاً، وانطبعت كُلُّ حركاته في الحياة بهذا الطابع.
أمَّا قوم عاد الذين نتحدث عنهم فلم ينتفعوا بما سمعوا من رسولهم، ولا بما رأوا من آيات الكون، ولم يذوقوا إذن طعم الإيمان بالله.
{إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ..} [الأحقاف: 26] وينكرونها وينصرفون عنها، ولو آمنوا لشرح اللهُ صدروهم، لكن ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم، لأنهم اختاروا الكفر وأحبُّوه فأعانهم الله عليه، لأنه رَبٌّ يعطي عبده ما يريد.
لذلك قلنا للمرأة التي تبالغ في الحزن على فَقْد عزيز عليها: أحذري من ذلك، واخرجي من دائرة الحزن ولا تألفيه، وانظري لا إلى ما أُخِذ بل إلى ما أبقى، وإلا أدام الله عليك الحزن وأخذ منك الباقي.
وهنا درس مهم، وهو إذا أصابك مكروه في شيء عزيز عليك فلا تنظر إلى ما أخذتْ المصيبة، لكن انظر فيما أبقتْ لك، حتى تهون وحتى لا تدخل من باب الجزع واليأس، وسوف تجد أن ما بقي أكثر، وأن مصيبتك أهون من غيرك.
لذلك حكيم الصين لما جاءه الناس يشكُون إليه متاعب الحياة وهمومها، قال لهم: فليكتب كلُّ واحد منكم همومه ومتاعبه في ورقة، ثم يلقي بها في هذا الصندوق وليأتني بعد أسبوع، وبعد أسبوع جاء الشاكون فقال للأول: مدّ يدك وخُذْ ورقة مما في الصندوق فأخذ ورقة.
ولما نظر فيها قال: لا أريد ورقتي، لماذا؟
لأنه وجد مصيبته أهون من مصيبة غيره.
وقد ترجم العامة هذا المعنى فقالوا (اللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلوته).
ويُرْوَى أن سيدنا عروة بن الزبير سافر إلى الخليفة الأموي في الشام، وفي الطريق جُرحت رجْله ولم يجد مَنْ يداويها حتى وصل إلى دمشق فوجدوها قد قاحتْ ولم يجدوا حلاً إلا قطعها، فبحثوا له عن مُرقِّد يعنى (بنج) قال: لا فأنا لا أحب أنْ أغفلَ عن ربي طرفة عين، لكن اتركوني حتى أدخل في الصلاة.
فلما دخل في صلاته قطعوا رِجْله فلم يشعر بها، ثم أخذوها وكفَّنوها فقال لهم: أعطوني إيَّاها، فأمسك بها وقال: اللهم إنْ كنتَ قد ابتليتَ في عضو فقد عافيتَ في أعضاء.
نعم، وهل الذي يغيب في معيَّة الله يشعر بألم، ويجب أنْ نصدق بهذه الأخبار ولا نستبعدها، لأنه من أسرار الأذن أنك إذا أحكمتَ سدَّها لا تشعر بالألم، فإن حاولتَ وشعرت بشيء من الألم فاعلم أنك لم تُحِكم سدَّها تماماً.
ونداء الله أكبر هو الذي يُخرجك من عمل الدنيا ويُوقِفك بين يدي الله، وهو تكبيرة الإحرام للدخول في الصلاة، سبق أنْ بيَّنا أن معنى الله أكبر أن العمل والسعي يعتبر كبيراً، لكن الله أكبر، فلا يُستهان أبداً بعمل الدنيا والسَّعي فيها واستنباط خيراتها، فالدنيا أهم من أنْ تُنسى، ولكنها أحقر من أنْ تكون غاية.
والمتتبع لقصة قوم عاد يجد أنها وردتْ في عدة سُور، وردت هنا على وجه الإجمال والإيجاز، وجاء تفصيل هذه القصة في سورة هود.
وفي سورة الحاقة فصَّل لقطة العذاب التي جاءت هنا، فقال سبحانه: {{وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 6-8].
فالريح التي أهلكتهم ريح صرصر.
يعني: شديدة لها صوتٌ مزعج تأيتهم من أعلى في سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً، والحسوم جمع حاسم فهي حاسمة يعني: حسمتْ الموقف وأنهتْ المسألة، فلم تُبْق لهم على شيء.
فإنْ قلتَ: فلماذا قال: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ..} [الحاقة: 7] مع أن العادة في التشريع أن الليالي تسبق الأيام، والزمن يدخل بليله لا بنهاره، بدليل أننا في رمضان نثبت دخوله بليله، فقبل أنْ نصوم نصلي القيام.
لذلك جعلوها لغزاً فقهياً: ما السُّنَّة التي تسبق الفرض؟
ويبدو أن العذاب نزل بهم في الصبح فاستقبل النهار وانتهى عند المغرب، وبذلك استمر سبع ليالٍ وثمانية أيام.
وقد وقف المستشرقون عند هذه الآية يعترضون على طريقة القرآن في تأنيث العدد مع المذكر، وتذكيره مع المؤنث {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ..} [الحاقة: 7] وقالوا: متى يلبس الذُّكران قلائد النسوان؟ ومتى تبرز ربَّات الحجال في عمائم الرجال؟
والقاعدة في علم النحو أن تأتي الأعداد من الثلاثة إلى التسعة على خلاف المعدود من حيث التذكير والتأنيث، ولهذا علة، فالأصل في الكلمة التذكير تقول (كاتب)، أما المؤنث فيحتاج إلى علامة تميزه فوضعوا له تاء التأنيث نقول (كاتبة).
فالتأنيث فرع التذكير، لذلك احتاج إلى ما يُميزه، أمَّا ألفاظ الأعداد من الثلاثة إلى التسعة فهي أصلاً موضوعة على التأنيث نقول: ثلاثة أربعة خمسة.
فلما جاء مع المذكر جاء على أصله، ومع المؤنث احتاج إلى علامة، فبدل أنْ يأتوا بعلامة أخرى قالوا بحذف العلامة الموجودة في المؤنث.
وهكذا أتى العدد مُخالفاً للمعدود في التذكير والتأنيث، فقال تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ..} [الحاقة: 7].
ثم إن اليوم عند الفلكيين يُحسب من الوقت إلى مثله من اليوم التالي، لذلك نراهم عند الساعة الواحدة بعد الظهر يقولون: الواحدة مساءً.
ونحن ما نزال في وسط النهار، وكذلك في الواحدة بعد منتصف الليل يقولون: الواحدة صباحاً ونحن ما نزال في الليل.
أمَّا اليوم في التشريع، فمن طلوع الشمس إلى غروبها، والليل من غروب الشمس إلى طلوعها.
نلاحظ أن هذه السورة جاءت ببعض اللقطات من القصة، لكن لها تفصيل في سورة سُمِّيتْ باسمه، هي سورة (هود) تعرضتْ لكثير من اللقطات التي لم ترد هنا.
ففي هذه السورة ركز السياق على ثلاث لقطات أو مسائل، هي: الدعوة إلى عبادة الله وحده، ثم التحذير من عبادة غيره، لأنهم إنْ عبدوا غير الله عرَّضُوا أنفسهم للعقاب، وهو أخوهم وحريص على نجاتهم، ثم ردُّوا عليه {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22].
أمَّا سورة (هود) فقد زادتْ على ذلك لقطات أخرى، فقال تعالى هناك: {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ..} [هود: 50] وهذه متفقة مع التي معنا، وقال هنا: {أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59] وهناك قال: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} [هود: 50] والافتراء ينشأ عنه العذاب العظيم.
إذن: تكلَّم هنا عن المسبِّب وهناك عن السبب، فالعذاب العظيم سببه أنكم افتريتم على الله بأن اتخذتم له شركاء.
ثم ذكر زيادة أخرى في هود هي قوله تعالى: {يٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِي فَطَرَنِيۤ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [هود: 51].
فكأن المسألة في العقل وبقانون المبادلات أنني أستحق أجراً على دعوتي لكم، لكن أنا لا أريد منكم أجراً فأنتم لا تقدرون عليه لأنه عظيم وفوق قدرتكم، لذلك لا أطلبه إلا من الله الذي أرسلني وانتدبني لهذا الأمر.
وقوله: {ٱلَّذِي فَطَرَنِيۤ..} [هود: 51] أي: خلقني وأنشأني، ولم يقل الذي أرسلنى، فالمراد أنه تعالى خلقني لأكونَ رسولاً وأصلح لأنْ أحمل دعوته سبحانه، وأكون سفيراً له إلى خَلْقه.
حتى اسمه جاء موافقاً لهذه المهمة، فكلمة (هود) من هَادَ يعني: رجع وتاب وأناب إلى ربه، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ..} [الأعراف: 156] يعني: تُبْنا ورجعنا إلى الله.
ثم في (هود) يأمرهم بالاستغفار والتوبة: {وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ..} [هود: 52] والاستغفار للذنب الذي مضى، أما التوبة فهي عدم الرجوع إلى الذنب مرة أخرى فهي للمستقبل، ثم يُبيِّن لهم ثمرة ذلك: {يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} [هود: 52] وهذه لم تأت في الأحقاف.
ومن التفاصيل التي وردت في (هود) ولم تأت هنا قولهم: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ قَالَ إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوۤاْ أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [هود: 54].
وهنا نلاحظ أنه لم يرد الدعوى عن نفسه، إنما ردها عن الله فيتبرأ من هذا القول، ثم يقول لهم: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56].
فيظهر في حديثه هنا ثقة المؤمن بربه، فيقول متحدياً لهم: افعلوا ما شئتم فما جئتكم من نفسي ولا أواجهكم بجاهي ولا قوتي ولا عزوتي، إنما أواجهكم بالله الذي أرسلني وعليه توكلتُ في دعوتي.
وهنا درس عقدي مهم إذا نزل بك بلاءٌ فلا تيأس ولا تغضب وعُدْ إلى رصيد الإيمان في نفسك، فإنْ توقفتْ قوانينك فقوانينُ الله لا تتوقف، وإنْ خذلتْكَ الأسبابُ فالمسبِّب موجود فارجع إليه.
وفي (هود) يعطينا لقطة لنجاة المؤمنين به لم تُذكر هنا {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] هذه آية كونية خرقتْ النواميس كلها {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا..} [هود: 58] أي: بهلاكهم وبالعذاب الذي كانوا يستعجلونه نجيَّنا هوداً والذين آمنوا معه، بماذا؟
{بِرَحْمَةٍ مِّنَّا..} [هود: 58] فقط رحمة الله هي التي تداركتهم، لأن ما حدث كان ثورة طبيعية وغضبة للطبيعة على المخالفين لخالق هذه الطبيعة، الريح هي الريح عاصفة مدمرة مزعجة صرصر عاتية، ومع ذلك خالفتْ كُلَّ نواميس التكوين البيئي، فأهلكت هؤلاء وتركت هؤلاء.