وَٱذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِٱلأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ ٱلنُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ٢١ - الأحقاف
خواطر محمد متولي الشعراوي
قوله تعالى {وَٱذْكُرْ..} [الأحقاف: 21] أي: اذكر يا محمد، كأن هذا الذكر جاء لتذكير رسول الله بمواقف إخوانه من الرسل في موكب الإيمان، يعني: انظر لمَنْ سبقك منهم ولما تحمّل في سبيل دعوته، فأنت لستَ بدعاً في الرسل.
نعم تحمَّلوا المشقة والأذى، لكن صدق اللهُ وعده بنُصْرتهم في النهاية، لذلك تلاحظ على أسلوب القرآن تعدُّد القصة الواحدة بتعدُّد الأحداث التي تمرُّ بالرسول، يقول تعالى: {وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ..} [هود: 120].
فكلّما حدث لرسول الله أمر مع قومه يُذِّكره الله بموقف من مواقف الرسل السابقين ليُطمئنه وليُثبِّت فؤاده على الحق، وإذا كان كل رسول يتعرض للأذى على قدر مهمته فلا شكَّ أنك ستكون أشدَّ الرسل إيذاء لأنك الرسول الخاتم.
وقوله: {أَخَا عَادٍ..} [الأحقاف: 21] المراد سيدنا هود {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً..} [الأعراف: 65] كلمة أخ تُجمع على إخوة وإخوان، إخوة تعني أخوة النسب، كما جاء في قوله تعالى: {وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ..} [يوسف: 58].
إما إخوان فيُراد بها أخوة المنهج والدين والقيم كما في قوله تعالى: {إِخْوَٰناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ} [الحجر: 47] فقوله: {أَخَا عَادٍ..} [الأحقاف: 21] أخاهم في النسب، وعاد هي القبيلة أو الأمة التي أُرِسلَ فيها سيدنا هود عليه السلام.
والإضافة في {أَخَا عَادٍ..} [الأحقاف: 21] تحنينٌ لهم وإثارة لمشاعر الرحمة والدم والواحد، فالذي جاءهم ليس غريباً عنهم، إنما هو أخ لهم، وإنْ جاءهم منهج مخالف لما هُمْ عليه وأراد أنْ يُخرجهم عمَّا ألِفُوه من الضلال والفساد، والأخ لا يغشّ أخاه سواء أكانتْ أخوتهم له للنسب، أم للدين والمنهج والقيم.
إذن: عليهم أنْ يستقبلوا دعوته بالحنان الذي تقتضيه الأخوة.
{أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِٱلأَحْقَافِ..} [الأحقاف: 21] عاد كانت جماعة من العرب البائدة، وكانت تسكن الأحقاف في جنوب شبه الجزيرة العربية، والأحقاف جمع حقف: وهو الرمل المستطيل الذي يعلو وينخفض ويتحرك يميناً وشمالاً، وهنا وهنا.
والرمل لنعومته تُحركه الرياح والأعاصير بسهولة، حتى إن الهبَّة الواحدة من الإعصار في هذا المكان كانت تطمر قافلة وتغطيها في هذا الوادي، لذلك لم تظهر آثار قوم عاد حتى الآن لأنها مطمورةٌ على مسافات بعيدة تحت الرمال.
كذلك الآثار القديمة في كل مكان لا توجد إلا تحت الأرض في حفريات، لأن عوامل التعرية تطمرها.
لذلك ترى الواحد منا إذا سافر مثلاً وترك بيته لعدة شهور مثلاً يعود فيجده مُغطى بطبقة من التراب، مع أنه مغلق بإحكام، فما بالك في الخلاء مع هبوب الرياح والأعاصير.
وفي سورة الفجر، الحق سبحانه يعطينا طرفاً من تاريخ هذه الأمم وما حَلَّ بها من العذاب: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ * وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ * ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ} [الفجر: 6-14].
ونحن حتى الآن لا نعرف أين ديارهم، ولا نعرف آثارهم إلا ما أخبرنا الله به، ذلك لأنها تحت مسافات في باطن الأرض.
وقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتِ ٱلنُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ..} [الأحقاف: 21] فهو ليس أول الرسل إليهم ولا هو آخرهم، فقد مضتْ الرسل {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ..} [الأحقاف: 21] يعني: قبله {وَمِنْ خَلْفِهِ..} [الأحقاف: 21] يعني: من بعده.
والنُّذر جمع نذير، وهو الذي يُخوّفك ويُحذِّرك من الشر قبل حلوله، وفائدة الإنذار أنه ينبهك من الخطر قبل أنْ تقعَ فيه فتتجنبه، ويجب أنْ يكون الإنذار قبل حدوث الشر بمدة كافية تمكِّنك من تدارك الأمر وتجنب الوقوع فيه.
وقوله: {أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ..} [الأحقاف: 21] يعني: هذه القضية اتفق عليها جميع الرسل من قبل هود ومن بعده، فكل الديانات ما جاءتْ إلا لخدمة هذه القضية ودعوة الناس إليها.
والعبادة كما بينّا طاعة العابد لأوامر المعبود ونواهيه، وهذا المعنى ينقض ويبطل عبادة غير الله، فكلها آلهة باطلة وعبادتها باطلة لأنها آلهة بلا منهج وبلا أمر ولا نهي.
فالشمس، ماذا قالت لمَنْ عبدها؟ بمَ أمرته وعمّ نهَتْ؟ ماذا أعدتْ لمن عبدها من الجزاء؟ وماذا أعدّت لمَنْ كفر بها؟ فإنْ سألتَ لماذا عبدها الناس وعبدوا غيرها من الأشياء؟
نقول: لأن التدّين غريزة في الإنسان منذ خلقه الله ومنذ كان في عالم الذر، لكن التدين الحق له مطالب ومسئوليات تكبح جماح النفس وتُقيد شهواتها.
لذلك لجأ البعض إلى عبادة تُرضي عندهم غريزة التدين وتُعفيهم من مطالب الدين الحق، فراحوا إلى الآلهة الباطلة وعبدوها، لأنها لا تلزمهم بشيء ولا تكلفهم شيئاً، وتُطلق العنان لشهواتهم.
وقوله: {إِنَّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف: 21] هذا الخوف هو مقتضى الأخوة، فالأخ حريص على مصلحة أخيه، حريص على نجاته، لذلك قال تعالى في سيدنا رسول الله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
وهنا وصف يوم العذاب بأنه يوم عظيم، أنتم في دنياكم تصفون بعض الأشياء بأنها عظيمة، وهذا العظمة في وجودكم المادي مردودة إلى الفناء مهما طال أجلها، كذلك كل نعيم في الدنيا يُنغِّصه على صاحبه أمران: أنْ يفوته النعيم، أو يفوت هو النعيم ويتركه بالموت.
فوصف هذا اليوم بأنه عظيم لأنه دائم لا يزول، ولا يموت صاحبه فيستريح منه.