أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: الفصل الرابع الصادق الجمعة 16 ديسمبر 2022, 1:00 am | |
| الفصل الرابع الصادق
المثال الكامل لحياة البشر: إنه من الصعب جداً أن نصل إلى الحقيقة الكاملة لشخصية مُحَمَّد.
إنني لم أستطع الحصول إلا على لمحة سريعة منها.
يا لها من تعاقب مثير لمشاهد رائعة!
فهناك مُحَمَّد النبي، ومُحَمَّد القائد، ومُحَمَّد الملك، ومُحَمَّد المقاتل، ومُحَمَّد التاجر، ومُحَمَّد الواعظ، أو البشير، ومُحَمَّد الحكيم، ومُحَمَّد رجل الدولة، ومُحَمَّد الخطيب، ومُحَمَّد المصلح، والمجدد، ومُحَمَّد ملاذ اليتامى، ومُحَمَّد حامي العبيد (الرقيق)، والمدافع عنهم (59)، ومُحَمَّد محرر النساء (60)، ومُحَمَّد القاضي، والحكم، ومُحَمَّد القديس.
ولقد كان مُحَمَّد بطلاً في كل هذه المهام الجليلة وفي جميع مجالات النشاط الإنساني على حَدٍّ سواء.
إن حال اليتيم هو منتهى الضعف وانعدام الحيلة.
وقـد بدأ مُحَمَّد حياته يتيماً.
والملك هـو ذروة السلطة المادية.
وقـد انتهت إليه حياته. (61)
وقد تقلّب حاله من صبي يتيم إلى لاجئ مضطهد ثم إلى سيد (62) –بالمفهوم الديني والدنيوي أيضاً– لأمَّةٍ بأكملها، مقرراً لمصيرها بكل ما فيه من تجارب وإغراءات ومخاطر وبكـل ما فيه من تقلبات وتغيرات ومن ضياء وظلام ومن ارتقاء وإنحدار ومن فظاعة وعظمة.
لقد قاوم محن الدنيا وخرج منها سالماً ليكون مثالاً يُحتذى في كل مرحلة من مراحل الحياة. ولم تقتصر إنجازاته على جانب واحد من جوانب الحياة ولكنها شملت أيضاً جميع أوضاع البشرية الاجتماعية.
مُحَمَّد الأعظم: لو أن العظمة تكمن في تنقية وتطهير أمَّة مشربة بالهمجية والتخلف ومنغمسة في ظلام أخلاقي مطلق، فإن الشخص المتميز بالفاعلية والمليء بالقوة والنشاط الذي استطاع أن يحول ويهذب وينهض بأمَّةٍ بأكملها غارقة في الحضيض –كما كان حال العرب– ويجعلهم حملة مشاعل الحضارة والمدنية والتعليم، له كل الحق في هذه العظمة.
ولو أن العظمة تكمن في توحيد العناصر المتنافرة والمتضاربة والمتشاكسة والمختلفة في المجتمع برابطة الأخوة والإحسان، فإن لنبي الصحراء كل الحق لهذا الإمتياز.
ولو أن العظمة تكمن في إصلاح هؤلاء الغارقين في أوهام ومعتقدات خرافية منحطة ومخزية وممارسات خبيثة مهلكة متعددة الأنواع، فإن نبي الإسلام قد بدد الأوهام والمعتقدات الخرافية والمخاوف المنافية للعقل والمنطق من قلوب الملايين.
ولو أن العظمة تكمن في نشر الأخلاق السامية، فإن الأعداء والأصحاب شهدوا لمُحَمَّد بأنه الصادق الأمين.
ولو أن الفاتح المنتصر رجل عظيم، فها هو إنسان قد بلغ مرتبة مساوية للأكاسرة والقياصرة بعد أن كان مخلوقاً بسيطاً يتيماً لا حول له ولا قوة.
وأسس إمبراطورية عظيمة ظلت كذلك على مدى هذه القرون الأربعة عشرة.
ولو أن الحب الشديد الذي يناله القائد هو المقياس للعظمة، فإن مجرد ذكر اسم هذا النبي له تأثير الرقية الفاتنة –حتى في يومنا هذا– على ملايين الأنفس المنتشرة في جميع أنحاء العالم.
النبي الأمي: لم يدرس مُحَمَّد الفلسفة أو الحكمة في مدارس أثينا أو روما أو فارس أو الهند أو الصين. ومع ذلك فقد استطاع أن يكشف للبشرية أسمى وأعلى الحقائق الخالدة القيمة.
وبالرغم من كونه أمِّياً فقد كان يستطيع الكلام بفصاحة وحماسة تدفع الرجال إلى دموع الفرحة.
ومع أنه ولد يتيماً وبلا أموال دنيوية فقد كان محبوباً من الجميع.
كما أنه لم يدرس في أية أكاديمية عسكرية ومع ذلك فقد كان يستطيع تنظيم قواته في مواجهة ظروف مروعة وانتصر بواسطة القوات العسكرية ذات الخلق والدين التي كان ينظم ويرتب صفوفها بنفسه.
إنه نادراً ما نجد الرجال الموهوبين بالقدرة الفائقة على الوعظ والحديث الجاد.
وقد اعتبر "ديكارت" (63) (Descartes) الواعظ الماهر ضمن أندر أصناف الرجال في العالم. وقد عَبَّرَ "هتلر" (64) عن رأي مشابه في كتابه "كفاحي"، حيث يقول: "من النادر أن يكون واضع النظريات (theorist) قائداً عظيماً، أمَّا المُحرّك الاجتماعي أو السياسي فامتلاكه لتلك الصفات التي ترشحه للقيادة أرجح إلى حد بعيد، فهو دائماً قائداً أفضل، فالقيادة تعني القدرة على تحريك جموع البشر، والقدرة على تقديم الأفكار لا علاقة لها بالقدرة على القيادة".
ولكنه يُضيف: "إن اتحاد صفات وضع النظريات والتنظيم والقيادة في شخص واحد هي ظاهرة من النادر جداً حدوثها في هذا العالم، وهنالك تكمن العظمة".
وقد شاهد العالم هذه الظاهرة النادرة تتجسَّد في شخص عاش على الأرض هو نبي الإسلام.
يقول "كارلايل" (65) في كتابه "الأبطال وعبادة الأبطال": "لقد كان (مُحَمَّداً) رجلاً فقيراً، شديد الكدح، غير قادر على الإعالة، لا يهتم بما يجتهد في طلبه الرعاع أو السُّوقة، وفيما أرى فإنه لم يكن امرؤ سَوْءٍ، ولم يكن طالب شهوة من أي نوع، وإلا ما وقّرَهُ هؤلاء الرجال الوحشيين (66)، الذين قاتلوا وخاضوا الملاحم طوع أمره خلال ثلاث وعشرين سنة، وهم في ذلك وثيقوا الصلة به دائماً، كل هذا التوقير!"
لقد كانوا رجالاً وحشيين يندفعون بين الفينة والفينة بقوة إلى التشاجر وكل ألوان التشاحن العنيف.
وما كان يستطيع أي رجل أن يقودهم بدون أن يمتلك القيمة الأخلاقية والشجاعة.
أو إنكم لتعجبون كيف دعوه واعتبروه نبياً؟
أو لم يقف وسطهم ظاهراً لهم يواجهونه ويخاطبونه بلا حاجب بينه وبينهم، غير محاط بأي سر من الأسرار الدينية أو غموض.
فكان يُرَى وهو يُرَقّعُ ثوبه ويُصْلِحُ نعله، ويقاتل ويستشير ويصدر الأوامر وهو بينهم.
فلا بد أنهم أدركوا أي نوع من الرجال كان.
ولتسمه ولتدعه ما تشاء!
إنه لم يطع إمبرطوراً جليلاً مُتوَّجاً مثلما أطيع هذا الرجل في ثوب رَقَّعَهُ بنفسه.
وإنني لأجد أن خوضه ثلاثة وعشرين عاماً من التجارب الحرجة الصعبة يستلزم بالضرورة نوعاً من البطولة الحقيقية".
والأعجب من ذلك ما يقوله القس "بوزوورث سميث" (Bosworth Smith): "لقد كان رئيساً للدولة ولجماعة تدين بنفس العقيدة، لقد كان يجمع سلطة ومقام قيصر والبابا معاً، ولكنه بابا بدون خيلاء البابا وغروره، وقيصر بلا فيلق (67) أو حشوده وبلا جيش عامل ولا حارس شخصي ولا قوة من الشرطة ولا دخل ثابت، لو أن ثمَّة رجل كان له الحق في أن يَدَّعِي أنه يحكم بالحق الإلهي فقد كان هذا الرجل هو مُحَمَّد، فقد كانت معه جميع السلطات من غير أن يكون معه ما يدعمها أو يحافظ عليها، وقد كانت بساطة حياته الخاصة متطابقة ومنسجمة مع حياته العامة".
مُحَمَّد الطاهر النقي: لقد صارت مساحة تقدر بمليون ميل مربع تحت تصرفه بعد فتح مكة.
إن سيد جزيرة العرب كان يُصلح نعله ويرتق أو يرفو ملابسه الصوفية الخشنة ويحلب الشياه ويكنس البيت ويوقد النار ويقوم بالأعمال المنزلية الأخرى التي يعهد بها إلى الخدم عادة.
وفي الأيام الأخيرة من حياته كانت المدينة حيث كان يقيم قد صارت أكثر أغنى.
وكان الذهب والفضة متوفرين في كل مكان.
وعلى الرغم من الرخاء الاقتصادي الذي كانت تشهده المدينة في تلك الأيام فإن أسابيعاً كثيرة كانت تمضي من غير أن توقد النار في بيت ملك جزيرة العرب (68).
وكان طعامه يقتصر على (الأسودان) التمر والماء.
وكان أهل بيته يبيتون جوعى ليال عديدة متعاقبة لأنه ليس ثمة طعام يأكلونه في تلك الليالي.
ولم يكن مُحَمَّدٌ ينام على فراش وثير وإنما كان فراشه حصيراً مصنوعاً من ألياف النخل بعد يوم شاق طويل.
وقضى معظم ليله في الصلاة (69).
وكثيراً ما كان يندفع إلى البكاء بين يدي خالقه طالباً أن يمنحه القوة للقيام بواجباته.
وكما تذكر لنا الروايات فقد كان صوته يكاد يُحبس بسبب بكائه فيبدو كأنه أزيز (70) مرجل (71) بدأ يغلي على النار.
وكان كل ما يملكه يوم وفاته هو بضع دراهم، قسم منها قضى به دين له وأعطى الباقي لبعض الفقراء الذين جاءوا إلى بيته يطلبون إحساناً.
والثوب الذي كان يلبسه حينما فاضت روحه إلى بارئها كان به رُقَعًا عديدةً.
أمَّا البيت الذي طالما انتشر منه النور إلى العالم فكان مُعتماً لأنه لم يكن في المصباح زيتاً.
الثبات على المبدأ حتى الموت: لقد تغيَّرت الظروف المحيطة به ولكن نبي الله لم يتغيَّر.
وكانت لمُحَمَّدٍ نفس الشخصية سواء في حال النصر أو الهزيمة وسواء في حالة القوة أو المحنة وسواء في ساعة اليسر أو العسرة.
فَرُسُلُ الله وأنبياؤه لا يتبدَّلون كما لا تتبدَّل طرق الله وسُنَنِهِ ونواميسه.
مُحَمَّد الأعظم: (72) يقول المؤرخ الفرنسي لامارتين (73) في كتابه: "تاريخ تركيا" طبعة باريس 1854.المجلد الثاني ص 276 و277: لو أن عِظَمَ الغاية.. وصغر الوسائل وقلة الموارد.. والنتائج المدهشة..
هي ثلاثة معايير لعبقرية الإنسان، فمن يجرؤ على مقارنة أي رجل عظيم في التاريخ الحديث بمُحَمَّد؟
إن أشهر الرجال صنعوا الأسلحة وشرعوا القوانين ووضعوا النظريات وأسَّسُوا الإمبراطوريات فقط. فهم لم يؤسسوا –لو اعتبرنا أنهم أسسوا شيئاُ يُذكر– أكثر من قوى مادية أو سلطات مادية كثيراً ما انهارت وزالت أمام أعينهم.
أمَّا هذا الرجل: مُحَمَّدٌ، فإنه لم يُحَرِّكْ ويُؤَثِّرُ في الجيوش والتشريعات والإمبراطوريات والشعوب والأسر الحاكمة فقط ولكنه حَرَّكَ وأثَّرَ في ملايين الرجال، بل الأكثر من ذلك إنه أزاح الأنصاب (74) والمذابح والآلهة الزائفة وأثَّرَ في الأديان وغَيَّرَ الأفكار والاعتقادات والأنفس.
واستناداً إلى كتاب كل حرف منه صار يمثل شريعة، أسَّسَ مُحَمَّدٌ قومية روحية (أو دينية) (spiritual nationality) امتزجت فيها بتآلف سوياً شعوب من كل لسان ومن كل جنس.
إن فكرة وحدانية الله التي أعلنها ونادى بها ودعا وسط السَّأم الشديد من النظريات اللاهوتية (75) الخرافية غير القابلة للتصديق (fabulous theologies)، كانت في نفسها معجزة بحيث أنه بمجرد أن صَرَّحَ بها دَمَّرَتْ جميع الاعتقادات الخرافية القديمة.
إن صلواته ودعواته المتصلة، وأحاديثه الغيبية أو مناجاته مع الله، ووفاته ونجاحه وانتصاره بعد وفاته، كلها أمور لا تشهد على أنه كان دجَّالاً أو مُدَّعِيًا للنبوة ولكنها تشهد على إيمان راسخ منحه القوة لكي يحيى ويجدد العقيدة.
وهذه العقيدة كانت ذات شقين هما: وحدانية الله وأن الله ليس كمثله شيء.
فالشق الأول يثبت لنـا ما لله (مـن أسماء وصفات) (what God is) والشق الآخر ينفي عنه ما ليس له (what God is not)... (76)
"..حكيم وخطيب ورسول ومُشَرِّعٌ ومقاتل وسيد على الأفكار ومحيي ومجدد للاعتقادات المعقولة والمنطقية ولدين بلا تماثيل ولا صور، ومؤسس لعشرين امبراطورية أرضية أو دنيوية (terrestrial) وامبراطورية واحدة روحية أو دينية (spiritual).
هذا هو مُحَمَّدٌ.
ووفقاً لكل المقاييس التي يمكن أن تُقاس بها عظمة البشر يحق لنا أن نسأل: هل هناك أي إنسان أعظم منه؟".
|
|