لمحة..
عندما يقتنع الناس أننا نلحظ حسناتهم.. كما نلحظ سيئاتهم.. يقبلون منا التوجيه..

33.    أمسك العصا من النصف!!
أشكرك على اختيارك مهنة التدريس.. وقد آتاك الله أسلوباً حسناً.. وطلابك يحبونك كثيراً.. و..
ولكن: ليتك ما تتأخر على الدوام في الصباح..
أنت جميلة.. والبيت مرتب.. ولا أنكر أن الأولاد متعبون.. و..
ولكن: أتمنى أن تهتمي بملابسهم أكثر..
هكذا كان أسلوب صالح مع الناس.. يذكر الجوانب المشرقة عند المخطئ ثم ينبهه على أخطائه.. ليكون عادلاً..
عندما تنتقد حاول أن تذكر جوانب الصواب في المخطئ.. قبل غيرها..
حاول دائماً أن تشعر الذي أمامك أن نظرتك إليه مشرقة.. وأنك عندما تنبهه على أخطائه لا يعني ذلك أنه سقط من عينك.. أو أنك نسيت حسناته ولا تذكر إلا سيئاته..
لا.. بل أشعره أن ملاحظاتك عليه تغوص في بحر حسناته..
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- محبوباً بين أصحابه.. وكان يمارس أساليب رائعة في التعامل معهم..
وقف مرة بينهم.. فشخص ببصره إلى السماء.. كأنه يفكر أو يترقب شيئاً..
ثم قال: هذا أوانُ يختلس العلم من الناس.. حتى لا يقدروا منه على شيء..
أي: يُعرض الناس عن القرآن وتعلمه.. وعن العلم الشرعي.. فلا يحرصون عليه ولا يفهمونه..
فيُختلسُ منهم.. أي: يرفع عنهم..
فقام صحابي جليل.. هو زياد بن لبيد الأنصاري وقال بكل حماس:
يا رسول الله، وكيف يختلس منا؟! وقد قرأنا القرآن! فوالله لنقرأنه، ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا..
فنظر إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-.. فإذا شاب يتفجر حماساً وغيرة على الدين.. فأراد أن ينبهه على فهمه.. فقال:
ثكلتك أمك يا زياد، إني كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة..
وهذا ثناء على زياد.. أن يقول له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمام الناس إنه من فقهاء المدينة.. هذا ذكر لجوانب الصواب والصفحات المشرقة لزياد..
ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: هذا التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟! ..
أي ليست العبرة يا زياد بوجود القرآن.. وإنما العبرة بقراءته ومعرفة معانيه والعمل بأحكامه..
هكذا كان تعامله رائعاً..
وفي يوم آخر.. يمر -صلى الله عليه وسلم- ببعض قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام.. وكان يختار أحسن العبارات لأجل ترغيبهم في الاستجابة له والدخول في الإسلام..
فمر بقبيلة منهم.. اسمهم: بنو عبد الله.. فدعاهم إلى الله.. وعرض عليهم نفسه.. وجعل يقول لهم:
يا بني عبد الله.. إن الله قد أحسن اسم أبيكم..
يعني لستم ببني عبد العزى.. أو بني عبد اللات.. وإنما أنتم بنو عبد الله.. فليس في اسمكم شرك فادخلوا في الإسلام..
بل كان من براعته -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يرسل رسائل غير مباشرة إلى الناس.. يذكر فيها إعجابه بهم.. ومحبته الخير لهم.. فإذا بلغتهم هذه الرسائل.. عملت فيهم من التأثير أكثر مما تعمله – ربَّما – الدعوة المباشرة..
كان خالد بن الوليد ? بطلاً.. ولم يكن بطلاً عادياً.. بل كان بطلاً مغواراً.. يضرب له ألف حساب..
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتشوق لإسلامه.. لكن أنى له ذلك.. وخالد ما ترك حرباً ضد المسلمين إلا خاضها.. بل كان هو من أكبر أسباب هزيمة المسلمين في معركة أحد..
قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً.. لو جاءنا لأكرمناه.. وقدمناه على غيره..
فكيف كان تأثير ذلك؟
خذ القصة من أولها..
كان خالد من أشداء الكفار وقادتهم..
لا يكاد يفوت فرصة إلا حارب فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو ترصّد له..
فلما أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع المسلمين إلى الحديبية.. وأرادوا العمرة..
خرج خالد في خيل من المشركين.. فلقوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بموضع يقال له: عسفان..
فقام خالد قريباً منهم يتحين الفرصة ليصيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برمية سهم أو ضربة سيف..
جعل يترصد ويترقب..
فصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه صلاة الظهر أمامهم.. فهموا أن يهجموا عليهم.. فلم يتيسر لهم..
فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- علم بهم.. فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف..
أي قسم أصحابه إلى فريقين.. فريق يصلي معه وفريق يحرس..
فوقع ذلك من خالد وأصحابه موقعاً.. وقال في نفسه: الرجل ممنوع عنا.. أي هناك من يحميه ويمنع عنه الأذى!!
ثم ارتحل -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.. وسلكوا طريقاً ذات اليمين.. لئلا يمروا بخالد وأصحابه..
وصل -صلى الله عليه وسلم- إلى الحديبية.. صالح قريشاً على أن يعتمر في العام القادم.. ورجع إلى المدينة..
رأى خالد أن قريشاً لا يزال شأنها ينخفض في العرب يوماً بعد يوم..
فقال في نفسه: أي شيء بقي؟ أين أذهب؟
إلى النجاشي؟.. لا.. فقد اتبع محمداً وأصحابه عنده آمنون..
فأخرج إلى هرقل؟.. لا.. أخرج من ديني إلى نصرانية؟.. أو يهودية؟ وأقيم في عجم؟..
فبنما خالد يفكر في شأنه.. ويتردد.. والأيام والشهور تمضي عليه..
إذ جاء موعد عمرة المسلمين.. فأقبلوا إلى المدينة..
دخل -صلى الله عليه وسلم- مكة معتمراً..
فلم يحتمل خالد رؤية المسلمين محرمين.. فخرج من مكة.. وغاب أياماً أربعة وهي الأيام التي قضاها النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة..
قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- عمرته.. وجعل ينظر في طرقات مكة وبيوتها.. ويستعيد الذكريات..
تذكر البطل خالد بن الوليد..
فالتفت إلى الوليد بن الوليد.. وهو أخو خالد.. وكان الوليد مسلماً قد دخل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- معتمراً..
وأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يبعث إلى خالد رسالة غير مباشرة.. يرغبه فيها بالدخول في الإسلام..
قال -صلى الله عليه وسلم- للوليد: أين خالد؟
فوجئ الوليد بالسؤال.. وقال: يأتي الله به يا رسول الله..
فقال -صلى الله عليه وسلم-: " مثله يجهل الإسلام!! ولو كان جعل نكايته وَحَدَّه مع المسلمين.. كان خيراً له..
ثم قال: ولو جاءنا لأكرمناه.. وقدمناه على غيره..
استبشر الوليد.. وجعل يطلب خالداً ويبحث عنه في مكة.. فلم يجده..
فلما عزموا على الرجوع للمدينة..
كتب الوليد كتاباً إلى أخيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.. أما بعد.. فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام.. وعقلك عقلك! ومثل الإسلام يجهله أحد؟
وقد سألني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنك وقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به..
فقال: " مثله جهل الإسلام!! ولو كان جعل نكايته وَحَدَّه مع المسلمين.. كان خيراً له.. ولو جاءنا لأكرمناه.. وقدمناه على غيره..
فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة..
قال خالد: فلما جاءني كتابه.. نشطت للخروج.. وزادني رغبة في الإسلام..
وسرني سؤال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عني..
وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة مجدبة.. فخرجت إلى بلاد خضراء واسعة..
فقلت: إن هذه لرؤيا حق..
فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت:
من أصاحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!
فلقيت صفوان بن أمية.. فقلت:
يا أبا وهب أما ترى ما نحن فيه؟ إنما نحن كأضراس يطحن بعضها بعضاً..
وقد ظهر محمد على العرب والعجم..
فلو قدمنا على محمد واتبعناه.. فإن شرف محمد لنا شرف؟
فأبى أشد الإباء.. وقال: لو لم يبق غيري ما اتبعته أبداً..
فافترقنا.. وقلت في نفسي:
هذا رجل مصاب.. قتل أخوه وأبوه بمعركة بدر..
فلقيت عكرمة بن أبي جهل.. فقلت له مثل ما قلت لصفوان بن أمية..
فقال لي مثل ما قال لي صفوان بن أمية..
قلت: فاكتم علي خروجي إلى محمد..
قال: لا أذكره لأحد .
فخرجت إلى منزلي.. فأمرت براحلتي فخرجت بها..
إلى أن لقيت عثمان بن طلحة.. فقلت:
إن هذا لي صديق.. فلو ذكرت له ما أرجو..
ثم ذكرت من قتل من آبائه في حربنا مع المسلمين.. فكرهت أن أذكِّره..
ثم قلت: وما علي أن أخبره.. وأنا راحل في ساعتي هذه!..
فذكرت له ما صار أمر قريش إليه.. وقلت:
إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر.. لو صُب عليه ذنوب من ماء لخرج..
وقلت له نحواً مما قلت لصاحبَيْ.. فأسرع الإستجابة وعزم على الخروج معي للمدينة!..
فقلت له: إني خرجت هذا اليوم.. وأنا أريد أن أمضي للمدينة ..
وهذه راحلتي مجهزة لي على الطريق..
قال: فتواعدنا أنا وهو في موضع يقال له "يأجج ".. إن سبقني أقام ينتظرني.. وإن سبقته أقمت أنتظره..
فخرجت من بيتي آخر الليل سَحَراً.. خوفاً من أن تعلم قريش بخروجنا..
فلم يطلع الفجر حتى التقينا في "يأجج".. فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة..
فوجدنا عمرو بن العاص على بعيره..
قال: مرحباً بالقوم.. إلى أين مسيركم؟
فقلنا: وما أخرجك؟
فقال: وما أخرجكم؟
قلنا: الدخول في الإسلام.. واتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-..
قال: وذاك الذي أقدمني .
فاصطحبنا جميعاً حتى دخلنا المدينة..
فأنخنا بظهر الحرة ركابنا..
فأُخبر بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسر بنا..
فلبست من صالح ثيابي.. ثم توجهت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. فلقيني أخي فقال:
أسرع.. فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. قد أُخبر بك فسُرَّ بقدومك وهو ينتظركم..
فأسرعنا السّير.. فأقبلت إلى رسول الله أمشي.. فلما رآني من بعيد تبسّم.. فما زال يتبسم إليَّ حتى وقفت عليه..
فسلمت عليه بالنبوة.. فرد على السلام بوجه طلْق..
فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله.. وأنك رسول الله..
فقال: " الحمد لله الذي هداك.. قد كنت أرى لك عقلاً.. رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير "..
قلت: يا رسول الله.. إني قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك.. معانداً للحق.. فادع الله أن يغفرها لي..
فقال -صلى الله عليه وسلم-: " الإسلام يجب ما كان قبله "..
قلت: يا رسول الله.. على ذلك.. فاستغفر لي..
قال: " اللهم اغفر لخالد بن الوليد.. كل ما أَوْضع فيه.. من صد عن سبيل الله "..
ومن يعدها كان خالد رأساً من رؤوس هذا الدين..
أما إسلامه فكان برسالة غير مباشرة وصلت إليه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-..
فما أحلمه -صلى الله عليه وسلم- وأحكمه..
فلنتبع مثل هذه المهارات في التأثير في الناس..
فلو رأيت شخصاً يبيع دخاناً في بقالة فأردت تنبيهه..
فأثن أولاً على بقالته ونظافتها.. وادعُ له بالبركة في الربح.. ثم نبهه على أهمية الكسب الحلال.. ليشعر أنك لم تنظر إليه بمنظار أسود.. بل أمسكت العصا من النصف..
كن ذكياً.. ابحث عن أي حسنات فيمن أمامك تغمر فيها سيئاته.. أحسن الظن بالآخرين.. ليشعروا بعدلك معهم فيحبوك..