أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: شرح الحديث رقم (39) الجمعة 01 يوليو 2011, 10:07 pm | |
| والثاني: في حُكْمِ الإِكْرَاهِ. الفصلُ الأوَّلُ: في الخطأِ والنِّسْيَانِ
الخطأُ: هوَ أنْ يَقصِدَ بِفِعْلِهِ شَيْئًا، فيُصادِفُ فِعْلُهُ غيرَ ما قَصَدَهُ، مثلُ: أنْ يَقْصِدَ قَتْلَ كافرٍ، فَيُصَادِفُ قَتْلُهُ مُسْلِمًا. والنِّسْيَانُ: أنْ يكونَ ذاكرًا لِشَيْءٍ، فَيَنْسَاهُ عندَ الفعلِ. وكلاهُمَا مَعْفُوٌّ عنهُ، بمعنَى أنَّهُ لا إِثْمَ فيهِ، ولكنْ رَفْعُ الإِثمِ لا يُنَافِي أنْ يَتَرَتَّبَ على نسيانِهِ حُكْمٌ.
كما أنَّ مَنْ نَسِيَ الوضوءَ وَصَلَّى ظَانًّا أنَّهُ مُتَطَهِّرٌ، فلا إثمَ عليهِ بذلكَ، ثمَّ إنْ تَبَيَّنَ أنَّهُ كانَ قدْ صَلَّى مُحْدِثًا فإنَّ عليهِ الإِعادةَ.
ولوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ على الوضوءِ نِسْيَانًا، وقُلْنَا بِوُجُوبِهَا، فهلْ يَجِبُ عليهِ إعادةُ الوضوءِ؟ فيهِ رِوَايَتَانِ عن الإِمامِ أحمدَ. وكذا لوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ على الذَّبِيحَةِ نِسْيَانًا، فيهِ عنهُ رِوَايَتَانِ، وأكثرُ الفُقَهَاءِ على أنَّها تُؤْكَلُ.
ولوْ تَرَكَ الصلاةَ نِسْيَانًا، ثمَّ ذَكَرَ، فإنَّ عليهِ القضاءَ، كما قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ نَامَ عَنْ صَلاةٍ، أَوْ نَسِيَهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لا كَفَّارَةَ لَهَا إِلا ذَلِكَ))، ثمَّ تَلا: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]. ولوْ صَلَّى حَامِلاً في صلاتِهِ نَجَاسَةً لا يُعْفَى عنها، ثمَّ عَلِمَ بها بَعْدَ صلاتِهِ أوْ في أَثْنَائِهَا فَأَزَالَهَا، فَهَلْ يُعِيدُ صَلاتَهُ أمْ لا؟ فيهِ قَوْلانِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عنْ أحمدَ.
وقدْ رُوِيَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ خَلَعَ نَعْلَيْهِ في صلاتِهِ وَأَتَمَّهَا وقالَ: ((إِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا أَذًى))، ولمْ يُعِدْ صَلاتَهُ. ولوْ تَكَلَّمَ في صلاتِهِ نَاسِيًا أنَّهُ في صلاةٍ، ففِي بُطْلانِ صلاتِهِ بذلكَ قَوْلانِ مشهورانِ، هما روايتانِ عنْ أحمدَ. ومذهبُ الشافعيِّ: أنَّها لا تَبْطُلُ بذلكَ.
ولوْ أَكَلَ في صَوْمِهِ نَاسِيًا، فالأكْثَرُونُ على أنَّهُ لا يَبْطُلُ صِيَامُهُ؛ عَمَلاً بقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ)). وقالَ مالكٌ: عليهِ الإِعادةُ؛ لأِنَّهُ بمنزلةِ مَنْ تَرَكَ الصلاةَ نَاسِيًا. والجمهورُ يقولونَ: قدْ أَتَى بِنِيَّةِ الصيامِ، وإنَّمَا ارْتَكَبَ بَعْضَ محظوراتِهِ نَاسِيًا، فيُعْفَى عَنْهُ.
ولوْ جَامَعَ نَاسِيًا، فهلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الأَكْلِ نَاسِيًا أمْ لا؟ فيهِ قَوْلانِ: أحدُهُمَا: وهوَ المشهورُ عنْ أحمدَ، أنَّهُ يَبْطُلُ صِيَامُهُ بذلكَ، وعليهِ القضاءُ. وفي الكَفَّارَةِ عنهُ رِوَايَتَانِ.
والثاني: لا يَبْطُلُ صَوْمُهُ بذلكَ، كالأَكْلِ، وهوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وحُكِيَ روايَةً عنْ أحمدَ. وكذا الخلافُ في الجِمَاعِ في الإِحرامِ نَاسِيًا:
هلْ يَبْطُلُ بهِ النُّسُكُ أمْ لا؟ ولوْ حَلَفَ لا يَفْعَلُ شيئًا، فَفَعَلَهُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ، أوْ مُخْطِئًا ظَانَّا أنَّهُ غيرُ المَحْلُوفِ عليهِ، فهلْ يَحْنَثُ في يمينِهِ أمْ لا؟ فيهِ ثلاثةُ أقوالٍ، هيَ ثلاثُ رواياتٍ عنْ أحمدَ:
أحدُهَا: لا يَحْنَثُ بكلِّ حالٍ، ولوْ كانت اليمينُ بالطَّلاقِ والعَتَاقِ. وَأَنْكَرَ هذهِ الروايَةَ عنْ أحمدَ الخَلالُ وقالَ: هيَ سَهْوٌ منْ نَاقِلِهَا.
وهوَ قولُ الشافعيِّ في أحدِ قولَيْهِ، وإسحاقَ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ أبي شَيْبَةَ. وَرُوِيَ عنْ عطاءٍ، قالَ إسحاقُ: وَيُسْتَحْلَفُ أنَّهُ كَانَ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ. والثاني: يَحْنَثُ بكلِّ حالٍ. وهوَ قولُ جماعةٍ مِن السَّلفِ ومالكٍ. والثالثُ: يُفَرَّقُ بينَ أنْ يكُونَ يَمِينُهُ بطلاقٍ أوْ عَتَاقٍ، أوْ بغيرِهِمَا. وهوَ المشهورُ عنْ أحمدَ، وقولُ أبي عُبَيْدٍ. وكذا قالَ الأَوْزَاعِيُّ في الطلاقِ، وقالَ: إنَّما الحديثُ الذي جَاءَ في العفوِ عن الخطأِ والنسيانِ، ما دَامَ نَاسِيًا وَأَقَامَ على امْرَأَتِهِ فلا إِثْمَ عليهِ، فَإِذَا ذَكَرَ فعليهِ اعْتِزَالُ امْرَأَتِهِ؛ فإنَّ نِسْيَانَهُ قدْ زَالَ.
وحَكَى إبراهيمُ الحَرْبِيُّ إِجْمَاعَ التابِعِينَ على وُقُوعِ الطلاقِ بالنَّاسِي. ولوْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فإنَّ عليهِ الكفَّارةَ والدِّيَةَ بنَصِّ الكتابِ، وكذا لوْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ خَطَأً يَظُنُّهُ أنَّهُ مالُ نَفْسِهِ.
وكذا قالَ الجمهورُ في المُحْرِمِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ خَطَأً، أوْ نَاسِيًا لإِحرامِهِ، أنَّ عليهِ جَزَاءَهُ. ومنهم مَنْ قالَ: لا جَزَاءَ عليهِ، إلا أنْ يكونَ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ؛ تَمَسُّكًا بظاهرِ قولِهِ عزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} الآيَةَ [المائدة:95]. وهوَ روايَةٌ عنْ أحمدَ.
وأجابَ الجمهورُ عن الآيَةِ بأنَّهُ رَتَّبَ على قَتْلِهِ مُتَعَمِّدًا الجزاءَ وانتقامَ اللَّهِ تَعَالَى، ومجموعُهُمَا يَخْتَصُّ بالعامدِ، وإذا انْتَفَى العَمْدُ انْتَفَى الانتقامُ، وبَقِيَ الجَزَاءُ ثَابِتًا بدليلٍ آخَرَ. والأظهرُ -واللَّهُ أَعْلَمُ- أنَّ النَّاسِيَ والمُخْطِئَ إنَّما عُفِيَ عنهما بمعنَى رَفْعِ الإِثمِ عنهما؛ لأنَّ الإِثمَ مُرَتَّبٌ على المقاصدِ والنيَّاتِ، والنَّاسِي والمُخْطِئُ لا قَصْدَ لَهُمَا، فلا إِثْمَ عليهما. وأمَّا رَفْعُ الأحكامِ عنهما فليسَ مُرَادًا منْ هذهِ النصوصِ، فَيُحْتَاجُ في ثُبُوتِهَا وَنَفْيِهَا إلى دليلٍ آخَرَ.
الفصلُ الثاني: في حُكْمِ المُكْرَهِ
وهوَ نوعانِ: أحدُهُما: مَنْ لا اخْتِيَارَ لهُ بالكُلِّيَّةِ، ولا قُدْرَةَ لهُ على الامتناعِ، كمَنْ حُمِلَ كَرْهًا وأُدْخِلَ إلى مكانٍ حَلَفَ على الامتناعِ مِنْ دخولِهِ، أوْ حُمِلَ كَرْهًا وَضُرِبَ بهِ غَيْرُهُ حتَّى ماتَ ذلكَ الغَيْرُ، ولا قُدرةَ لهُ على الامتناعِ، أوْ أُضْجِعَتْ ثُمَّ زُنِيَ بِها منْ غيرِ قُدرةٍ لها على الامتناعِ.
فهذا لا إثمَ عليهِ بالاتِّفَاقِ، ولا يَتَرَتَّبُ عليهِ حِنْثٌ في يَمِينِهِ عندَ جمهورِ العلماءِ.
وقدْ حُكِيَ عنْ بعضِ السلفِ -كَالنَّخَعِيِّ- فيهِ خلافٌ، وَوَقَعَ مِثْلُهُ في كلامِ بعضِ أصحابِ الشَّافعيِّ وأحمدَ.
والصحيحُ عندَهُم أنَّهُ لا يَحْنَثُ بحالٍ. ورُوِيَ عن الأَوْزَاعِيِّ في امرأةٍ حَلَفَتْ على شيءٍ، وَأَحْنَثَهَا زَوْجُهَا كَرْهًا، أنَّ كَفَّارَتَهَا عليهِ.
وعنْ أحمدَ روايَةٌ كذلكَ، فيما إِذَا وَطِئَ امْرَأَتَهُ مُكْرَهَةً في صِيَامِهَا أوْ إِحْرَامِهَا، أنَّ كَفَّارَتَهَا عليهِ.
والمشهورُ عنهُ أنَّهُ يَفْسُدُ بذلكَ صومُهَا وَحَجُّهَا. والنوعُ الثاني: مَنْ أُكْرِهَ بِضَرْبٍ أوْ غيرِهِ حتَّى فَعَلَ.
فهذا الفعلُ يَتَعَلَّقُ بهِ التَّكليفُ؛ فإنَّهُ يُمْكِنُهُ أنْ لا يَفْعَلَ، فهوَ مُخْتَارٌ للفعلِ، لكنْ ليسَ غَرَضُهُ نَفْسَ الفعلِ، بلْ دَفْعَ الضَّررِ عنهُ، فهوَ مُخْتَارٌ مِنْ وَجْهٍ غيرُ مُخْتَارٍ منْ وجهٍ؛ ولهذا اخْتَلَفَ النَّاسُ: هلْ هوَ مُكَلَّفٌ أمْ لا؟
واتَّفَقَ العلماءُ على أنَّهُ لوْ أُكْرِهَ على قَتْلِ معصومٍ لمْ يُبَحْ لهُ أنْ يَقْتُلَهُ؛ فإنَّهُ إنَّما يَقْتُلُهُ باختيارِهِ افْتِدَاءً لنفسِهِ من القتلِ، هذا إجماعٌ مِن العلماءِ المُعْتَدِّ بهم.
وكانَ في زمنِ الإِمامِ أحمدَ يُخَالِفُ فيهِ مَنْ لا يُعْتَدُّ بهِ. فإذا قَتَلَهُ في هذهِ الحالِ فالجمهورُ على أنَّهما يَشْتَرِكَانِ في وُجُوبِ القَوَدِ: المُكْرِهُ والمُكْرَهُ؛ لاشْتِرَاكِهِمَا في القتلِ.
وهوَ قولُ مالكٍ والشافعيِّ في المشهورِ وأحمدَ. وقيلَ: يَجِبُ على المُكْرِهِ وَحْدَهُ؛ لأنَّ المُكْرَهَ صارَ كالآلةِ، وهوَ قولُ أبي حنيفةَ وأحدُ قَوْلَي الشَّافِعِيِّ.
ورُوِيَ عنْ زُفَرَ كالأوَّلِ، ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ يَجِبُ على المُكْرَهِ لِمُبَاشَرَتِهِ، وليسَ هوَ كالآلةِ؛ لأنَّهُ آثِمٌ بالاتِّفاقِ. وقالَ أبو يُوسُفَ: لا قَوَدَ على واحدٍ منهما. وَخَرَّجَهُ بعضُ أصحابِنَا وَجْهًا لَنَا من الرِّوايَةِ: لا تُوجِبُ فيها قَتْلَ الجماعةِ بالواحدِ، وَأَوْلَى. ولوْ أُكْرِهَ بالضَّربِ ونحوِهِ على إِتْلافِ مالِ الغيرِ المعصومِ، فَهَلْ يُبَاحُ لهُ ذلكَ؟ فيهِ وجهانِ لأَِصْحَابِنَا. فإنْ قُلْنَا: يُبَاحُ لهُ ذلكَ، فَضَمِنَهُ المَالِكُ، رَجَعَ بما ضَمِنَهُ على المُكْرِهِ.
وإنْ قُلْنَا: لا يُبَاحُ لهُ ذلكَ، فالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا مَعًا كالقَوَدِ. وقيلَ: على المُكْرَهِ المُبَاشِرِ وَحْدَهُ، وهوَ ضَعِيفٌ. ولوْ أُكْرِهَ على شُرْبِ الخمرِ أوْ غيرِهِ من الأفعالِ المُحَرَّمَةِ، ففي إِبَاحَتِهِ بالإِكراهِ قَوْلانِ: أحدُهما: يُبَاحُ لهُ ذلكَ؛ اسْتِدْلالاً بقولِهِ تَعَالَى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النُّور:33].
وهذهِ نَزَلَتْ في عبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيٍّ ابنِ سَلُولَ، كانَتْ لهُ أَمَتَانِ يُكْرِهُهُمَا على الزِّنَى، وهما يَأْبَيَانِ ذلكَ.
وهذا قولُ الجمهورِ؛ كالشافِعِيِّ وأبي حنيفةَ، وهوَ المشهورُ عنْ أحمدَ.
ورُوِيَ نحوُهُ عن الحسنِ، ومكحولٍ، ومسروقٍ، وعنْ عمرَ بنِ الخطَّابِ ما يَدُلُّ عليهِ. وأهلُ هذهِ المقالةِ اخْتَلَفُوا في إكراهِ الرَّجُلِ على الزِّنَى، فمِنْهُمْ مَنْ قالَ: يَصِحُّ إكراهُهُ عليهِ، ولا إِثْمَ عليهِ. وهوَ قولُ الشافعيِّ، وابنِ عَقِيلٍ منْ أصحابِنَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قالَ: لا يَصِحُّ إِكْرَاهُهُ عليهِ، وعليهِ الإِثمُ والحَدُّ. وهوَ قولُ أبي حنيفةَ ومَنْصُوصُ أحمدَ، ورُوِيَ عن الحسنِ. والقولُ الثاني: أنَّ التُّقْيَةَ إنَّما تكُونُ في الأقوالِ، ولا تُقْيَةَ في الأفعالِ، ولا إِكْرَاهَ عليها. رُوِيَ ذلكَ عن ابنِ عَبَّاسٍ، وأبي العاليَةِ، وأبي الشَّعْثَاءِ، والربيعِ بنِ أنسٍ، والضَّحَّاكِ، وهوَ رِوَايَةٌ عَنْ أحمدَ، ورُوِيَ عنْ سُحْنُونٍ أَيْضًا.
وعلى هذا، لوْ شَرِبَ الخَمْرَ، أوْ سَرَقَ مُكْرَهًا، حُدَّ.
وعلى الأوَّلِ، لوْ شَرِبَ الخمرَ مُكْرَهًا، ثمَّ طَلَّقَ أوْ أَعْتَقَ، فهلْ يكونُ حُكْمُهُ حُكْمَ المختارِ لِشُرْبِهَا أمْ لا؟ بلْ يكونُ طلاقُهُ وعَتَاقُهُ لَغْوًا؟ فيهِ لأصحابِنَا وَجْهَانِ.
وَرُوِيَ عن الحسنِ فيمَنْ قيلَ لهُ: اسْجُدْ لِصَنَمٍ وإلا قَتَلْنَاكَ، قالَ: إنْ كانَ الصَّنَمُ تُجَاهَ القبلةِ فَلْيَسْجُدْ وَيَجْعَلْ نِيَّتَهُ لِلَّهِ، وإنْ كانَ إلى غيرِ القبلةِ فلا يَفْعَلْ وإنْ قَتَلُوهُ. قالَ ابنُ حَبِيبٍ المَالِكِيُّ: وهذا قَوْلٌ حَسَنٌ.
قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: وما يَمْنَعُهُ أنْ يَجْعَلَ نِيَّتَهُ للَّهِ وإنْ كانَ لِغَيْرِ القبلةِ، وفي كِتَابِ اللَّهِ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، وفي الشرعِ إِبَاحَةُ التَّنَفُّلِ للمُسَافِرِ إلى غيرِ القبلةِ؟
وأمَّا الإِكراهُ على الأقوالِ، فَاتَّفَقَ العلماءُ على صِحَّتِهِ، وأنَّ مَنْ أُكْرِهَ على قَوْلٍ مُحَرَّمٍ إِكْرَاهًا مُعْتَبَرًا، أنَّ لهُ أنْ يَفْتَدِيَ نَفْسَهُ بهِ، ولا إِثْمَ عليهِ، وقدْ دَلَّ عليهِ قولُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]. وقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارٍ: ((إِنْ عَادُوا فَعُدْ))، وكانَ المشركونَ قدْ عَذَّبُوهُ حتَّى يُوَافِقَهُم على ما يُرِيدُونَهُ من الكُفْرِ، فَفَعَلَ.
وأمَّا ما رُوِيَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ وَصَّى طائفةً منْ أصحابِهِ وقالَ: ((لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَإِنْ قُطِّعْتُمْ وَحُرِّقْتُمْ))، فالمرادُ الشِّرْكُ بالقُلوبِ، كما قالَ تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لُقْمَان:15].
وقالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل: 106]. وَسَائِرُ الأقوالِ يُتَصَوَّرُ عليها الإِكراهُ، فإذا أُكْرِهَ بغيرِ حقٍّ على قولٍ من الأقوالِ، لمْ يَتَرَتَّبْ عليهِ حُكْمٌ مِن الأحكامِ، وكانَ لَغْوًا؛ فإنَّ كلامَ المُكْرَهِ صَدَرَ منهُ وهوَ غيرُ راضٍ بهِ؛ فلذلكَ عُفِيَ عنهُ ولمْ يُؤَاخَذْ بهِ في أحكامِ الدُّنيا والآخرةِ، وبهذا فَارَقَ النَّاسِيَ والجاهلَ، وسَوَاءٌ في ذلكَ العُقُودُ كالبيعِ والنِّكَاحِ، أو الفُسُوخُ كالخُلْعِ والطَّلاقِ والعَتَاقِ، وكذلكَ الأَيْمَانُ والنُّذُورُ. وهذا قولُ جمهورِ العلماءِ، وهوَ قولُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ.
وفَرَّقَ أبو حنيفةَ بَيْنَ ما يَقْبَلُ الفَسْخَ عِنْدَهُ وَيَثْبُتُ فيهِ الخيارُ كالبيعِ ونحوِهِ، فَقَالَ: (ا يَلْزَمُ معَ الإِكراهِ)، وما ليسَ كذلكَ كالنِّكاحِ والطلاقِ والعَتَاقِ والأَيْمَانِ، فَأَلْزَمَ بها معَ الإِكراهِ. ولوْ حَلَفَ لا يَفْعَلُ شَيْئًا، فَفَعَلَهُ مُكْرَهًا، فَعَلى قولِ أبى حنيفةَ يَحْنَثُ.
وأمَّا على قولِ الجمهورِ، ففيهِ قَوْلانِ: أحدُهما: لا يَحْنَثُ، كما لا يَحْنَثُ إذا فُعِلَ بهِ ذلكَ كَرْهًا، ولمْ يَقْدِرْ على الامتناعِ كما سبقَ، وهذا قولُ الأكثرينَ منهم.
والثاني: يَحْنَثُ هَا هُنَا؛ لأنَّهُ فَعَلَهُ باختيارِهِ، بخلافِ ما إذا حُمِلَ ولمْ يُمْكِنْهُ الامتناعُ. وهوَ روايَةٌ عنْ أحمدَ وقولٍ للشافعيِّ.
ومِنْ أصحابِهِ -وهوَ القَفَّالُ- مَنْ فَرَّقَ بينَ اليَمِينِ بالطَّلاقِ والعَتَاقِ وغيرِهِما، كما قُلْنَا نحنُ في النَّاسِي، وَخَرَّجَهُ بعضُ أصحابِنَا وَجْهًا لنا.
ولوْ أُكْرِهَ على أداءِ مَالِهِ بغيرِ حقٍّ، فباعَ عَقَارَهُ لِيُؤَدِّيَ ثَمَنَهُ، فَهَلْ يَصِحُّ الشِّراءُ منهُ أمْ لا؟ فيهِ روايتانِ عنْ أحمدَ.
وعنهُ روايَةٌ ثالثةٌ: إنْ بَاعَهُ بثَمَنِ المِثْلِ اشْتُرِيَ منهُ، وإنْ بَاعَهُ بِدُونِهِ لمْ يُشْتَرَ منهُ، ومَتَى رَضِيَ المُكْرَهُ بِمَا أُكْرِهَ عليهِ لحُدوثِ رَغْبَةٍ لهُ فيهِ بعدَ الإِكراهِ، والإِكراهُ قائمٌ، صَحَّ ما صَدَرَ منهُ من العُقُودِ وغيرِهَا بهذا القصدِ.
هذا هوَ المشهورُ عندَ أصحابِنَا.
وفيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أنَّهُ لا يَصِحُّ أيضًا، وفيهِ بُعْدٌ.
وأمَّا الإِكراهُ بِحَقٍّ، فهوَ غيرُ مانعٍ مِنْ لُزومِ ما أُكْرِهَ عليهِ، فلوْ أُكْرِهَ الحَرْبِيُّ على الإِسلامِ فَأَسْلَمَ صَحَّ إِسْلامُهُ، وكذا لوْ أَكْرَهَ الحاكمُ أَحَدًا على بَيْعِ مالِهِ لِيُوَفِّيَ دَيْنَهُ، أوْ أَكْرَهَ المُؤْلِيَ بعدَ مُدَّةِ الإِيلاءِ وامتناعِهِ مِن الْفَيْئَةِ على الطلاقِ، ولوْ حَلَفَ لا يُوَفِّي دَيْنَهُ، فَأَكْرَهَهُ الحاكمُ على وَفَائِهِ، فإنَّهُ يَحْنَثُ بذلكَ؛ لأنَّهُ فَعَلَ ما حَلَفَ عليهِ حقيقةً على وَجْهٍ لا يُعْذَرُ فيهِ.
ذَكَرَهُ أصْحَابُنَا، بخلافِ ما إذا امْتَنَعَ من الوفاءِ، فَأَدَّى عنهُ الحاكمُ، فإنَّهُ لا يَحْنَثُ؛ لأنَّهُ لمْ يُوجَدْ منهُ فِعْلُ المحلوفِ عليهِ. ----------------------------- شرح معالي الشيخ: صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (مفرغ) ------------------------------ القارئ:
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) حديث حسن، روه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما.
الشيخ:
هذا الحديث -أيضاً- فيه بيان فضل الله - جل وعلا -ورحمته بالمؤمنين.
قال فيه عليه الصلاة والسلام: ((إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه))وفي قوله: ((إن الله تجاوز لي)): ما يُفهم أنّ هذا من خصائص هذه الأمة، فغيرنا من الأمم إذا هم العبد بحسنة لم تكتب له حسنة، وإذا هم بسيئة فتركها لم تكتب له حسنة، وكذلك في خصائص كثيرة؛ ومنها التجاوز عن الخطأ والنسيان، فرحِمَ الله -جل وعلا- هذه الأمة بنبيها صلى الله علية وسلم فتجاوز لها عن الخطأ والنسيان.
ولما نزل قول الله -جل وعلا- في آخر سورة البقرة: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} شقَّ ذلك على الصحابة رضوان الله عليهم جداً حتى نزلت الآية الأخرى وهي قوله -جل وعلا-: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} فدعى بها الصحابة -رضوان الله عليهم- فقال الله -جلا وعلا-: (قد فعلت).
فقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وقول الله -جل وعلا-: (قد فعلت) هو في معنى هذا الحديث بل هذا الحديث في معنى الآية فدلَّ ذلك على أن من أخطأ فإنه لا إثم عليه، ومن نَسِيَ فلا إثم عليه، لكن هذا مختص بالحكم التكليفي. أما الحكم الوضعي فإنه يؤاخذُ بخطأه وبنسيانه؛ ما يتعلق بالضمانات فإذا أخطأ، فقتل مؤمناً خطأً فإنه يؤاخذ بالحكم الوضعي عليه بالدية وما يتبع ذلك.
وأما الإثم فإنه لا إثم عليه لأنه أخطأ وكذلك إذا أخطأ فاعتدى على أحد في ماله أو في جسمه أو في أشباه ذلك؛ فإنه لا إثم عليه من جهة حق الله جلا وعلا أما حق العباد في الحكم الوضعي فإنهم مؤاخذون به، يعني أن الآية والحديث دلاّ على التجاوز فيما كان في حق الله؛ لأن الله هو الذي تجاوز، وتجاوزه -جل وعلا- عن حقه -سبحانه وتعالى- وهذا هو المتعلق بالحكم التكليفي كما هو معروف في بحثه في موضعه في علم أصول الفقه، والخطأ غير النسيان وكذلك الإكراه، ما يكره عليه -أيضاً- يختلف عنهما. فالخطأ: إرادةُ الشيء وحصولُ غيره من غير قصدٍ لذلك.
والنسيان: الذهول عن الشيء، والإكراه: أو قوله: ((ما استكرهوا عليه)) يعني ما أكرهوا عليه فعملوا شيئاً على جهة الإكراه، فالله -جل وعلا- قال: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من ربهم..} الآية في سورة النحل، وهذا فيه من حيث التفريعات الفقهية مباحث كثيرة نطويها طلباً للاختصار. ----------------------- العناصر ----------------------- حديث ابن عباس رضي الله عنهما -مرفوعاً-: (إن الله تجاوز لي عن أمتي...) تخريج حديث ابن عباس نقد إسناد حديث ابن عباس نقد متن الحديث موضوع حديث ابن عباس منزلة حديث ابن عباس المعنى الإجمالي لحديث ابن عباس شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي) معنى (التجاوز) ما تفيده كلمة (لي) من أن هذا التجاوز من خصائص هذه الأمة معنى (الأمة) شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان...) تعريف (الخطأ) تعريف (النسيان) إطلاقات (النِّسْيَان) حكم الخطأ والنسيان التجاوز عن المخطئ والناسي موارد الخطأ والنسيان مسألة: حكم من جامع في نهار رمضان ناسياً شرح قوله: صلى الله عليه وسلم: (... وما استكرهوا عليه) بيان معنى (الإكراه) أدلة التجاوز عن المكره موارد الإكراه أنواع الإكراه مسائل في الإكراه: حكم الإكراه على إتلاف مال معصوم حكم الإكراه على شرب الخمر حكم من أَكره حالفاً على الحنث حكم الإكراه على الطلاق حكم الشراء من المكره على البيع مَوانِعُ التَّكْلِيفِ من فوائد حديث ابن عباس رضي الله عنهما ------------------------ الأسئلة ------------------------- س1: خرّج حديث ابن عباس رضي الله عنهما معرّجاً بالنظر في إسناده. س2: ما معنى (التجاوز) لغة وشرعاً؟ س3: بين ما تفيده كلمة (لي) وبـيِّن ما تفيده إضافتها؟ س4: ما الفرق بين (الخطأ) و (النسيان)؟ س5: بين إطلاقات النسيان وما المراد في هذا الحديث منها؟ س6: هل التجاوز عن المخطئ والناسي يعني عدم ترتب أي حكم على فعله؟ س7: بين حكم النسيان وبين الواجب على صاحبه فيما يلي: أ- من صلى من غير طهارة. ب- من ترك التسمية على الوضوء. ج- من ترك التسمية على الذبيحة. د- من أكل في صومه. هـ- من جامع فينهار رمضان. س8- ما معنى (الإكراه) لغة وشرعاً؟ س9: اذكر بعض الأدلة الواردة في التجاوز عن المكره؟ س10: ما حد الإكراه الذي يعذر به؟ س11: متى يجوز للإنسان أن يفعل ما أكره عليه؟ س12: اذكر مثالاً للإكراه الذي للمكره فيه نوع اختيار؟ س13: ما حكم الشراء من المكرَه على البيع؟ س14: ما هي موانع التكليف التي ترفع المآخذة؟ س15: عدد بإيجاز بعض الفوائد المستنبطة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. |
|