الخطبة الثانية:
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وشرع لنا من الدين ما وصى به نوحًا وأنبياءه -سبحانه وتعالى- حتى بعث إلينا بدعوة الخليل إبراهيم نبيًا، كما قال الخليل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة: 129].
فبعث الله لنا محمدًا -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-.
أشهد أن محمدًا رسول الله الداعي إلى الله، أشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل خلق الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين، وأزواجه وذريته وخلفائه وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ونبيك إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وخير من لبى وأتى بيتك.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، واجعلنا من أهل شفاعته، واحشرنا في زمرته، واجمعنا به في جنات النعيم.
فضل شهر محرم والصيام فيه:
عباد الله: قد أظلكم شهر عظيم، هو شهر الله المحرم، جعله الله حرامًا يوم خلق السماوات والأرض: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36].
شهر الله المحرم واحد منها، شرع الله فيه الصيام، فما من شهر كما أخبر عليه الصلاة والسلام بعد رمضان أحب إلى الله صيامه من شهر الله المحرم، حتى لو صامه كله، لكان ذلك طيبًا.
وكلما زاد المسلم من صيامه، فهو خير، فلو صام يومًا، وأفطر يومًا، وصام الاثنين والخميس، وأيام البيض، وتاسوعاء، وعاشوراء، وأفضله عاشوراء، الذي يكفر سنة، وتاسوعاء يومًا قبله.
وهذا الشهر الذي نجى الله فيه موسى ومن معه، وأهلك فيه فرعون ومن معه.
أهمية التاريخ الهجري في حياة المسلمين:
كانت الأشهر الحرم أشهر السنة معروفة عند المسلمين، في عهد النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بتواليها وترتيبها هذا، ولكن لم يكن عندهم تأريخ السنة الأولى: السنة الثانية، السنة الثالثة، وكانت العرب تؤرخ بالأحداث المشهورة، فيقولون: عام الفيل، كما يقول القدماء: عام الثلجة، عام المطر، عام الجوع، عام القحط، فلم يكن هنالك تأريخ، ولما صار عمر -رضي الله عنه- يرسل إلى البلدان المفتوحة للمسلمين والأمصار بخطابات ورسائل، وصار أمراؤها يحتاجون إلى معرفة تاريخ الخطاب، متى أتى؟ تأتينا منك يا أمير المؤمنين، رسائل لا ندري متى كتبت؟
جمع عمر -رضي الله عنه- الصحابة واستشارهم، متى يكون العام الأول؟ ما هو نقطة الصفر التي يحدد منها بمرور سنة عام واحد؟ والسنة التي بعدها عام اثنين؟ وهكذا..
احتاج المسلمون إلى وقت لبداية تاريخهم الإسلامي، فاتفق الصحابة على أن أعظم حدث في الإسلام يؤرخ به، هو الهجرة.
فلم يؤرخوا بمولده، ولا بمبعثه، ولا بوفاته -عليه الصلاة والسلام-، ولا بالغزوات الأخرى، ولا بالإسراء والمعراج، أرخوا بالهجرة، العام الذي فيه الهجرة، حصلت الهجرة هو عام رقم واحد، اتفق الصحابة مع عمر -رضي الله عنه- على هذا.
معناها أن أعظم حدث مفصلي في الإسلام، كان له ما بعده، وتحول عظيم، نقطة تحول عظيمة في هذا الدين، تأريخًا وواقعًا، الهجرة، وما حدث بعدها من الخير العظيم، والفتح للإسلام والمسلمين، اتفقوا على أن وقت الهجرة هو العام رقم واحد.
متى يبدأ هذا العام؟ أي شهر تكون بداية هذا العام؟ ما هو الشهر رقم واحد؟ في العام رقم واحد؟
نظر عمر -رضي الله عنه- فإذا عودت الناس من الحج إلى الأمصار، كأنها بداية جديدة، عهد جديد، وحيث أن بداية الاستعدادات للهجرة كانت في شهر محرم، رأى عمر -رضي الله عنه- مع الصحابة: أن يكون محرم هو شهر رقم واحد، وأن يكون عام الهجرة هو العام رقم واحد، فعدوا بعده، كم عام مضى على الهجرة؟ وابتدأ التاريخ الإسلامي الذي نعتز به، ويجب أن نعتز به، ويجب أن يبقى، ولا يجوز أن نعدل بغيره، ولا نذهب إلى ميلادي، ولا غيره من التواريخ، وإنما تاريخنا الذي نشرف به، ونفتخر به، هو تاريخنا الهجري القمري، كل شهر له آية بينة في السماء، إنه أمر عظيم.
اللهم اغفر لنا أجمعين، وتب علينا يا رب العالمين.
اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا أن لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًا إلا فرجته، ولا كربًا إلا نفسته، ولا عسيرًا إلا يسرته، ولا دينًا إلا قضيته.
اشف مرضانا، وارحم موتانا، واهد ضالنا، واجمع على الحق كلمتنا.
اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا، من أراد بلدنا بسوء وبلاد المسلمين فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واقطع دابره.
اللهم اجعل بلدنا هذا سخاءًا رخاءًا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم إنا أحزاب الشرك والكفر قد تمالأت على إخواننا في الشام، وأنت الله القوي العزيز، لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء، يا منزل الكتاب، يا مجري السحاب، يا هازم الأحزاب، اهزمهم وانصر المسلمين عليهم، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182].
محمد صالح المنجد
أحد طلبة العلم والدعاة المتميزين بالسعودية.
وهو من تلاميذ العالم الإمام عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه.