|
| مآثِرُ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: مآثِرُ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا الثلاثاء 14 يونيو 2011, 7:39 pm | |
| بسم الله الرحمن الرحيم
مآثِرُ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا
إعداد د. قاسم توفيق قاسم خضر
الإهــــــــــــداء
إلى الباحثين عن المرأة النموذج والمثل الأعلى والقدوة الحسنة
الشــكر
أتقدم بالشكر الجزيل إلى مديرية أوقاف طولكرم لدعوتها الكريمة لمسابقة علمية تدور رحاها في رحاب فقيهة الأمة أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها
مُلخَصُ البحث
بدأت بحثي بفصل تمهيدي ذكرتُ فيه لمحة موجزة عن مولد ونشأة ووفاة السيدة عائشة رضي الله عنها, وذكرت فيه زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها, وذكرت مهرها وكيفية زفافها, كلّ ذلك مقدمة بين يدي البحث.
ثمّ ذكرت بشيء من التركيز فضائلها المباشرة وغير المباشرة وبعضاً من أخلاقها في الفصل الثاني, حيث استوعب فيه كلّ ما صحّ تفريباً في هذا الشأن, مع الإشارة أنّ بعض المناقب متفرعة عن بعض؛ فذكر الأصل يُغني عن إفراد الفرع بفضيلة مستقلة, وأظهرت من خلاله عظمة الفضائل والمزايا والخصائص التي تتمتع بها هذه السيدة الكريمة.
ثمّ تلوتُ ذلك بفصل ذي مبحثين: الأول تحدثت فيه عن منقبة عظيمة لا تُضاهى, ويصعب استقصاء أجزائها, ألا وهي مساهمتها العليمة في الحياة الإسلامية, ثمّ ذكرت في المبحث الثاني مساهمتها السياسية في مراحل تاريخية متعددة, وأظهرت فيه مدى تأثيرها في الحياة السياسة الإسلامية, واعتبرت تلك المساهمة من مناقبها ومآثرها على نحو تمّ تفصيله هناك.
ثمّ كانت الخاتمة التي بينت فيها نتائج بحثي, وما أظهره من حقائق في هذا المجال, مع ما نوهتُ به من ضرورة تخليص الروايات من الشوائب, وضرورة إعادة النظر في بعض الروايات التاريخية.
مقدمــة
الْحَمْدُ لِلهِ ِ الَّذِيْ جَعَلَ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيْدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ، وأَلْبَسَهَا حُلَّةَ الشَّرَفِ حَيْثُ جَاءَ إِلَى سَيِّدِ الْخَلْقِ الْمَلَكُ بِهَا فِي سَرَقَةٍ مِّنْ حَرِيْرٍ فِي الْمَنَامِ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ شَهَادَةً تَنْظِمُنَا فِيْ أَبْنَاءِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِيْنَ، وَتَهْدِيْنَا إِلَى سُنَنِ السُّنَّةِ آمِنِيْنَ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا محمدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ الَّذِيْ أَرْشَدَ إِلَى الشَّرِيْعَةِ الْبَيْضَاءِ، وَأَعْلَنَ بِفَضْلِ عَائِشَةَ حَتَّى قِيْلَ: خُذُوْا شَطْرَ دِيْنِكُمْ عَنِ الْحُمَيْرَاءِ, وَصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ صَبَاحَ مَسَاءَ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ اللَّوَاتِيْ قِيْلَ فِيْ حَقِّهِنَّ: "لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ" صَلَاةً بَاقِيَةً إلى يوم الدين ,
وبعد:
لقد كان الدافع وراء بحثي الرغبةَ الشديدة في إحياء هذا المثال الكبير للمرأة, وبيان عظمة هذا الدين في إنتاجه الباهر لنماذج غير مسبوقة في تاريخ البشرية جمعاء, فعائشة رضي الله عنها امتازت بالذكاء الحاد والنفس الطاهرة النقية, والسريرة المبرأة, فهي الراوية لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم, والفقيهة العالمة, وصاحبة العلم الغزير والفهم العميق.
لقد ساهمت رضي الله عنها مساهمة جليّة في الفكر والفقه الإسلامي حتى أضحت مدرسة لها خصائص ومميّزات, دلّ على هذا حفظها وضبطها للأحاديث النبوية رغم صغر سنّها, ومحاورتها له صلى الله عليه وسلم؛ فامتازت بعقل واع ولسان سؤول, فكانت مرجعاً للصحابة إذا استشكل عليهم أمر أو مسألة.
ثمّ هي تدخلت في الحياة السياسية, وكان لها أعظم الأثر في كل الأحداث, وهذا يدلّ على عظيم دور المرأة في الإسلام؛ فهي مفكرة وفقيهة وسياسية, وتحمل علماً لا يُضاهى في الأمور الاجتماعية, وخاصة في موضوع الأسرة, فهي الأكثر نقلاً عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الخاصة, وهي مُشَارَكَةٌ لا يخفى أثرها على حياة الناس والمجتمع.
وأرجو أن أوفق في بحثي في إظهار هذا المثال رداً على الطاعنين في النموذج الإسلامي للمرأة, وبياناً للذين تحجرّت أفهامهم من المتنطعين المتزمتين أصحاب النظر القاصر والفهم الضحل البائس, ورداً على أولئك المزورين للتاريخ, الساعين لحجب الشمس بغربالهم المخروم, سعياً منّي وراء الحقيقة لا غير, وخدمة للمسلمين والبشرية جمعاء في تقديم هذا النموذج النسوي الباهر, والقادر على إعطاء معالم للطريق نحو مجتمع يحترم المرأة ويقدر دورها المحوري الهام.
واعتمدتُ في بحثي على المصادر المتوفرة من الإصدار الثالث للمكتبة الشاملة (www.shamela.ws) , ولهذا سأكتفي حين ذكر المصادر في نهاية بحثي بذكر اسم المصدر واسم مُؤَلِّفِه, لأنّ بعض الكتب غير موافق للمطبوع, ولأنّ ذكر الطبعة ومكان طباعتها لا يؤثر على سلامة النقل والتوثيق, لأنّ المكتبة الشاملة - مرجع تلك المصادر - يَسهلُ الرجوع إليها والتأكد من سلامة العَزْو من خلالها.
منهج البحث
أول خطوة في منهج البحث تحديد العنوان وفهمُ معناه, وهو هنا (مآثِرُ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا)؛ وَالمآثر جمعُ مَأْثَرَة وهي المكرمة, لأنها تؤثر, وَيذكرها قرن عن قرن, ويُقال: مآثِرُ العَرَب, أيْ مَكارمُها ومَفاخرُها التي تُؤْثَرُ عنها, أي تُذْكَرُ وتُرْوَى , فلا يُسمّى الأمرُ مأثرة إلاّ إذا كان ذا قيمة وشأن, ولإعجاب الناس به ذاع بينهم وتناقلوه, فمآثرها رضي الله عنها تشمل المناقب والفضائل والأخلاق التي تميّزت بها, وذاع صيتها بين الناس فتناقلوها جيلاً بعد جيل.
وَلحصول المُراد اتكأت في بحثي على النصوص الواردة في القرآن والسنة أولاً, ثمّ ما ورد عن الصحابة ومن تبعهم فيما يتصل في موضوع البحث, ونظرت في كتب السيرة والتاريخ للاستئناس لا للاستشهاد وخصوصاً إذا تعلّق الأمر بأحداث الفتن, لأنّ الروايات فيها متضاربة وغير محققة, أمّا الأحاديث فما كان من الصحيحين فلا إشكال, وأمّا من غيرها فلا آخذ به حتى أعلم درجة الحديث, والتأكّدُ من درجة الحديث ممكنة مُيسّرة, محاولا في ذلك الوصولَ إلى الحقيقة لا غير.
ثمّ نظرت في كل ما توفر لدي من معلومات نظرة تحليلية فاحصة, لتحقيق فهم واع لهذه الشخصية الكبيرة, وذلك بربط المعاني الجزئية بعضها مع بعض، لرسم لوحة مكتوبة عن مفاخرها ومآثرها ومناقبها, وبيان عظم شأنها وعلو منزلتها, مقدماً للقارىء صورة واضحة عن تلك الشخصية الباهرة.
وهكذا قسمت بحثي (مآثِرُ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) على الفصول والمباحث الآتية:
الفصل التمهيدي
المبحث الأول: النسب والمولد والوفاة المبحث الثاني: زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها
الفصل الأول
فضائلها وأخلاقها المبحث الأول: الفضائل المباشرة. المبحث الثاني: الفضائل غير المباشرة. المبحث الثالث: أخلاقها.
الفصل الثاني
مساهمتها في الحياة الإسلامية المبحث الأول: مساهمتها العلمية. المبحث الثاني: مساهمتها السياسية.
الخاتـمة
الفصل التمهيدي
المبحث الأول
النسب والمولد والوفاة
هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، عبد الله بن عثمان القرشي، من بني تيم بن مرة وَأمها أم رُومان بِنْتُ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمَرِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك الكِنَانِيّةَ, ولدت بعد المبعث بأربع سنين أو خمس , أي قبل الهجرة بحوالي ثماني سنوات , وتلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرة ابن كعب .
وُلدت السيدة عائشة أم المؤمنين رضى اللَّه عنها في بيت عامر بالإيمان، ممتلئ بنور القرآن، فأبوها الصديق أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وثانى اثنين إذ هما في الغار، وأول من آمن من الرجال، وأول خليفة للمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأمها السيدة أم رومان من أشرف بيوت قريش وأعرقها في المكانة, وكنّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن أختها عبد الله بن الزبير , وكانت امرأة بيضاء جميلة, ومن ثم كانت تُلقّب بالحُمَيْراء .
لقد تأثّرَ بناءُ شخصيتها فكراً وسلوكاً ومشاعرَ بالبيئة التي نشأت فيها, تقول رضي الله عنها: "لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ, وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً, ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ, فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ, وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ؛ فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ" , وانظر إلى هذه الذكريات المحفورة في عقلها منذ الطفولة, وكيف شكلتْ تلك الشخصية الفذَّة.
وفاتها
وتُوفيت رضي الله عنها بعده بالمدينة سنة سبع وخمسين أو ثمان وخمسين للهجرة النبوية، ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان، ودفنت بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة، وكان يومئذ خليفة مروان على المدينة المنورة في أيام معاوية ابن أبي سفيان , وهى في سن الخامسة أو السادسة والستين من عمرها، وَأَنَّهَا مَاتَتْ بَعْدَ الْوِتْرِ, وأَمَرَتْ أَنْ تُدْفَنَ مِنْ لَيْلَتِهَا؛
فَاجْتَمَعَ الْأَنْصَارُ وَحَضَرُوْا فَلَمْ نَرَ لَيْلَة أَكْثَرَ نَاسًا مِنْهَا نَزَلَ أَهْل الْعَوَالِيْ؛ فَدُفِنَتْ بِالْبَقِيْعِ .
وسارت خلفها الجموع باكية عليها في ليلة مظلمة حزينة، فرضي اللَّه عنها وأرضاها .
وَاسْتَأْذَنَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَبْلَ مَوْتِهَا عَلَيْهَا رضي الله عنها, وَهِيَ مَغْلُوبَةٌ. قَالَتْ: أَخْشَى أَنْ يُثْنِيَ عَلَيَّ؛ فَقِيلَ: ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَمِنْ وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَتْ: ائْذَنُوا لَهُ؛ فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدِينَكِ؟ قَالَتْ: بِخَيْرٍ إِنْ اتَّقَيْتُ. قَالَ: فَأَنْتِ بِخَيْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَلَمْ يَنْكِحْ بِكْرًا غَيْرَكِ, وَنَزَلَ عُذْرُكِ مِنْ السَّمَاءِ, وَدَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ خِلَافَهُ؛ فَقَالَتْ: دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَثْنَى عَلَيَّ, وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نِسْيًا مَنْسِيًّا , وفي رواية أحمد قَالَتْ: "أَخَافُ أَنْ يُزَكِّيَنِي" , وفي هذا دليل على تَوَاضُع عَائِشَة وَفَضْلهَا وَتَشْدِيدهَا فِي أَمْر دِينهَا .
وفي رواية أُخرى أنّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: "يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقْدَمِينَ عَلَى فَرَطِ صِدْقٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ" , وفي هذه الرواية قطع ابن عباس لعائشة بدخول الجنّة, ولا يُقال هذا إلاّ بتوقيف؛ فيكون لهذه الرواية حكم المرفوع, وهذه فضيلة عظيمة لعائشة .
المبحث الثاني
زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها
لَمَّا تُوفِّيَتْ خَدِيجَةُ جَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَلَا تَزَوَّجُ؟ قَالَ: مَنْ؟ قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْرًا, وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّبًا. قَالَ: فَمَنْ الْبِكْرُ؟ قَالَتْ: ابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْكَ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ: وَمَنْ الثَّيِّبُ؟ قَالَتْ: سَوْدَةُ ابْنَةُ زَمْعَةَ, قَدْ آمَنَتْ بِكَ وَاتَّبَعَتْكَ عَلَى مَا تَقُولُ. قَالَ: فَاذْهَبِي فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ ؛ فخطبها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بمكة، وهي بنت ست سنين في شوال سنة عشرة من النبوة قبل الهجرةِ بثلاث سنين , ودخل بها وهي بنت تسع في المدينة في شوال بعد وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة , من غير اعتبار الكبر , ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة، ولم يتزوج بكراً غيرها .
وفى زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة تقول رضى اللَّه عنها: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ أَرَى أَنَّكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَاكْشِفْ عَنْهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ" , وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخطب عائشة حتى جاءته خولة زوج صاحبه عثمان بن مظعون ترشحها له.
يومُ زفافها رضي الله عنها
بعد أن نزل آل أبي بكر فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فِي السُّنْحِ, قَالَتْ عائشةُ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بَيْتَنَا, وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَنِسَاءٌ؛ فَجَاءَتْنِي أُمِّي وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ بَيْنَ عَذْقَيْنِ تَرْجَحُ بِي؛ فَأَنْزَلَتْنِي مِنْ الْأُرْجُوحَةِ وَلِي جُمَيْمَةٌ فَفَرَقَتْهَا وَمَسَحَتْ وَجْهِي بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ, ثُمَّ أَقْبَلَتْ تَقُودُنِي حَتَّى وَقَفَتْ بِي عِنْدَ الْبَابِ, وَإِنِّي لَأَنْهَجُ حَتَّى سَكَنَ مِنْ نَفْسِي, ثُمَّ دَخَلَتْ بِي؛ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ فِي بَيْتِنَا وَعِنْدَهُ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مِنْ الْأَنْصَارِ؛ فَأَجْلَسَتْنِي فِي حِجْرِهِ, ثُمَّ قَالَتْ: هَؤُلَاءِ أَهْلُكِ فَبَارَكَ اللَّهُ لَكِ فِيهِمْ وَبَارَكَ لَهُمْ فِيكِ, فَوَثَبَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَخَرَجُوا, وَبَنَى بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِنَا, مَا نُحِرَتْ عَلَيَّ جَزُورٌ, وَلَا ذُبِحَتْ عَلَيَّ شَاةٌ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْنَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بِجَفْنَةٍ كَانَ يُرْسِلُ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَارَ إِلَى نِسَائِهِ" , وَأَصْدَقَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَ مِئَةِ دِرْهَمٍ .
وكان بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي دخلت فيه أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها حجرة واحدة من الطوب اللَّبِن النَّيِّئ والطين, ملحق بها حجرة من جريد مستورة بالطين، وكان باب حجرة السيدة عائشة مواجهًا للشام، وكان بمصراع واحد من خشب، سقفه منخفض وأثاثه بسيط: سرير من خشبات مشدودة بحبال من ليف عليه, ووسادة من جلد حَشْوُها ليف، وقربة للماء، وآنية من فخارٍ للطعام والوضوء.
وأقامت في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أعوام وخمسة أشهر , وَتُوُفِّيَ عَنْهَا وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً , ورأسُه فى حجرها, ودفن فى بيتها .
الفصل الأول
فضائلها وأخلاقها
المبحث الأول:
الفضائل المباشرة: وهي الفضائل التي تَعَلَّقَتْ مباشرة بالسيدة عائشة رضي الله عنها.
المبحث الثاني:
الفضائل غير المباشرة: وهي التي وردت في أزواج النبي وآل بيته , وهي تشمل عائشة رضي الله عنها.
المبحث الثالث:
أخلاقها.
المبحث الأول
الفضائل المباشرة للسيدة عائشة رضي الله عنها
الأولى: أَنَّهَا خُيِّرَتْ وَاخْتَارَتِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ عَلَى الْفَوْر, وذلك لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ؛ فبَدَأَ بِعائشة؛ فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ. قَالَتْ: وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ. قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا, وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا". قَالَتْ فَقُلْتُ فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ, فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. قَالَتْ: ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُ , وَفِيهِ فَضْلُ عَائِشَة لِبُدَاءَتِهِ بِهَا, وَفِيهِ مَنْقَبَة عَظِيمَة لِعَائِشَةَ وَبَيَان كَمَال عَقْلهَا وَصِحَّة رَأْيهَا مَعَ صِغَر سِنّهَا , وَفِيهِ الْمُبَادَرَة إِلَى الْخَيْر وَإِيثَار أُمُور الْآخِرَة عَلَى الدُّنْيَا .
وفيه أَنَّهَا حَيْثُ خُيِّرَتْ كَانَ خِيَارُهَا عَلَى التَّرَاخِيْ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الخِلَافُ فِي باقي نسائه صلى الله عليه وسلم, هَلْ كَانَ مَشْرُوْطًا بِالْفَوْرِ أَمْ لَا؟ وَسَبَبُهُ - وَ اللهُ أَعْلَمُ- أَنَّهَا كَانَتْ أَحَدثَ نِسَائِهِ سِنًّا, وَأَحَبَّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ؛ فَكَأنَ قَوْلهُ لَهَا: لَا تُبَادِرِيْنِيْ بِالْجَوَابِ , خَوْفًا مِنْ أَنْ تَبْتَدِرَهُ بِاخْتِيَارِ الدُّنْيَا. والفرق واضح بين قول الوَاحِدُ مِنَّا لِبَعْضِ نِسَائِهِ: اخْتَارِيْ مَتَى شِئْتِ", وَقوله لِأُخْرَى: "اخْتَارِيْ "؛ فَإِنَّ خِيَارَ الْأُوْلَى يَكُوْنُ عَلَى التَّرَاخِيْ وَالْأُخْرَى عَلَى الْفَوْرِ .
الثانية: نُزُوْلُ آَيَةِ التَّيَمُّمِ بِسَبَبِ عِقَدْهَا حِيْنَ حَبَسَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ ؛ فمن جميل ما أسدته السيدة عائشة للمسلمين أنها كانت سببًا في نزول آية التيمم، تقول رضي الله عنها: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ, حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي؛ فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْتِمَاسِهِ, وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ؛ فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ, وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ, فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ؛ فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ, وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ, وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ, وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ, وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي, فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي, فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا؛ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ . وفى رواية قال لها: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا, فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ قَطُّ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَكِ مِنْهُ مَخْرَجًا, وَجَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَة .
الْثَالِثَةُ: نُزُوْلُ بَرَاءَتِهَا مِنَ السَّمَاءِ مِمَّا نَسَبَهُ إِلَيْهَا أَهْل الْإِفْك فِي سِتِّ عَشْرَةَ آَيَةً مُتَوَالِيَةٍ , وَشَهِدَ اللهُ لَهَا بأَنَّهَا مِنَ الطَّيِّباتِ, وَوَعَدَهَا بِالْمَغْفِرَةِ وَالرِّزْقِ الْكَرِيْمِ , وَانْظُرْ تَوَاضُعَهَا فِي قَوْلهَا: "وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى, وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا" .
وفيه منقبة ظاهرة جلية أنّ الله شهد لها بالعفة والطهارة, يَقُولُ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآَيَات - مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ مِنْهُ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ إِلَّا مَنْ خَاضَ فِي إِفْكِ عَائِشَةَ, ثُمَّ قَالَ: بَرَّأَ اللهُ تَعَالَى أَرْبَعَةً بِأَرْبَعَةٍ: يُوْسُفَ بلِسَانِ الشَّاهِدِ: "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلهَا" , وَبَرَّأَ مُوْسَى مِنْ قَوْل الْيَهُوْدِ فِيْهِ بِالْحَجَرِ الَّذِيْ ذَهَبَ بِثَوْبِهِ , وَبَرَّأَ مَرْيَم بِإِنْطَاقِ وَلَدِهَا: "إِنِّيْ عَبْدُ اللهِ" , وَبَرَّأَ عَائِشَةَ بِهَذِهِ الْآَيَاتِ الْعَظِيْمةِ , ولهذا سَمَا ذكرُها وعلا شأنها؛ لتسمَعَ عَفافها وهي في صباها - بنت اثنتي عشرة سنة - فشَهِدَ الله لها بأنها من الطيّبات، ووعَدَها بمغفرةٍ ورزق كريم.
ولذلك اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ رضي الله عنها, فَقَدْ كَذَّبَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ بِحَقِّهَا , وَهُوَ بِذَلِكَ كَافِرٌ , وَلأنه أنكر شيئاً تواتر في الكتاب وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, يقول الزِّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ فَلَّيْتَ الْقْرْآنَ وَفَتَّشْتَ عَمَّا أَوْعَدَ بِهِ الْعُصَاةَ لَمْ تَرَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَلَّظَ فِي شَيْءٍ تَغْلِيْظَهُ فِي إِفْكِ عَائِشَةَ , وقال القاضي أبو يعلى: "من قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه كفر بلا خلاف" , وَقَدْ حَكَى الإْجماع عَلَى هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الأْئمة.
وفيه منقبةٌ أخرى, وهي أنّ الله تعالى جَعَلَ براءتها قُرْأَناً يُتْلَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة, وشَرَعَ جَلْدَ الْقَاذِفِ, وَصَارَ بَابُ الْقَذْفِ وَحْدَهُ بَابًا عَظِيْمًا مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِيْعَةِ, وَكَانَ سَبَبُهُ قِصَّتُهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُا , ويؤيّدُ هذا المعنى قوله تعالى: "لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْر" , وقال عروة ابن الزبير: "ولو لم يكن لعائشة من الفضائل إلا قصة الإفك لكفى بها فضلا وعلو مجد؛ فإنها نزل فيها من القرآن ما يتلى إلى يوم القيامة" .
الرابعة: أَنَّ جِبْرِيْلَ أَتَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيْر, لِقَولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ, جَاءَنِي بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِكِ, فَإِذَا أَنْتِ هِيَ؛ فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ" , وهي منقبة كانت عائشة تفتخر وتعتز بها؛ ذلك أَنَّ اللهَ تَعَالَى اخْتَارَهَا لِرَسُوْلِه, وحُقّ لعائشة أن تفتخر؛ فهل بعد هذا في الفضل غاية.
الخامسة: أَنَّهَا كَانَتْ أَحَبَّ أَزواج النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ, وشهد لذلك النبي صلى الله عليه وسلم, ودلَّ على ذلك ما رواه عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: "عَائِشَةُ". قُلْتُ: مِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ: "أَبُوهَا" ؛ فهذا الحديث شاهدٌ على هذه المنقبة الجليلة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, وهي أنها كانت أحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه, ثمَّ ما كان عليه الصلاة والسلام ليحب إلا طيبا ؛ فهي من الطَّيباتِ النقيّات.
وشهد لهذا الحبّ ولهذه الكرامة كبار الصحابة, يقولُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِرَجُل نَالَ مِنْهَا: أَغْرِبْ مَقْبُوحًا مَنْبُوحًا أَتُؤْذِيْ حَبِيْبَةَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ ذلك أنّ حبَّه صلى الله عليه وسلم لعائشة كان أمراً مستفيضاً, حتى صار الناس يتحرون بهداياهم يومها تقربا إلى مرضاته .
وأكثر من ذلك وُجُوْب مَحَبَّتِهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ؛ ذلك أنّ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرسَلنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ, فَأَذِنَ لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ؛ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيْ بُنَيَّةُ أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ"؛ فَقَالَتْ: بَلَى. قَالَ: "فَأَحِبِّي هَذِهِ" , وَهَذَا الْأَمْر ظَاهِرُ الوُجُوْبِ, وهي منقبة يعجز الناس عنها, ولو قطعوا دونها أكباد الإبل.
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَاضَتْ عَائِشَةُ: "إِنَّ هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ" , وَقَوْلُهُ لَمَّا حَاضَتْ صَفِيَّة: "عَقْرَى حَلْقَى عَقْرَى حَلْقَى إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا" ؛ وَفرق عَظِيْم بين الْمَقَامَيْن, وما ذلك إلاّ لحبه عائشة رضي الله عنها .
ويشهدُ لهذا الحبّ ذلك الحوار اللطيف الذي دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينها رضي الله عنها. قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً, وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى". قَالَتْ: فَقُلْتُ وَمِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً؛ فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ, وَإِذَا كُنْتِ غَضْبَى قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ ". قَالَتْ: قُلْتُ أَجَلْ, وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ .
ومُرَادهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَتْرُك التَّسْمِيَة اللَّفْظِيَّة وَلَا يَتْرُك قَلْبهَا التَّعَلُّق بِذَاتِهِ الْكَرِيمَة مَوَدَّة وَمَحَبَّة. وَفِي اِخْتِيَار عَائِشَة ذِكْر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام دُون غَيْره مِنْ الْأَنْبِيَاء دَلَالَة عَلَى مَزِيد فِطْنَتهَا, لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى النَّاس بِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآن, فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا بُدّ مِنْ هَجْر الِاسْم الشَّرِيف أَبْدَلَتْهُ بِمَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ حَتَّى لاَ تَخْرُج عَنْ دَائِرَة التَّعَلُّق فِي الْجُمْلَة .
السادسة: اخْتِيَارُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَرَّضَ فِيْ بَيْتِهَا, وموتُه بَيْنَ سَحْرِهَا وَنَحْرِهَا رضي الله عنها, وَدَفْنُهُ فِيْ بَيْتهَا بِبُقْعَةٍ هِيَ أَفْضَل بِقَاعِ الْأَرْض بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ , وبيانُ ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا نزل به المرضُ واشتدَّ استأذن أزواجه فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بيتها؛ فأَذِنَّ له ؛ فبقي عندها ترعاه وتخدمه, وتسهر عليه في مرضه إلى أن قبضه الله إليه.
وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَيْنَ أَنَا الْيَوْمَ؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟" اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ ؛ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِهَا وَنَحْرِها, وفي هذا تقول السيدة عائشة: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي وَفِي نَوْبَتِي, وَبَيْن سَحْرِي وَنَحْرِي, وَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ. قَالَتْ: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِسِوَاكٍ؛ فَضَعُفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَمَضَغْتُهُ ثُمَّ سَنَنْتُهُ بِهِ , فحصلَ لها اجْتِمَاعُ رِيْقِ رَسُوْلِ اللهِ وَرِيْقِهَا فِيْ آَخِرِ أَنْفَاسِه.
وَفِي هذا البيان – أيضاً - فَضِيلَةٌ لعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا, وَرُجْحَانهَا عَلَى جَمِيع أَزْوَاجه الْمَوْجُودَات ذَلِكَ الْوَقْت, وَكُنَّ تِسْعًا إِحْدَاهُنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا, وَهَذَا لَا خِلَاف فِيهِ بَيْن الْعُلَمَاء, وَإِنَّمَا اِخْتَلَفُوا فِي عَائِشَة وَخَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا .
السابعة: أَنَّ جِبْرِيْلَ عليه السلام يُقْرِئُها السَّلام, ودلَّ على هذه المنقبة العظيمة قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَائِشَ هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ"؛ فقَالت: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ, تَرَى مَا لَا أَرَى. تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وتأمّل كيف خاطبها بترخيم اسمها, وأخبرها خبرًا تطير له القلوب والأفئدة.
الثَّامنةُ: لَمْ يَنْزِلِ الْوَحْيُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِيْ لِحَافِ امْرَأَة مِّن نِّسَائِهِ غَيْرَهَا, وبَيان ذلك أنَّ النَّاسُ كانوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ. قَالَتْ: عَائِشَةُ فَاجْتَمَعَ صَوَاحِبِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ؛ فَقُلْنَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ, وَاللَّهِ إِنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ, وَإِنَّا نُرِيدُ الْخَيْرَ كَمَا تُرِيدُهُ عَائِشَةُ, فَمُرِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ يُهْدُوا إِلَيْهِ حَيْثُ مَا كَانَ أَوْ حَيْثُ مَا دَارَ. قَالَتْ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَتْ: فَأَعْرَضَ عَنِّي؛ فَلَمَّا عَادَ إِلَيَّ ذَكَرْتُ لَهُ ذَاكَ, فَأَعْرَضَ عَنِّي؛ فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ ذَكَرْتُ لَهُ؛ فَقَالَ: "يَا أُمَّ سَلَمَةَ لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ, فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا" .
وفي الحديث منقبة ظاهرة لعائشة, ومفهوم الحديث أنّ أمّ المؤمنين السيدة عائشة هي الوحيدة من زوجات النبي التي كان ينزل الوحي عليه وهو نائم بجانبها في الفراش, والسبب ظاهر جليّ, وهو طهارتها وعفتها وعلوّ منزلتها, وفي هذا تأكيد لمكانتها السامية, ويؤيِّدُ هذا ما قاله الذهبي: "وهذا الجواب منه دال على أن فضل عائشة على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حبه لها، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها" .
التاسعة: أنّ فَضْلَها عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ, لقولِهِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ, وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ, وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ, وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ" , وَالْمُرَاد بِالْفَضِيلَةِ نَفْعُهُ, وَالشِّبَع مِنْهُ, وَسُهُولَة مَسَاغه, وَالِالْتِذَاذ بِهِ, وَتَيَسُّر تَنَاوُله, وَتَمَكُّن الْإِنْسَان مِنْ أَخْذ كِفَايَته مِنْهُ بِسُرْعَةٍ, وَغَيْر ذَلِكَ , وَكُلّ هَذِهِ الْخِصَال لَا تَسْتَلْزِم ثُبُوت الْأَفْضَلِيَّة لَهُ مِنْ كُلّ جِهَة؛ فَقَدْ يَكُون مَفْضُولاً بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهِ مِنْ جِهَات أُخْرَى .
وَالمَعنى أنَّ فَضْل عَائِشَة عَلَى النِّسَاء زَائِد كَزِيَادَةِ فَضْل الثَّرِيد عَلَى غَيْره مِنْ الْأَطْعِمَة, لأنّها أُعطيت حُسْن الخُلُق والخَلْق, وحلاوة النطق, وفصاحة اللهجة, وجودة القريحة, ورزانة الرأي, ورصانة العقل , ولكنّها بالجملة دون مريم وآسيا وخديجة وفاطمة, ولو أنّها فاقتهنّ ببعض الصفات, والله أعلم .
العاشرة: زَوْجَةُ نَبيّنا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, لقوله صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ جِبْرِيلَ جَاءَ بِصُورَتِهَا فِي خِرْقَةِ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" , "وَلَمَّا بَعَثَ عَلِيٌّ عَمَّارًا وَالْحَسَنَ إِلَى الْكُوفَةِ لِيَسْتَنْفِرَهُمْ خَطَبَ عَمَّارٌ فَقَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلَاكُمْ لِتَتَّبِعُوهُ أَوْ إِيَّاهَا" .
وهذا يقتضي أن تكون معه في الجنّة, وأي فضل وأي مكانة أسمى من أن يكون المرء مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة, وليس هناك منزلة أعلى منها وأجل, وفي هذا فضيلة ظاهرة لها رضي الله عنها.
الحادية عشرة: دعاؤُه صلى الله عليه وسلم لَهَا, يَقولُ صلى الله عليه وسلم: "اللهم اِغْفِرْ لعائشة مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهَا ومَا تَأخْرَ ومَا أسَرَّتْ ومَا أعْلَنَتْ"، فَضَحِكَتْ عائشة حتى سَقَطَ رأسها في حِجْرِهَا من الضَّحِكِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيَسُرُّكِ دُعَائِي؟", فقالت: وَمَا لِيِ لاَ يَسُرُّنِي دُعَاؤكَ؟ فقال: "والله إنَّهَا لَدَعْوَتِي لأمَّتِي في كُلِّ صَلاةٍ" , ولأنّها فضيلة جليلة كان فرح عائشة بها عظيماً, ودلّ ذلك سقوط رأسها في حجرها من شدة الضحك, فهي أمنيِةُ كل مؤمن ومؤمنة أنْ يدعوَ الرسول صلى الله عليه وسلم له.
الثانية عشرة: كَمَال عَقْلهَا وَصِحَّة رَأْيهَا مَعَ صِغَر سِنّهَا.
ظهرت عبقريتها منذ نعومة أظفارها في كلّ ما يصدرُ عنها من أعمال وأقوال وحركات، تنبؤُ عن مستقبل باهر ودور عظيم, ومن ذلك ما رواه أبو داوود عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَوْ خَيْبَرَ وَفِى سَهْوَتِهَا سِتْرٌ؛ فَهَبَّتْ رِيحٌ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ؛ فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ قَالَتْ: بَنَاتِى, وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ؛ فَقَالَ: "مَا هَذَا الَّذِى أَرَى وَسْطَهُنَّ؟ قَالَتْ: فَرَسٌ. قَالَ: "وَمَا هَذَا الَّذِى عَلَيْهِ". قَالَتْ: جَنَاحَانِ. قَالَ: "فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ؟. قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلاً لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ قَالَتْ: فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ , ويظهر لك من خلال هذه المشاهد أنّك أمام شخصية حاذقة ماهرة.
ومن العجب أنْ تحوز عائشة كلَّ هذه الفضائل والمناقب قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم, أي قبل أن تبلغ ثمانية عشرة سنة, ومعنى هذا أنّنا نتحدث عن امرأة صغيرة في عمرها كبيرة في شخصيتها, ثمّ هي تحتلُّ كلّ هذه المساحة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم, تقول رضي الله عنها: "كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي؛ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي" ؛ وتأمّلها وهي تلعب مع البنات الصغيرات في بيت أشرف الخلق, ومع هذه الطفولة تتميّز بكل تلك المميّزات.
وحين تقرأ نقاشها مع رسول الله ومع والديها, حول قضية الإفك يغيب عنك أنّ المُتحدثة إنّما هي فتاة بنت اثنتي عشرة سنة, وتوفي عنها النبي صلى الله عليه وسلم وهي ما زالت في مقتبل العمر, ودلّ على حداثة سنّها قولُها: "مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي, وَفِي دَوْلَتِي, لَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا؛ فَمِنْ سَفَهِي وَحَدَاثَةِ سِنِّي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قُبِضَ وَهُوَ فِي حِجْرِي ثُمَّ وَضَعْتُ رَأْسَهُ عَلَى وِسَادَةٍ وَقُمْتُ أَلْتَدِمُ مَعَ النِّسَاءِ وَأَضْرِبُ وَجْهِي" . وحين خيّر الرسول صلى الله عليه وسلّم نساءه, قَالَ لعائشة: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ" , قالت عائشةُ: "خشي حداثة سني" , ولكنّها اختارته صلى الله عليه وسلّم دون مشاورة, وَفِي هذا مَنْقَبَة عَظِيمَة لِعَائِشَةَ وَبَيَان كَمَال عَقْلهَا وَصِحَّة رَأْيهَا مَعَ صِغَر سِنّهَا , ويؤيّد هذا المعنى قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين تخاصمت زينب وعائشة - فقال:" إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ" , وهذه إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى كمال فهمها وحسن نظرها .
وحداثة سنّها رضي الله عنها يُفسر لنا كثيراً من تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم معها, لأنّ الحكمة تقتضي أنْ يُراعى السنّ في المعاملات بين النّاس, و"العاقل إذا خلا بزوجاته وإيمائه ترك العقل في زاوية, وداعب ومزاح وهازل ليعطي النفس والزوجة حقهما، وإن خرج لأطفاله خرج في صورة طفل" , ولنا في معاملة رسول الله لعائشة أُسوة حسنة؛ فقد روت رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ. قَالَتْ: فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ؛ فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي, فَقَالَ: "هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ" , وهذا يدل على كمال أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وحسن عشرته لأهله .
المبحث الثاني
الفضائل غير المباشرة للسيدة عائشة رضي الله عنها
وهي الفضائل التي تعلّقت بأمّهات المؤمنين رضي الله عليهنّ, وكذلك ما جاء في آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكل ذلك تدْخُلُ فيه عائشةُ دخولاً أوّليّاً, ولأنّها فضائلُ يصعب حصرها فسأذكر أشهرها وأعظمها.
أَوّل فضيلة لهنّ أَنهنّ أُمهاتُ المؤمنين وكفى بها فضيلة أنْ تكون امرأة أمّاً لكل مؤمن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, يقول تعالى: "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم ", وهي أُمومة يترتب عليها الاحترام والإجلال والفخر بالانتساب, ووجوب المحبة والتقدير, والقيام بواجب النُّصْرَة وما يجب من الموالاة والاستغفار لهن, وذكر مدائحهن, وحسن الثناء عليهن ما على الأولاد في أمهاتهن اللائي ولدنهم, وأكثر لمكانتهن من رسول الله صلى الله عليه. ولهذا حُرِّمَ على المؤمنين الزواج منهن؛ كما يحرمُ على الولد الزواج بأمه , ودليلُنا قوله تعالى: "وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا" .
ثمّ ليس هناك أمهات أشرف من نساء اختارهنّ الله ورسوله؛ فنلنَّ بذلك شرفًا بالغًا عظيمًا, وشأنًا ومكانةً كبيرة, وتميّزن عن نساء العالمين, وصرن بذلك أفضل وأكمل من غيرهن, ولسن كسائر النساء بل أحسن وأطيب وأكمل, قال تعالى: "يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء"؛ فبزواج النبي منهم نلن تلك الفضيلة, وتبوأن تلك الدرجة السامية الباسقة الرفيعة, التي لم تتحقق لأحد من النساء غيرهن رضي الله عنهن .
والذي يظهر أنهنّ أمهات الرجال والنساء تعظيماً لحقهنّ على الرجال والنساء سواء , وذلك في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام، ولكن لا يجوز الخلوة بهنّ، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع ؛ ويدلّ له قوله تعالى: "وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ"؛ لأن الإنسان لا يسأل أُمّه الحقيقية من وراء حجاب. وقوله تعالى: "إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ"، ومعلوم أنهن رضي اللَّه عنهن، لم يلدن جميع المؤمنين الذين هن أمهاتهم .
الثانية: أنّهنّ لَسْنَ كأحد من النساء , أي لستن كجماعة من جماعات النساء, ولو تَقَصَّيْت أمة النساء ، جماعةً جماعةً ، لم توجد منهن جماعة واحدة تُساويكن في الفضل؛ فكما أنه عليه الصلاة والسلام ليس كأحد من الرجال, كذلك زوجاته اللاتي شرُفن به فهنّ أفضل النّساء وأشرفهنّ, لكونكن أمهات جميع المؤمنين, وزوجات خير المرسلين .
يقول تعالى: "يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ" , أي في الفضل والمنزلة, ولعظيم شأنهنّ قال الله في حقهنّ: " يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا, وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا" , أي يُضَاعَف لَهَا الْعَذَاب عَلَى فُجُورهَا فِي الْآخِرَة ضِعْفَيْنِ عَلَى فُجُور أَزْوَاج النَّاس غَيْرهمْ, ومن تطعْ وتعملْ صالحاً يُعْطِهَا اللَّه ثَوَابَ عَمَلهَا مِثْلَيْ ثَوَاب عَمَل غَيْرهنَّ مِنْ سَائِر نِسَاء النَّاس .
وفي هذا دليل على أنَّ مَنْ عظُمَت منزلته ودرجته عند الله فإنه يضاعف له أجره عمله, كما أنّ "َشَرَفُ الْمَنْزِلَةِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَثَرَاتِ؛ فَإِنَّ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ, وَتُرْفَعُ مَنْزِلَتُهُ عَلَى الْمَنَازِلِ جَدِيرٌ بِأَنْ يَرْتَفِعَ فِعْلُهُ عَلَى الْأَفْعَالِ, وَيَرْبُوَ حَالُهُ عَلَى الْأَحْوَالِ" , وذلك لسببين: الأول: لأنهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وزوجاته في الآخرة, والثاني: لأنهنَّ أيضاً أمهات المؤمنين .
الثالثة: أنّهنّ مُطهرات
وهي من أعظم الفضائل التي تشمل السيدة عائشة رضي الله عنها, وهي أنْ تكون إرادة الله في تطهير آل البيت تطهيراً كاملاً, يقول تعالى: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" , والآية دليل على أنّ أزواجه من آل بيته , لأنهنّ سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح , ثمّ إنّ قرينة السياق صريحة في دخولهنّ .
وَإِنَّمَا قَالَ: "عَنْكُمْ" بِلَفْظِ الذُّكُورِ لأَنَّهُ أَرَادَ دُخُولَ غَيْرِهِنَّ مَعَهُنَّ في ذَلِكَ, ثُمَّ أَضَافَ الْبُيُوتَ إِلَيْهِنَّ فَقَالَ: "وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى في بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ" , ولأنّ أهل البيت يشملهن ويشمل غيرهن، وهذا التطهير لهن ولغيرهن، ولهذا جاء في السنة بيان أنّ علياً وفاطمة والحسن والحسين من أهل البيت .
وأما ما ورد في صحيح مسلم عن عائشة أنّها قَالَتْ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ؛ فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ, ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ, ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا, ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ, ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" ، فهذا لا ينفي ما أثبته القرآن من كون أزواجه رضي الله عنهن من آله، فإن التخصيص لا يلغي ما دل عليه النص السابق، ولا يعني هذا نفي الحكم والوصف عن غيرهم ؛ ولأنّه تعليل لما تضمنته الآيات السابقة من أمر ونهي ابتداء, والمعنى أنّ الله أمركنّ بما أمر, ونهاكنّ عما نهى, لأنّه أراد لَكُنَّ التخلية عن النقائص والتحلية بالكمالات, وهذا التعليل وقع معترضا بين الأوامر والنواهي المتعاطفة في الآيات .
والمعنى أنّنا إنما أمرناكن ونهيناكن إرادة إِذهاب الدنس والإِثم عنكم, إبقاءً على طهركن يا أهل البيت النبوى, وتطهيركم تطهيراً كاملاً من كل دنس وشائبة، وسوء خلق، مما ينتقص من النساء، ولابد أن يكن كذلك؛ لأنهن فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم , وإنّما استعار للذنب الرجس, وللتقوى الطُهر؛ لأن عِرض المقترف للمستقبحات يتلوث بها كما يتلوث بدنه بالأرجاس, وأما مَن تحصّن منها فعرضه مصون, نقي كالثوب الطاهر, وفيه تنفير لأُولي الألباب عن كل ما يدنس القلوب من الأكدار, وترغيب لهم في كل ما يطهر القلوب والأسرار, من الطاعات والأذكار .
ا |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: مآثِرُ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا الثلاثاء 14 يونيو 2011, 7:45 pm | |
| الزُّهْـد: روى البخاري عنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ عنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَلَيْهَا دِرْعُ قِطْرٍ ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ؛ فَقَالَتْ: ارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى جَارِيَتِي, وانْظُرْ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّهَا تُزْهَى أَنْ تَلْبَسَهُ فِي الْبَيْتِ, وَقَدْ كَانَ لِي مِنْهُنَّ دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا أَرْسَلَتْ إِلَيَّ تَسْتَعِيرُهُ" , وَفِي الحديث دليلٌ على تَوَاضُعِ عَائِشَة رضي الله عنها، فهي تلبس ما يأبى الخدمُ أن يلبسوه, وَأَمْرُهَا فِي التواضعِ مَشْهُور, وَفِيهِ حِلْمُ عَائِشَة عَنْ خَدَمِهَا وَرِفْقُهَا فِي اَلْمُعَاتَبَةِ, وَإِيثَارُهَا بِمَا عِنْدَهَا مَعَ اَلْحَاجَةِ إِلَيْه .
وقال عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَقْسِمُ سَبْعِينَ أَلْفًا وَهِيَ تُرَقِّعُ دِرْعَهَا , فأيّ زهد أبلغ من هذا, يجتمع المال بين يديها فتنفقه, ثمّ تكتفي بثوب مرقّع؛ وهي رضي الله عنها "لاَ تُمْسِكُ شَيْئًا مِمَّا جَاءَهَا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ إِلَّا تَصَدَّقَتْ" , ويُروى "أَنَّهَا سَاقَتْ بَدَنَتَيْنِ فَضَلَّتَا؛ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ بَدَنَتَيْنِ مَكَانَهُمَا فَنَحَرَتْهُمَا, ثُمَّ وَجَدَتِ الأُولَتَيْنِ فَنَحَرَتْهُمَا أَيْضًا, ثُمَّ قَالَتْ: هَكَذَا السُّنَّةُ فِي الْبُدْنِ .
الإِيثَــار :
لمّا طُعن أميرُ المؤمنين عمر, وآلت حالُه إلى ما آلت إليه, قال لابنه عبد الله: "انْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلَامَ, وَلَا تَقُلْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ الْيَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا, وَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ؛ فَسَلَّمَ – أي عبد الله - وَاسْتَأْذَنَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي؛ فَقَالَ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السَّلَامَ, وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ؛ فَقَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي, وَلَأُوثِرَنَّ بِهِ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي؛ فَلَمَّا أَقْبَلَ – أي ابنه – قِيلَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَدْ جَاءَ. قَالَ: ارْفَعُونِي؛ فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِ؛ فَقَالَ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, أَذِنَتْ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ, مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ, فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ فَاحْمِلُونِي, ثُمَّ سَلِّمْ فَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَأَدْخِلُونِي, وَإِنْ رَدَّتْنِي رُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِين" .
فيا لهُ من إيثار, أنْ تخصُّ أمير المؤمنين بما سألَ من الدفن عند النبي صلى الله عليه وسلم وتترك نفسها, وهو فضيلة سامية اتصفت بها أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها, وفيه دليل على كمال إيمانها وحسن طويّتها ورفعة أخلاقها, وطهارة قلبها, وكريم شيمها, ولها رضي الله عنها في هذا الميدان مشاهد كثيرة, وإنّما ذكرت هذا الحدث لأنّه أعلاها وأعظمها.
عبـادتها: وهي رضي الله عنها الصّوامة القوّامة, فعَنْ عُرْوَةَ : أَنَّ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَصُومُ الدَّهْرَ فِى السَّفَرِ وَالْحَضَرِ , وعنه قال: كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة أسلم عليها؛ فغدوت يوما فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ "فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم", وتدعو وتبكي وترددها؛ فقمت حتى مللت القيام, فذهبت إلى السوق لحاجتي, ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي .
ودخل عليها عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهِيَ صَائِمَةٌ وَالْمَاءُ يُرَشُّ عَلَيْهَا؛ فَقَالَ لَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَفْطِرِي؛ فَقَالَتْ: أُفْطِرُ؟ وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ الْعَامَ الَّذِي قَبْلَهُ" .
وهذا قليل من كثير, أردتُ بذكره الإشارة إلى عظيم أخلاقها, وحسن طويّتها رضي الله عنها, وإلاّ فلها في كل أبواب الخير يدٌ طولى رضي الله عناه وأرضاها.
الفصل الثاني مساهمتها في الحياة الإسلامية
أدرجتُ هذا الفصل في بحثي لأنّ المساهمة في الحياة عموماً وفي البناء الإسلامي على وجه الخصوص من الفضائل التي يُمدحُ بها الإنسان, وعليه فإنّ مساهمتها رضي الله عنها في البناء الإسلامي من أجلِّ الفضائل والمناقب, ودلّ على ذلك قولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ" , وقولُه: "الْمُسْلِمُ إِذَا كَانَ مُخَالِطًا النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنْ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ" , والمخالطة نوعٌ من التفاعل مع المجتمع والناس.
إنّ من أعظم مناقبها رضي الله عنها مساهمتها الكبيرة في الحياة الإسلامية, وفي نشوء المجتمع الإسلامي, وهي من الأوائل الذين شاركوا في بناء أسس وقواعد الأمة الإسلامية, فقد وُلدت في بيت إيمانيّ متميّز في حمْلِ الدعوة؛ وشاهدت منذ نعومة أظفارها تفاصيل الحركة الإسلامية الناشئة وتفاعلت معها, تقول رضي الله عنها: "لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ, وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً, ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ, فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ, وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ؛ فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ" , وهذا يعني أنّ عائشة وُلدتْ معَ المحاولات الأولى, والمجاهدات العظمى في مكّة, فتشربت القيم والمعاني الإسلامية مباشرة دون حجاب. وكان لها دور في الهجرة؛ فهي من المهاجرين الأولين, وكان دورها في الهجرة محدوداً لأنّها كانت دون ست سنوات من عمرها, ولكنّها مع ذلك شاركت أختها الكبيرة أسماء في تجهيز الطعام للنبي صلى الله عليه وسلم وأبيها وهما في الغار عند الهجرة .
وبعد أن استقر مقام المسلمين في مدينة رسول اللَّه, أرسل أبو بكر الصديق إلى ابنه عبد اللَّه يطلب منه أن يهاجر بأهل بيته؛ فاستجاب عبد اللَّه بن أبى بكر ومضى بهم مهاجرًا، وفى الطريق هاج بعير عائشة فصاحت أم رومان: وابنتاه واعروساه, ولكن اللَّه لطف، وأسرع الجميع إلى البعير ليسكن, ونزلت السيدة عائشة مع أهلها في دار بني الحارث بن الخزرج .
وانظر إلى تلك الطفلة الصغيرة التي ساهمت في تجهيز الطعام, ثمّ هي اليوم تهاجر مع المؤمنين إلى المدينة المنورة؛ فهي مساهمة ومشاركة في خدمة الدين منذ أن فتحت عينيها على الحياة, وهذا من أعظم المناقب والفضائل.
ثمّ ترقّت في مساهماتها ومشاركاتها بعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكمال نضوجها العقلي والجسمي, ممّا أهلها بسبب تلك العوامل الذاتية والموضوعية لمساهمة أكبر وأوسع كان لها التأثير الواضح في تاريخ الإسلام وحتى يومنا هذا.
وحجم المساهمة في هذه الحياة يعتمد على قدرات الشخص ومؤهلاته, والحقيقة التي لا ريب فيها أنّ السيدة عائشة رضي الله عنها كانت على مستوى شامخ من العلم والمعرفة يسعفها في ذلك ذاكرة حادة وذكاء لامع، فهي على جانبٍ عظيم من الدراية بأسرار الأحكام الشرعية, بالإضافة إلى معرفتها بالأمور الاجتماعيَّة والسياسية, وأهم من ذلك أنّها تربّت في بيئة ساعدتها على القيام بتلك المساهمات الجليلة, سواء وهي في بيت أبيها, أو وهي في بيت زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاجتمع لها المؤهلات والقدرات والبيئة المناسبة.
لذلك كانت مساهماتها في كلّ مناحي الحياة الإسلامية, ومن ذلك مشاركتها في الغزوات, روى البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ الْقِرَبَ, وَقَالَ غَيْرُهُ: تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ, ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلَآَنِهَا, ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهَا فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ .
وهي رضي الله عنها مساهم أساسي في البناء الاجتماعي الإسلامي, فهي أكثر من روى في شؤون الأسرة والحياة الزوجية, لكنّها مع كل تلك المساهمات الجليلة اشتهرت في مساهمتين أساسيتين, هما: المساهمة العلمية, والمساهمة السياسية.
المبحث الأول
مساهمتها العلمية
لقد حازت رضي اللَّه عنها علمًا غزيرًا صافيًا من نبع النبوة الذي لا ينضب، فكانت "من أكبر فقهاء الصحابة, وأحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية. روي لها ألفا حديث ومائتا حديث وعشرة أحاديث. اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثا, وانفرد البخاري بأربعة وخمسين ومسلم بثمانية وخمسين. روت عن خلق من الصحابة, وروى عنها جماعات من الصحابة والتابعين قريب من المائتين" , وتخرج من مدرسة أم المؤمنين عائشة عددٌ كبير من سادة العلماء ومشاهير التابعين، ومسند الإمام أحمد بن حنبل يضم في طياته أكبر عدد من مروياتها رضي الله عنها.
وكانت بحرًا زاخرًا في الدين، وخزانة حكمة وتشريع، وكانت مدرسة قائمة بذاتها، وكبيرة محدثات عصرها, ونابغته في الذكاء والفصاحة والبلاغة، فكانت عاملا كبيرا ذا تأثير عميق في نشر تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد ورد عن أبى موسى رضى اللَّه عنه أنّه قال: "مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا" , وقيل: أنّها أفقه النساء مطلقًا , بلا نزاع في ذلك بين أهل العلم, يقول الذهبي: "ولا أعلم في أمه محمد صلى الله عليه وسلم، بل ولا في النساء مطلقا، امرأة أعلم منها" .
وقد استقلت بالفتوى رضي الله عنه, وحازت على هذا المنصب الجليل المبارك منذ وفاة النبي رضي الله عنها، وأصبحت مرجع السائلين ومأوى المسترشدين، وبقيت على هذا المنصب في زمن الخلفاء كلهم إلى أن وافاها الأجل, وشهد بعلمها كبار الصحابة؛ فهذا علي يقول: "لقد علم أولوا العلم من آل محمد, وعائشة بنت أبي بكر فسألوها أنّ أصحاب ذي الثدية ملعونون على لسان النبي الأمي صلى الله عليه وسلم" , وكان الصحابة إذا أشكل الأمر عليهم من الدين، استفتوها فيجدون علمه عندها .
وشهد لها أهل التحقيق بالتقدم والإصابة , يقول الإمام الزُهري : "لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين, وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل" , وقال عطاء بن أبي رباح: "كانت عائشة من أفقه الناس وأحسن الناس رأيا في العامة" , وقيل لمسروق: هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ فقال: "والذي نفسي بيده لقد رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض" , وعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْصَحَ مِنْ عَائِشَةَ" .
ومن الجدير ذكره أنّ كثيراً من الأحكام الشرعية التي عرفناها من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وخاصة تلك التي تخص النساء إنما عُرِفَت من أحاديث روتها السيدة عائشة رضي الله عنها؛ فلأم المؤمنين دورٌ مميّز في هذا المجال, لأنّ النساء حين يسألن النبي عليه الصلاة والسلام عن موضوعاتٍ تخصُّ حالَهن يسألنه غالباً وهو في بيته وبين نسائه، وأفضل من ينقل تلك الأحكام الشرعية المتعلِّقة بالمرأة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم؛ ولهذا كان لها دورٌ كبير في الدعوة .
وقد اشتغلت بالفتوى من خلافة أبي بكر إلى أن توفيت, وكانت عائشة تفتي في عهد عمر وعثمان إلى أن ماتت , ولم تكتفِ رضي الله عنها بما عرفت من النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما اجتهدت في استنباط الأحكام للوقائع التي لم تجد لها حكماً في الكتاب أو السنة، فكانت إذا سئلت عن حكم مسألة ما بحثت في الكتاب والسنة، فإن لم تجد اجتهدت لاستنباط الحكم، حتى قيل: إنّ ربع الأحكام الشرعية منقولة عنها .
ولمْ لمْ يكنْ لعائشة إلاّ هذه المنقبة العظيمة لكفاها فخراً, ولجعلها تتبوأ المقام السامي والمنزلة الرفيعة؛ فكم من مسلمٍ نفعتْ, وكم من مفسدةٍ درأتْ, بنشرها ذلك العلم الجليل, وهذا ما جعل ابن القيم رحمه الله حين عقد مفاضلة بين عائشة وفاطمة رضي الله عنهنّ, أن يقول: "وإن أريد بالتفضيل التفضل بالعلم؛ فلا ريب أنّ عائشة أعلم وأنفع للأمة, وأدت إلى الأمة من العلم ما لم يؤد غيرُها, واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها" .
وفي هذا تأكيدٌ لدور المرأة في المعرفة والعلم والحياة, وهي دعوة للتأسي بأمّ المؤمنين, وهي التي كانت تقول: "رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن" ؛ فدعوة المرأة للعلم ليست دعوة للانحلال والسفور, وإنّما هي دعوة لما يُعينها على النهوض بوظيفتها في هذه الحياة, ويجعلها أقدر على القيام بمسؤولياتها, وفي هذا مفخرة للدّين الذي خرج هذا النموذج الباهر .
مَنْـهَجُهَا العَـلْمِي
اعتمدت في منهجها الرجوع إلى القرآن والسنّة النبوية, وساعدها في ذلك تلقيها للوحيين مشافهة من فم رسول الله, ثمّ اتكأتْ على القياس وإلحاق النظير بالنظير, وامتاز منهجها العلمي بعدة ميّزات وخصائص, أهمها:
الأولى: الحياء ليس مانعاً من موانع العلم, ودلّ على هذا قولُها: "نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ, لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ" , وعن عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: اخْتَلَفَ رَهْطٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ, فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّونَ: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ إِلَّا مِنْ الدَّفْقِ أَوْ مِنْ الْمَاءِ, وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: بَلْ إِذَا خَالَطَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ. قَالَ أَبُو مُوسَى: فَأَنَا أَشْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ, فَقُمْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَأُذِنَ لِي؛ فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّاهْ, إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ؛ فَقَالَتْ: لَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ. قُلْتُ: فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ قَالَتْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ" , والشواهد كثيرة, واقتصر على ما يكفي للدلالة على منهجها.
الثانية: الأسلوب الاستدلالي , ويكفي أنْ أسوقَ مثالا واحدا للدلالة على قدرتها الفائقة في جمع الأدلة واستنباط الأحكام منها, بأسلوب دقيق وفهم عميق, فقد روى الترمذي عن مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ؛ فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ, وَاللَّهُ يَقُولُ: "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ", "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ".
وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تُعْجِلِينِي, أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى", "وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ". قَالَتْ: أَنَا وَاللَّهِ أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَنْ هَذَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ مَا رَأَيْتُهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ, يَقُولُ اللَّهُ: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولَ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ".
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ, وَاللَّهُ يَقُولُ: "قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ" .
الثالثة: الأسلوب الاستفهامي, وهو أسلوب يدلّ على ذكاء صاحبه, وكانت رضي الله عنها تتمتع بحسن السؤال والاستفسار والمحاورة, ومن ذلك قولُها: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ" أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: "لَا, يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ, وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ, وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ, أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ" .
وَسَأَلْتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ", فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "عَلَى الصِّرَاطِ" , والناظر في أسئلتها يُدرك أنّ ميّزات هذه الشخصية الواعية المدركة.
وتأمّل حوارها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة الحساب والعرض حين سمعته قولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ". قَالَتْ: "أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا", فَقَالَ: "إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ, وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ" , وَفي الحديث دلالة على ذكاء عائشة, وفِيهِ جَوَاز الْمُنَاظَرَة وَمُقَابَلَة السُّنَّة بِالْكِتَابِ .
الرابعة: القياس والمنطق العقلي
والمنطق عندها ليس متحرراً من القرآن والسنّة, بل مبنيٌّ عليهما, ومثال ذلك أنّهُ ذُكِرَ عِنْدَهَا أنَّ مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ؛ فَقَالَتْ: "شَبَّهْتُمُونَا بِالْحُمُرِ وَالْكِلَابِ, وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً, فَتَبْدُو لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ فَأُوذِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْسَلُّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ" ؛ فالمنطق العقلي يأبى أنْ تُشبه المرأة بالحمير والكلاب .
وَذُكِرَ عِنْدَها رضي الله عنها قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَتْ: "رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَحْفَظْهُ, إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ, فَقَالَ: أَنْتُمْ تَبْكُونَ وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ" أيْ "إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ, وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ" , وهذا منطقٌ سليم, لأنّ البكاء عملُ الآخرين, والله سبحانه يقول: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْر أُخْرَى".
ولمّا سمعت بقول أبي هريرة "من غسل ميتا اغتسل, وَمن حمله توضأ", قالت رَضِيَ اللهُ عَنْهُا: "أََوَنَجَّسَ موتى الْمُسْلِمِيْنَ؟ وما عَلَى رَجُل لَوْ حمل عودا" , وهذا الكلام منها يعتمد المنطق والقياس, وكأنّها تقول: إنّ المنطق يأبى نجاسة المسلم, ولا يوجب غسلاً لحملِ عود.
وفي ختام هذا المبحث المُختصر جداً, أُنبّه على أنّني أتحدث عن فقيهة الأمة, فهي راوية كبيرة للحديث, ومفسرة للقرآن, وأديبة خطيبة فصيحة, وما نُقلَ عنها من علم أكثر من أن يُحصى, ولكنّني ذكرتُ لمحة موجزة منه للدلالة على منقبة من مناقبها الجليلة.
المبحث الثاني
مساهمتها السياسية
وأقصد بالسياسة هي تلك الإجراءات والنّظم التي تؤدي إلى اتخاذ قرارات في شؤون المجتمع الخاضع لها, وكيفية تنفيذها , فكل نشاط يؤثر في تلك القرارات هو نشاط سياسي, وفي ضوء هذا المفهوم السياسي فإنّ للمرأة في الإسلام دور سياسي ملحوظ منذ بداية الدعوة, والشواهد على ذلك كثيرة.
لقد كانت بيعة النساء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إحدى الشواهد الأساسية على دور المرأة المحوري في العمل السياسي؛ فالبيعة ترتبط مباشرة في مسألة الحكم والحاكم والرعية, ولها بعد تعبديّ يرتبط بالولاء والالتزام والطاعة؛ فهو دور أساسي لا يُمكن لأحد أن يتجاهله, وهكذا سار الأمر في بيعة الخلفاء؛ فالنساء كالرجال سواء يبايعنّ وليّ الأمر.
فالحديث عن مساهمة أمّ المؤمنين في الحياة السياسية ينسجم تماماً مع هذه الرؤية لدور المرأة السياسي في الإسلام, ولكن قدْ يكون الدور مختصراً أو متسعا تبعاً للظروف والأحوال, وسأعرض لبعض أدوارها ومواقفها السياسية رضي الله عنها, والتي تؤكد عظمة أمّ المؤمنين, ومدى تأثيرها الإيجابي في الحياة السياسية الإسلامية, وتؤكد – أيضاً - حقيقةَ أنّ المرأة مشاركٌ أساسي في السياسية.
وما كان لهذه الشخصية الكبيرة أن تغيب عن مشهد الأحداث, وخصوصاً إذا كانت الأحداث جسام, يدفعها إلى ذلك الشعور بالواجب المُلقى على عاتقها, ثمّ الإحساس بالقدرة على التأثير والتغيير والإصلاح, يقولُ صلى الله عليه وسلم: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ". قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: "لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ" , والنَّصِيحَة لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ في مُعَاوَنَتهمْ عَلَى الْحَقّ وَطَاعَتُِهِمْ فِيهِ وَأَمْرِهِمْ بِهِ, وَتَنْبِيههمْ وَتَذْكِيرهمْ وَإِعْلَامهمْ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ وَلَمْ يَبْلُغهُمْ مِنْ حُقُوق الْمُسْلِمِينَ .
دورها السياسي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
المرأة حين تتكامل شخصيتها لا تكتفي بالمهمات السهلة, ونحن هنا أمام زوجة النبي, وأمام زوجة الحاكم الأعلى للدولة؛ فمهمتها ووظيفتها تتناسب مع الموقع الذي تشغله, فالراحة النفسية للزوج في بيته أساسُ في نجاحه وتفوقه وتفرغه للمسؤوليات المُلقاة على عاتقه, وهي رضي الله عنها وفّرت هذا الإسناد, والشواهد التي ذكرتُها في مناقبها كثيرة.
لم يقتصر دورها على الإسناد النفسي, والرضا بشظف العيش وقسوته, بل ساندته في غزواته, واسْتَأْذَنْتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِهَادِ؛ فَقَالَ: "جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ" , وشاركت في الخندق وأحد, وكلُّ ذلك ضمن وظيفتها المساندة للقائد العام للقوات الإسلامية .
دورها السياسي في عهد الشيخين
لم يكن للسيدة عائشة دور سياسي مُمَيّز عن باقي النساء لا في عهد النبوة, ولا في عهد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما, واقتصر دورها الخاص المُميّز في عهد الشيخين في الإجابة عن الاستفسارات الشرعية فيما يخصّ النساء غالباً, وبقي الحال على ما هو عليه الشطرَ الأول من خلافة عثمان رضي الله عنه.
كان الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرجعون إلى قولها , وكانوا يجلسون قرب حجرتها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم, ويستفتونها في الأمور الدينية, وكانت السيدة عائشة تفتي وتدرس وتبلغ وهي جالسة في حجرتها التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وسلم .
موقفها من بعض سياسات عثمان رضي الله عنه
تتحدث كثير من الروايات, وهي في مجموعها تُعطينا حقيقة مُؤكدة مفادها أنّ الصحابة اعترضوا على بعض سياسات عثمان, وخصوصا في الشطر الأخير من ولايته عليهم , ودون الخوض في تفاصيل تلك الاعتراضات كانت عائشةُ من أولئك المعترضين , ومن هنا كان أول ظهور سياسي مميز ومهم جداً للسيدة عائشة رضي الله عنها.
ولا يُمكن فهم موقف السيدة عائشة السياسي في تلك المرحلة بعيدًا عن فهم الفتنة نفسها وأحداثها ورجالها وظروفها، إذ لا يمكن عزلها ومحاكمتها وكأنّها خارج الظرف, وإنّما يجب النّظر لموقف عائشة من خلال الفهم العام للفتنة, ولهذا لا يختلف موقف عائشة عن موقف عليّ على وجه الخصوص من عثمان قبل مقتله , وكذلك بقية أمّهات المؤمنين.
ولأنها فتنة وجبَ تحقيق الروايات, وردّ المتشابه إلى المحكم, فالمحكم هو ما أكّدته النصوص الكثيرة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, والتي تشهد بعدالة الصحابة وورعهم وتقواهم, وأنّ الله رضي عنهم ورضوا عنه, وكذلك أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها, فهي من تلك الثلة المختارة المشهود لها بالورع والتقوى, بل ويُضاف لها ما ورد في القرآن والسنة بخصوصها من فضائل كما قدمتُ سابقاً.
واستناداً لتلك الحقائق النهائية والمطلقة؛ فإنّ أي رواية تتناقض مع تلك الحقائق هي رواية مردودة, وحين النّظر ببعض تلك الروايات تعلم علم اليقين أنّها مكذوبة موضوعة, ومنها تلك الرواية التي تقول أنّ السيدة عائشة أمرت بقتل عثمان؛ وقالت: "اقتلوا نعثلاً" تعني به عثمان, وهي رواية كذبها المحققون .
موقفها من القِصاص من قتلة عثمان
ليس هنا مساحة متاحة للحديث عن التفاصيل التي وقعت, ولكنّني أُحاول تلخيص موقف أمّ المؤمنين السياسي في تلك الفترة, وهو أنّها رأت رأياً مخالفاً لموقف عليّ رضي الله عنه بخصوص القصاص من قتلة عثمان؛ مع إجماعهم رضوان الله عليهم على وجوب القصاص من قتلة عثمان, ولكنّهم اختلفوا في التوقيت والآليات الممكنة للوصول إلى تلك الغاية.
يقول ابن حجر: "وَالْعُذْر فِي ذَلِكَ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا كَانَتْ مُتَأَوِّلَة – أي قوله تعالى: "وَقَرْن فِي بُيُوتكُنَّ" - هِيَ وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر, وَكَانَ مُرَادهمْ إِيقَاع الْإِصْلَاح بَيْن النَّاس وَأَخْذ الْقِصَاص مِنْ قَتَلَة عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ, وَكَانَ رَأْي عَلِيّ الِاجْتِمَاع عَلَى الطَّاعَة وَطَلَب أَوْلِيَاء الْمَقْتُول الْقِصَاص مِمَّنْ يَثْبُت عَلَيْهِ الْقَتْل بِشُرُوطِهِ" , وكان تأويلُها مقبولاً, لأنّ الآية لا تمنع الخروج مطلقاً, كخروجها للحج, وهي هنا – كخروجها للحج - خرجت من أجل الإصلاح بين الناس .
وقد أخطأت رضي الله عنها في اجتهادها كما أخطأ معها طلحة بن عبيد الله, والزبير بن العوام وهما من سادة الصحابة, ودلّ على خطأ اجتهادها ما ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم, من ذلك قولُه صلى الله عليه وسلم: "أَيَّتُكُنَّ صَاحِبَة الْجَمَل الْأَدْبَب تَخْرُج حَتَّى تَنْبَحهَا كِلَاب الْحَوْأَب, يُقْتَل عَنْ يَمِينهَا وَعَنْ شِمَالهَا قَتْلَى كَثِيرَة, وَتَنْجُو مِنْ بَعْدِمَا كَادَتْ" .
ويظهر لنا من كلام أمّ المؤمنين أنّها ندمت على موقفها السياسي في كيفية أخذ القصاص من قتلة عثمان, وما تبعه من أحداث مؤلمة, ومن ذلك قولُها: وددتُ أني لو كنت جلست كما جلس صواحبي, حينَ ذُكِّرَتْ بيوم الجمل , وكانت إذا قرأت: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ" بكت حتى تبلّ خمارها, وتقول: يا ليتني كنت نسيا منسيا, وما ذاك إلا لأنّ قراءتها تذكرها الواقعة التي قتل فيها كثير من المسلمين , "ولا ريب أنّها رضي الله عنها ندمت على مسيرها إلى البصرة, وحضورهما يوم الجمل، وما ظنت أنّ الأمر يبلغ ما بلغ" .
وفي موقفها السياسي هذا تظهر فضيلتان لهذه السيدة العملاقة, وهما:
الأولى: الصدق, فهي التي روت أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهنَّ ذَاتَ يَوْم: "كَيْف بِإِحْدَاكُنَّ تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَاب الْحَوْأَب" , مع أنّ الحديث قدْ يُشكلُ لها حرجاً سياسياً, ولو شاءت لكتمته, وما علمَ به أحد.
الثانية: إظهار النّدم, وهو دليلٌ على مراجعتها لما فعلت, وهي منقبة قليل فاعلها, فكم من مخطىء مصر على خطأه, يلهث وراء التبريرات والذرائع وخصوصاً في عالم السياسة؛ في لا تتردد في إطهار ما يجول في نفسها من الحق.
موقفها من الخوارج
التزمت أمّ المؤمنين بيتها, وكأنها اعتزلت أمر السياسة بعد معركة الجمل, وظنّي أنّها دُهشت لهول ما صارت إليه الأمور, ومع ذلك ظهرت لها بعض المواقف التي تخصُّ الوضع السياسي القائم في عهد عليّ رضي الله عنه, ومن ذلك موقفها من الخوارج؛ فهي على ما يبدو تكره هذه الفئة وتمقتها.
روى مسلم عن عُرْوَة قَالَ: قَالَتْ لِي عَائِشَةُ: "يَا ابْنَ أُخْتِي, أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبُّوهُمْ" , وَالظَّاهِر أَنَّهَا قَالَتْ هَذَا عِنْدَمَا سَمِعَتْ أَهْل مِصْر يَقُولُونَ فِي عُثْمَان مَا قَالُوا, وَأَهْل الشَّام فِي عَلِيّ مَا قَالُوا, وَالْحَرُورِيَّة فِي الْجَمِيع مَا قَالُوا. وَأَمَّا الْأَمْر بِالِاسْتِغْفَارِ الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ فَهُوَ قَوْله تَعَالَى: "وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اِغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ" .
وتظهر كراهتُها لمنهجهم من خلال جوابها لتلك المرأة التي جاءت تسألها عن قضاء الصَّلَاةَ أَيَّامَ مَحِيضِهَا؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قَدْ كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَا تُؤْمَرُ بِقَضَاءٍ" , ومَعْنَى قَوْل عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا إِنَّ طَائِفَة مِنْ الْخَوَارِج يُوجِبُونَ عَلَى الْحَائِض قَضَاء الصَّلَاة الْفَائِتَة فِي زَمَن الْحَيْض, وَهُوَ خِلَاف إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ, وَهَذَا الِاسْتِفْهَام الَّذِي اِسْتَفْهَمَتْهُ عَائِشَة هُوَ اِسْتِفْهَام إِنْكَار, أَيْ هَذِهِ طَرِيقَة الْحَرُورِيَّة, وَبِئْسَ الطَّرِيقَة .
موقفها من سياسة معاوية
يُمكنني التّعرُّفُ على موقفها من معاوية من خلال وصيتها له, ذلك أنّ مُعَاوِيَةَ نصيحتها وقال: اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلَا تُكْثِرِي عَلَيَّ, فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ, وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ", وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ .
ولا يخفى عليك أنّ هذا كتاب موجهٌ إلى الخليفة, وهو رأس الهرم السياسي آنذاك, وهو كلام مقصود يُصوّر موقف عائشة من خلافة معاوية, ما كان يبتغيه من إرضاء الناس بالمال وغيره لكسب ودّهم, وضمان تأييدهم ورضاهم؛ فهي تُحذره من هذه السياسة الفاشلة, وفي مقالها بعد نظر وقدرة على تشخيص الحالة بكلمات جامعة موجزة .
موقفها من قتل حِجْر
وكان لها موقف معلنٌ من قتل حجر في زمن معاوية, وعبّرتْ عن ذلك بقولها: "أما والله لو علم معاوية أن عند أهل الكوفة منعة ما اجترأ على أن يأخذ حجراً وأصحابه من بينهم حتى يقتلهم بالشام, ولكنّ ابنَ آكلة الأكباد علم أنه قد ذهب الناس" , تعني أنّ معاوية يعلم أنّ معارضيه ضعاف لا حول لهم ولا قوة.
ولما قدم معاوية المدينة دخل على عائشة رضي الله عنها فكان أول ما قالت له في قتل حجر, قالت: يا معاوية قتلت حجرا وأصحابه, وفعلت الذي فعلت, أما خشيت أن اخبأ لك رجلا فيقتلك؟ قال: لا إني في بيت أمان, ثمّ قال: دعني وحجرا حتى نلتقي عند ربنا .
موقفها من البيعة ليزيد
وحين أراد مَرْوَان - وهو عامل معاوية عَلَى الْحِجَاز حينذاك – أخذ البيعة ليزيد بن معاوية جَمَعَ النَّاس فَخَطَبَهُمْ, وَقَالَ: إِنَّ اللَّه أَرَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فِي يَزِيد رَأْيًا حَسَنًا, وَإِنْ يَسْتَخْلِفهُ فَقَدْ اِسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْر وَعُمَر؛ فَقَالَ لَهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر: سُنَّة هِرَقْل وَقَيْصَر, إِنَّ أَبَا بَكْر وَاَللَّه مَا جَعَلَهَا فِي أَحَد مِنْ وَلَده وَلَا فِي أَهْل بَيْته؛ فَقَالَ مروان: خُذُوهُ, فَدَخَلَ بَيْت عَائِشَة فَلَمْ يَقْدِرُوا عليه؛ فَقَالَ مَرْوَان: إِنَّ هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّه فِيهِ " وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا"؛ فَقَالَتْ عَائِشَة: كَذَبَ وَاَللَّهِ مَا نَزَلَتْ فِيهِ, وَاَللَّهِ مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا فِي فُلَان اِبْن فُلَان, ولَوْ شِئْت أَنْ أُسَمِّيه لَسَمَّيْته, وَلَكِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ أَبَا مَرْوَان وَمَرْوَان فِي صُلْبه , وفي هذا بيانٌ لموقفها السياسي في تلك المرحلة الأموية التي عاشتها رضي الله عنها.
الخُلاَصَـة
أردتُ من خلال هذا العرض لمواقفها السياسية أنْ أُبرهن على عبقرية هذه السيدة, وعلى رسوخ وقوة شخصيتها؛ فهي لا تقبل لنفسها القعود عن الواجب, ولا تتهيّب من الاجتهاد والنّظر, فكم من امرأة رضيت لنفسها هامش الحياة, وعاشت على فتاتها.
لمْ تدخر – رضي الله عنها - وسعاً في مناصرة الحق, والاهتمام بقضايا أمّتها, فكانت تأتيها الوفود, فتجيب وتحاورُ, وتتحركُ على بصيرة وعلم ودراية, فمواقفها السياسية تشهد لها بتفوق واضح, وفهم عميق يُساعدها علم جمّ, وعقلية فقهيّة لم يسبق لها مثيل, وفصاحة لا تعجز عن التعبير.
إنّها شخصية إسلامية سياسية من الوزن الثقيل؛ استطاعت أنْ تُحرك قطاعاً واسعاً من الأمّة, وأن تقود حركة سياسية ضخمة في ظروف هي غاية في التعقيد والدقّة, ثمّ تَبقى على نفس المُستوى من التأثير والتفاعل مع القضايا السياسية ذات الحجم الكبير حتى وفاتها رضي الله عنها وأرضاها.
الخاتــمة
يؤكدُّ هذا البحث حقيقة كبرى تدعمها الأدلة الصحيحة أنّ للسيدة عائشة من الفضائل والمناقب والخصائص ما جعلها تتبوأ مكانة سامقة, رسمَتْ من خلالها نموذجاً إنسانياً باهراً؛ فهي الأقرب إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأحب نسائه بعد خديجة إليه, وهذا يعني أنّ لعائشة من الخصائص والصفات ما جعلها تتبوأ تلك المكانة المرموقة في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وظهر من خلال بحثي أنّ عائشة فقيهة الأمة بلا منازع؛ وكانت تفتي المسلمين وتصلح بين المختلفين , وذلك لما حازته من مؤهلات ومواهب وقدرات, يُضاف إلى كلّ هذا البيئة والظروف التي عاشت فيها رضي الله عنها؛ فمن بيت صدّيق الأمة إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم, فهي – إذن – تعيش العلم والحكمة بصورتها الأكمل والأتم.
ثمّ هي شخصية سياسية من طراز فريد, تساندها صفات وميّزات قلّ أنْ تتوفر في شخصية مثلها؛ فهي الحاذقة الماهرة اللبيبة الذكية, والعالمة الجليلة والفقيهة العميقة, والبليغة الأريبة, وهي صفات تؤلف في مجموعها شخصية إنسانية نادرة الوجود.
وتركتْ رضي الله عنها إرثاً علمياً هائلاً, في التفسير والفقه والحديث دراية ورواية, وإرثاً لا يُبارى في الفتوى واستنباط الأحكام, فهي من المساهمين الأساسيين في نقل العلم الشرعي للأمة, يُساعدها ذكاء خارق وحافظة لا تخذلُها أبداً.
إنّني قدمتُ من خلال بحثي نموذجاً نسوياً متكاملاً في الفكر والعواطف والسلوك, وشخصية تتمتع ببعدٍ إنساني رفيع المُستوى, مرهفة الإحساس, جميلة الذوق حتى في فصاحتها وبلاغتها وأناقتها في كل حيثية من حيثيّات حياتها, تبرهنُ للأجيال أنّ المرأة قادرة على النّهوض بالوظيفة الكبرى, والمهمات العليا في هذه الحياة الدنيا؛ فهي تُصيغ المتون, ولا تقبل لنفسها أن تعيش على هامش الحياة.
إنّها شخصية تحتل ببراعة تامّة النموذجَ الأعلى للمرأة, تكره الفراغ والانزواء والانطواء, ولا تقبل لنفسها أن تكون ردة فعل عفوية غير واعية, بل هي التي تصنع الحدث, وتقود الحركة, ولا تُعفي نفسها من المسؤولية, ولا تُلقي بالتقصير على الأوهام لتجد لنفسها مبرراً للقعود والسكون والإلغاء. تلك هي المرأة النموذج التي تمتلئُ بالمعاني والقيم والأهداف الواضحة؛ فتعيش في القمم لا على السفوح والقيعان.
تلك هي أمّنا رضي الله عنها وأرضاها.
وفي الختام أُنَبِّهُ على ما جاء في الحواشي من تعليقات مهمة, فأرجو من القارئ أن لا يغفُل عن قراءتها, والاستفادة مما جاء فيها, وأسأل الله أن ينفع ببحثي المسلمين, وأسجلُ – في الختام - نقدي للكثير من الروايات التاريخية, وهذا يدعوني إلى حث الباحثين والمشتغلين في علم الحديث والتاريخ لبذل جهد أكبر في تنقية تلك الروايات وتحقيقها وصولاً إلى الحقيقة إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
المـصادر
أُخذتْ عن موقع المكتبة الشاملة الإصدار الثالث http://www.shamela.ws 1- ابن عبد البر: أبو عمر, يوسف بن عبد الله بن محمد بن عاصم النَمَرِيّ الأندلسي القرطبي المالكي - (368 هـ - 463هـ) - الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار - تحقيق سالم محمد عطا, ومحمد علي معوض - الناشر دار الكتب العلمية. 2- ابن عبد البر: أبو عمر, يوسف بن عبد الله بن محمد بن عاصم النَمَرِيّ الأندلسي القرطبي المالكي - (368 هـ - 463هـ) - الاستيعاب في معرفة الأصحاب - دار النشر:دار الجيل - بيروت 1412هـ - ط1 - تحقيق علي محمد البجاوي. 3- المقدسي: أبو عبد الله, شمس الدين محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج الراميني الدمشقي – (708هـ - 763هـ) - الآداب الشرعية - موقع الإسلام - www.al-islam.com. 4- الزركشي: مُحَمَّد بْن بَهَادر بْن عَبْد اللهِ بدر الدّيْن المنهاجي الْمِصْرِيّ الشَّافِعِيّ – (745هـ - 794هـ) - الْإِجَابَةُ لِإِيْرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ - تحقيق سعيد الأفغاني - المكتب الإسلامي بيروت – ط1: 1939م , ط2: 1970م - عدد الأجزاء:1. 5- ابن حجر: شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد الشافعي العسقلاني الكناني ، فلسطيني الأصل مصري المولد - (773 هـ - 852 هـ) - الإصابة في تمييز الصحابة - دار الجيل – بيروت – ط:1 1412 – تحقيق علي محمد البجاوي - عدد الأجزاء: 8. 6- ابن تيمية: أبو العباس, تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله النميري العامري- (661هـ - 728هـ) - الإمامة في ضوء الكتاب والسنة - جمع وتقديم وتعليق محمد مال الله – عدد الأجزاء: 2. 7- ابن قتيبة: أبو محمد, عبد الله بن مسلم الدينوري (213 هـ- 276 هـ) – الإمامة والسياسة - تحقيق خليل المنصور - دار الكتب العلمية 1997م – بيروت - عدد الأجزاء: 2. 8- ابن نجيم: سراج الدين عمر بن إبراهيم بن محمد الحنفي – (926هـ -970هـ) - البحر الرائق شرح كنز الدقائق – دار المعرفة – بيروت. 9- ابن كثير: أبو الفداء, إسماعيل بن عمر الدمشقي – (700هـ - 774هـ) - البداية والنهاية – حققه ودقق أصوله وعلق حواشيه علي شيري - دار إحياء التراث العربي – ط1: 1408 هـ - عدد الأجزاء: 14. 10- ابن عاشور: محمد الطاهر التونسي – (1296هـ - 1393 هـ) - التحرير والتنوير (تفسير ابن عاشور) – دار سحنون للنشر والتوزيع - تونس - 1997 م - عدد الأجزاء: 30. 11- الزحيلي: وهبي - التفسير الوسيط - دار الفكر – دمشق – ط1: 1422 هـ. 12- ابن حبان: أبو حاتم, محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن معبد بن سهيد بن هديَّة بن مرة بن سعد بن يزيد التميمي الدارمي البستي – (ت 354هـ) - الثقات - دار الفكر – ط1: 1975 – تحقيق السيد شرف الدين أحمد - عدد الأجزاء: 9. 13- القرطبي: أبو عبد الله, محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح – (ت 671 هـ) - الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) – دار عالم الكتب – الرياض – ط: 1423 هـ - عدد الأجزاء: 20. 14- الماوردي: أبو الحسن, علي بن محمد بن حبيب البصري - (364هـ - 450هـ) -الحاوي الكبير – دار الفكر ـ بيروت - عدد الأجزاء: 18. 15- الشحود: علي بن نايف – الخلاصة في بيان رأي شيخ الإسلام ابن تيمية بالرافضة – المكتبة الشاملة 3. 16- الشحود: علي بن نايف – الخلاصة في شرح حديث الولي – المكتبة الشاملة 3. 17- السيوطي: أبو بكر: جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال بن محمد الخضيري الأسيوطي - (849 هـ - 911 هـ) - الدر المنثور في التأويل بالمأثور - دار الفكر – بيروت- 1993م - عدد الأجزاء: 8. 18- المباركفوري: صفي الرحمن – (1942م-2006م) - الرحيق المختوم – ملتقى أهل الحديث - www.ahlalhdeeth.com . 19- السهيلي: أبو القاسم, عبد الرحمن بن الخطيب عبد الله بن الخطيب أبي عمر بن أصبع بن حبيب بن سعدون بن رضوان بن فتوح الخثعمي – (508هـ -581هـ) – الروض الأنف – تحقيق عمر عبد السلام السلامي - دار إحياء التراث العربي – بيروت – ط1: 2000م - مصدر الكتاب: موقع مكتبة المدينة الرقمية – عدد الأجزاء: 4. 20- المحب الطبري: أبو جعفر, أحمد بن عبد الله (ت694هـ) - الرياض النضرة في مناقب العشرة - موقع الوراق -www.alwarraq.com. 21- ابن السري: أبو السري, هناد بن مصعب بن أبي بكر التميمي الدارمي الكوفي – (152 هـ - 243 هـ) - الزهد لهناد بن السري – دار الخلفاء للكتاب الإسلامي – الكويت – ط1: 1406 – تحقيق عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي - عدد الأجزاء: 2. 22- الألباني: أبو عبد الرحمن, محمد ناصر الدين بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم الأشقودري الأرنؤوطي -(1914م- 1999م) - السلسلة الصحيحة – مكتبة المعارف – الرياض - عدد الأجزاء: 7. 23- التركماني: ابن علاء الدين علي بن عثمان المارديني - السنن الكبرى وفي ذيله الجوهر النقي - مجلس دائرة المعارف النظامية الكائنة في الهند ببلدة حيدر آباد – ط1: 1344 هـ - عدد الأجزاء: 10 - www.temawy.com. 24- الحميري: أبو محمد, عبد الملك بن هشام بن أيوب – (ت 213) - السيرة النبوية لابن هشام - تحقيق طه عبد الرءوف سعد - دار الجيل – 1411هـ - بيروت - عدد الأجزاء:6. 25- ابن تيمية: أبو العباس, أحمد بن عبد الحليم الحراني - الصارم المسلول على شاتم الرسول – دار ابن حزم – بيروت – ط1: 1417 – تحقيق محمد عبد الله عمر الحلواني, ومحمد كبير أحمد شودري - عدد الأجزاء: 3. 26- الهيتمي: أبو العباس, أحمد بن محمد بن محمد بن علي ابن حجر - الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة – مؤسسة الرسالة – بيروت – ط1: 1997 – تحقيق عبد الرحمن بن عبد الله التركي, وكامل محمد الخراط - عدد الأجزاء: 2. 27- ابن سعد: أبو عبد الله, محمد بن منيع البصري الزهري - الطبقات الكبرى – دار صادر – بيروت - عدد الأجزاء: 8. 28- الشحود: علي بن نايف – الفتنة في عهد الصحابة – المكتبة الشاملة 3. 29- الزرهوني: محمد الفضيل الشبيهي – الفجر الساطع على الصحيح الجامع – المكتبة الشاملة3. 30- أحمد فريد - الفوائد البديعية في فضائل الصحابة وذم الشيعة - الدار السلفية للنشر والتوزيع. 31- الزمخشري: أبو القاسم, محمود بن عمر الخوارزمي - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل (الكشاف) - دار إحياء التراث العربي – بيروت - عدد الأجزاء:4 – تحقيق عبد الرزاق المهدي. 32- النووي: أبو زكريا, محيي الدين يحيى بن شرف – المجموع شرح المهذب – توفى 676هـ - موقع مكتبة المسجد النبوي الشريف .www.mktaba.org 33- الحاكم: أبو عبد الله, محمد بن عبد الله النيسابوري - المستدرك على الصحيحين – دار الكتب العلمية – بيروت – ط1: 1990 – تحقيق مصطفى عبد القادر عطا- عدد الأجزاء: 4 - مع الكتاب تعليقات الذهبي في التلخيص. 24- الطبراني: أبو القاسم, سليمان بن أحمد بن أيوب - المعجم الكبير – مكتبة العلوم والحكم – الموصل – ط1: 1983 – تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي - عدد الأجزاء: 20. 35- الشحود: علي بن نايف – المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام – المكتبة الشاملة3. 36- الشحود: علي بن نايف – المفصل في شرح حديث من بدل دينه فاقتلوه – المكتبة الشاملة3. 37- الباجي: أبو الوليد, سليمان بن خلف الأندلسي- المنتقى – شرح الموطأ - موقع الإسلام - .www.al-islam.com 38- وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – الموسوعة الفقهية الكويتية - الكويت - عدد الأجزاء: 45 – الطبعة 1404هـ - 1427 هـ. الأجزاء (1 – 23) – ط2 – دار السلاسل – الكويت. الأجزاء (24 – 38) – ط1 - دار الصفوة – مصر. الأجزاء (39 – 45) – ط2 - طبع الوزارة. 39- الماوردي: أبو الحسن, علي بن محمد بن محمد ب |
| | | abo_mahmoud91
عدد المساهمات : 4
| موضوع: رد: مآثِرُ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا السبت 20 أبريل 2013, 5:38 am | |
| جزاكم الله خير الجزاء على الجهد المبذول جعل الله هذا العمل فى ميزان حسناتك |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| | | | | مآثِرُ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |