وقفة للمحاسبة في رمضان

الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، هو الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، كل شيءٍ هالكٌ إلا وجهه، له الحُكمُ وإليه المرجع والمآب.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه ما فاحت الأزهار، وما أشرقت الأنوار، وما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليماً كثيراً.

أمَّا بعد:
انظر إلى الدنيا بعين البصيرة.

إن مَنْ نظر إلى الدنيا بعين البصيرة لا بعين البصر..
أيقن أن نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء..
وعيشها نكد..
وصفوها كدر..
وأهلها منها على وجل..

فالدنيا إمَّا:
نعمة زائلة..
أو بلية نازلة..
أو منية عاجلة..
أو آجلة.

مَنْ اطمأن إليها أقلقته..
ومَنْ ركن إليها ذلته..
ومَنْ وثق بها خانته..
ومَنْ استعان بها تركته..
ومَنْ استنصر بها خذلته..
ومَنْ فرح بها أحزنته..
ومَنْ أراد منها الوصال هجرته..
ومَنْ أراد منها القرب أبعدته.

أخي:
إنَّ مَنْ غفل عن نفسه تصرَّمت أوقاته..
واشتدت عليه حسراته..
وأي حسرة على العبد أعظم من أن يكون عمره عليه حجة..
وتقوده أيامه إلى مزيد من الردى والشقوة.

تذكَّر الموت وسكراته
أخي في الله:
هل تذكَّرت الموت وسكراته؟!
وشدة هوله وكُرُباته؟!
وشدة نزع الروح منك؟!
فإن الموت كما قيل أشد من ضرب بالسيوف..
ونشر بالمناشير..
وقرض بالمقاريض..
فتفكَّر يا مغرور في الموت وسكرته..
وصعوبة كأسه ومرارته..
فالموت لا يخشى أحداً..
ولا يبقى على أحَدٍ..
ولا تأخذه شفقة بأحدٍ..

وصدق الله حيث يقول سبحانه:  
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت) آل عمران: 185.
نعم كل نفس ذائقة الموت..
لا فرق بين نفس ونفس..
لا فرق بين صغير وكبير..
وعظيم وحقير..
وغني وفقير..
فجدير بمَنْ الموت مصرعه..
والتراب مضجعه..
والدود أنيسه..
ومنكر ونكير جليسه..
والقبر مقره..
وبطن الأرض مستقره..
والقيامة موعده..
والجنة أو النار مورده..
أن لا يكون له فكر إلا في ذلك..
ولا استعداد إلا له.

تذكَّر القبر وظُلمته
أخي المسلم:
هل تذكرت القبر وظلمته؟!
وضيقه ووحشته؟
هل تذكرت ذلك المكان الضيق..
الذي يضم بين جوانبه جثث الموتى من عظيم وحقير..
ومالك ومملوك..

والقبر إمَّا روضة من رياض الجنة..
أو حفرة من حفر النار..
وإما دار كرامة وسعادة..
أو دار إهانة وشقاوة.

فواعجباً لأهل المعاصي يعلمون أنهم إلى القبر صائرون!
ثم واعجباً لأهل الغفلة والإعراض..
كيف لا ينتبهون من غفلتهم ويستيقظون من سباتهم..
وهم يعلمون أنهم غداً في بطون اللحود مقيمون؟!

أخي:
هل تذكرت أول ليلة في القبر؟!
حيث لا أنيس ولا جليس..
ولا صديق ولا رفيق..
ولا زوجة ولا أطفال..
ولا أحبة ولا أعوان..
ولا أقارب ولا خلان..

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) الأنعام: 62.

فيا أخي الحبيب!
تخيَّل نفسك بعد ثلاثة أيام وأنت في قبرك..
وقد جُرِّدت من الثياب..
وتوسَّدت التراب..
وفارقت الأحباب..
وتركت الأصحاب..
ولم يكن معك جليس ولا أنيس..
إلا عملك الذي قدمته في الدنيا.

فماذا تحب أن تقدم لنفسك وأنت في زمن الإمهال؟
حتى تجده في انتظارك يوم انتقالك إلى دار الجزاء والحساب؟!  
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) آل عمران: 30.

أخي في الله!
هل تذكَرت النَّفخ في الصُّور؟!
والبعث يوم النُّشُور؟!
وتطاير الصُّحف!
والعرض على الجبار جل جلاله..
والسؤال عن القليل والكثير..
والصغير والكبير..
والفتيل والقطمير!
ونصب الموازين لمعرفة المقادير!
ثم جواز الصراط..
ثم انتظار النداء عند فصل القضاء!
إمَّا بالسعادة وإمَّا بالشقاء.

أخي:
فمثل نفسك وقد بُعِثْتَ من قبرك مبهوتاً من شدة الصاعقة..
شاخص البصر نحو النداء..
وقد ثار الخلق ثورة واحدة من القبر..
مفزوعين من شدة النفخ..
ووقفوا في ذل وانكسار..
منتظرين بما يقضى عليهم..
فكيف حالك وحال قلبك؟!
فتأمَّل يا مسكين في طول هذا اليوم..
وشدة الانتظار فيه..
والخجل والحياء من الافتضاح عند العرض على الجبار جل جلاله..
ثم انظر كيف يُساقون بعد البعث والنشور حُفاةً عُراةً غُرلاً إلى أرض المحشر..
أرض بيضاء قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عِوَجاً ولا أمتًا.

عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله علية وسلم: "يُحشرُ النَّاسُ يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصية النقى ليس فيها علم لأحد" رواه البخاري (6521)، ومسلم (6686).

وقرصة النقي هو الدقيق النقي من الغش والنخال.

قال الله تعالى:
(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً. وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً) مريم: 85، 86. فعندئذ أصبح الغيب شهادة..
والسر علانية..
والمستور مكشوفاً..
والمخبأ ظاهراً..
فريق في الجنة وفريق في السعير..
يا أهل الجنة خلود بلا موت..
ويا أهل النار خلود بلا موت.

حاسب نفسك

فيا أخي:
هل خلوت بنفسك يوماً فحاسبتها عما بدر منها من الأقوال والأفعال؟
وهل حاولت يوماً أن تَعُدَّ سيئاتك وزلاتك ومعاصيك كما تعد حسناتك؟
بل هل تأمَّلت يوماً في طاعتك التي تفتخر بها وبذكرها فوجدت أن كثيراً منها مشوباً بالرياء والسمعة وحظوظ النفس؟

فكيف تصبر على هذه الحال؟
وطريقك محفوف بالمكاره والأخطار..
وكيف القدوم على الله وأنت مُحَمَّلٌ بالأثقال والأوزار؟

قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) الحشر: 18.

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسألُ عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم؟" أخرجه الترمذي (7/145)، (2416)، وأبو يعلى (9/178) (5271)، والطبراني في "الصغير" (1/269) وغيرهم، والحديث قواه الألباني بشواهده في "الصحيحة" (946).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوها قبل أن تُوزنوا"، وفي رواية: "وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، فإنه أهون عليكم في الحاسب غداً أن تُحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)" الحاقة: 18. أخرجه الترمذي (7/201).

فحريٌ بك يا عبد الله أن تقف مع نفسك هذه الوقفة..
وتحاسب نفسك هذه المحاسبة..
فما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.

كان ميمون بن مهران رحمه الله تعالى يقول:
يا معشر الشيوخ، ما ينتظر من الزرع إذا ابيض؟
قالوا: الحصاد، فنظر إلى الشباب وقال:
إن الزرع قد تدركه الآفة قبل أن يُستحصد..
وقبيح بالشباب تأخير التوبة..
وأقبح منه تأخير الشيوخ.

نعم
أخي الكريم:

خذ من صحتك لمرضك ومن فراغك لشغلك، ومن حياتك لموتك، ومن غناك لفقرك، وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، فإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح.

وقل لنفسك:
ألا يا نفس ويحك ساعديني       بسعي منك في ظلم الليالي
لعلك في القيامة أن تفوزي       بطيب العيش في تلك العلالي


خذ من رمضان وقفة للمحاسبة
فيا أخي الكريم:
هذا شهر رمضان قد أقبل عليك بعد طول غياب..
جاء إليك بالخير والبشر والبركات..
فيه تتنزل الرحمات..
وتُغفر الذنوب والسيئات..
وتُقال فيه العثرات..
وتُفتح فيه أبواب الجنان..
وتُغلق فيه أبوب النيران..
وتُصفّد فيه مردة الشياطين..

فهلا أخذت من رمضان وقفة للمحاسبة؟
وفرصة للمصالحة مع الله..
وفتح صفحة جديدة من صفحات حياتك..
تكون بداية التوجه الصحيح إلى الله جل جلاله.
فرمضان وقفة للمحاسبة لمَنْ أراد أن يُحاسب نفسه ويسير بها على طريق الجادة.

فيجب عليك أخي الكريم:
أن تجلس مع نفسك من حين لآخر وتعقد جلسة محاسبة مع نفسك..
تحاسبها بداية عن الفرائض..
مثل التوحيد والصلاة والزكاة والصوم وغير ذلك مما افترضه الله عليك..
فإن وجدت نقصاً وتقصيراً تداركته..
وبعد ذلك تحاسب نفسك على ما أنت واقع فيه من المعاصي والذنوب كعقوق الوالدين..
وقطعية الرحم، وأكل الربا، والكذب، والغيبة والنميمة، والنظر إلى الحرام..
وارتكاب الفواحش، وشرب المحرمات كالدخان والمسكرات والمخدرات..
وغير ذلك من الكبائر والصغائر التي نهاك عنها المولى جلا وعلا.

فيجب عليك أن تقلع على الفور..
وتتدارك ذلك بالتوبة والأوبة والرجوع إلى الله..
والندم من ما قد جنت يداك..
وعليك أن تكثر من الاستغفار والذكر والدعاء بأن يتوب الله عليك..
وأن يقبل توبتك، وتدعوه أن يصرفك عن السوء بما شاء وكيف شاء..
وتحاسب نفسك كذلك على الغفلة والإعراض عن الله وعن طاعته..
وتدارك ذلك بالمسارعة في فعل الخيرات والحسنات الماحيات..
وتحاسب نفسك على حركات الجوارح..
ككلام اللسان ومشي الرجلين ونظر العينين، وسماع الأذنين، وغيرهما من الجوارح..

وتسأل نفسك عند كل كلمة أو فعلة أو حركة..
ماذا أردت بهذا؟
ولِمَنْ فعلته؟
وعلى أي وجه فعلته؟
وما الفائدة من فعله؟

فهذه الأسئلة تجعلك دائماً أبداً متيقظاً لنفسك آخذاً بخطامها..
وعليك أن تلجم نفسك بلجام التقوى..
حتى تكون من الفائزين.
(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) النور: 52.

هذا وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المصدر:
https://islamqa.info/ar/articles/21/