الهجرة النبوية وبدايات التمكين - السنة الأولى
المؤامرة:
•    لما رأى المشركون فرار أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، خافوا أن يلحق بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتصبح المدينة قاعدة للمؤمنين، ينطلقون من خلالها إلى مهاجمة قواعد الشرك في مكة، أو إلى تهديد تجارتهم التي تمر عبر ساحل البحر الأحمر إلى الشام؛ ولذلك أجمع المشركون على قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتخلص من هذه الدعوة إلى الأبد.

•    اجتمع المشركون في دار الندوة، وبعد نقاش بين قادتهم وكبرائهم، قرروا أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شابًّا شجاعًا، ويعطوه سيفًا صارمًا، ثم يعمد هؤلاء الفتيان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيضربوه بهذه السيوف ضربة رجل واحد، فيقتلوه جميعًا، فإذا فعلوا ذلك استراحوا منه وتفرق دمه بين القبائل، فلا يستطيع بنو عبد مناف قتال الناس جميعًا، ولن يجدوا حلًّا سوى قبول الدِّية والرضا بالأمر الواقع.

الإذن بالخروج:
•    بعد هذه المؤامرة الخبيثة، نزل جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأخبره بتآمر قريش وإجماعهم على قتله، وأن الله -تعالى- قد أذن له بالخروج، وأمره كذلك ألا يبيت في فراشه هذه الليلة.

•    وفي ظهر هذا اليوم ذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر الصديق في بيته، فقال له: "إني قد أُذِنَ لي في الخروج" فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم"، ثم عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيته.

حصار بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
•    وفي المساء تجمع المجرمون الذين اختارتهم قريش لأقذر مهمة عرفها التاريخ، ألا وهي قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووقفوا على باب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعهم سيوفهم، وأخذوا يرصدون تحركاته، وينتظرونه أن ينام ليثبوا عليه ويقتلوه، ونسي هؤلاء أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، وأنهم لن يضروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بشيء قد كتبه الله عليه، قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30].

وفي هذا الوقت العصيب طلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ويتسجَّى ببرده، وطمأنه أنه لن يصيبه أذى.

•    ثم خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تحيطه عناية الله، وأخذ حفنةً من التراب، واخترق صفوف الكفار، وجعل يضعه على رؤوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم فلا يرونه، وجعل -صلى الله عليه وسلم- يتلو قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس: 9].

فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التراب على رؤوسهم جميعًا، وخرج متجهًا إلى دار أبي بكر.

•    مرَّ رجل بالمشركين وهم يحاصرون بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال لهم: ماذا تنتظرون؟ قالوا: ننتظر محمدًا، فأخبرهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج من بين أيديهم، وقد ذرَّ على رؤوسهم التراب، فلم يصدقوا أنفسهم، ولم يتركوا المكان حتى أصبحوا، فلمَّا قام علي بن أبي طالب من فراش النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورآه المشركون أيقنوا بفشل خطتهم، فسألوه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يجبهم بشيء.

الطريق إلى غار ثور:
•    غادر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دار أبي بكر سريعًا قبل أن يصل إليه المشركون، وكانت وجهته نحو المدينة النبوية، ولكنه ترك الطريق الرئيسي المعروف وسلك طريقًا آخر يقع جنوب مكة، واتجه من هذا الطريق نحو جبل يعرف بجبل ثور، فلما انتهى إلى هذا الجبل حمله أبو بكر -رضي الله عنه-، وأخذ يصعد به الجبل حتى انتهى إلى غار في قمة الجبل أطلق عليه غار ثور.

•    مكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر في الغار ثلاث ليالٍ، حتى يخفَّ عنهما الطلب، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما ليلًا بأخبار قريش ويبيت معهما. وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يأتيهما باللبن والطعام، ويتبع بغنمه أثر أقدام عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليعفي عليه.

وبعد بحث مستمر وصل المشركون إلى باب الغار، ولكن الله -عزَّ وجلَّ- صرفهم عنه، روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار، فرفعت رأسي، فإذا أنا بأقدام القوم. فقلت: يا نبي الله! لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما".

فنكص المطاردون على أعقابهم ورجعوا خائبين.

الطريق إلى المدينة:
•    بعد أن خفَّ الطلب، ويئست قريش من الوصول إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تهيَّأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر للخروج إلى المدينة، وكانا قد استأجرا عبد الله بن أريقط ليدلهما على الطريق، وكان رجلًا ماهرًا بالطرق وشعابها.

ومع أنه كان على دين كفار قريش، إلا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توسَّم فيه الصدق والأمانة، فجاءهما عبد الله بن أريقط براحلتيهما بعد أن قضوا ثلاث ليالٍ في الغار حسب الموعد المحدّد، فارتحل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، وارتحل معهما عامر بن فهيرة، وسلك بهم عبد الله بن أريقط طريق الساحل إلى المدينة.

وكان ذلك في غرة ربيع الأول من السنة الأول للهجرة.

قصة سراقة بن مالك:
* وفي الطريق رأى سراقة بن مالك ركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بعيد، فطمع في الجائزة التي قررتها قريش لمن يأتي بهم. فركب فرسه، وانطلق نحوهم يريد إيذاءهم، فلما دنا منهم ساخت يدا فرسه في الأرض، فزجرها، فنهضت ثم انطلق مرة أخرى، فلما دنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساخت يدا فرسه في الأرض مرة أخرى، فعلم سراقة أنه لن يستطيع إيذاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنادى عليهم بالأمان، وعرض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزاد والمتاع، فطلب منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخفي أمرهم عن الناس، فكان سراقة يصرف الناس عنهم بعد ذلك.

قصة أم معبد الخزاعية:
*وفي الطريق أيضًا مرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر بخيمتي أم معبد الخزاعية، فسألاها: هل عندها شيء؟ وكانت سنة جدب، فلم يجدا عندها إلا شاة هزيلة، فاستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أن يحلبها، فأذنت له، فمسح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فامتلأ ضرعها باللبن، فسقى أم معبد وسقى أصحابه، ثم شرب هو -صلى الله عليه وسلم-، ثم حلب الإناء ثانيًا حتى امتلأ، ثم تركه عندها وارتحل، فرأت أم معبد من بركته ومعجزاته ما بهرها.

قصة أبي بريدة:
*وفي الطريق أيضًا قابل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بريدة، وكان قد خرج في رجال من قومه لطلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلمَّا واجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلَّمه أسلم مكانه مع سبعين رجلًا من قومه، وكان ذلك نصرًا مبكرًا للدعوة قبل وصولها إلى المدينة.

النزول بقباء:
*وفي الثامن من ربيع الأول سنة (1هـ) نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقباء وسط تكبير المسلمين الذين خرجوا للقائه، وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يومًا مشهودًا.

وأقام رسول الله بقباء أربعة أيام؛ الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وأسس مسجد قباء وصلُّى فيه، وهو أول مسجد أُسس على التقوى في الإسلام.

النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة:
*في يوم الجمعة سار النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو المدينة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلّى بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وبعد الجمعة دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، في يوم تاريخي أغرّ، امتزجت فيه الدموع بالفرحة العارمة، وارتجَّت فيه المدينة بأصوات التكبير والتهليل والتحميد.

واستقبلت بنات الأنصار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقولهن:
طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا

ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا

جئت بالأمر المطاع

* * *