أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: البوسنة ما بين الشرق والغرب الخميس 09 يونيو 2011, 1:37 pm | |
| البوسنة ما بين الشرق والغرب
دراسة
إلى روح المرحوم إسماعيل باليتش 1920 – 2002م
الذي قضى حياته للحفاظ على البوسنة بين الشرق والغرب
جاء موقع البوسنة ما بين الشرق والغرب خلال أكثر من ألف عام ليجعل مصيرها وواقعها ومستقبلها مرتبطاً بهذا الموقع على صعيد التاريخ والسياسة والثقافات، حيث أنه أصبح من الصعب أن نتصور البوسنة خارج هذا السياق على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته نتيجة لذلك.
فقد جاء موقع البوسنة ما بين صربيا (التي تحولت إلى الأرثوذكسية) وكرواتيا (التي تحولت إلى الكاثوليكية) منذ القرون الوسطى ليجعل منها حداً فاصلاً بين الشرق والغرب بالمفهوم المسيحي الثقافي حيث دخلت صربيا ضمن الإطار الثقافي السياسي البيزنطي، بينما دخلت كرواتيا ضمن الإطار الثقافي السياسي لأوروبا الوسطى (المجر والنمسا).
وقد جاء الفتح العثماني للبلقان منذ منتصف القرن الرابع عشر ليكرس مفهوماً جديداً للشرق والغرب وحدا مختلفاً فيما بينهما.
فقد خضعت البوسنة وكرواتيا معاً للحكم العثماني خلال القرنين 15 –16، ولكن البوسنة سرعان ما استعادت "امتيازها" بكونها الحد الفاصل بين الشرق (العثماني) والغرب (الأوروبي) بمفهومه الجديد. فقد انتشر الإسلام في البوسنة كما لم ينتشر في المناطق المجاورة وأصبح دين الغالبية بعد حوالي مئة وخمسين سنة من الحكم العثماني.
وفي نهاية تلك الفترة خرجت كرواتيا من الحكم العثماني نتيجة لمعاهدة كارلوفاتس في 1699، حيث ضُمّت بموجبها إلى النمسا، وبذلك أصبحت البوسنة تشمل آخر امتداد لدار الإسلام/ الدولة العثمانية في أوروبا بالمفهوم الديني والثقافي والسياسي.
وفي الواقع لقد جاء انتشار الإسلام هنا ليؤشر إلى منعطف حاسم في تاريخ البوسنة بالذات.
فقد أدى انتشار الأرثوذكسية في صربيا وانتشار الكاثوليكية في كرواتيا المجاورة إلى بروز "دور قومي" للدين في المنطقة، حيث أصبحت الأرثوذكسية لصربيا والكاثوليكية لكرواتيا ليس مجرد ديانة وثقافة بل هوية قومية أيضاً.
وعلى هذا النمط فقد لعب انتشار الإسلام دوراً مماثلاُ في حالة البوسنة وبالتحديد فيما يتعلق بالبشناق هناك، إذ أنه أصبح يعتبر من مكونات البشنقة/ القومية البوسنوية.
وفيما يتعلق بهذا الانعطاف الديني/الثقافي/السياسي في تاريخ البوسنة، الذي جعل لها مكانة خاصة بين الشرق والغرب، يأتي هذا الكتاب الآن ليعبر عن جوانب مختلفة لهذه المكانة الخاصة للبوسنة وانعكاساتها السياسية والثقافية.
وفي الحقيقة أن هذا الكتاب يجمع قراءات في كتب حديثة صادرة في السنوات العشرة الأخيرة في البوسنة 1995-2004، وهي كلها صادرة باللغة البوسنوية باستثناء واحد في الإنجليزية وآخر في العربية، بما قد يساهم في اقتراب مختلف من حالة البوسنة.
فخلال سنوات الحرب/المأساة 1992-1995 صدر حوالي 25 كتاباً في العربية في دائرة واسعة تمتد من الدار البيضاء إلى بيروت.
ولكن كان يلاحظ على معظم هذه الكتب أنها كتبت بسرعة وانفعالية تحت تأثير ما هو يومي ومشهدي للمعارك والمجازر وذلك ليلبي الاهتمام المتزايد بالبوسنة، التي اكتشفها الكثيرون في العالم العربي/الإسلامي من خلال الحرب/المأساة، وبالتالي فقد كانت تفتقد إلى الموضوعية والمصداقية.
ومن ناحية أخرى فقد كان استقلال البوسنة، الذي تكرس على الأرض في 1995، يعني فيما يعنيه تحرر الكتاب البشانقة من القوالب والخطوط الحمر التي كانت معروفة ومفروضة بالنسبة إلى الكتابة في المواضيع الحساسة التي تشمل التاريخ والسياسة والثقافة. ولذلك يلاحظ في سنوات ما بعد الاستقلال، وبالتحديد خلال 1995-2004، إصدارات مختلفة بكل معنى الكلمة في ما يتعلق بالمنهج والمضمون، وهي تعبر عما تغير ويتغير في الوعي بالذات والتعامل مع التاريخ والتواصل الثقافي مع الشرق والغرب معاً انسجاماً مع هذا الموقع الذي تحتله البوسنة والدور الذي يمكن أن تقوم به في المستقبل.
وهكذا يضم هذا الكتاب قراءات في الصلات المختلفة للبوسنة مع الشرق في التاريخ والسياسة والثقافة. ففي التاريخ نتعرف على دور الإسلام في تكون البشنقة / القومية البشناقية وعن مشاركة البشناق في القتال إلى جانب العرب في حرب 1948 وعن أعلام البوسنة الذين حافظوا على تواصلها مع الشرق، بينما نتعرف في الثقافة على أهم جوانب التواصل الثقافي بين البوسنة والشرق.
ومع هذا الكتاب آمل أن يكون فيه جديد للقارىء للتعرف على ما تعنيه البوسنة كقنطرة ما بين الغرب والشرق سواء في الماضي أو الحاضر وحتى بالنسبة للمستقبل.
ولا يسعني في هذه المناسبة إلا أن أشكر بعض من أمدّوني بفيض من أحدث الكتب الصادرة في سراييفو من مؤسسات وشخصيات، كمعهد الاستشراق في سراييفو ود.أسعد دورا كوفيتش رئيس قسم الاستشراق في جامعة سراييفو، ود. أنس كاريتش عميد كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو، وأوجه خالص الشكر إلى الآنسة ساجدة صالح في معهد بيت الحكمة التي تولت طباعة مواد هذا الكتاب. محمد م. الأرنــاؤوط عمّان 5/12/2004
تاريخ وأعـــلام تاريخ البشانقة كما لا نعرفه لماذا تنبع لعنة المسلمين في البوسنة من الجغرافية والسياسة؟ مشاركة البشانقة في حرب 1948
أعلام البوسنة الذين حافظوا على تواصلها مع الشرق في القرن العشرين محمد خانجيتش أو محمد الخانجي من أعلام البوسنة في القرن العشرين
تاريخ البشانقة كما لا نعرفه حتى الآن
يقال عادة أن حرب البوسنة كانت حرباً غير مسبوقة ليس بسبب "التطهير العرقي" وإنما بسبب "التطهير الثقافي" الموازي له، الذي كان يهدف إلى تدمير هوية شعب.
ففي هذا الإطار تم تدمير المنشآت التاريخية (بما في ذلك الجسور ذات القيمة الأثرية) وحتى مراكز الوثائق والكتب (مثل معهد الاستشراق في سراييفو الذي كان يحتفظ بآلاف المخطوطات الشرقية، والمكتبة الوطنية الخ) حتى لا يبقى للطرف المستهدف ما يثبت به نفسه بعد الحرب.
وقد فهم البشانقة هذه الحرب المفروضة عليهم على حقيقتها، ولذلك لم يتوان المثقفون منهم على المشاركة في هذه الحرب على طريقتهم الخاصة: التأليف تحت القصف والقنص خلال حصار سراييفو 1992-1993 لإثبات وجودهم كشعب لـه تقاليده وثقافته وتاريخه الخاص به وذلك في مواجهة التشكيك به وتغييبه في العقود الأخيرة.
ومن نتاج هذه الحرب، إذا صح التعبير لدينا الكتاب المرجعي الضخم "تاريخ البشانقة" للمؤرخ مصطفى إماموفيتش الذي أُلّف خلال 1993-1996 وصدر في طبعته الأولى خلال 1996 وفي طبعته الثانية خلال 1998(1).
وبهذا الكتاب (حوالي 630 صفحة من الحجم الكبير) يمكن القول أنه لدينا أول تاريخ شامل عن البشانقة منذ القرون الوسطى إلى السنوات الأخيرة التي سبقت الحرب.
ود. إماموفيتش من المؤرخين المعروفين في البوسنة، إذ برز مبكراً بكتابه المرجعي "الوضع القانوني للبوسنة وتطورها السياسي الداخلي خلال 1878-1914" في 1978 ونشر حتى الآن حوالي 350 دراسة ومقالة وملاحظة علمية في مختلف المجلات وترجمت بعضها إلى عدة لغات (الإنجليزية والألمانية والإسبانية الخ).
ويلاحظ في نتاجه السابق أنه كان يركز على الإطار التاريخي القانوني والدستوري للقضايا المختلفة المتعلقة بالتاريخ الحديث والمعاصر للبوسنة.
أما في هذا الكتاب فلدينا نقلة كبيرة، تحت تأثير ظروف الحرب، تتمثل في تأليف تاريخ شامل للبشانقة.
والمقصود بالبشانقة هنا Bosnjaci الشعب الذي كان يشكل الأغلبية منذ بداية التاريخ الحديث للبوسنة، بعد أن اعتنق الإسلام ، والذي كان يعي نفسه باستمرار كشعب متميز لـه لغة وثقافة خاصة ولكنه أخذ يتعرض إلى تهديد وتطهير جسدي ونفسي وسياسي وثقافي منذ نهاية القرن الثامن عشر نتيجة للتطورات السياسية الجديدة في البلقان، وهو ما جعله ينكمش وينحصر في الدفاع عن وجوده.
وفي هذا الإطار لم تعترف الدولة الجديدة (يوغسلافيا) التي ضمت البوسنة في 1918 بهذا الشعب وحاولت قيادتها المستحيل لتذويبه وتغييبه، وهو ما استمر في بداية يوغسلافيا الجمهورية تحت حكم الحزب الشيوعي إلى أن تم الاعتراف بهذا الشعب باسم جديد "المسلمون" بالميم الكبيرة Muslimani تمييزاً لهم عن المسلمين بالميم الصغيرة muslimani التي كانت تشمل كل المؤمنين بالإسلام في يوغسلافيا السابقة.
ومع حرب الاستقلال 1992-1995 استرد هذا الشعب اسمه التاريخي (البشناق).
وهكذا في إطــار الدفاع عن وجوده وأرضه وهويته في أصعب اللحظـات (1993) بدأ إماموفيتش تلك المهمة الكبيرة بوضع تاريخ لهذا الشعب يمتد على حوالي 630 صفحة من الحجم الكبير.
ويؤكد المؤلف في المدخل على كون البشانقة شعباً أوروبياً من سلاف الجنوب، حيث كان هناك من يخلط بينهم وبين الأتراك، ويوضح منذ البداية (ص9) دور الإسلام الحاسم في تبلور هذا الشعب عن الشعوب المجاورة التي تتحدث اللغة ذاتها (الصرب والكروات وأهل الجبل الأسود/المونتغريون) ولكن تختلف فيما بينها بالخصائص الدينية والثقافية والسياسية.
ويخلص المؤلف من هذا إلى تعريف البشانقة بأنهم الشعب ذي الأصل السلافي الجنوبي الذي تشكل في البوسنة بحدودها التاريخية (ص11).
في الفصل الافتتاحي من الكتاب "الموقع الجيوبوليتكي للبوسنة "يحلل المؤلف موقع البوسنة (التي اختلف العلماء كثيراً حول أصل اسمها) بين كرواتيا وصربيا ليخلص إلى أن الفرق بين الألبان والبشناق يكمن في أن الألبان استمدوا وحدتهم من اللغة (حيث أن اسمهم القومي يدل على التعبير في اللغة الألبانية) ولذلك لدينا بينهم مسلمون ومسيحيون ويهود، بينما لدى سلاف الجنوب (الصرب والكروات والبشانقة) جاء التمايز بين الشعوب الجديدة بالاستناد إلى الدين (الكاثوليكية والأرثوذكسية) وهو ما جعل البشناق يتميزون عن غيرهم باعتناقهم للإسلام (ص22).
في القسم الأول من الكتاب يستعرض المؤلف في سبعة فصول نشوء دولة البوسنة في القرون الوسطى حيث برز أول حاكم/بان ban لها باسم بوريتش خلال 1154-1164، وجاء بعده البان الكبير كولين الذي توسعت حدود البوسنة في عهده خلال 1180- 1204 وتميزت كدولة في المنطقة بنظامها الإقطاعي الذي ترسخ، مع التركيز على الديانة الجديدة (البوغوميلية) التي انتشرت فيها واعتبرت هرطقة سواء من قبل الكاثوليكية أو من الأرثوذكسية مما أدى إلى سلسلة حروب للقضاء على هذه "الهرطقة"، والوضع الاقتصادي الاجتماعي للدولة البوسنوية القروسطية حتى سقوطها أمام التوسع التوسع العثماني في البلقان.
في القسم الثاني "مرحلة الحكم العثماني" ينطلق المؤلف من التعريف بالدولة الإسلامية والحضارة الإسلامية ثم يتابع الفتح العثماني للبوسنة ليصل إلى الفصل الثالث المتعلق بـ"سيرورة قبول الإسلام في البوسنة"، الذي يعتبر من أهم فصول الكتاب.
فنظراً لتأثيره المصيري يعتبر د. إماموفيتش أن اعتناق الإسلام من قبل غالبية السكان في البوسنة يشكل أهم حدث في التاريخ الحديث.
وعلى الرغم من ذلك يلاحظ المؤلف (ص138) أن مثل هذا الموضوع المهم لم يبحث كما يجب في الدراسات التاريخية ولم يتضح بما فيه الكفاية. فهناك لدى المسلمين "روايات شعبية" عن الانتشار الفوري للإسلام خلال فتح السلطان محمد الثاني للبوسنة، وهو ما يناقشها هنا ويبيّن عدم صحتها، كما أن هناك "الروايات" الصربية والكرواتية التي تركز على نشر الإسلام بالقوة بين السكان وهو أيضاً يناقشها بكل موضوعية ويبيّن عدم صحتها.
ويعتمد المؤلف على مختلف المصادر ليصل إلى أن الإسلام انتشر بدون عنف، مع وجود حالات استثنائية، وبشكل تدريجي احتاج معه إلى مئة وخمسين سنة (حتى الربع الأول للقرن السابع عشر) حتى يصبح ثلثي سكان البوسنة من المسلمين (ص175-180).
في الفصول التالية يرصد المؤلف التغيرات الكبرى التي حدثت خلال الحكم العثماني، كما في التطور الكبير للمدن والحياة الاقتصادية الاجتماعية في المدن التي تمخضت عن عادات وتقاليد وثقافة جديدة تميز البشناق عن الصرب والكروات.
ومع أن الحكم العثماني استمر في البوسنة حتى 1878 إلا أن المؤلف يتعرض في الفصول الأخيرة من هذا القسم إلى ما يسميه "كفاح البشانقة للحفاظ على وجودهم"، حيث أخذ يتضح الارتباط بين مصير الدولة العثمانية ومصير البشانقة منذ نهاية القرن السابق عشر مع فشل الحصار العثماني الأخير لفيينا.
فقد تحولت النمسا من الدفاع إلى الهجوم واجتاحت البوسنة عدة مرات خلال القرن الثامن عشر، وهو ما أخذ يهدد وجود البشانقة.
ففي حرب 1737 أصدر الإمبراطور النمساوي كارل الرابع بياناً لسكان البوسنة طالب فيه السكان المسيحيين بالانضمام إلى الجيش النمساوي، بينما ترك للمسلمين خياراً واحداً فقط (التنصير) فيما لو أرادوا الاستمرار في العيش في البوسنة والحفاظ على أملاكهم فيها (ص301).
في مثل هذه الحالة أصبح البشانقة بين نارين، مما دفعهم ليخوضوا بدورهم في 1831 حرباً ضد الدولة العثمانية للمطالبة بالحكم الذاتي (على نمط ما حصلت عليه صربيا آنذاك خلال 1815-1830)، وهو ما يتناوله المؤلف في الفصل قبل الأخير من هذا الفصل (ص333-337).
ومع أن الحركة فشلت إلا أن الإصلاحات العثمانية اللاحقة، وخاصة خلال 1850-1870، جعلت البوسنة تنفتح على العالم في الوقت الذي كان فيه الوضع الإقليمي يمور تحت تأثير الاختراق الروسي للبلقان الذي قلب الوضع رأساً على عقب إثر الحرب الروسية العثمانية 1877-1878 التي انتهت إلى هزيمة مذلة للدولة العثمانية.
فمع اجتياح روسيا للبلقان اختلت موازين القوى مما أدى إلى أزمة تهدد بحرب أوروبية جديدة، ولكن عقد مؤتمر برلين في صيف 1878 أنهت هذه الأزمة بروح الحل الوسط، وفي هذا الإطار تم تقليص التمدد الروسي وتفويض النمسا باحتلال البوسنة الذي قاومه البشانقة بقوة بعد أن تخلت عنهم الدولة العثمانية، وهو ما يخصص لـه المؤلف القسم الثالث بكامله.
في القسم الرابع "مرحلة الانتقال النمساوية المجرية" ينطلق المؤلف (ص361) من أن الاحتلال النمساوي المجري للبوسنة كان يمثل منعطفاً تاريخياً ومصيرياً للبشناق حيث كان يعني بالنسبة إليهم الانتقال من حضارة (عثمانية) إلى حضارة أخرى مختلفة تماماً (أوروبية).
وفي الفصول التالية يستعرض المؤلف أهم ملامح هذه التغيرات في حياة البشانقة مثل تأسيس هرمية / مؤسسة دينية مستقلة عن استنبول (شيخ الإسلام) والهجرة الكبيرة إلى الدول العثمانية كرد فعل على الشعور بالغربة في دولة بغالبية كاثوليكية الخ.
وفي الفصل الخاص بـ "السياسة القومية لإدارة الاحتلال" ينطلق المؤلف من أن دولة الاحتلال لم تكن لها رؤية / سياسة واضحة في البداية بينما أخذت هذه السياسة تتضح مع تعيين الوزير بنيامين كالاي (1882-1893) مسؤولاً عن إدارة البوسنة.
ففي عهده، وهو الخبير بالبوسنة والبلقان، أخذت تبرز "سياسة قومية" تدعم وجود هوية/قومية بوسنوية واحدة بغض النظر عن الانتماء الديني.
والمهم هنا أن المؤلف يوضح (ص375-376) أن كالاي ليس هو من ابتدع "البشنقة" بل يشير إلى محاولات سابقة جرت خلال القرن التاسع عشر.
وفي هذا الإطار بدأت تثمر هذه السياسة بين المثقفين المسلمين مع ظهور جيل جديد من المتعلمين (محمد بك قبطانوفيتش وغيره) يدعو إلى هوية / قومية بوسنوية واحدة بغض النظر عن الانتماء الديني وإلى البقاء في الإطار الغربي/النمساوي المجري.
ولكن هذا الخط الذي مثلته جريدة "البوشناقي" منذ 1892، جاء متأخراً لأن بلغراد كانت قد استقطبت الأرثوذكس في البوسنة وكذلك زغرب مع الكاثوليك، ولذلك لم ينضم أحد من الأرثوذكس (الذين أصبحوا يعتبرون أنفسهم جزءاً من الشعب الصربي) ولا من الكاثوليك (الذين أصبحوا يعتبرون أنفسهم جزءاً من الشعب الكرواتي) إلى هذه الحركة الجديدة/البشنقة التي بقيت مقتصرة على المسلمين (ص382).
وحتى فيما يتعلق بالمسلمين فقد أخذ التفاوت يبرز بينهم فيما يتعلق بمصيرهم ومستقبلهم، إذ بقي بعضهم يحلم بعودة الحكم العثماني بينما كان بعضهم يفضل بعد أن لمس حسنات الحكم النمساوي المجري البقاء في الإطار الجديد مع الاختلاف حول مع أي طرف أفضل (مع النمسا أو مع المجر) يجب أن تكون البوسنة.
وفي هذا الإطار جاء قرار ضم البوسنة إلى النمسا المجر في 1908 ليشكل ضربة نهائية لأحلام بعض المسلمين بعودة الحكم العثماني.
في القسم الخامس "الحرب العالمية الأولى وتشكيل الدولة اليوغسلافية 1918-1918" ينطلق المؤلف من حادثة اغتيال ولي العهد النمساوي في سراييفو التي أثارت أعمال عنف ضد الصرب، وهي ما دفعت بالزعماء البشانقة والكروات إلى المطالبة بحماية السكان الصرب. وفي هذا الإطار يذكر بالتقدير ما قام به رئيس علماء المسلمين في البوسنة جمال الدين تشاؤشفيتش.
ومع تطورات الحرب الميدانية ، التي أصبحت فيها صربيا (العدوة اللدود للنمسا) في صف الحلفاء، تبنّت بلغراد رسمياً سياسة تشكيل دولة تضم سلاف الجنوب/اليوغسلاف الذين كان حوالي نصفهم ضمن النمسا المجر، وهو ما تطابق مع مصلحة الحلفاء الذين أرادوا تفكيك إمبراطورية آل هابسبرغ.
ومع أنه برزت في نهاية الحرب العالمية الأولى دولتان يوغسلافيتان، الأولى مقرها زغرب وتجمع كرواتيا وسلوفينيا والبوسنة والثانية مقرها بلغراد وتجمع صربيا وفويفودينا والجبل الأسود، إلا أن الظروف فرضت على دولة الشمال (زغرب) أن تقبل بالانضمام إلى دولة الجنوب (بلغراد) تحت حكم آل كاراجوفيتش الصرب.
وفي القسم السادس "مرحلة الدولة اليوغسلافية 1918-1941" يستعرض المؤلف التحديات التي واجهت البشانقة في الدولة الجديدة، فقد حملت الدولة الجديدة اسم "مملكة الصرب والكروات والسلوفين"، وبالتالي فقد قامت هذه الدولة على نفي هوية/قومية البشانقة منذ البداية وحتى على تهديد وجودهم الجسدي ووضعهم الاقتصادي والاجتماعي، وهي ما يسميها المؤلف "سياسة إفناء جماعي للبشانقة كمسلمين" (ص489).
ففي السنوات الأولى من الدولة الجديدة، وفي شرق البوسنة فقط، قتل ما يزيد عن ثلاثة آلاف من البشانقة الأبرياء لكونهم مسلمين على يد عصابات صربية متطرفة (ص489). وقد أدى هذا الوضع إلى تناقص عدد البشانقة بسبب استمرار الهجرة وتحولهم إلى أقلية (588173 فقط من أصل 1.890460 نسمة) بينما أصبح الصرب هم الأغلبية في البوسنة (829360 من 1.890460 نسمة).
ولم يتحسن هذا الوضع إلا بعد أن وصلت أخبار المجازر الجماعية إلى الصحف الأوروبية وبعد أن نجح زعماء البشانقة في تشكيل حزب سياسي واحد يمثلهم في البرلمان (منظمة المسلمين اليوغسلاف)، حيث دخل زعيم هذا الحزب د.محمد سياهو في ائتلاف مع المعارضة لتأمين نوع من الاستقرار للبشانقة والحفاظ على هويتهم المتميزة.
ولكن هذا الدور انتهى مع موته الغامض في صيف 1939 ومع التوقيع على اتفاق صربي كرواتي لتقاسم البوسنة وإعطاء الكروات فقط الحق بحكم ذاتي واسع.
وعن حصيلة تلك السنوات الصعبة التي قضاها البشانقة في الدولة اليوغسلافية الأولى يصل المؤلف إلى نتيجة غير مألوفة ألا وهي أنه في البوسنة فقط (بالمقارنة مع بقية أوروبا) كان قطاع السكان المشتغل في الزراعة والرعي يزداد خلال 1921-1931 عوضاً عن أن ينخفض، إذ أنه ازداد من 80.1% إلى 84.1%.
وعلى الرغم من التقدم الملحوظ للشعوب الأخرى في المجال الثقافي والإداري فإن حضور البشانقة كان هامشياً. فحتى نهاية الدولة اليوغسلافية الأولى كان عدد البشانقة الذين أنهوا دراستهم الجامعية لا يتجاوز الـ800، ومن يبن هؤلاء كان سبعة فقط يعملون أساتذة في الجامعات و 15 ضابطاً في الجيش لم يتجاوز اثنان منهم رتبة عقيد، مما كان يعكس التمييز الحاصل ضد البشانقة (ص524).
وقد خصص المؤلف القسم السابع لـ"حرب 1941-1945" أي لانهيار يوغسلافيا الأولى/الملكية في نيسان 1941 ونتائج ذلك. وكما أن البشانقة لم يؤخذ برأيهم في 1918 حول تشكيل الدولة اليوغسلافية الأولى فقد وجدوا أنفسهم فجأة الآن (دون أن يؤخذ برأيهم أيضاً) ضمن دولة جديدة ألا وهي "دولة كرواتيا المستقلة" التي أعلنت في 10 / 4/ 1941 برعاية ألمانيا.
وبينما تركت الدولة الأولى الخيار للبشانقة كي يعبروا عن أنفسهم كصرب أو ككروات فإن الدولة الجديدة أعلنتهم منذ البداية "صفوة الشعب الكرواتي" وعاملتهم على أنهم "كروات مسلمين" ومارست الضغوط الشديدة على رئيس العلماء المسلمين لكي يقبل بذلك (ص 533 - 534).
وكما في 1914 فقد رفع زعماء المسلمين صوتهم ضد ملاحقة وتصفية الصرب في البوسنة. ومع أن عدداً محدوداً من الأئمة تعاون مع الدولة الجديدة إلا أن الأغلبية رفضت أو حتى انضمت إلى المقاومة المسلحة بقيادة الحزب الشيوعي اليوغسلافي التي كانت تسعى إلى تأسيس يوغسلافيا جديدة قائمة على المساواة والتعددية (ص536).
ولكن تلك الفترة 1941-1945 كانت فترة حرب أهلية بين أنصار الملكية من الصرب وأنصار الجمهورية الجديدة من مختلف الشعوب التي دارت رحاها بشكل خاص في البوسنة والتي كان البشانقة من أكبر ضحاياها.
فقد كان البشانقة يتعرضون لضغوط القوى الثلاثة المتصارعة (قيادة كرواتيا المستقلة وأنصار الملكية وأنصار الجمهورية) مما جعلهم يقعون ضحية مجازر جماعية من حين إلى آخر.
وبالاستناد إلى آخر المعطيات يذكر المؤلف ان عدد ضحايا البشناق من هذه المجازر الجماعية تجاوز المئة ألف أو 8.1% من عددهم الإجمالي في ذلك الوقت (ص537).
في القسم الأخير من الكتاب "البشناق في مرحلة 1945-1990" يستعرض المؤلف المعاناة الجديدة للبشناق في سبيل الاعتراف بهويتهم/قوميتهم.
فقد انطلقت الدولة اليوغسلافية الجديدة/الجمهورية بإنجاز كبير ألا وهو الاعتراف بالبوسنة كجمهورية فدرالية على قدم المساواة مع الجمهوريات الأخرى، ولكنها لم تعترف للبشناق بهويتهم/قوميتهم، وبالتالي لم تجعل البوسنة دولة قومية كما هي صربيا بالنسبة للصرب وكرواتيا بالنسبة للكروات.
وفي النقاش حول الدستور الفدرالي الأول قال منظّر الحزب الشيوعي اليوغسلافي ميلوفان جيلاس أن الجمعية التأسيسية لا يمكن أن تبت في أن البشناق شعب مستقل لأن هذه "مسألة نظرية" (ص555).
وطالما أنها مسألة نظرية بيد قادة الحزب فلم يبت فيها لأسباب سياسية حتى مطلع الستينات، حيث أعطى الرئيس تيتو الضوء الأخضر لذلك في 1963 وهو ما انتهى إلى قيادة الحزب الشيوعي في البوسنة التي أعلنت بجلاء في شباط 1968 أن "البشناق هم شعب متميز عن غيره" (ص565)، مع إطلاق اسم المسلمين (بالميم الكبيرة) Muslimani عليهم.
ولكن هذا الاعتراف أثار انزعاج المعارضة الصربية المتطرفة التي ازدادت وضوحاً بعد إقرار دستور 1974، الذي اعتبرته تجسيداً لتهميش الصرب في يوغسلافيا التيتوية. وقد تصاعدت هذه المعارضة بعد وفاة تيتو في 1980 وأصبحت تطالب علانية بإعادة تكوين يوغسلافيا بما يحقق للصرب مصالحهم أو تشكيل "صربيا الكبرى".
وقد أدت الخلافات بين قيادات الجمهوريات إلى اللجوء للقوة لمنع استقلال سلوفينا وكرواتيا، وصولاً إلى التدخل العسكري لمنع استقلال البوسنة في اليوم (6 نيسان 1992) الذي اعترف فيه الاتحاد الأوروبي باستقلالها.
ويخلص المؤلف إلى أنه خلال الحرب 1992-1995 جرى بشكل عفوي استعادة البشناق لاسمهم التاريخي، وهو ما أقره المؤتمر البشناقي الثاني الذي انعقد في سراييفو خلال خريف 1993 (ص569).
ويلاحظ هنا أن هذا القسم (ص547-569) يبدو صغيراً بالمقارنة مع السنوات التي يغطيها (1945-1990) ومع الأحداث المهمة التي يتناولها.
وربما كان يبدو للمؤلف أن أحداث هذه المرحلة أقرب إلى القارئ بتفاصيلها، ولكنها ليست كذلك للقارئ خارج البوسنة ويوغسلافيا السابقة.
في خاتمة الكتاب (ص571-573) يصل المؤلف إلى أنه يمكن تلخيص تاريخ البشناق بأنه كفاح متواصل للحفاظ على وجودهم في أرضهم وسط محيط معاد لهم (ص572). ومن المفارقات التي يشير إليها المؤلف أن الهجوم على البشناق قد زاد بعد أن تم الاعتراف بهم كشعب مستقل في يوغسلافيا التيتوية (ص573).
ومن ناحية أخرى ينتهي المؤلف إلى أن الغرب، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي، لم يكن معنياً كثيراً بالتدخل لإنقاد شعب أوربي مسلم من الإبادة الجماعية. وهكذا فقد وجد البشناق أنفسهم ضحية بين نارين، بين كرواتيا التي أرادت أن تتخلص من هيمنة صربيا في يوغسلافيا السابقة وبين صربيا التي أرادت تأكيد هيمنتها على يوغسلافيا السابقة (ص573).
وأخيراً يمكن القول مرة أخرى أنه مع كتاب د.إماموفيتش لدينا كتاب مرجعي وغني بالتفاصيل المستقاة من مختلف المصادر التي تجعلنا نتعرف على البشناق كشعب وعلى كفاحه المتواصل في سبيل الدفاع عن وجوده وإثبات حقه في هويته المستقلة.
لماذا تنبع « لعنة المسلمين » في البوسنة من الجغرافية والسياسة؟ بين يدينا الطبعة الخامسة من كتاب "لعنة المسلمين" للأكاديمي والسياسي البوسنوي المعروف نياز دوراكوفيتش(1)، الذي كان رئيس الحزب الشيوعي في البوسنة في مرحلة التحول إلى الديموقراطية (حيث تحول حينها إلى "الحزب الاشتراكي الديموقراطي")، التي كانت فترة مخاض صعبة في تاريخ البوسنة ويوغسلافيا السابقة، والذي عاد بعدها إلى الجامعة (كلية العلوم السياسية) ليتابع عمله الأكاديمي وليصدر العديد من الكتب.
ومجرد الحديث عن طبعة خامسة للكتاب خلال أقل من عشر سنوات إنما يعني أن الموضوع أو المؤلف يجذبان القارىء بالفعل.
فقد صدرت الطبعة الأولى للكتاب في 1993 في ذروة الحرب، وهو بالتالي دراسة وشهادة ذاتية (من شخصية كانت في أرفع منصب عشية الحرب) تجمع بين ما هو أكاديمي (تحليل تاريخي وسياسي) وبين ما هو انطباعي عن أصحاب المسؤولية عن الحرب/المأساة الأخيرة التي حدثت في البوسنة.
وتجدر الإشارة إلى أن المقصود بـ"المسلمين" هنا البشناق أو البشانقة (الذين استردوا اسمهم التاريخي بعد استقلال البوسنة في 1992) حيث أن فرض هذا الاسم (المسلمون) عليهم في يوغسلافيا السابقة إنما يمثل أحد مظاهر المشكلة التي يتناولها هذا الكتاب.
فهذا الشعب (البشناق) المتشبت بهويته المتميزة تلاحقه حسب الكتاب "لعنة" منذ عدة قرون، وهو حتى عندما يتم الاعتراف به كشعب "على قدم المساواة" مع غيره من شعوب يوغسلافيا الأخرى لا يسمح لـه أن يعبّر عن نفسه باسمه الذي يفضّله بل باسم مشوش (المسلمون بالميم الكبيرة Musliman تمييزاً عن المسلمين/المتدنيين بالميم الصغيرة musliman).
ينطلق المؤلف من أن "اللعنة" الملاحقة لهذا الشعب تنبع من موقعه بين صربيا وكرواتيا، حيث كان كل طرف يحرص على ضم البوسنة إليه، ومن نزعته القوية للحفاظ على خصوصيته.
وهكذا حتى في القرون الوسطى كانت المسيحية في البوسنة (البوغوميلية) تختلف عن الأرثوذكسية في صربيا والكاثوليكية في كرواتيا، مما كان يبرّر لكل طرف أن يتدخل في البوسنة بحجة تخليص البوسنة من "الهرطقة" ونشر المسيحية "الحقة"، التي كانت تعني هنا نشر النفوذ الديني/ السياسي لهذا الطرف أو ذاك.
ويرى المؤلف أنه مع الفتح العثماني وانتشار الإسلام بشكل واسع في البوسنة (على عكس صربيا وكرواتيا) أصبح للبشانقة عنصر مهم يتميزون فيه عن غيرهم (الإسلام) ويعبرون بواسطته عن خصوصيتهم.
ولكن الأمر الآن أصبح مرتبطاً بوجود/استمرار الدولة العثمانية، حيث أنه بعد فترة ازدهار في البداية أخذت هذه الدولة في الانحدار مما بعث من جديد "لعنة المسلمين".
فبعد الاحتلال النمساوي/المجري للبوسنة في 1878 بشكل "مؤقت"، ثم ضم البوسنة نهائياً إلى الإمبراطورية النمساوية المجرية في 1908، أخذ "المسلمون" يتضاءلون في البوسنة بحكم الهجرة وينعزلون في المجتمع بحكم تراجع تمثيلهم في المناصب والمجانس المختلفة.
وبعد تشكيل يوغسلافيا في 1918 التي ضمّت البوسنة في حدودها تلاحقت "لعنة المسلمين" بعد أن وجدوا أنفسهم غير معترف بهم كشعب وسط التنافس المحموم بين الصرب والكروات، بل وضعوا تحت ضغوط شديدة أمام خيارين فقط: أن يعلنوا عن أنفسهم كصرب أو ككروات!
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية وانهيار يوغسلافيا نتيجة للاجتياح الألماني في نيسان 1941 وصلت "لعنة المسلمين" إلى ذروة جديدة بحكم الصراع المرير بين الحركتين القوميتين الصربية (التشتنيك) والكرواتية (الاوستاشا) حيث حدثت مجازر جماعية غير مسبوقة حتى ذلك الحين فبحكم موقع "المسلمين" بين الطرفين، وسعي الطرفين إلى استقطاب / استبعاد "المسلمين" بالترغيب والترهيب، تمثلت "لعنة المسلمين" هذه المرة في وقوع مجازر كبيرة وتصفيات جماعية لا مثيل لها في البوسنة.
والمثير في الكتاب أن المؤلف يعترف، وهو الذي كان على رأس السلطة، أن الأعداد الحقيقية لضحايا المجازر من "المسلمين" لم تكشف إلا في 1991، حيث سمحت الحريات المتزايدة آنذاك بنشر كتابين عن ضحايا يوغسلافيا السابقة في الحرب العالمية الثانية.
وهكذا فقد كشف آنذاك في كتابين جديدين (صدر الأول في سراييفو والثاني في زغرب) عن أن عدد ضحايا "المسلمين" خلال الحرب العالمية الثانية 1941-1945 وصل إلى 86 ألف شخص أي ما يوازي 7% تقريباً من عدد "المسلمين" آنذاك.
والمفارقة المرة، كما يقول المؤلف، أن هذه "الصدمة" التي نشأت عن الكشف عن هذه الأرقام لأول مرة في 1991 سرعان ما نسيت أمام الصدمة الجديدة من حرب 1992-1995 التي قضت على 200 ألف من "المسلمين" في البوسنة نتيجة لمجازر وتصفيات جماعية أشد هولاً مما حدث في الحرب العالمية الثانية.
وهنا أيضاً يعيد المؤلف "لعنة المسلمين" إلى التنافس المحموم بين صربيا (ميلوشيفيتش) وكرواتيا (توجمان) على البوسنة، دون أن يغفل توجيه بعض اللوم إلى قيادة "المسلمين" (بيغوفيتش) أيضاً طالما أنه كان آنذاك في موقع المعارضة بعد أن فشل الحزب الشيوعي/الحزب الاشتراكي الديموقراطي في أول انتخابات ديموقراطية تجري في البوسنة (1990).
ويرى المؤلف أن الحزب الشيوعي/ الحزب الاشتراكي الديموقراطي دخل هذه الانتخابات وسط فضائح متعاقبة في السنوات الأخيرة لحكم الحزب الواحد (فضيحة نيوم، فضيحة أغروكومرس الخ) وأخطاء متراكمة، كما أنه لا ينفي أن الناس في البوسنة كانوا يرغبون في التغيير بعد كل السنوات الطويلة التي جربوا فيها حكم الحزب الواحد.
ولكن المؤلف يأخذ على الأحزاب الجديدة أنها كانت قومية ضيقة حيث أن حزب عزت بيغوفيتش "حزب العمل الديموقراطي" اقتصر على "المسلمين"، وكذلك الأمر مع "الحزب الصربي الديموقراطي" و "الاتحاد الكرواتي الديموقراطي"، بينما كان حزبه يسعى إلى تمثيل كل البوسنة.
وبعبارة أخرى، حسب رأي المؤلف، فقد أدى هذا الاستقطاب القومي المحموم بين هذه الأحزاب الثلاثة إلى شحن كل طرف ضد الآخر مما ساعد على اندلاع الحرب بالشكل الذي بدأت فيه في نيسان 1992م.
ولكن المؤلف يصر في أكثر من موضع على أن هذه لم تكن مجرد حرب، وبالتالي مجرد معارك عادية يمكن أن يفوز بها أو يخسرها أي طرف، بل كانت "جنوسايد" Genocidضد طرف لا يراد لـه أن يُعترف بوجوده ولا أن يستمر في أرضه.
وعلى الرغم من هذا كله ينتهي المؤلف في نهاية الكتاب (ص319) إلى أن هذا الكتاب ليس "دعوة للكره والانتقام"، وإنما هو فقط للتذكير بما حدث.
فالقوة والأسلحة لا يمكن لها أن تدمر أي شعب، إذ أن روحه وهويته وثقافته تستمر، ولذلك فإن الشعب البشناقي سيخرج من الحرب كالعنقاء من تحت الرماد.
في هذه الحرب/المأساة خسر "المسلمون" الكثير من الضحايا والكثير من الأراضي ولكنهم خرجوا منها باسمهم التاريخي "البشناق" وبوجودهم كشعب مستقل بعد أن فشلت كل محاولات التذويب والاستئصال له في القرن العشرين.
وأخيراً هناك ما يلفت النظر في مقدمة المؤلف حيث يشير إلى أن هذا الكتاب قد يصدر بالعربية أيضاً بعدما ترجم إلى عدة لغات، وهو ما نتمنى أن نراه قريباً. يتبع إن شاء الله... |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: البوسنة ما بين الشرق والغرب الخميس 09 يونيو 2011, 1:52 pm | |
| صفحات مطوية عن حرب 1948 :
ماذا وراء مشاركة البشناق في القتال إلى جانب العرب؟
في ربيع 2004 كنت في حلب بدعوة من"جمعية العاديات" لإلقاء محاضرة عن المفكر والسياسي البوسنوي علي عزت بيغوفيتش بمناسبة وفاته، وقد فوجئت في الحديث الذي أعقب المحاضرة بلواء سابق في الجيش السوري يحدثنا عن ذكرياته في جيش الإنقاذ مع عدد من البشانقة الذين جاؤوا وتطوعوا للقتال إلى جانب العرب في حرب 1948 وأبلوا بلاء حسنا يذكره لهم بكل تقدير.
وقد وعدته آنذاك بالعودة إلى هذا الموضوع لما لـه من أهمية، إذ أنه على حد علمي لم يتطرق إليه أحد حتى الآن.
وقد تصادف بعد عودتي أن أجد في انتظاري كتاب صدر مؤخراً في سراييفو باللغة البوسنوية للمؤرخ البوسنوي المعروف د. مصطفى إماموفيتش بعنوان "البشانقة في المهجر"(1) الذي يتناول فيه الدياسبورا البشناقية في العالم وما قامت به في البلدان التي استقرت فيها. ومن هذه البلدان التي تعيننا هنا لبنان وسوريا، لما كان لحضور البشانقة هنا من ثقل نوعي.
وفي الحقيقة أن الكتاب يركز على الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت وراء ثلاث موجات كبيرة للهجرة من البوسنة إلى الخارج.
أما الموجة الأولى فقد كانت عقب الاحتلال النمساوي المجري للبوسنة في 1878 حيث هاجر مئات الألوف من البشانقة إلى المناطق المجاورة التي بقيت تحت حكم الدولة العثمانية، إذ أن السكان قاوموا بضراوة هذا الاحتلال المفاجىء وفضّل قسم منهم الهجرة على الإقامة تحت حكم دولة غريبة عليهم.
وخلال الحكم النمساوي المجري، الذي تراجع فيه وضع المسلمين بعد أن فقدوا دورهم القيادي في السياسة والاقتصاد والمجتمع، بدأت في 1900 موجة جديدة من الهجرة لدوافع اقتصادية بحتة باتجاه العالم الجديد/أمريكا للبحث عن معيشة أفضل.
أما الموجة الثالثة والأخيرة فقد جاءت في نهاية الحرب العالمية الثانية (1945). فخلال الحرب كانت يوغسلافيا فقد تفتت وتشكلت هناك "دولة كرواتيا المستقلة" التي ضمت البوسنة.
وقد زار سراييفو خلال الحرب مفتي القدس الحاج أمين الحسيني الذي سعى إلى إثارة حماس المسلمين هناك للقتال إلى جانب ألمانيا في الحرب لكونها ستساعد العرب في فلسطين ضد المشروع الصهيوني الذي كان يحظى بدعم الطرف الآخر / الحلفاء.
ولكن مع نهاية الحرب في ربيع 1945 انهارت "دولة كرواتيا المستقلة" أمام تقدم قوات تيتو الذي كان يعمل على إعادة توحيد يوغسلافيا بروح جديدة. ونتيجة للصراع بين طرفين مختلفين في كل شيء فقد فضل عشرات الألوف من السياسيين والعسكريين الهجرة من "دولة كرواتيا المستقلة" إلى الدول المجاورة سواء للنجاة بأنفسهم من السلطة الجديدة أو لمواصلة المعارضة في الخارج على أمل العودة مرة أخرى.
وضمن هذه الموجة الثالثة غادر البلاد حوالي عشرة آلاف بشناقي باتجاه أوروبا الغربية والولايات المتحدة، بينما توجه المئات منهم إلى المشرق (لبنان وسوريا ومصر).
ولكن هؤلاء المئات كان لهم وزن نوعي سياسي وعسكري، حيث وصلوا المنطقة في الوقت (1946-1947) الذي كانت تغلي فيه بسبب تصاعد القتال في فلسطين بين العرب واليهود.
ويكفي أن نذكر هنا أنه من بين كبار السياسيين الذين لجأوا إلى الخارج واختاروا بلاد الشام لإقامتهم كان د. جعفر كولينوفيتش وزير الغابات والمناجم في يوغسلافيا قبل انهيارها في 1941 ونائب رئيس الحكومة في "دولة كرواتيا المستقلة" 1941-1945 الذي اختار سوريا للإقامة فيها وبقي هناك حتى وفاته في 1949.
وبين هؤلاء البشانقة الذين استقروا في لبنان وسوريا آنذاك كان هناك عشرات العسكريين العاملين في "دولة كرواتيا المستقلة" الذين كانت لهم خبرة عسكرية، والذين وجدوا في حرب 1948 فرصة لإثبات ذاتهم.
وفي حديث د. إماموفيتش عن هؤلاء كان لابد له أمام القراء البشناق الآن أن يعود ليوضح الوضع الذي قاد إلى حرب 1948 حتى يفسّر للقراء الدوافع التي قادت البشانقة إلى المشاركة في تلك الحرب.
وهكذا فهو يبيّن للقراء بروز وامتداد الحركة المعادية لليهود في أوروبا وظهور الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر ليصل إلى أن شعار "شعب دون أرض وأرض دون شعب" كان غير صحيح ولكنه كان يناسب مع ذلك الحكومات الأوروبية (ص114).
ونتيجة لذلك فقد ساعدت أو شجعت الحكومات الأوروبية اليهودية على الهجرة إلى فلسطين حتى ازداد عددهم بسرعة ووصلت الأمور في خريف 1947 إلى القرار المشؤوم بتقسيم فلسطين الذي رفضه الطرفان، وأدى هذا إلى إعلان دولة إسرائيل ودخول جيوش الدول العربية المجاورة الحرب لمنع ذلك.
وهنا يشير المؤلف إلى أن "إسرائيل كدولة عبرية هي نتاج خاص للتاريخ الأوروبي الذي تحقق (هذه المرة) خارج العالم الأوروبي" (ص117-118).
وفي هذا الوضع تطوع عشرات البشانقة من اللاجئين السياسيين الذين كانوا قد وصلوا لتوهم "لحمل السلاح للقتال إلى جانب الضحية" كما يقول المؤلف (ص118).
وإلى جانب ذلك يذكر د.إماموفيتش دافعا آخر لمشاركتهم إذ انه يقول أنهم "كمسلمين أوروبيين كانوا يقاتلون أيضاً لأجل الحفاظ على هويتهم المسلمة الخاصة لهم في القارة الأوروبية" (ص118).
ويوضح المؤلف هنا أن حوالي 200 بشناقي من العسكريين السابقين والمدنيين شاركوا في هذه الحرب وأبلوا بلاء جيداً نالوا لأجله أوسمة وترقيات.
ومن بين هؤلاء فقد حصل شوقي مفتيتش ومحرم بايرا كتاروفيتش على رتبة عقيد.
ومن بين العسكريين الآخرين الذين أبلوا في هذه الحرب يذكر المؤلف سعيد زوبتشفيتش وإلز دوريشفيتش وعاصم باركوفيتش وحسن تشوستوفيتش وصفوت فريزوفيتش ورامو كوفاتشوفيتش ومويو أفدوفيتش وثابت بودروغ.
وبعد نهاية الحرب آثر بعضهم الاستقرار في لبنان وسوريا بينما فضل بعضهم الهجرة إلى الولايات المتحدة وكندا للالتحاق هناك بالتجمعات الكبيرة للبشناق.
ومن بين الذين بقوا في لبنان يذكر المؤلف العقيد شوقي مفتيتش، الذي توفي في بيروت وشيع باحترام كبير من الجانبين اللبناني والفلسطيني (بحضور ياسر عرفات شخصياً) نظرا للخدمات التي قدمها للجانبين.
كتاب د. إماموفيتش عن الدياسبورا البشانقية في العالم يحمل جديداً للقراء للبشانقة أنفسهم بعد تعتيم طويل على هذا الموضوع في بلادهم، ويحمل جديداً للقراء للعرب حول هذه المشاركة البشناقية في حرب 1948 التي تستحق أن تبحث وتنشر عنها دراسة خاصة.
أعلام البوسنة في القرن العشرين
الذين حافظوا على تواصلها مع الشرق
توفي مؤخراً (28/12/2002) العالم البوسنوي الحافظ محمود تراليتش، الذي يمثل الجيل المخضرم للبوسنة خلال القرن العشرين.
فقد ولد في أواخر 1918 حين انتقلت البوسنة من دولة (امبراطورية النمسا/المجر) إلى دولة جديدة تشكلت آنذاك (يوغسلافيا)، التي عانى المسلمون كثيراً في سنواتها الأولى، وعايش إعلان "دولة كرواتيا المستقلة" في 1941 التي ضمت البوسنة أيضاً، وتجربة جديدة مع يوغسلافيا بعد أن أصبحت جمهورية فيدرالية تحت حكم الحزب الشيوعي في 1945 حيث عرف المسلمون فيها حالات المد والجزر، وأخيراً إعلان الاستقلال في 1992 الذي كلف البوسنة حرباً مأساوية لم تشف منها بعد.
ولكن مع كل هذا كان تراليتش يمثل مع غيره من المثقفين الروح الحية التي بقيت تحافظ على ارتباط البوسنة بالشرق.
وكان تراليتش قد درس في مدرسة الغازي خسرو بك المعروفة في سراييفو ثم تابع دراسته في كلية العلوم الإسلامية التي كانت تأسست في سراييفو 1937 والتي تخرج منها في 1940.
وقد انشغل تراليتش منذ شبابه بالبحث والنشر، وخاصة في مجال التاريخ والسير والببلوغرافيا، حيث تشير قائمة أعماله التي نشرت بعد وفاته إلى 234 مقالة ودراسة وترجمة نشرت في مختلف المجلات خلال العهود المختلفة للبوسنة في القرن العشرين.
وكان ما يتميز به تراليتش الصلات الواسعة مع علماء البوسنة في القرن العشرين، سواء الذين تتلمذ عليهم أو من مجايليه، ولذلك فقد كتب في مناسبات كثيرة عن مقالات عن هؤلاء تعرّف بهم ونتاجهم العلمي.
وبعد اندلاع الحرب في البوسنة في 1992، التي تحولت إلى تطهير عرقي وثقافي للمسلمين لتستأصل كل ما يذكّر بحاضرهم وماضيهم، صدرت في زغرب خلال 1994 الطبعة الأولى من كتاب "أعلام بوسنوية" الذي ضمّ سير 35 علماً من أعلام البوسنة.
وكان من الواضح، كما تقول مقدمة الكتاب، أن نشر هذه الكتاب جاء في سياق الدفاع عن كيان البوسنة وهويتها في ذروة الحرب، إذ كان يريد أن يعرّف الأجيال الشابة بماضي البوسنة الذي كان اغتياله وتغييبه من أهداف الحرب.
وبعد استقرار الوضع في البوسنة صدرت في سراييفو هذه المرة طبعة موسعة من الكتاب (دار القلم 1998)، حيث تضاعف فيها عدد الأعلام من 35 إلى 55 شخصية(1).
ويلاحظ هنا أن تراليتش كتب سير من كان يعرفهم، ولذلك فقد جمع أعلام البوسنة في مجال محدّد ألا وهو الباحثين في الدراسات العربية والإسلامية أو العاملين في المؤسسات الإسلامية (مفتون وأئمة ووعاظ الخ).
ولذلك فإن الكتاب، الذي يضم ما نشر من مقالات عن هذه الشخصيات، ليس "قاموس أعلام" بالمعنى المتعارف عليه لأن أعلام البوسنة في القرن العشرين أكثر بكثير من أن يحيط بهم كتاب بهذا الحجم (245 صفحة من الحجم الوسط).
ولكن هذا قد يكون ما يميّز هذا الكتاب باعتباره يقتصر على أعلام البوسنة في مجال معين، مع أنه لدينا غياب ملفت للنظر لبعض الشخصيات المعروفة مثل د. أحمد اسماعيلوفيتش (توفي في 1985) وغيره.
وربما السبب في هذا يكمن في تراليتش كتب فقط عن أساتذته ومجايليه، ولم يكتب عن تلاميذه أو الجيل الجديد الذي جاء بعده.
وعلى كل حال يمكن القول أن أعلام البوسنة في كتاب تراليتش يمكن أن نقسمهم حسب تكوينهم العلمي إلى ثلاثة مجموعات:
1- المجموعة الأولى التي اكتفت من التحصيل العلمي بما هو متوفر في البوسنة (مدرسة الغازي خسرو بك وغيرها، المعهد العالي القضائي الشرعي، كلية العلوم الإسلامية)، وكان هؤلاء أقرب إلى التقليد والعمل الدعوي/المؤسساتي ضمن "الجماعة الإسلامية" التي كانت تمثل المسلمين أمام الدولة وترعى شؤونهم الدينية والثقافية.
2- المجموعة الثانية التي تابعت تحصيلها في الجامعات النمساوية والمجرية (بعد أن أصبحت البوسنة تحت الاحتلال النمساوي المجري خلال 1878-1908 ثم جزءاً من الامبراطورية النمساوية المجرية خلال 1908-1918) والجامعات اليوغسلافية (زغرب وبلغراد).
ويلاحظ على هذه المجموعة (شكري ألاغيتش 1881-1936 وصفوت باش أغيتش 1870-1934 ود.شاكر سيكريتش 1893-1966 و د.محمد حاجي أهيتش 1918-1986 و د.حازم مفتيتش 1906-1974 وغيرهم) انها تكونت حسب الأصول العلمية الحديثة وحملت للبوسنة روحاً جديدة أغنت البحث العلمي في مجال الدراسات العربية والإسلامية.
3- المجموعة الثالثة التي تابعت تحصيلها في الأزهر بالقاهرة بعد أن أصبحت البوسنة جزءاً من يوغسلافيا (آدم كاراجوزوفيتش 1891-1981 و درويش كركوت 1900-1943 وبسيم كركوت 1904-1975 ومحمد خانجيتش 19056-1944 ومحمد فوتشاك 1906-1978 وقاسم دوبراجا 1910-1979 وغيرهم).
ويلاحظ على هذه المجموعة أنها تكونت في القاهرة خلال فترة غنية بالأفكار الإصلاحية في العالم الإسلامي (نهاية العشرينات وطيلة الثلاثينات)، ولذلك فقد حملت معها روح وأفكار محمد عبده ومحمد رشيد رضا وشكيب أرسلان وغيرهم إلى البوسنة.
وفيما يتعلق بالنتاج العلمي لهذه المجموعات الثلاثة فهو متنوع ولكنه يتسم بالكثرة إذ لدينا عشرات الكتب ومئات المقالات والدراسات التي تدور في مجال الدراسات العربية والإسلامية.
ومن الملاحظ هنا أن جزءاً منها يتناول تاريخ البوسنة خلال العهد العثماني 1463-1878، وبالتحديد تراث البوسنة في اللغات الشرقية (العربية والتركية والفارسية) لما في ذلك من علاقة بالمجال المذكور.
ومع ذلك يمكن التمييز بين ثلاث مجموعات كبيرة ضمن هذا النتاج:
1 ـ الكتب والمقالات التي تعرّف بالاسلام عقيدة وثقافة سواء بغرض التعليم (نصوص تعليمية / مدرسية) أو بغرض الثقافة العامة (مقالات ودراسات في المجلات الكثيرة التي كانت تعنى بهذه المواضيع مثل "الهداية" و "نوفي بهار" و "اسلامسكي سفيت" وغيرها).
2 ـ الكتب والدراسات التي تتعلق باللغة العربية تاريخاً وتعليماً سواء للتلاميذ والطلاب (في المدارس الإسلامية أو في الكلية / الجامعة) أو للمعنيين بشكل عام.
ويمكن هنا أن نذكر كتاب أ.كاديتش و أ.بوليتش "قواعد اللغة العربية وتمارين" (سراييفو1907) وكتاب ش.سيكريتش و م.باشيتش و م. خانجيتش "قواعد وصرف اللغة العربية" (سراييفو 1937) وكتاب بسيم كركوت "قواعد اللغة العربية 1-2" (سراييفو 1952).
3 ـ الترجمات المختلفة من اللغة العربية إلى اللغة البوسنوية والتي كانت تشتمل على ما يتعلق بالإسلام والأدب والتاريخ، والتي أبقت البشانقة على تواصل مع الشرق بعد أن أصبحت القراءة في اللغة العربية أو في البوسنوية بالأبجدية العربية مقتصرة على حلقة ضيقة من العلماء.
وعلى سبيل المثال لا بد من ذكر أول مختارات من الشعر العربي (من شعراء المعلقات حتى البوصيري) التي اختارها وترجمها إلى اللغة البوسنوية علي كاديتش (سراييفو 1913).
ويلاحظ أخيراً أن من بقي من هؤلاء الأعلام بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث تعرض بعضهم للسجن أو الموت سواء خلال الحرب أو بعد وصول الحزب الشيوعي إلى السلطة في 1945، قد انقسموا بدورهم إلى قسمين: قسم شارك في العمل في "الجماعة الإسلامية" بعد إعادة تنظيمها في الدولة الجديدة، بعد أن بقي منصب "رئيس العلماء" شاغراً خلال 1941-1945، وقسم آخر انشغل في تأسيس معهد الاستشراق وقسم الاستشراق في جامعة سراييفو بعد تأسيسهما في 1950.
وضمن القسم الثاني لا بد من ذكر بسيم كركوت 1904-1975 وعمر موشيتش 1903-1972 و د. شاكر سيكريتش 1893-1966، الذين ساهموا في بلورة مدرسة جديدة للاستشراق تختلف عن المدرسة التي كان يمثلها قسم الاستشراق في جامعة بلغراد، التي كانت أقرب إلى النزعة الأوروبية المركزية.
وبعبارة أخرى فقد جعل هؤلاء الأعلام في صلب اهتمامهم دراسة التراث الشرقي للبوسنة باعتباره جزءا من تاريخهم وليس موضوعاً لدراسة الآخر.
وفي النهاية لا بد من القول أن كتاب تراليتش على أهميته في تعريفنا بسير ونتاج 55 علماً من أعلام البوسنة خلال القرن العشرين، إلا أنه يغيّب أسماء مهمة في مجال الدراسات العربية والإسلامية (فهيم بايراكتاروفيتش، حازم شعبانوفيتش، سليمان غروزدانيتش وأحمد اسماعيلوفيتش وغيرهم) لاعتبارات شخصية أو سياسية.
ومع ذلك يبقى هذا الكتاب مرجعاً لا غنى عنه عن أعلام البشانقة الذين عملوا في مجال الدراسات العربية والإسلامية وأسهموا في الحفاظ على تواصل البوسنة مع العالم العربي والإسلامي.
محمد خانجيتش أو محمد الخانجي من أعلام البوسنة في القرن العشرين
في 1992، وفي خضم الاهتمام بالحرب/المأساة الدائرة في البوسنة، صدرت في القاهرة طبعة جديدة من الكتاب المرجعي "الجوهر الأسنى في تراجم علماء وشعراء بوسنة" لمحمد الخانجي، الذي كان قد صدر في القاهرة عن مكتبة المعاهد الدينية عام 1349هـ / 1930م.
وكان مما يلفت النظر في هذه الطبعة أنها احتوت في غلافها على أنها من تحقيق الدكتور عبد الفتاح حلو.
وفي الواقع يصعب هنا فهم المراد من "تحقيق" التي تستخدم بكثرة مع إعادة طبع الكتب في السنوات الأخيرة، حيث أن "المحقق" يعترف بأنه لم يبذل أي جهد لمعرفة المزيد عن المؤلف (محمد الخانجي) سوى ما ذكره هو عن نفسه في كتابه من أن له شرح بالعربية على كتاب "أصول الحكم" وليقول في النهاية "ولا نعرف أكثر من هذا عن حياته ومؤلفاته" (ص7)(1).
ولا شك أنه لمن المؤسف أن تصدر طبعة جديدة من هذا الكتاب المرجعي في 1992، أي في وقت تدفق المعلومات، دون أن تتضمن معلومة جديدة عن المؤلف الذي يعتبر من أبرز علماء المسلمين في البوسنة في النصف الأول من القرن العشرين ومن أكثرهم تأليفا ونشرا وتأثيرا في محيطه خلال السنوات التي عاشها.
فمن يصدق أن محمد الخانجي قد ألف كتابه المرجعي "الجوهر الأسنى في تراجم علماء وشعراء بوسنة" حين كان طالباً في الأزهر لم يتجاوز بعد الثالثة والعشرين، ومن يصدق أنه ألف ونشر مئات الدراسات والمقالات في البوسنة خلال شبابه حيث ان الموت اختطفه فجأة قبل أن يبلغ الأربعين من عمره؟
ولد محمد خانجيتش M.Hanzic في سراييفو عام 1906، أي حين كانت البوسنة لا تزال تتبع اسمياً الدولة العثمانية، ومن ثم عايش في طفولته ضم البوسنة إلى امبراطورية النمسا/المجر، كما شهد في فتوته (1918) انضمام البوسنة إلى الدولة الجديدة (يوغسلافيا) التي تشكلت على أنقاض الامبراطورية كما عايش في شبابه (1941) انضمام البوسنة إلى "دولة كرواتيا المستقلة" التي قامت على أنقاض يوغسلافيا الأولى.
وفي غضون ذلك كان خانجيتش قد تخرج من المدرسة الشرعية والتحق بالأزهر في 1926 حيث تخرج منه في 1930.
وبعد عودته إلى سراييفو اشتغل في مدرسة الغازي خسروبك، حيث درّس اللغة العربية والتفسير والحديث والفقه، وانتقل في العام الدراسي 1939 - 1940 إلى المعهد العالي للدراسات الإسلامية الذي كان قد تأسس آنذاك، حيث درّس التفسير وأصول الفقه.
وخلال تلك السنوات أصبح من أبرز أعضاء جمعية علماء المسلمين "الهداية" ومن أبرز الكتاب في مجلتها التي تحمل اسمها.
وفي ذروة نشاطه العلمي أدخل إلى المستشفى لإجراء عملية بسيطة (استئصال الزائدة الدودية) ولكنه توفي فجأة في المستشفى في 29/7/1944، مما أثار الشكوك في مثل هذه الوفاة.
ومع هذا يمكن القول خانجيتش كان من الشخصيات المعروفة في البوسنة للأجيال المخضرمة أو للجهات المعنية بالثقافة الشرقية/الاسلامية, ولكنه الآن اصبح في متناول الجميع بعد أن صدرت مؤخراً الأعمال المختارة له في ست مجلدات بإشراف أكاديميين معروفين في البوسنة ألا وهما أسعد دوراكوفيتش وأنس كاريتش(2).
وإذا ما عرفنا أن هذه المجلدات الستة جمعت أكثر من ثلاثة آلاف صفحة لأدركنا أننا بالفعل أمام شخصية غير عادية أخذا بعين الاعتبار المواضيع التي أثارها والأعمال التي ألفها ونشرها سواء في البوسنوية أو العربية خلال عمره القصير 1906-1944.
ولا شك أن نشأة خانجيتش في فترة مخضرمة (عثمانية/ نمساوية/ يوغسلافية) وفي عاصمة متنوعة الثقافة (الشرقية والغربية) مثل سراييفو ومعرفته الجيدة باللغات الشرقية (العربية والتركية والفارسية) واهتماماته المتعددة (اللغة والأدب والتاريخ والعلوم الإسلامية) قد ساعدته على أن يكوّن ثقافة واسعة تجمع ما هو محلي/بوسنوي مع ما هو شرقي وغربي. ومن ناحية أخرى فإن ذهابه إلى القاهرة للدراسة في الأزهر إنما جاءت في فترة مهمة (نهاية العشرينات) عرفت فيها القاهرة مختلف التيارات الليبرالية والإصلاحية الإسلامية، ولذلك فإنه عاد إلى البوسنة ليحمل معه هذه الروح الجديدة إلى المسلمين في البوسنة، الذين كانوا يعايشون فترة تحولات صعبة بالنسبة إليهم.
وهكذا إذا ما أخذنا قائمة الأعمال المنشورة لخانجيتش في المجلد الأخير من "الأعمال المختارة" لوجدنا أن عددها يقارب الـ350 ما بين كتاب ودراسة ومقال أو تعليق.
ويلاحظ هنا أن أول مقال كتبه خانجيتش كان في القاهرة خلال دراسته في الأزهر ونشره عام 1928 في مجلة "نوفي بهار" Novi Behar البوسنوية المعروفة إنما كان عن مؤسس القاهرة جوهر الصقلي وما يقال عن أصله السلافي.
ويلاحظ هنا أيضاً أن هذه القائمة لم تتوقف عند الأعمال التي نشرها حتى وفاته في 1944 بل انها امتدت حتى 1995 حيث أن بعض دراساته أعيدت طباعتها خلال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، أي أن خانجيتش بقي حاضراً ومؤثراً طيلة الدولة الجديدة (يوغسلافيا الاشتراكية) التي ضمت البوسنة أيضاً خلال 1945 - 1992.
ومن ناحية أخرى يلفت النظر في هذه القائمة تلك الأعمال غير المنشورة التي يصل عددها إلى خمسة عشر.
ويلاحظ هنا أن معظم هذه الأعمال في اللغة العربية، وبعضها يوضح بحق الخسارة التي لحقت بالبوسنة من جراء الوفاة المبكرة لخانجيتش.
وهكذا لدينا "مجمع البحار في تاريخ العلماء والأسفار" الذي هو الجزء الأول من ثلاثة أجزاء أراد بها خانجيتش تكملة كتاب حاجي خليفة "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" الذي أنجزه خانجيتش قبل 1931، و"شرح تيسير الوصول إلى جامع الأصول" لابن الأثير الذي أنجزه خانجيتش في 1930، و "رسالة الحق الصحيح في اتباع نزول سيدنا المسيح" التي أنجزها خانجيتش خلال وجوده في القاهرة 1929، و"رحلة إلى مصر" من مشاهداته خلال إقامته هناك، و"تفسير آيات الأحكام في سورة النساء" الخ.
ومن بين مخطوطاته في اللغة البوسنوية تجدر الإشارة إلى "محاضرات في أصول الفقه" و "حياة رسول الله محمد" لشبلي نعماني الذي ترجمه من العربية .
وإذا ما عدنا إلى مئات الدراسات والمقالات المنشورة لخانجيتش خلال 1928-1944، والموجودة الآن في "الأعمال المختارة"، لوجدنا أنها تندرج في موضوعات كثيرة تنم عن الثقافة الواسعة للمؤلف والروح الريادية / الاجتهادية له:
1- التفسير (علم التفسير، شرح وترجمة بعض السور القرآنية). 2- الحديث (علم الحديث، شرح وترجمة بعض الأحاديث النبوية). 3- الفقه. 4- أصول الفقه. 5- علم الكلام. 6- التاريخ (تاريخ الإسلام، تاريخ الإسلام في البوسنة، تاريخ البوسنة خلال الحكم العثماني). 7- الأدب (الأدب العربي، الأدب البوسنوي المكتوب بالحروف العربية). 8- السير والأعلام (من تاريخ الإٍسلام وتاريخ البوسنة). 9- الحكم والأمثال. 10- الحضارة العربية . 11- من تاريخ المولد النبوي في الإسلام وفي البوسنة. 12- الوطنية والقومية والإسلام. 13- المسلمون في أوروبا (بولونيا، المجر ..الخ). 14- المخطوطات العربية في البوسنة. 15- التصوف والتكايا الصوفية في البوسنة. 16- إصلاح التعليم الديني في البوسنة.
وفي الواقع أن الكثير من الدراسات والمقالات في هذه الموضوعات الكثيرة التي اشتغل فيها خاجيتش كانت تعبر عن أصالة وريادة ونظرة وسطية للقضايا التي كانت تهم وتشغل المسلمين في البوسنة آنذاك. ومع ذلك يمكن أن نركز هنا على محورين اثنين لما نرى فيهما من قيمة خاصة بالنسبة إلى ذلك الوقت.
أما المحور الأول فهو يعبر عن الروح الجديدة التي حملها خانجيتش من القاهرة آنذاك، والتي تتعلق بالكثير من القضايا الجديدة/القديمة التي كانت تشغل المسلمين في البوسنة.
فقد كان المسلمون في البوسنة قد خرجوا لتوهم من الحكم العثماني الطويل، حيث انقسم علماء المسلمين إلى محافظين ومصلحين، بينما كان عامة المسلمين تحت تأثير الأفكار الجديدة (الليبرالية والعلمانية والاشتراكية).
ومن هنا فقد ركز خانجيتش في مقالاته الكثيرة، بالاستناد إلى الانفتاح الذي عايشه في القاهرة، على تقديم صورة مقبولة للإسلام فيما يتعلق بالعمل والزواج والاختلاط واللباس الخ.
ولكن مع انفتاحه في الكثير من هذه القضايا التي كانت حيوية لمنطقة في قلب أوروبا كالبوسنة إلا أنه بقي متشدداً في بعض القضايا التي كان يستفتى فيها كشرب البيرة وفوائد البنوك.
ويلاحظ بين أوراقه المطبوعة في "الأعمال المختارة" رسالة له من شيخ الأزهر مؤرخة في 28/2/1939 تقطع بحرمة الربا، مما يدل على أن خانجيتش قد حافظ على أزهريته في هذه الأمور.
وأما المحور الثاني المهم في رأينا ، الذي كتب فيه بغزارة وأصالة، فهو تاريخ البوسنة وما يتعلق به من ثقافة تميزها عن غيرها.
وتبرز أهمية هذا المحور في الظروف الصعبة التي عاشها المسلمون خلال ذلك الوقت.
فقد وجد المسلمون أنفسهم في دولة لا ترغب بهم كما هم، أو قد تقبل بهم خارج هويتهم التاريخية أي كصرب أو ككروات فقط على أساس أن الحكومة المركزية كانت ترفض الاعتراف بوجود هوية خاصة للبوسنة أو للبشانقة.
ومن هنا فقد كانت لكتب ودراسات ومقالات خانجيتش التي تتعلق بالبوسنة وتاريخها وثقافتها أهمية كبيرة إذ أنها أحيت باستمرار الوعي بوجود بوسنة متميزة وبوجود ثقافة متميزة للمسلمين في البوسنة.
وفي هذا الإطار يمكن أن نذكر كتابه "الجوهر الأسنى" و"المؤلفات الأدبية للمسلمين في البوسنة والهرسك" و "انتشار الإسلام في البوسنة والهرسك" ..الخ.
وهكذا في الوقت الذي كانت تصادر فيه هوية البشانقة في يوغسلافيا الأولى ما ازدياد الضغوط عليهم للتعبير عن أنفسهم كصرب أو ككروات، يقوم خانجيتش بنشر مقالته "شعوري حول البشانقة" التي يتناول فيها ما كتبه العالم الحلبي حسن أفندي الملقب ب "شعوري" (توفي 1105هـ/1694م) عن البشانقة ، وكأنه بهذا كان يؤكد على الوعي بهذا الاسم التاريخي.
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن هذا الاسم التاريخي (البشانقة) عاد إلى الاستخدام الواسع والرسمي بعد استقلال البوسنة في 1992، وبالتالي فقد صدرت "الأعمال الكاملة" لخانجيتش في وقت (1999) أصبح يسمح لكاتب المقدمة (د. أسعد دوراكوفيتش) أن يشيد بما كان لخانجيتش من دور في تأصيل الوعي بالبوسنة وثقافتها المتميزة.
وأخيراً يمكن القول أن محمد خانجيتش من أهم أعلام البوسنة في النصف الأول للقرن العشرين الذي تميز بثقافته الواسعة ومعرفته الجيدة باللغات (العربية والتركية والفارسية) وإنتاجه الغزير سواء في البوسنوية أو في العربية، ولذلك فقد غمط حقه في الطبعة الجديدة من كتابه "الجوهر الأسنى" الذي صدر في القاهرة 1992 ونال ما يستحق من اهتمام مع صدور "الأعمال المختارة" له في سراييفو خلال 1999.
(1) تبين لي لاحقاً أنه قد صدرت طبعة أخرى من هذا الكتاب في بيروت (دار الكتب العلمية 1993) بـ"تحقيق" سيد كسروي حسن الذي يذكر في مقدمته (ص 33) أنه "لم يتوافر لدى الكثير عن مؤلف الكتاب لكونه حديثا نسبيا وليس بعربي ثم ليس مصريا حتى أتمكن من السؤال عنه عن طريق بعض أفراد أسرته"!
إسلام وسياسة البشناق وتحديات الحداثة الإسلام وأوروبا من زاوية نظر بوسنية إسلام البوسنة جسر أوروبا إلى العالم الإسلامي الهروب إلى الحرية
البشناق وتحديات الحداثة
مع الحرب / المأساة في البوسنة 1992-1995 التي قامت على وهم بوجود "خطر إسلامي" على أوربا وانتهت بتخاذل أوربي عن حماية المسلمين من المجازر الجماعية إزداد الإهتمام ب "حالة البوسنة" التى تعني فيما تعنيه تاريخ ووضع ومستقبل المسلمين فيها.
فالمسلمون أوربيون راسخون في المنطقة منذ حوالي خمسة عشر قرنا, قضوا فيها عدة قرون وثنين و عدة قرون مسيحيين وحوالى خمسة قرون مسلمين.
ونظرا لإنحسار الحكم العثماني في وقت مبكر في البوسنة (1878) وضم البوسنة إلى الإمبراطورية النمساوية المجرية, فقد وجد المسلمون أنفسهم فجأة خارج "دار الإسلام" التي اعتادوا عليها وفي دولة بغالبية كاثوليكية تحكمها القوانين الأوربية الحديثة.
ومن هنا فقد سبق البشناق غيرهم المسلمين في التعرف على الحداثة في قلب أوروبا وهو ما انعكس على تغيرات كبيرة في الإقتصاد, و المجتمع و الثقافة و السباسة.
ويكفي أن يقال هنا, بالإستناد ما ذكره د. أنس كاريتيش مؤخرا, أنه قد نوقشت في الغرب حوالي مئة رسالة دكتوراة عن البوسنة (تاريخ وقانون وسياسة الخ) في العقد الأخير من القرن العشرين.
وفي هذا الإطار برز جيل جديد من الباحثين البشانقة الذين أسهموا سواء باللغة البوسنوية أو باللغة الإنكليزية في إغناء هذا الإهتمام بدراسات مرجعية مهمة تساعد كثيرا على فهم "حالة البوسنة", و بالتحديد تجربة المسلمين في البلقان مع الحداثة مثل مصطفى إماموفيتش ونياز دوراكوفيتش وأنس كارتيش وفكرت كارتشتيش وغيرهم.
ومن بين هؤلاء تميز فكرت كارتشتيش بدراسة التجارب الإصلاحية على صعيد العلم الإسلامي بشكل عام وعلى صعيد البوسنة بشكل خاص.
ومن أهم دراساته في هذا المجال "الجوانب الإجتماعية والقانونية للإصلاح الإسلامي" (بالبوسنوية سراييفو 1990) و "دراسات في الفقه الإسلامي" (بالبوسنوية سراييفو 1997), بينما صدر له بعد ذلك بالإنكليزية "البشانقة وتحديات الحداثة" (سراييفو 1999)(1).
وتجدر الإشارة إلى أن كارتشتيش (المولود في فيشغراد 1955) يجمع في تكوينه ما بن العلوم الإسلامية (خريج مدرسة الغازي خسرو بك في سراييفو) والعلوم القانونية (خريج جامعة بلغراد), وساعدته معرفته للعربية والإنكليزية في الوصول إلى مصادر ومراجع متنوعة من الأهمية بمكان.
وقد إستفاد كارتشتيش أيضا من إقامته في تركيا ( أستاذا زائرا في إسطنبول) حيث ألف كتابه "تاريخ الفقه الإسلامي في البوسنة والهرسك" (1992 في التركية والعربية), وفي ماليزيا (أستاذا في الجامعة الإسلامية) حبث أنجز هذا الكتاب الذي نحن بصدده.
في مقدمة الكتاب ينطلق المؤلف من أن "تحديث" المجتمع البوسنوي جرى في إطارين مختلفين: الإطار النمساوي المجري والإطار اليوغسلافي وهو يركز في هذا الكتاب على الاطار الأول الذي يعتبره الأهم لإنه كان يمثل المرة الأولى (1878-1918) التي وجد البشانقة أنفسهم في تواصل مباشر مع الافكار والمؤسسات الأوروبية (ص 14).
في الفصل الأول من الكتاب "الحداثة و تحدياتها" لدينا مقاربة عامة ومفيدة عن "أسس الحداثة" مع أن المؤلف يتوقف بشكل خاص عند العلمانية التي يعتبرها الغربيون من أسس الحداثة بينما يشير المؤلف إلى أن الباحثين غير الغربيين لا يعتبرها كذلك ويستشهدون باليابان للدلالة على إمكانية الوصول إلى "حداثة دون علمانية" (ص 21).
و يميز كارتشيش هنا ما بين "الحداثة" (كمثل أعلى مستخلص من التراث و التجربة الغربية) و "التحديث" بإعتباره سيرورة تطورت تاريخيا على ذلك الأساس (ص 22) وهو ما أصبح يترادف لاحقا مع أوربا والأوربة.
وفيما يتعلق بالمسلمين فقد بدأت المشكلة مع إكتشاف تقدم الأوروبيين وتخلف المسلمين, التي طرحت نفسها بقوة على المفكرين المسلمين في جنوب شرق آسيا (الشيخ عمران بيسوني 1869 / 1952) وحتى قلب العالم العربي العثماني (الأمير شكيب ارسلان 1869 - 1946). ومن التحديات التي واجها المفكرون المسلمون آنذاك كانت في الرد على المدارس الفكرية الجديدة (العقلانية و الداروينية والعلمانية والمادية إلخ ) وفي التشكيك بالإسلام بإعتباره مسؤولا عن تخلف المسلمين.
ومن ناحية اخرى يلاحظ المؤلف أن التهديد الأكبر الذي حملته الحداثة للمسلمين كان في مجال المؤسسات الإجتماعية.
ففي القرون الأولى مع التطور الإقتصادي و الإجتماعي والفقهي و الثقافي نجح السملمون في تطوير مؤسسات إجتماعية موازية تعبر عن تطورهم, و لكن منذ القرن الحادى عشر أخذت المؤسسات الإجتماعية تفقد فاعليتها وقدرتها على التكيف مع إنفصال الفكر عن الحياة الواقعية.
وكان المثقفون المسلمون, الذين أتيحت لهم الفرصة لزيارة أوربا قد أخذوا يلاحظون ذلك منذ أواخر القرن 18 ويعبرون عن إعجابهم بالمؤسسات السياسية والإجتماعية الموجودة هناك, و بستنتجون أن التقدم الأوربي إنما يعود إلى هذه المؤسسات الجديدة والفعالة (ص 31).
ويشير المؤلف إلى أن كل المجتمعات المسلمة التي وجدت نفسها في مواجهة مع الأوربيين قد واجهت أو عايشت هذه التحديات, ولكن كانت هناك تحديات خاصة للمسلمين الذين تحولوا إلى أقليات ضمن دول أوربية حديثة كالبشانقة الذين يخصهم المؤلف في كتابه هذا.
ومع هذا يعتبر المؤلف أنه في حالة البشناق بالذات لدينا "تحديث" مبكر جرى في السنوات الأخيرة للحكم العثماني في البوسنة, ذلك الذي تمثل في القضاء على المؤسسة العسكرية القديمة (الإنكشارية) على الرغم من المقاومة الضارية للقوى التقليدية, وفي إقامة إدارة ومحاكم جديدة, تحكم بقوانين مستمدّة من القوانين الأوروبية, وفي وضع نظام جديد لملكية الأراضي وجباية الضرائب, بالإضافة إلى التغيرات في مجال الثقافي والإجتماعي التي انعكس إيجابا على المسلمين والمسيحيين.
و لكن في الوقت الذى أخذ فيه هذا "التحديث" يعطي أولى نتائجه في العقدين السادس والسابع من القرن التاسع عشر. فقد طرأ ما قطع هذا التطور "من الداخل" (العثماني) وجعل البوسنة في 1878 تحت الإحتلال العسكري أو التطور "من الخارج" ( المحتل).
وفي الفصل الثالث "تحديث البوسنة خلال حكم آل ها بسبرغ" يركز المؤلف على "إطار و استراتيجيات التحديث".
فقد فوض مؤتمر برلين في صيف 1878 النمسا / المجر إحتلال إدارة البوسنة بشكل مؤقت, ولكن سياسة الحكم الجديد كانت توحي بغير ذلك أي بإدماج تدريجي (إقتصادي وسياسي وإجتماعي) للبوسنة في الإمبراطورية, وهو ما تتوج رسميا في صيف 1908.
فقد كانت فيينا تريد أن تجعل من البوسنة رأس جسر للتوغل في جنوب البلقان, أي في المناطق التي تسكنها غالبية مسلمة (كوسوفو وآلبانيا), و لذلك فقد أخذت تحول "الإحتلال" بالتدريج إلى "ضم" مع الإجراءات و السياسات التي إتخذتها0 ص 82).
وقد تمثلت هذه السياسة خلال عهد الوزير المفوض بأمور البوسنة بنيامين كالاي 1882-1904, التي أدت إلى تغيرات واضحة في مختلف المجالات.
فقد حرص كالاي على وضع مسؤولين مدنيين عارفين بالبلقان ولغات المنطقة كالبارون هونمو كوتشو الذي كان يحرص على التقرب من المسلمين, وبث رفع الولاء للدولة الجديدة (النمساوية المجرية) عوضا عن الدولة الآفلة (العثمانية). وفي هذا الإطار فقد عمل هؤلاء السؤولون بروح من لديهم "رسالة ثقافية" لتحضير السكان الجدد (ص 87).
وفي الصفحات اللاحقة من الفصل يستعرض المؤلف التغيرات الإقتصادية والإجتماعية والتعليمية والثقافية الجديدة التي أخذت تظهر نتائجا على الأرض في البوسنة خلال الحكم النمساوي المجري.
ولكن هذه التغيرات الكبيرة لم يكن من السهل قبولها لدى المثقفيين المسلمين في البوسنة, وهو ما يخصص لـه المؤلف الفصل الرابع بعنوان "التحديات وإستجابات المثقفين البشانقة".
فقد برزت في السنوات الأولى ردات فعل علماء المسلمين التقليديين التي تمثل في الدعوة إلى الهجرة بإعتبارها فرض على المسلمين لأن البوسنة لم تعد في (دار الإسلام) بل في "دار الكفر", ولكن مع الزمن يبرز موقف أخر يدعو المسلمين إلى البقاء في "الوطن" (البوسنة) , وهو ما أخذ يعبر عن مشاعر جديدة (وطنية) عند البشانقة حيث يمكن لهم الحفاظ على دينهم (الإسلام) مع وجودهم في دولة غير مسلمة. يتبع إن شاء الله... |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: البوسنة ما بين الشرق والغرب الخميس 09 يونيو 2011, 2:18 pm | |
| وفي هذا الإطار وجد بين العلماء من يكفر من يخدم في الجيش النمساوي (الكافر) ومن لا يرى غضاضة في ذلك (ص 118-120).
و في هذا الإطار يركز المؤلف على التطور المهم الذي تمثل في تشكيل هرمية\ مؤسسة دينية للمسلمين في البوسنة (مستقلة عن شيخ الإسلام) يراسها "رئيس العلماء" الذي اصبح يعين بمرسوم من الإمبراطور, وهي المؤسسة التي أصبحت تمثل المسلمين أمام الدولة (غير المسلمة) وتعتنى بالشؤون الدينية والثقافية للمسلمين في البوسنة.
وفي نهاية هذا الفصل يتناول المؤلف تحت عنوان "الإسلام والثقافة الأوربية" ما طرأ من جديد في هذا المجال, حيث يرى د. كارتشتيش أن ما قام به حكم آل هابسبرغ في البوسنة من نشر الثقافة الأوربية في البوسنة جعل المثقفين المسلمين يناقشون لأول مرة بحرية قضية العلاقة بين الإسلام والثقافة الأوربية.
ففي البداية اتخذ معظم علماء المسلمين التقليديين موقف الرفض للثقافة الجديدة على إعتبار أن الإدارة الموجودة "مؤقتة" و أن الأمور ستعود على ما كانت عليها مع عودة الحكم العثماني.
ولكن مع المدارس الجديدة والصحافة التي انتشرت في البوسنة ساهمت في نشر الافكار الأوربية الجديدة أخذ يظهر جيل جديد متعلم من المثقفين المسلمين الذين أصبحت لهم رؤية مختلفة مثل محمد بك قبطانوفيتش 1829-1902 وغيره.
و يقارن المؤلف هنا بين سيد أحمد خان في الهند وبين قبطانوفيتش في البوسنة ويصل الى أن قبطانوفيتش سعى إلى أن يقنع المسلمين من خلال جريدته "البشناقي" ومؤلفاته إلى أنهم يمكنهم أن يكونوا مواطنين موالين للدولة النمساوية (الكاثوليكية) وأن يأخذو بالثقافة الأوربية دون أن يفقدوا هويتهم كمسلمين (ص 148).
ويلاحظ هنا أن هذا الكتاب الذي يقدم أرضية تاريخية غنية لتجربة التحديث في مجتمع مسلم تقليدي في قلب أوربا, إنما كتب في الإنكليزية ليفيد القراء الذين لا يمكنهم الإطلاع على الدراسات المختلفة في هذا المجال في اللغة البوسنوية.
ومن هنا فإنه يصلح أيضا للترجمة إلى العربية ليكون في وسع القراء العرب أن يطلعوا على هذه التجربة المبكرة للمسلمين في أوربا مع الحداثة والتحديث.
الإسلام وأوروبا من زاوية نظر بوسنوية
على غير المألوف صدر مؤخراً باللغة العربية في سراييفو كتاب جديد بعنوان: "مقالات بوسنية" للباحث والكاتب البوسني المعروف أنس كارتيش، عميد كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو(1).
ويتميز كارتيش (من مواليد 1958) بكونه قد درس الفلسفة والعلوم السياسية والعلوم الإسلامية مما يجعل اهتماماته البحثية تتسم بالتنوع والتداخل والعمق.
ومن كتبه الكثيرة تجدر الإشارة إلى رسالة الماجستير "رسائل إخوان الصفا" التي صدرت في 1986 ورسالة الدكتوراة "تفسير القرآن" التي صدرت 1990 و"ترجمة معاني القرآن" التي صدرت في 1995 و"البوسنة بلد الحزن والنسيان" 1997 و"مقالات عن البوسنة" 1999 وغيرها.
وقد ترجم الكتاب الأخير إلى الإنجليزية في 2000، وها هو يصدر الآن (2004) في العربية أيضاً.
ويبدو من العنوان أن الكتاب عبارة عن مقالات نشرها المؤلف في مجلات مختلفة، وبعضها محاضرات ألقاها في ندوات ومراكز بحثية أيضاً ولكنه يمثل بحق "خبرة" البوسنة في السنوات الصعبة للمسلمين في البلقان وأوروبا في نهاية القرن العشرين.
فقد نوقشت عن البوسنة، كما يقول المؤلف (ص30)، اكثر من مئة رسالة دكتوراة في الغرب وهو ما يدل على الاهتمام بما حصل في البوسنة في العقد الأخير في القرن العشرين. وبعبارة أخرى إن لدى المؤلف ما يستحق أن يقولـه باسم هذه الخبرة الغنية للبوسنة، ولدى القارىء العربي المسلم ما يستحق التوقف عنده والتأمل فيه في هذا الكتاب.
فيما يتعلق بالبوسنة ذاتها يؤكد المؤلف على أهمية ما كانت تتميز به البوسنة من تعدد وتسامح ديني ثقافي حتى أنه يدعوها "جامعة حية للدراسات المقارنة لمعظم أنواع الأديـان العالمية" (ص41).
ومن هنا فإنه يعتبر مأساة البوسنة إنما تكمن أساساً في اغتيال فكرة التعايش الديني والثقافي التي كانت تمثلها، وهو ما يسميه هنا ب"الإعدام الحقيقي العلني لفكرة البوسنة"(ص44).
في هذا السياق، الذي تتواصل فيه البوسنة مع البلقان أيضاً، يناقش المؤلف النظرة/النظرية الجديدة التي ظهرت في صربيا خلال ثمانينات القرن الماضي والتي مهدت لمأساة البوسنة وغيرها، ألا وهي التميز بين "الديانة الأصيلة" و"الديانة الدخيلة".
فبالاستناد إلى هذه النظرة/النظرية أراد المروجون لها أن يصورا البلقان منطقة مسيحية أصيلة بينما الإسلام "دخيل" فيها، و"يصبح على هؤلاء الرحيل من المنطقة أو الموت"(ص55).
وفي رده على ذلك يؤكد كارتيش أن "أوروبا لم تكن وطناً أماً لأي من الديانات العالمية" لأن "كل الديانات العريقة الموجودة حالياً بأوروبا وهي اليهودية والمسيحية والإسـلام أتت من الشرق"(ص57).
وطالما أن الأمر يتعلق بالإسلام فإن ترويج مثل هذه النظرة/النظرية ما كان لـه أن يتم لولا دور المستشرقين في صربيا، الذين أصبحوا "حجة" في هذا المجال، وهو ما يتناوله المؤلف في "دور المستشرقين الصرب في تبرير الإبادة بحق المسلمين في البلقان".
وفي هذه الدراسة يستعرض المؤلف أهم أطروحات المستشرقين الصرب (ألكسندر بوبوفيتش ودراكو تاناسكوفيتش وميرولوب يفتيتش وغيرهم) التي أججّت العداء الصربي للإسلام والمسلين في البلقان، وأطلقت العنان لفكرة أن الصرب في حربهم ضد المسلمين في البوسنة إنما يحمون أوروبا المسيحية من: " الخطـر الإسلامي " (ص145-155).
وفي هذا السياق (أوروبا والإسلام) يتضمن الكتاب أحد أهم الإسهامات للمؤلف ألا وهو المتعلق بـ"الإسلام الأوروبي".
وتجدر الإشارة إلى أن هذا المصطلح برز بقوة قبل حوالي عشر سنوات، وأخذ يثير الجدل والانقسام حوله بين الطرفين الأساسيين المعنيين به.
فقد كان هناك من المسلمين من اعتبره "تآمرا على الإسلام ومحاولة لتحريفه"، بينما كان هناك من الأوروبيين من ينظر إليه بحذر باعتباره "مؤامرة موجهة ضد أوروبا" (ص69).
وما بين هؤلاء يبدو المؤلف من المؤيدين لمثل هذا الخيار لما يعنيه بالنسبة لمستقبل أوروبا والإسلام حيث يقول "لا ينبغي أن يكون هناك أي خوف من الإسلام الأوروبي" لأن "مشروع الإسلام الأوروبي ليس حصان طروادة"(ص80).
فالمؤلف ينطلق من الأحداث المتلاحقة (قضية سلمان رشدي والثورة الإسلامية في إيران ... الخ) التي أدت إلى نتاج/مناخ معاد للإسلام والمسلمين في أوروبا لينتهي إلى أن الطرفين الأساسيين المعنيين (جماعات المسلمين في أوروبا والحكومات الأوروبية) أرادا معاً البحث عن "النظرية-المخرج" (الإسلام الأوروبي).
وفي هذا الإطار يعتبر المؤلف أن الأمر بالنسبة للمسلمين يتعلق ببساطة بـ"مهمة تحدي وضعهم الأوروبي"، وهو لا يمكن تحديده في غياب الهوية الواضحة، ولذلك يأتي الإسلام الأوروبي في هذا السياق ليدل على "تحديد وتبرير هذه الهوية" (ص76).
ولكن الأمر ليس بهذه البساطة. فالحكومات الأوروبية المقتنعة بهذا الخيار تفضل أن يكون للمسلمين جسم / صوت واحد (منتخب) يعبّر عما يريدونه، وهو الأمر الذي "لم يتحقق أبداً بسبب قدرة المسلمين الخارقة على عدم التوحد" (ص78).
ومن ناحية أخرى فإن المطلوب مع هكذا خيار أن تسوّق أوروبا بين المسلمين كـ "وطن حلم وقارة تضمن مستقبلهم، وكبيئة تضمن للمسلمين والإسلام تطوراً آمناً ومتساويا حسب ما تكفلة الإنجازات الديموقراطية الإيجابية السائدة".
ولكن هذا، كما يضيف المؤلف، لم يحظ بالقبول حتى الآن إلا عند الطبقة المتوسطة من المسلمين في أوروبا (رجال الأعمال والمحامون وأساتذة الجامعات الخ).
وبعبارة أخرى يوضح المؤلف الموقف بالقول أنه "مهما كــان الأمر عجيباً فإن الجماعات والهيئات الإسلامية في أوروبا تمثل عقبة خاصة تقف أمام المسلمين في الإثبات المفيد للإسلام الأوروبي" (80).
وعلى صعيد العالم الإسلامي ككل لدينا بعض المقالات القيمة في هذا الكتاب مثل "تفسير القرآن الكريم ومصير العالم الإسلامي" و"الأهمية الحضارية التاريخية للتفسير الصوفي للقرآن الكريم".
ففي الأول يؤكد على قوة الاجتهاد التي كانت تتبع من قوة العالم الإسلامي، بينما انعكس ضعف العالم الإسلامي على انحسار الاجتهاد والخوف من الانفتاح على الآخر المسلم أيضاً، مما أصبح يقود إلى التزمت حتى في التفسير.
ويلخص ذلك في وضع غريب، إذ أصبح من الصعب على جامعــة مكة المكرمة أو جامعة الأزهر أن تستضيف مرجعاً شيعياً من قم أو أستاذاً من البوسنة إلى حد أن الغـرب أصبح هو المكان الوحيد الذي يلتقي فيه المفكرون المسلمون خلال مشاركتهم في النــدوات والمؤتمرات التي تنظم هناك (ص259-260).
وفي هذا السياق أيضاً يتعرض المؤلف في دراسته الأخرى "الأهمية الحضارية التاريخية للتفسير الصوفي للقرآن الكريم "لمنظّر "صدام الحضارات" صموئيل هنتجتون.
فمن مآخذه عليه أنه أخطأ مع الغرب عندما نظر إليه منسجماً، كما أنه أخطأ بشكل فاضح بنظرته إلى العالم الإسلامي عندما تصور انه "كتلة متناغمة متأهبة لاحتلال الغرب" (ص298).
فهنتجتون يريد أن يعطي العالم الإسلامي بشكل ما دوراً ندياً للغرب يشابه دور العالم الشيوعي السابق، وهو ما منع هنتجتون من ملاحظة ما في داخل العالم الإسلامي ذاته من التباين والتناقض اللغوي والثقافي والعسكري والاقتصادي والسياسي والعرقي والطبقي والقبلي (ص298).
وبعبارة أخرى فإن الغرب (مع الإسلام الأوروبي المتنامي) لم يعد واحداً، كما أن العالم الإسلامي مع الاختراق الغربي (العسكري والسياسي) لم يعد واحداً.
(1) أنس كارتيش، مقالات بوسنوية، سراييفو (دار القلم) 2004.
إسلام البوسنة جسر أوروبا إلى العالم الإسلامي
هذا العنوان إنما هو لدراسة معروفة للباحث الألماني جورج ستاد مولر G.Stadmuller ترجمت وصدرت في سراييفو خلال 1943، وبهذا أثارت منذ ذلك الحين ما يعنيه وجود "إسلام بوسنوي" الذي كثر الحديث عنه في السنوات الأخيرة إلى جانب "الإسلام الأوروبي".
وفي هذا الإطار يفيد كثيراً في هذا الموضوع الكتاب الذي صدر مؤخراً في سراييفو بعنوان "دراسات في تاريخ الفكر الإسلامي في البوسنة خلال القرن العشرين" (1) للباحث المعروف الدكتور أنس كاريتش، عميد كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو، الذي سبق وأن تناول "الإسلام البوسنوي" و"الإسلام الأوروبي" في أكثر من مقالة ودراسة في السنوات السابقة.
وكما يلاحظ في الغلاف فإن ما لدينا هنا (690 صفحة من الحجم الكبير) إنما هو الجزء الأول فقط، ولكن ما لدينا هنا يسمح لنا بتناوله بمعزل عن الجزء الثاني الذي قد يتأخر صدوره، لأن ما في الجزء الأول من قضايا نظرية تفيد بشكل خاص في التعرف أيضاً على ما في الجزء الثاني.
ومما يؤكد ذلك أن المؤلف اختار للعنوان الأصلي "دراسات في تاريخ الفكر الإسلامي في البوسنة والهرسك"، وأكد في مقدمته (ص121) أن الكتاب بوضعه الحالي مثل "النص المفتوح" الذي يمكن إكماله وتوسيعه في المستقبل.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الدراسات الموجودة في هذا الكتاب على أهميتها قد نشرت في مجلات وكتب أخرى للمؤلف أو مع مؤلفين آخرين فإن المهم في هذا الكتاب المقدمة النظرية أو التنظيرية الواسعة التي تكاد تكون كتاباً في حد ذاته (ص1-121)، والتي أثار فيها المؤلف عدداً من القضايا المهمة المرتبطة بالفكر الإسلامي في البوسنة وصولاً إلى السؤال الكبير:
هل من إسلام خاص بالبوسنة، وماذا يمثل هذا "الإسلام البوسنوي" في إطار الإسلام العالمي كما يسميه المؤلف؟
أما القضية الأولى فهي "الإطار التاريخي" الذي "ولّد" مثل هذا الفكر أو "الإسلام البوسنوي".
فالقرن الذي يدرسه المؤلف هنا هو نتاج سلسلة متواصلة من التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الكبيرة بدءاً من الاحتلال النمساوي المجري للبوسنة في 1878، والذي انتقلت فيه البوسنة من حضارة (عثمانية إسلامية) إلى حضارة أخرى (نمساوية كاثوليكية)، وحتى الحرب الأخيرة في البوسنة خلال 1992-1995 التي لم تنته آثارها بعد.
فعدم الاستقرار أو التغير المتواصل، كما يقول المؤلف، كان "يؤثر بطبيعة الحال على التفكير في الإسلام عند البشانقة"، وهو ما كان يؤدي إلى حراك فكري متواصل حول الإسلام وما يمثله بالنسبة إلى الماضي والحاضر والمستقبل، فكل عهد جديد، كما يضيف المؤلف، يطرح مسائل جديدة ومؤسسات جديدة وشخصيات جديدة وأجوبة جديدة، أو باختصار "مسارات تفكير جديدة"(ص21).
وللتدليل على ذلك يشير الدكتور كاريتش إلى مجلة "غلاستيك" Glasnik الناطقة باسم "الجماعة الإسلامية" في البوسنة/يوغسلافيا السابقة، التي صدرت في 1933 وعايشت عدة عهود (العهد الملكي اليوغسلافي 1933-1941 والعهد الكرواتي 1941-1945 والعهد اليوغسلافي الجمهوري 1945-1992).
فعلى صفحات هذه المجلة يبدو بوضوح تأثير التغيير السياسي (نظام الحكم الجديد) في فهم الإسلام والتعريف به من خلال المقالات والدارسات وحتى في التفسير الرسمي للإسلام الذي كانت تمثله "الجماعة الإسلامية" الذي كان يتغير من عهد إلى آخر.
وهكذا فقد صار الإسلام، حسب الدكتور كاريتش، يبدو "تقليدياً" و"رأسمالياً" و"أخلاقياً" و"اشتراكياً" و"ليبراليا ديموقراطياً" و"مدافعاً عن حقوق الإسلام" الخ.
ويستشهد الدكتور كاريتش هنا بمصطفى بوسالاجيتش الذي نشر في 1938 مقالة يوضح فيها تعارض الإسلام "مع الشيوعية والفهم الفـاشي والعنصري" بينما بعد أن أصبحت البوسنة جـزءاً من "دولـة كرواتيا المستقلة" المتحالفة مع ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية كتب في 1943 مقالة أخرى عن التعارض التام للإسلام مع "البلشفية" فقط مع تأييده لـ"الكفاح الإيطالي الألماني ضد الإمبريالية البريطانية"(ص25).
والجديد في هذا "الإطار التاريخي" أن التفكير في الإسلام أو الفكر الإسلامي لم يعد ينحصر في "العلماء" Ulema الذين كانوا "يحتكرون" فهم الإسلام وتفسيره بل أصبح لدينا الآن نتيجة للتغيرات السياسية والثقافية كتاب ومثقفون (مؤرخون وباحثون الخ) ينخرطون ويؤلفون عن الإسلام ويفسرونه بالاعتماد على مصادر تكوينهم العلمي/الثقافي.
فقد كان بينهم من تخرج من جامعات فيينا واستنبول والقاهرة (الأزهر)، ولذلك فقد ظهرت في البوسنة مع هؤلاء اتجاهات ومنظمات جديدة (كالشبان المسلمين) التي "أخذت الإسلام أديولوجية لها"(ص25).
وكانت منظمة "الشبان المسلمون" قد ظهــرت في البوسنة عشية الحرب العالمية الثانيــة (1939) مع الجيل الجديد الذي تخرج من الأزهر وعاد إلى البوسنة بأفكار وثقافة جديدة، ومثلت تحدياً لـ"الإسلام الرسمي" الذي كانت تعبر عنه "الجماعة الإسلامية" التي كانت تمثل المسلمين أمام الدولة.
وحسب الدكتور كاريتش فإن منظمة "الشبان المسلمين"، التي تستند إلى ما يسمى اليوم "الإسلام السياسي" أو "الإسلام الأديولوجي"، كانت تمثل تحدياً كبيراً لاحتكار تفسير الإسلام من قبل "الجماعة الإسلامية"(ص26).
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المنظمة انتشرت بشكل خاص بين طلاب الجامعات وتلاميذ المدارس الاثنوية، وكان من أعضائها علي عزت بيغوفيتش الذي اعتقل بعد وصول الحزب الشيوعي إلى الحكم في 1946 وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات.
وأما القضية الثانية فهي تتعلق بالتكيف والتأقلم مع المستجدات وصولاً إلى السؤال الكبير: ما هو الفكر الإسلامي في البوسنة، وهل هناك "إسلام بوسنوي"؟
في رده على هذا السؤال يعتبر الدكتور كاريتش أن المساحة المركزية في الفكر الإسلامي للبشانقة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت تشغلها قضية التكيف/التأقلم مع أوروبا والحضارة الأوروبية.
فالمفكرون المسلمون والإسلاميون في البوسنة، أي من "العلماء" والانتلجنسيا الجديدة، سعوا إلى تكييف نفسهم ودينهم (وبالتحديد تفسير دينهم) مع العصر الجديد الذي وجدوا أنفسهم فيه.
ومن هنا فإنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 ظهر مئات من المثقفين المسلمين، وصدرت عشرات الصحف والمجلات والكراسات والكتب في اللغة البوسنوية، وحتى في العربية والتركية والإنجليزية، التي "كانت تمثّل الاستجابة لحاجات التكيف المذكور".
ويشكل هذا التراث المنشور آنذاك، كما يضيف الدكتور كاريتش، أهمية كبيرة للتاريخ الروحي المعاصر للبوسنة (ص39).
وبالعودة إلى السؤال المركزي عن ماهية "الفكر الإسلامي" في البوسنة و"الإسلام البوسنوي" يرى الدكتور كاريتش أن "الإسلام البوسنوي" يشير إلى الملامح الخاصة الناتجة عن توطن الإسلام في البوسنة من خلال التفاعل المزدوج بين الإسلام والبوسنة: أي كيف جاء الإسلام المشترك أو العالمي إلى البوسنة، وكيف تجذر واتخذ ملامحه المحددة هنا، ثم كيف قام هذا الإسلام المشترك برفع البوسنة إلى الإطار العالمي الذي كان ممكناً ضمن "العولمة الإسلامية"؟(ص41).
فمع التغيرات المذكورة في "الإطار التاريخي" نجد "العلماء" والانتلجنسيا الجديدة أمام دور/إسهام جديد ومهم: تحديد جديد لدورهم في البوسنة، وتحديد دور دينهم الإسلام ودور ثقافتهم التي تنحدر جزئياً من الإسلام. فبعد الاحتلال النمساوي المجري للبوسنة في 1878 لم يعد هناك إسلام مشترك أو "إسلام عالمي"، كما كان عليه الأمر خلال الحكم العثماني، وأصبح الوضع / الإسلام الموجود يحتاج إلى إعادة تفسير، وهو ما كان صعباً ومؤلماً بالنسبة إلى المسلمين في البوسنة (ص41).
وفي هذا الإطار كان هناك من يتحفظ على تعبير "الإسلام البوسنوي" لأنه كان يفهم عنه أمران حساسان: الأول تكريس الانشقاق والابتعاد عن العالم الإسلامي، والثاني الإقرار بمراجعة الإسلام كدين في البوسنة (ص41-42).
ولكن الدكتور كاريتش يقول أن تتبع آلاف الصفحات في المجلات منذ 1882 أوصله إلى استنتاج بأن المفكرين الإسلاميين الإسلاميين (في تفكيرهم بأسلوب التكيف أو التأقلم) لم يفكروا أولاً "الإسلام البوسنوي" بل بـ"الإسلام في البوسنة" الذي يمكن بالمفهوم الثقافي أو الثقافوي أن يكون "إسلاماً بوسنويا".
وبعبارة أخرى فإن كاريتش يمثل الطريق الوسط أو الثالث الذي يقول بأن "الإسلام في البوسنة" هو دينياً جزء من الإسلام العالمي وثقافياً أو ثقافوياً هو "الإسلام البوسنوي" (ص42).
والقضية الثالثة التي تناولها الدكتور كاريتش هي الفكر الإسلامي في البوسنة كنموذج للفكر المحاصر أو "الفكر تحت الحصار".
فالمؤلف يرى أنه نتيجة لـ"الإطار التاريخي" المذكور نجد أن المفكرين المسلمين والإسلاميين في مئات المقالات التي كتبوها كانوا يعبرون عن حالة حصار، وبذلك فقد بحثوا في الإسلام عن جوانب محددة للخروج من تلك الحالة (ص42).
ومن الأمثلة على ذلك موضوع "الهجرة" من البوسنة. فبعد الاحتلال النمساوي المجري للبوسنة في 1878، الذي خرجت البوسنة بموجبه من "دولة الخلافة"، أصبح السؤال الأول عند "العلماء" يدور حول صحة الإسلام في البوسنة، وبالتحديد حول صحة الصلاة والصيام والزكاة والحج في بلد لم يعد يحكمه خليفة المسلمين.
ومن هنا فقد اختلف الجواب على ذلك عند العلماء والانتلجنسيا الجديدة، حيث دعا البعض إلى وجوب الهجرة من "دار الكفر" إلى "دار الإسلام" ورفض البعض ذلك لأن البوسنة بقيت "دار إسلام" رغم وجودها تحت الحكم النمساوي/المجري، بينما دعا آخرون إلى "هجرة ثقافية وحضارية للبوسنة إلى أوروبا" (ص43).
وفي هذا الإطار كان الإسلام يخدم كل طرف، أي أن كل طرف كان يجد ما يستشهد به من آيات وأحاديث وفتاوى تدعم رأيه الذي يذهب إليه.
ويرى الدكتور كاريتش أن الكثير من علماء البوسنة كانوا يرون المخرج في أوروبا الحديثة، ولكن ليس في أية أوروبا بل في أوروبا "التي يمكن أن نتعلم منها الكثير حول تنظيم حياتنا الاجتماعية وحول تنظيم مؤسساتنا التعليمية والثقافية".
ومن هؤلاء، كما يضيف كاريتش، كان "رئيس العلماء" نفسه جمال الدين تشاؤوتشفيتش الذي كان يستشهد دائماً بأوروبا، وبالتحديد بالمنجزات الأوروبية الغربية في العلم والتقنية والتنظيم (ص50).
وفي مثل هذه "حالة الحصار" تعرّض الكثير من المفكرين إلى أسباب التخلف عند المسلمين بالمقارنة مع تقدم غيرهم في الإطار الأوروبي الذي وجدوا أنفسهم فيه، واختلفوا بطبيعة الحال في تحديد تلك الأسباب.
ويلاحظ هنا انه هناك من ركّز على السبب الذاتي (الكسل أو التنبلة)، ومنهم من ركّز على تحجيم دور المرأة في المجتمع. وهكذا نجد لدينا منذ 1919 كتيب لإبراهيم جافتشيتش بعنوان "أسباب تخلف المرأة المسلمة".
ولكن الدكتور كاريتش يلاحظ بحق أن "قضية المرأة" التي شغلت المفكرين سنوات طويلة وأثمرت عدة كتب ومقالات كثيرة إنما كانت "قضية الرجل" لأن كل الذين كتبوا فيها كانوا من الرجال (سواء من المؤيدين أو من المعارضين لها)، وهو في حد ذاته يعبر عن واقع الحال آنذاك (ص57).
وفي القضية الرابعة المرتبطة بما سبقها التي تتعلق بـ"الفكر الإسلامي في البوسنة بين المحلية والعالمية" يوضح الدكتور كاريتش انه مع الحدث الكبير في 1878 (الاحتلال النمساوي المجري للبوسنة) الذي أدى إلى انحسار الحكم العثماني انحسرت شكلياً على الأقل الصيغ العالمية لتفسير الإسلام.
فمع 1878 أصبح على المفكرين الإسلاميين مهمة تحديد صيغ محلية للتفكير الإسلامي بالاستناد إلى الخبرة المحلية، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا على اتصال بتيارات الإسلام العالمي التي كانت تأتي مع الطلبة المتخرجين من استنبول أو القاهرة.
وبينما كان في السابق تفسير الإسلام يتصيّغ وفق التفسير العالمي للإسلام فقد أدى إلغاء الخلافة في 1924 إلى واقع جديد يتمثل في أن التفسير المرجعي/العالمي للإسلام لم يعد في مركز واحد.
ومن هنا فقد أصبح التفسير المحلي/البوسنوي الرسمي للإسلام من المهام الرئيسة لـ " الجماعة الإسلامية" التي تشكلت حديثاً لتمثيل المسلمين أمام الدولة (ص58).
وهكذا يرى كاريتش أن المهمة الصعبة الآن أصبحت تتمثل في المراوحة، وبالتحديد بين عدم نسيان ما هو عالمي في الإسلام وعدم إهمال ما هو محلي فيه (ص59).
وبعبارة أخرى يرى كاريتش أن المفكرين الإسلاميين في نهاية القرن 19 وخلال القرن 20 أخذوا على عاتقهم الدور بأن يصيغوا "الإسلام في البوسنة" أو "الإسلام في أوروبا".
ويضيف الدكتور كاريتش أن الكثير من المفكرين الإسلاميين في البوسنة كانوا واعين للمهمة الجديدة (العولمة الجديدة للإسلام) في الظروف الأوروبية الجديدة، وقد نجح العديد منهم في هذا المهمة (ص60).
وفي هذا الإطار يذكر الدكتور كاريتش بعض هؤلاء المفكرين كرئيس العلماء جمال الدين تشاؤوشيفيتش ( 1913 -1938) الذي يرى أنه بفضله أخذت حركة التنوير والإصلاح في البوسنة ملامح مدرسة إسلامية جديدة تحت تأثير مدرسة محمد عبده ورشيد رضا، وكذلك الأمر مع محمد خانجيتش (1906-1944) الذي يراه أنه لم يكن يقل عن تشاؤوتشيفيتش في دوره في هذا المجال (ص62).
ويذكر الدكتور كاريتش في هذا السياق دور المؤسسات التي كانت وراء هذه الكوكبة من الشخصيات الإسلامية والتنويرية كمدرسة الغازي خسرو بك وجامعة الأزهر التي تخرج منها تشاؤوتشفيتش وخانجيتش وحسين جوزو (1912-1982) وأحمد إسماعيلوفيتش ( 1938-1988 ) وغيرهم (ص82).
وفي القضية الخامسة ينتقل الدكتور كاريتش إلى مجال آخر ألا وهو "إسلام المستشرقين البوسنويين ومؤرخو التراث الثقافي للإسلام في البوسنة ومحققو المخطوطات البوسنوية القديمة".
ويلاحظ هنا نوع من الانتقال من "العلماء" إلى الانتلجنسيا الجديدة التي أصبحت تضم مؤرخين وباحثين في الدارسات العربية الإسلامية تخرجوا من جامعات عريقة وعملوا في مؤسسات غير دينية (جامعات ومؤسسات علمية كمعهد الاستشراق).
وفي هذا الإطار يذكر الدكتور كاريتش أنه مع هذه التحولات في الفترة الانتقالية (نهاية القرن 19 وبداية القرن 20) أصبح للبوسنة أوائل المستشرقين الذين تخرجوا من مراكز الاستشراق الأوروبي في فيينا وبودابست مثل صفوت باش أغيتش (1870-1934) وشكري ألا غيتش (1881-1936).
ويلاحظ الدكتور كاريتش هنا أن المستشرقين المسلمين في البوسنة، وبالمقارنة مع أساتذتهم وزملائهم في أوروبا الوسطى وغيرها، لم يناقشوا الأصل الإلهي للقرآن والإسلام بل ألفوا أعمالاً متميزة عن الثقافة والحضارة في البوسنة والعالم.
وفي هذا المجال يثير الدكتور كاريتش إشكالية التمييز بين ما هو ديني وبين ما هو علمي، بين ما هو مسلم وما هو إسلامي، إذ أنه بين هؤلاء "المستشرقين" لدينا من تخرج من الأزهر وعمل في معهد الاستشراق في سراييفو كبسيم كركوت (1904-1975) الذي أنجز أول ترجمة متميزة للقرآن من العربية مباشرة، وكذلك الأمر مع توفيق مفتيتش (1918-2003) الذي يعتبر أشهر متخصص في الدراسات العربية لدى البشانقة ومؤلف أول معجم عربي بوسنوي.
فالمؤلف هنا لم يوضح دور أو إسهام مثل هذين "المستشرفين" وغيرهما في الموضوع الرئيس للكتاب ألا وهو "الفكر الإسلامي في البوسنة".
ولدينا ما يشبه ذلك في القضية السادسة التي تتعلق بـ"الأدباء البشانقة والإسلام". فالمؤلف يرى أنه في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 كانت هناك نهضة كبيرة في أدب المسلمين وفي أدب البوسنة بشكل عام. وفي هذا الإطار فقد كان الإسلام أو جوانب منه تلهم هذا الأدب الجديد (ص103).
وفي هذا السياق الانتقالي يذكر مثلاً عثمان جيكتيش (1879-1912) بمسرحية "المهاجر" التي انتقد فيها هجرة المسلمين من البوسنة إلى الدولة العثمانية.
فمع هذا الموقف الواضح ضد الهجرة، الذي عبّر عنه بعض "العلماء" في كتاباتهــم مثل محمد توفيق عزب أغيتش (1838-1918) ومحمد أمين حاجي أهيتش (1837-1892)، فإن السؤال يبقى: إلى أي حد يمكن أن يكون عثمان جيكتيش وأمثاله من الأدباء معبرين عن "الفكر الإسلامي في البوسنة"؟
وفي القضية التاسعة التي تتعلق بـ"الصوفية والتصوف في إطار الحداثة البوسنوية" يسلم الدكتور كاريتش بأنه في المجتمعات المسلمة التقليدية كما في البوسنة وغيرها فإنه لدينا مواجهة مع الحداثة، ولذلك فإن التقاليد البوسنوية في مجال التصوف والطرق الصوفية عايشت أزمة كبيرة بعد انتشار الأفكار الأوروبية الحديثة في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20.
وقد برز في الوقت نفسه إصلاحيون مسلمون في "الجماعة الإسلامية" وفي خارجها هاجموا التصوف والطرق الصوفية باعتبارها من ملامح "التأخر" (ص115).
ومع ذلك يذكر الدكتور كاريتش بعض "العلماء" الذين اهتموا بدراسة التصوف مثل مصطفى مرهميتش (1877-1959) وشاكر سيكريتش (1893-1966) وفيض الله حاجي بيرتيش (1912-1990) وجمال تشهاتيش (1930-1980) وصولاً إلى الجيل الجديد مثل رشيد حافطوفيتش وعدنان سيلاجيتش وغيرهما "الذين ساهموا بأعمالهم وترجماتهم في التعريف بالصوفية في البوسنة، وهي الأعمال التي لها قيمة خاصة في تطور الدراسات الإسلامية لدينا" (ص120).
ويلاحظ هنا انه قد عدنا مرة أخرى للتداخل بين ما هو ديني (يتخذ الإسلام مرجعية أولى وأخيرة) وبين ما هو علمي (يعتبر الإسلام ساحة للبحث والدراسة)، بين ما هو مسلم وما هو إسلامي، وبالتحديد بين مجال "الفكر الإسلامي" و"الدراسات الإسلامية".
أما القضية الأخيرة فقد خصّها الدكتور كاريتش لـ"الفكر الإسلامي للبشناق في المهجر".
وتجدر الإشارة هنا إلى أن "المهجر" بالنسبة إلى البشانقة تشكل أساساً في "الشرق" بعد الاحتلال النمساوي المجري للبوسنة في 1878 وفي "الغرب" (أوروبــا والولايـات المتحدة) بعد وصول الحزب الشيوعي إلى الحكم في 1945، حيث برزت هناك شخصيات كثيرة جمعت بين ما ديني (رجال دين) وما هو فكري وسياسي (مفكرون وسياسيون معارضون".
وقد جاء الدكتور كاريتش على ذكر عدد منهم مثل كمال أفديتش (1913-1979) وسعيد كاريتش وإسماعيل باليتش (1920-2002) وعادل ذو الفقار بتشيتش (ولد 1921) وغيرهم.
ويلاحظ هنا أنه خصّ ذو الفقار باشيتش بفصل من الكتاب (ص 593-624 ) وهو المأخوذ من كتابه قبل الأخير الذي ألفه بالاشتراك مع شاكر فلاندرا "فكرة البشنقة"، بينما كان الأجدى أن يكون مكانه إسماعيل باليتش. فذو الفقار باشيتش كان رجل فكر واشتغل لاحقاً بالتجارة وله في هذا الإطار بعض الاشتغال بـ"العمل الاسلامي" كما يسميه الدكتور كاريتش، ولكن ذلك لا يقرّبه من "الفكر الإسلامي" على عكس باليتش الذي لـه إسهام أصيل في ذلك.
وبعد هذه القضايا الثماني، التي تشكل في نظرنا أهم ما هو جديد في هذا الكتاب، تأتي "فصول" الكتاب أو الدراسات المنشورة في السابق التي تتناول أهم الشخصيات التي اشتغلت بالفكر الإسلامي في البوسنة مثل جمال الدين تشاؤوتشفيتش ومحمد خانجيتش وحسين جوزو، التي يحلل الدكتور كاريتش أفكارها وتأثرها بالآخرين خارج البوسنة (محمد عبده ورشيد رضا وغيرهم) وتأثيرها على الآخرين في البوسنة، وهو ما ينطبق بشكل خاص على حسين جوزو وأحمد إسماعيلوفيتش.
وبالعودة إلى عنوان الكتاب مرة أخرى وأخيرة نلاحظ أن المؤلف وضع لـه عنواناً بالعربية (تاريخ الفكر الإسلامي في البوسنة والهرسك) في جوار العنوان الأصلي بالبوسنوية الذي ترجمناه" دراسات في تاريخ الفكر السياسي في البوسنة والهرسك".
ويبدو لنا أن العنوان الأصلي هو الأقرب إلى مضمون الكتاب لأنه يتضمن دراسات منشورة في السابق، وهي قابلة كما قال المؤلف نفسه في المقدمة للإكمال والتوسيع، وليس دراسة مونوغرافية مكتملة تختزل كل ما يريد المؤلف أن يقوله في هذا المجال.
ومن ناحية أخرى يبدو لنا أن تعبير misljenje الذي يستخدمه في العنوان والمضمون هو أقرب إلى التفكير منه إلى الفكر بمعنى misao.
فالفكر بمعنى misao أقرب إلى النضوج والاكتمال بينما نجد أن التفكير بمعنى misljenje هو أقرب إلى مشروع فكر أو أفكار ينضج ويتكامل وقد يصل إلى مستوى الفكر بالمعنى المعروف للكلمة.
ومع ذلك فإن ما في هذا الكتاب من جهد للمؤلف ومن أفكار بوسنوية حول تكيف الإسلام هناك مع الحداثة وما بعد الحداثة يجعل منه مرجعاً مهماً ومفيداً أكثر في ترجمته للعربية في الاطلاع على الإسلام في البوسنة أو "الإسلام البوسنوي".
فالبوسنة، كما قال الدكتور كاريتش في المقدمة، تمثل أقصى امتداد للمسلمين في الغرب كشعب لهم جذورهم وثقافتهم، ولذلك فإن البوسنة كما يراها الدكتور كاريتش تمثل جسراً مزدوجاً: الجسر الذي يقود من الغرب إلى الشرق والجسر الذي يقود من الشرق إلى الغرب.
الهروب إلى الحرية يمكن أن يكون بالروح والفكر أيضاً "لم أتمكن من الكلام كثيراً، ولكن كان في وسعي أن أفكر ولذلك قررت أن أستفيد من هذه الإمكانية حتى آخر نقطة"
عزت بيغوفيتش
كثيرة هي الكتب/الدفاتر/المذكرات التي تتحدث عن السجن، وخصوصاً لكتّاب سجنوا بحق أو من دون حق، بقضية أو من دون قضية، بمحاكمة أو من دون محاكمة، بمحاكمة عادية أو بمحاكمة مفبركة، ولكن لاشك في أن الكتاب الأخير لعلي عزت بيغوفيتش "الهروب إلى الحرية - ملاحظات من السجن 1983-1988"، الذي صدر قبل أسابيع في ساراييفو (دار سفيتلوست) يمثل إضافة لهذا النوع من "أدب السجون" ويكشف عن أبعاد جديدة في شخصية بيغوفيتش(1).
يشار إلى أن بيغوفيتش (المولود في شاباتس البوسنوية سنة 1915) اصطدم في وقت مبكر مع السلطة نتيجة لاهتماماته الفكرية (الإسلامية) المغايرة للموجة (الشيوعية)، إذ انضم في شبابه إلى منظمة "الشبان المسلمين" التي تأسست في سراييفو على نمط مثيلتها في القاهرة، وحكم عليه في 1946 بالسجن لمدة ثلاث سنوات. وبعد خروجه من السجن تابع دراسة الحقوق (1956) وحصل على شهادة المحاماة (1962).
وفي غضون ذلك أخذ يتابع تكوين نفسه من خلال القراءات المتواصلة ونشر بعض المقالات باسم مستعار.
واشتهر في يوغسلافيا حين ألف "البيان الإسلامي" الذي قدم بسببه إلى المحاكمة في سراييفو في 1983 مع 12 مثقفاً بتهمة "الأصولية" وحكم عليه بالسجن لمدة 14 سنة. وتبين لاحقاً أن المحاكمة كانت مفبركة، فأطلق سراحه في نهاية 1988.
وفي مطلع 1990 ساهم في تأسيس "حزب العمل الديموقراطي" الذي أصبح من أكبر الأحزاب في البوسنة وأصبح رئيساً للحزب في أيار (مايو) 1990 ثم رئيساً للبوسنة، وبرز خلال حرب الاستقلال للبوسنة 1992-1995، حين ساهم بفكره ونشاطه وحضوره في تأمين الدعم للبوسنة في أصعب الأوقات.
وفي غضون ذلك كان يعمل على تأليف كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" ويحصل على جائزة الملك فيصل (1994) وغيرها من الجوائز التي دعمت مكانة بلاده.
في هذا الكتاب الجديد يفاجأ القارىء بشيء غير مألوف سواء فيما يتعلق بالمادة نفسها أو في بعثرتها وتنوعها ودلالتها.
فالمؤلف يعترف في المقدمة أنه بقي عاماً كاملاً (1983) لم يستطع فيه أن يعمل أي شيء، إذ كانت تلك شهور التحقيق والمحاكمة، بينما بدأ يدوّن أولى الملاحظات في بداية 1984 واستمر يومياً في تدوين الملاحظات حوالي خمس سنوات متواصلة، وحملت كل ملاحظة رقماً متسلسلاً حتى أن الملاحظة الأخيرة التي تحمل رقم 3676 كانت بتاريخ 30 أيلول (سبتمبر) 1988.
وبعد خروجه من السجن تسارعت الأحداث (تصاعد الخلاف بين الجمهوريات اليوغسلافية، تأسيس الحزب والإعداد للانتخابات، استقلال سلوفينيا وكرواتيا واندلاع الحرب، استقلال البوسنة واندلاع الحرب فيها 1992-195 الخ)، ولذلك فقد بقيت الملاحظات كما هي.
وحين عاد إليها المؤلف أخيراً بعد استقرار الوضع كما هو عليه في البوسنة (1998) وجد من الصعب التدخل فيها من جديد، ولذلك رأى أن يتركها كما هي (مادة خام) وأن يقدمها للقارىء كما هي لعلها تنقل له الجو الذي كتبت فيه والهدف الذي سعت إليه.
ويمكن القول أن المؤلف نجح فعلاً في ذلك فقد كان بالإمكان أن يعطيها المؤلف بعد أن أصبح في قمة السلطة إلى محرر، وما أكثر من يقوم بهذا العمل الآن لأقل من رئيس لكي يقوم بإعادة كتابتها وتسمينها بما يراه مناسباً، ولكن المؤلف وُفّق أكثر في جذب القارىء، مع هذا الطابع الخام والمباشر للملاحظات إلى جو الزنزانة بشكل يومي مع أرقام وتواريخ الملاحظات.
وهكذا مع هذه الملاحظات يكتشف القارىء بالتدريج "الممر" الذي سلكه المؤلف لكي يهرب/يصل إلى الحرية. فالعنوان "الهروب إلى الحرية" (حرفياً: هروبي إلى الحرية).
يحبط القارىء العادي الذي لا يعرف بيغوفيتش، لأنه يتوقع أن يجد يه مغامرة بريئة للهرب من السجن الذي كان قابعاً فيه تستحق أن تتحول إلى فيلم بوليسي مثير.
ولكن القارىء الذي يعرف بيغوفيتش يكتشف منذ اللحظات الأولى ما الذي جعل المؤلف يصمد ويتحمل السجن ويخرج بتلك الحال: الهروب / الوصول إلى الحرية يمكن أن يكون بالروح والفكر وليس بالجسد فقط!
وهكذا تمكن بيغوفيتش في القراءة والكتابة، في قراءة ما يريد وكتابة ما يريد، أن يشعر بحريته الذاتية الداخلية، الروحية والفكرية، التي لا يمكن لجدران الزنزانة أن تخنقها.
أما عن المادة ذاتها في هذا الكتاب فمن الصعب أن نجد وصفاً لها بكلمة واحدة.
إنها رحلة واسعة في الفلسفة والدين والعلم والسياسة والفن والثقافة الإنسانية (الغربية والشرقية)، تتخذ شكل ومضات أحياناً وشكل انطباعات وتأملات ونقاشات مع كتب وكتّاب أحياناً.
فأحياناً تقتصر الملاحظة اليومية على حكمة أو على مثل أو على آية قرآنية، وقد تكون عرضاً لفكرة عن فيلسوف أو نقداً لقضية معينة أو استعراضاً لكتاب، وهكذا يصل القارىء إلى نهاية الكتاب إلا ويكتشف أنه تعرف على حوالي مئة كتاب من أمهات الكتب العالمية، وعلى عشرات الكتاب من مختلف العصور: أرسطو وأفلاطون وأبو نواس وسرفانتس وشكسبير ونيوتن وداروين وهيدغر وهيغل وماركس وفرويد وزولا وديكنز وجبران وغيرهم.
ومن خلال هذه الكتب وهؤلاء الكتاب يستعرض ويناقش المؤلف قضايا كثيرة ومتنوعة عن الفلسفة والدين والسياسة والاقتصاد والفن كالحياة والموت والحب والحقد والحرية والأخلاق والالتزام وغير ذلك.
ولكن مع كل هذه القضايا المتنوعة، فإن هناك خيطاً أساسياً يشعر به القارىء حين يصل إلى نهاية الكتاب، وهو الذي يربط بين هذه الملاحظات بشكل غير مرئي، ألا وهو أن التوق إلى الحرية لا ينطفىء في الإنسان المقاوم ولا يجعله يستسلم بسهولة.
نماذج من الملاحظات:
- حين أفقد ما يبرّر الحياة سأموت.
- هيغل يقدم صورة قاتمة عن السود والهنود والصينيين في كتابه "فلسفة التاريخ". في هذه الكلمات عنصرية واضحة أو على الأقل مركزية أوروبية، لأنه إذا كان الشعور الأخلاقي امتيازاً لعدة شعوب فقط فلا يمكن أن يكون ما هو كائن بالعقل.
فصفة "أخلاقي" و"غير أخلاقي" يمكن أن تلحق بشخص وليس بشعب بكامله، إذ لا يجوز هنا التعميم.
- أجد نفسي صاحياً بين السكارى. في مجتمع السكارى يشكل السكارى الغالبية، ولذلك هم يحددون ما هو طبيعي. ولذلك فالإنسان في مثل هذا المجتمع يتصرف بشكل غير طبيعي.
- من يسأل يحصل على جواب.
- هناك سبب يدفعني لأتحمل كل هذا، إنه سبب واحد فقط لكنه كاف: يجب عليّ ذلك!
- "والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر". (القرآن الكريم: سورة العصر).
- في الحب (عند الرجال والنساء) هناك بالإضافة إلى أمور أخرى لدينا التركيز على الخصوصية أو الذاتية.
حين يقال "أحبك" فهذا يعني أني أميزك عن الآخرين. فالمرأة المحبوبة يجب أن تفكر أنها الأجمل أو الأفضل بين كل الأخريات، بل أنها مختلفة عن كل الأخريات.
- الكلمة تكشف الحقيقة، ولكنها يمكن أن تستخدم أيضاً لإخفاء الحقيقة.
- "افتح النوافذ يا صديقي، وانظر أي قرن في الخارج" (بوريس باسترناك).
- الشاعر الحقيقي والفنان الحقيقي "ملتزم" حتى حين لا يرغب أن يكون كذلك. فالفن، حين يكون حقيقياً، إنما يكون شهادة ضد الكذب. وفي هذا لابد من التزام الفنان.
- كنت أشك أحياناً في إيماني، كنت أتساءل عما إذا كان موجوداً لدي، ولكن كان هناك شيء مؤكد: كنت كبير السن ولم أكن أخاف كثيراً الموت.
وفي الحقيقة لم أكن أعتقد أنني سأموت بالفعل. لقد سيطر عليّ أكثر الخوف من المسؤولية التي تنتظرني. حينئذ أدركت أن إيماني أقوى مما كنت أعتقد. وأن مثل هذا الشعور لا يمكن أن يستمر سوى بإيماني بالله.
- حين سأل النبي يحيى الشيطان متى تكون سيطرته على الإنسان أكبر إجابة: حين يأكل ويشرب الإنسان.
- يقال أن الحقد أعمى والحب كذلك بشكل ما. لا أتذكر أنني حقدت على شخص، ولكني متأكد أنني أعرف من كنت لا أحبه.
- الإنسان لا يمكن أن يعيش من دون مثل أعلى، على الأقل كإنسان. وحين يكون الحديث عن الحب والإيمان لا يمكن للعنف أن يساعد على ذلك )لا إكراه في الدين كما جاء في القرآن الكريم).
- كل الثقافات التي نعرفها هي ثقافات شعوب معينة (الصينية واليونانية والهندية وغيرها). أما الاستثناء فيتمثل في ثقافتين، الإسلامية والغربية إذ أنها تأسست على دينين كبيرين: الإسلام والمسيحية.
- "الأمل هو حلم اليقظين" (أرسطو)(2).
(1) Ali Izetbegovic, Beg u Slobodu, Sarajevo 2000 (2) نشر هذا العرض للكتاب في جريدة "الحياة" 27/2/2000 وبعد نشره تبنت دار الفكر في دمشق نشر هذا الكتاب في اللغة العربية حيث صدر في عام 2002 بترجمة الصديق إسماعيل أبو البندورة ومراجعة كاتب السطور، وقد فاز الكتاب بجائزة أحسن مترجم في الأردن عام 2003، وجائزة مؤسسة التقدم العلمي في الكويت عن عام 2004.
ثقافة الشرق في البوسنة
كيف أصبحت ترجمة ألف ليلة وليلة تعبيراً عن الهوية البوسنوية الجديدة؟ ترجمة جديدة مختلفة للقرآن إلى اللغة البوسنوية ترجمة / قراءة بوسنوية جديدة للمعلقات في ضوء القرآن إسهام علماء البوسنة في التأليف باللغة العربية ثروة من المخطوطات الشرقية تجمعت خلال ألف عام وتلاشت في يوم واحد مخطوطات مكتبة الغازي خسرو بك في سراييفو
كيف أصبحت ترجمة«ألف ليلة وليلة» تعبيرا عن الهوية البوسنوية الجديدة؟
"لا يمكن تصور تحضر أية لغة ليست فيها ترجمة كاملة لألف ليلة وليلة" الأديب البوسنوي جواد قرا حسن
في كل عام تقريبا تصدر ترجمة أو طبعة أو دراسة جديدة لـ "ألف ليلة وليلة" في مختلف اللغات، وهي بهذا لا تزال تسحر بعالمها الدارسين والمترجمين والمبدعين.
وفي هذا الإطار صدرت في 1999 ترجمة جديدة لـ "ألف ليلة وليلة" في سراييفو(1) ، واحتفت بها الأوساط الثقافية والسياسية على نحو غير مألوف مما يشير إلى أنها كانت أكثر من ترجمة عادية لـ "ألف ليلة وليلة" .
لقد صدرت هذه الترجمة عن دار نشر "ليليان" في سراييفو في أربعة مجلدات ضمت حوالي 2500 صفحة، وظهرت في أبدع ما يمكن من التنفيذ الفني التي يجعلها متميزة بالفعل في صف مثيلاتها من الترجمات التي صدرت مؤخرا.
وفيما يتعلق بالترجمة ذاتها يمكن القول أن هذا العمل يمثل إنجازا فرديا متميزا للمترجم د. اسعد دوراكوفيتش بعد ربع قرن من الانشغال بترجمة الأدب العربي.
وكان د.دوراكوفيتش المولود في 1948 في غلافيتسا / البوسنة يحلم منذ صباه بتعلم العربية وترجمة "ألف ليلة وليلة".
ولأجل ذلك التحق بقسم الاستشراق في جامعة بلغراد، وكتب رسالة الماجستير عن "الأدب العربي في حديث الأربعاء لطه حسين" بينما تناول في رسالة الدكتوراه "نظرية الإبداع المجهرية" .
وفي 1976 بدأ عمله في قسم الاستشراق الجديد في جامعة برشتينا، حيث بدأ مشواره الطويل في ترجمة الأدب العربي المعاصر من شعر وقصة ورواية .
وفي هذا الإطار بدأ بترجمة قصص جورج سالم وزكريا تامر ثم أشعار محمود درويش وأعمال خليل جبران وجبرا إبراهيم جبرا وغيرها، حتى تجاوز ما أصدره عشرة كتب منها ما هو مختارات شعرية لعدة بلدان عربية (الشعر السوري المعاصر، الشعر الكويتي المعاصر، الشعر الأردني المعاصر) .
ولكن بعد تفاقم الوضع في يوغسلافيا، بعد وصول ميلوشيفيتش للسلطة وإلغاء الحكم الذاتي الواسع في كوسوفو في 1989، اختار د. درواكوفيتش أن يعود إلى البوسنة الأم بعد أن تفاقمت ظاهرة "كل في بيته" التي كانت تعبر عن التخوف مما هو آت.
وهناك انضم د.دوراكوفيتش إلى معهد الاستشراق في سراييفو في 1991 للعمل كباحث، وعمل أيضا منذ 1994 كأستاذ للغة العربية في قسم الاستشراق في جامعة سراييفو .
كان د. دوراكوفيتش خلال دراسته وعمله في صربيا وكوسوفو يوغسلافياً في انتمائه وهويته، وكان يمثل في هذا اتجاها متناميا في يوغسلافيا منذ 1971 يرى في الانتماء ليوغسلافيا الحل الأمثل .
وفي الواقع لم يكن هذا بغريب عن د. دوراكوفيتش البوسنوي لان البوسنة كانت بمثابة "يوغسلافيا مصغرة"، وكانت النزعة اليوغسلافية عند البشانقة قوية لأنهم كانوا يعتبرون ويخشون أن قدر البوسنة أن تكون ضحية أي صراع صربي - كرواتي، ولذلك فهي لا يخشى عليها طالما أن الكيان اليوغسلافي بخير .
ولكن بعد عودته إلى البوسنة بدأت ما يمكن تسميته "النهضة البوسنوية الجديدة" نتيجة للتطورات الجديدة التي فرضت نفسها، والتي جعلت ترجمة "ألف ليلة وليلة" تعبيرا عنها .
لقد صدم د. دوراكوفيتش كغيره من المثقفين "اليوغسلاف" بالعدوان الصربي العنيف على البوسنة الذي أدى إلى أكبر مجازر جماعية تعرفها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .
وفي هذا الإطار كان حصار سراييفو خلال 1992 والقصف والقنص اليومي يدفع من بقي على قيد الحياة إلى اكتشاف مبرر آخر لحياتهم، ألا وهو اكتشاف هويتهم والدفاع عنها.
وهكذا فقد صدم د. دوراكوفيتش بشكل خاص حين رأى بأم عينه القصف الصربي يطول معهد الاستشراق بالذات خلال 17-18 أيار / مايو 1992 ويحرق مكتبته التي كانت تضم أغنى مجموعة للمخطوطات الشرقية في البلقان.
وهكذا مع هذا القصف المتعمد للمعهد والمنشآت الثقافية الأخرى (جوامع، مدارس، مقابر الخ) لم يعد الأمر يتعلق بـ "تطهير عرقي" كما كان يقال بل بـ "تطهير ثقافي" للتخلص من كل ما يذكر بالآخر غير المرغوب فيه.
وفي مواجهة هذا الهجوم على الذات انبعث لدى د. دوراكوفيتش وغيره من المثقفين مشاعر التحدي والاستعداد لعمل أي شئ للحفاظ على الذات / الهوية البوسنوية . وهكذا استيقظ لدى د. دوراكوفيتش حلم الشباب بترجمة "ألف ليلة وليلة" ولكن بدوافع جديدة.
فقد كان من هذه الدوافع تحدي خطر الموت اليومي، الذي كان يوحد الجميع، ولذلك فقد عمل تحت هذا الشعور بخطر الموت بشكل جنوني خشية أن يصله الموت قبل أن يحقق هذا العمل.
ومن ناحية أخرى فقد كانت البوسنة المحاصرة تبحث لنفسها عن تواصل مباشر مع العالم، ومع العالم العربي الإسلامي بشكل خاص، لتثبيت هويتها / استقلالها.
وهكذا أخذ يعم الآن استخدام تعبير "اللغة البوسنوية"، وليس "اللغة الصربو كرواتية" كما كان يقال في السابق، دلالة عما يميز الذات / الهوية (اللغة / الثقافة ) البوسنوية الجديدة التي تريد تأكيد استقلاليتها عن الآخرين.
وفي هذا الإطار كان عمل د. دوراكوفيتش يكسب بعدا جديدا، في انه أول ترجمة مباشرة من اللغة العربية إلى "اللغة البوسنوية".
ومن المفارقات أن الترجمة والحرب في البوسنة انتهت في وقت واحد مع التوقيع على اتفاقية دايتون في خريف 1995، ولكن سرعان ما بدأت حرب أخرى: تثبيت كيان البوسنة وتأمين ناشر مستعد في ظروف ما بعد الحرب أن يخصص معظم ما لديه لنشر كتاب جديد.
وقد وافقت بعد جهود حثيثة دار النشر "ليليان" في سرايفو على تبني نشر هذا الكتاب / الإنجاز الكبير الذي استغرق سنتين من الإعداد لينتهي إلى حدث ثقافي / سياسي على مستوى البوسنة . يتبع إن شاء الله... |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: البوسنة ما بين الشرق والغرب الخميس 09 يونيو 2011, 2:24 pm | |
| وهكذا فقد نظم بمناسبة صدور هذا الكتاب احتفال كبير في قلب سراييفو (دار الجيش) في 21 حزيران / يونيو 1999 شارك فيه نخبة من السياسيين والمثقفين كرئيس الوزراء حارث سيلاجيتش وفخر الدين رضوان بغوفيتش وجواد قراحسن وغيرهم .
وإذا كان حضور سيلاجيتش طبيعيا باعتباره "رفيق الدرب" (ممن عملوا أيضا في قسم الاستشراق في بريشتينا) ومن رموز "النهضة البوسنوية الجديدة"، إلا أن حضوره وكلمته الافتتاحية أعطت للحدث بعده السياسي أيضا.
وفي هذا الاحتفال عبر الأديب البوسنوي المعروف جواد قراحسن عما تعنيه هذه الترجمة للبوسنة الجديدة التي ولدت خلال الحرب " لا يمكن تصور تحضر أية لغة ليست فيها ترجمة كملة لألف ليلة وليلة " .
وبعبارة أخرى لقد كانت قد ولدت خلال الحرب "اللغة البوسنوية" في إطار الدفاع عن الذات / الهوية البوسنوية، وجاءت أول ترجمة مباشرة من العربية لهذه اللغة لكي تؤشر على أن هذه اللغة (البوسنوية) قد لحقت بغيرها، بل قد تجاوزت غيرها من اللغات اليوغسلافية المجاورة (الصربية والكرواتية والمكدونية الخ) لأنها أصبحت تمتلك أول ترجمة مباشرة من اللغة العربية .
وفي هذا الإطار لم يكن من المستغرب أن يبادر الرئيس البوسنوي نفسه علي عزت بغوفيتش، الذي هو من رموز "النهضة البوسنوية الجديدة"، إلى استقبال وتكريم المترجم والناشر في مقر رئاسة البوسنة في 24 حزيران / يونيو 1999.
وبهذا تكون ترجمة "ألف ليلة وليلة" قد تحولت إلى لحظة مهمة في سيرورة تبلور وتطور الهوية البوسنوية الجديدة على المستوى الثقافي والسياسي، وجعل منها حدثا على مستوى البوسنة.
ترجمة جديدة / مختلفة للقرآن الكريم إلى اللغة البوسنوية
صدرت في سراييفو في أيلول 2004 ترجمة جديدة للقرآن الكريم، تلك التي أنجزها د. أسعد دوراكوفيتش رئيس قسم الاستشراق في جامعة سراييفو وعضو مجمع اللغة العربية بدمشق، والتي اعتبرت حدثاً ثقافيا في البوسنة سواء لما تمثله بالنسبة إلى د. دورا كوفيتش أو بالنسبة إلى الترجمات السابقة في تاريخ البوسنة خلال قرن من الزمن تقريبا(1).
أما بالنسبة إلى د. دوراكوفيتش فقد احتفت به البوسنة أكثر من مرة مع إنجازاته الكثيرة في نقل عيون الثقافة العربية إلى اللغة البوسنوية.
فبعد خبرة ثلاثين سنة في ترجمة الشعر والنثر من الأدب العرب القديم والحديث (من امرىء القيس إلى محمود درويش) احتفت الأوساط الثقافية في البوسنة بأهم إنجازين لـه في السنوات الأخيرة، ألا وهما أول ترجمة لـ"ألف ليلة وليلة" من العربية إلى البوسنوية (صدرت في أربعة مجلدات فخمة في سراييفو 1999) وأول ترجمة بوسنوية للمعلقات التي صدرت في سراييفو قبل عدة .
وأما بالنسبة للترجمة ذاتها فقد كانت تمثل تحدياً كبيراً للمترجم، وذلك مع وجود سبع ترجمات سابقة للقرآن الكريم على مدى 110 سنوات.
ومع ذلك يمكن القول أن هذه الترجمة جديدة بالفعل تختلف عما سبقتها وتتفوق عليها مما يثير من جديد إشكالية ترجمة القرآن الكريم، حيث أن أية ترجمة لا تلغي الترجمات السابقة ولا تمنع ترجمات لاحقة بطبيعة الحال.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الترجمة الأولى للقرآن إلى اللغة اليوغسلافية المشتركة (لغة الصرب والكروات والبشناق وسكان الجبل الأسود) صدرت في بلغراد خلال 1895 بدوافع سياسية.
فقد قام بإنجاز هذه الترجمة عن اللغة الألمانية القس الصربي ميتشا لوبيبراتيتش لخدمة سياسة بلغراد في احتواء المسلمين في البوسنة.
وقد كان من الطبيعي أن يقابل المسلمون في البوسنة هذه الترجمة بتحفظ لأكثر من سبب، حيث أن ترجمة القرآن في ذلك الحين لم تكن مقبولة في حد ذاتها كما أن قيام قس صربي بترجمة القرآن وصدور هذه الترجمة مع صليب على غلافها (دلالة على وفاة صاحب الترجمة) ساهم في نفور المسلمين من هذه الترجمة.
ولكن مع انهيار الدولة العثمانية وتشكيل يوغسلافيا في نهاية 1918 (التي أصبحت البوسنة جزءاً منها) وتواصل المسلمين في البوسنة مع القاهرة / الأزهر خلال العشرينات والثلاثينات سمح للمسلمين أن يتابعوا ويشاركوا في قضية جواز / عدم جواز ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى التي انطلقت من القاهرة خلال ثلاثينات القرن الماضي.
وهكذا مع هذا التطور الجديد أخذ بعض علماء المسلمين في البوسنة (ممن يؤيدين ترجمة القرآن) يبادرون إلى ترجمة القرآن إلى اللغة البوسنوية حتى انه صدرت في عام واحد (1937) ترجمتان الأولى أنجزها علي رضا كارابك والثانية محمد بانجا وجمال تشاؤشيفيتش.
ومع تأسيس فرع الاستشراق في جامعة سراييفو ومعهد الاستشراق في سراييفو خلال 1950 وكلية الدراسات الإسلامية في سراييفو في 1974 أخذت تظهر موجة جديدة من الاهتمام بترجمة القرآن إلى اللغة البوسنوية، حيث صدرت تباعاً عدة ترجمات: الأولى لبسيم كركوت في 1977 والثانية لمصطفى مليفو في 1994 والثالثة لأنس كاريتش في 1995 والرابعة لرامو عطائيتش في 2001.
ويلاحظ على هذه الترجمات التنوع والتباين. وهكذا فقد ترجم بعضها من العربية مباشرة (كركوت وكاريتش) بينما ترجم بعضها من التركية أو الألمانية (كارابك وعطائيتش).
ومن ناحية أخرى فقد التزم بعضها بالترجمة مع بعض التفسير إما بفتح الأقواس أو في الهوامش والملاحق، بينما بالغ بعضها في الاعتماد على التفسير مثل الترجمة الأخيرة لعطائيتش التي جاءت عشرة مجلدات.
ومن هنا فقد كان الهاجس/التحدي الذي يشغل د. دورا كوفيتش يكمن في تبرير قيامه بترجمة جديدة للقرآن وفي تبرير جدة هذه الترجمة وما تضيفه بالنسبة للترجمات السابقة.
وفي الواقع يمكن اعتبار هذه الترجمة إضافة منهجية ومعرفية بالنسبة إلى هذا المجال الذي تتزاخم فيه الترجمات، حتى أنه يمكن القول أن البشانقة أصبحت لديهم الآن ترجمة جديدة / مختلفة تمكنهم من تفهم وتذوق القرآن الكريم بلغة بوسنوية خالصة.
في كلمة المترجم (ص644-648) يعترف د. دورا كوفيتش بأنه قد خصّص بوعي حياته لخدمة اللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية، ولكنه لم يكن في ذهنه سابقاً ترجمة القرآن.
ولكن بعد إصداره لعديد من الترجمات من الأدب العربي القديم والحديث، التي أثبت فيها قدرة وجدارة على نقل أصعب ما في الأدب العربي (المعلقات) إلى اللغة البوسنوية بأسلوب شاعري يسمح للبشانقة بتذوق مثل هذا الأدب، قرر دوراكوفيتش المضي في أهم تحد ألا وهو إنجاز ترجمة جديدة/مختلفة للقرآن الكريم.
كان د. دوراكوفيتش يقدر ما للترجمات السابقة للقرآن من فائدة حيث تراكمت معها خبرة جيدة في ترجمة القرآن تمثلت في نضج الترجمات المتأخرة (كركوت وكاريتش) عن السابقة. ومع ذلك كان دوراكوفيتش يرى وهو الذي يتميز عن غيره بتمكنه من اللغة البوسنوية وتقاليدها الأدبية، أن الترجمات السابقة ركزت على نقل المعنى الديني/المقدس ولم تهتم كثيراً باللغة البوسنوية التي ينقل إليها المعنى.
ولذلك فهو يشير مثلاً إلى ترجمة كركوت المعورفة التي كتب على غلافها "القرآن الكريم مع ترجمة معانيه".
ويرى دورا كوفيتش أن هذا التركيز على نقل المعنى الديني/المقدس جاء نتيجة لأمرين. أما السبب الأول فهو أن الذين أنجزوا الترجمات السابقة كانوا في تكوينهم علماء دين، ولذلك فقد انعكست طبيعة دراستهم على ترجماتهم، في التركيز على ما هو ديني على حساب ما هو لغوي / أدبي / جمالي. أما السبب الآخر فهو اقتناع هؤلاء بأن أسلوب القرآن في العربية معجّز / غير قابل للنقل إلى لغة أخرى، ولذلك اكتفوا بالتركيز على نقل معانية.
أما دورا كوفيتش فهو يعتقد، وهو الذي استفاد من دراسته وترجماته السابقة في إثبات تفوقه واستخدام لغة بوسنوية شاعرية جميلة، أن القرآن كلمة الله وباعتباره كذلك فهو يستحق أن يوصل إلى القارىء البوسنوي (وغيره) في أفضل أسلوب، في لغة شاعرية تؤثر عليه بجماليتها كما تؤثر العربية بجماليتها على من يقرأ القرآن بالعربية.
ومن هنا فقد جهد د. دورا كوفيتش في أن يجعل القارئ البوسنوي يقرأ القرآن ويتمتع بقراءته في اللغة البوسنوية مع فهم معانيه بطبيعة الحال.
ولأجل ذلك فقد اعتمد دوراكوفيتش الترجمة المباشرة الشاعرية (بعض السور بوزن واحد وبعض السور بعده أوزان) التي تعتمد على آية مقابل آية وصفحة مقابل صفحة مع الاستفادة القصوى من التقنية الطباعية لإبراز هذه المعادلة .
وبالمقارنة مع الترجمات السابقة لم يشأ دوراكوفيتش أن يضع ما يعوق انسياب القارىء البوسنوي في قراءاته للقرآن وتمتعه بتلك القراءة، حيث أنه لم يفتح الأقواس داخل الصفحة ولم يضع الهوامش للشرح والتوضيح لا في يمين الصفحة ولا في أسفلها.
ولكن في بعض المواقع التي رآها ضرورية وضع الأرقام الصغيرة التي أحال معها القارىء إلى ملحق صغير (ص612-643) في نهاية الترجمة لتوضيح بعض الأمور مثل شرح ما تعنيه "الأشهر الحرم" بالنسبة للعرب وغير ذلك.
ولهذا يمكن القول أن ترجمة دوراكوفيتش، التي احتفت بها الأوساط الثقافية في البوسنة على نحو غير مسبوق، إنما تؤكد على أن عملية الترجمة تحتمل دائماً المزيد من الإبداع حتى حين يتعلق الأمر بما هو مقدس كالقرآن الكريم.
ترجمة / قراءة بوسنوية جديدة للمعلقات في ضوء القرآن
وصلتني في صيف 2004 ما كنت أنتظره منذ سنوات، ألا وهي الترجمة / الطبعة البوسنوية الجديدة للمعلقات التي صدرت في سراييفو (2004) بعد طول انتظار لناشر يغامر بنشر مثل هذا الكتاب(1).
ويمكن القول أنه لولا مكانة صاحب الترجمة في البوسنة لكان يمكن أن تنتظر هذه المعلقات سنوات أخرى في انتظار مثل هذا الناشر.
وفي الواقع أن هذه ليست طبعة عادية بل تحفة فنية (من حيث نوع الورق والإخراج والغلاف) تليق بما تحتويه.
أما الدراسة / القراءة المطولة للمعلقات والترجمة ذاتها فهي إنجاز آخر يسجل للدكتور أسعد دوراكوفيتش رئيس قسم الاستشراق في جامعة سراييفو.
وكان د.دوراكوفيتش بعد حوالي ثلاثين سنة من دراسة وترجمة الأدب العربي قد كّرم بانتخابه عضواً مراسلاً لمجمع اللغة العربية في دمشق (2002) كما وفاز بجائزة الشارقة / اليونسكو الدولية لخدمة الثقافة العربية (2002) مما ساعده على نشر أهم إنجازين لـه في 2004 : نشر أول ترجمة بوسنوية لـ "المعلقات" ونشر ترجمة جديدة للقرآن إلى اللغة البوسنوية.
وفي الواقع أن ذكر ذلك يساعد على معرفة ما قام به د.دوراكوفيتش في هذا المجال. ففي المقدمة الطويلة التي كتبها عن المعلقات يؤكد على وجود ثلاثة قمم في تاريخ الثقافة العربية حسب ظهورها: المعلقات والقرآن وألف ليلة وليلة. ويبدو مع هذا الاقتناع أن د.دوراكوفيتش قد خصّص لهذه "القمم" معظم سنوات عمله في دراستها وترجمتها.
فقد أصدر أولاً أول ترجمة بوسنوية / يوغسلافية من العربية مباشرة لـ"ألف ليلة وليلة" في 1998، التي اعتبرت في حينه حدثاً ثقافياً في البوسنة، وقد أتبعها بأول ترجمة بوسنوية للمعلقات التي صدرت الآن بعنوان "المعلقات-القصائد العربية المذهبة" مع دراسة طويلة عنها، وينتظر الآن صدور ترجمته الجديدة للقرآن إلى اللغة البوسنوية التي تستحق بدورها وقفة مطولة.
وما يجمع بين هذه "القمم" الثلاثة التي أصبحت شامخة أيضاً في البوسنوية، بالإضافة إلى الكثير من الدراسات والترجمات التي نشرها، هو ما يتميز به د. دوراكوفيتش من معرفة ممتازة باللغة العربية وثقافتها إلى جانب امتلاكه للغة بوسنوية فنية تساعده على الإبداع في الترجمة، وهو ما لـه أهمية خاصة في هذه "القمم" الثلاثة.
فقد كانت هناك ترجمة شائعة لـ "ألف ليلة وليلة" ولكن د.دوراكوفيتش أراد لترجمته الجديدة أن تكون أقرب إلى الأصل وأقرب إلى روح اللغة البوسنوية.
وكذلك الأمر الآن مع ترجمة القرآن إذ أن وجود عدة ترجمات للقرآن إلى البوسنوية لم يمنع د. دوراكوفيتش في خوض التحدي لإنجاز / إبداع ترجمة جديدة تجمع ما بين المعنى الأصلي والأسلوب المناسب في اللغة البوسنوية.
وفيما يتعلق بالمعلقات يوضح د.دوراكوفيتش في المقدمة إلى أنها كانت قد وصلت بشكل ما إلى البوسنة في العهد العثماني من خلال الأدبين الفارسي والتركي، وبذلك يمكن اعتبارها أنها كانت "مرتبطة بشكل ما بالتراث البوسنوي" (ص33)، ولكنه أراد أن يعيد لها الاعتبار من خلال دراستها وترجمته الشعرية المناسبة حتى تأخذ المكانة التي تستحقها الآن.
وفي الواقع أن مثل هذا العمل كان يمثل في حد ذاته التحدي الكبير. فدوراكوفيتش يعترف في المقدمة أن القارئ العربي اليوم لا يستطيع أن يقرأ ويفهم هذه المعلقات إلا بواسطة الهوامش التي تشرح له معاني الكلمات وتساعده على فهم وتذوق الشعر.
وإذا كان الأمر كذلك مع القارئ العربي، الذي لم يعد يتواصل بسهولة مع لغة هذه القصائد وجماليتها، فكيف الأمر إذن مع القارئ البوسنوي؟
هنا يجد القارئ البوسنوي ما يساعده في المقدمة الطويلة على الاقتراب من أصحاب المعلقات وما يشجعه على التواصل مع امرئ القيس وطرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى ولبيد بن أبي ربيعة وعمرو بن كلثوم وغيرهم.
في المقدمة الطويلة (ص1-38) يتوقف د. دوراكوفيتش عند عدة قضايا لغوية ودينية وتاريخية ومنهجية ويحاول أن يقرأ هذا التراث الشعري بطريقة خاصة ، مما أوصله إلى بعض النتائج الذي قد تكون جديرة بالتعرف عليها.
يعترف د. دوراكوفيتش أن القضية الأساسية التي شغلت الباحثين عبر التاريخ هي صحة الشعر الجاهلي (مع أن .دوراكوفيتش يفضّل ويقترح أن يسمى "الشعر العربي قبل الإسلام") .
ومع أنه يقرّ بنحل بعض القصائد ، وتشذيب أو تعديل بعض الأبيات في بعض القصائد ، إلا أنه يميل إلى التأكيد على صحة هذا الشعر بالاعتماد على ما ورد في القرآن نفسه.
وربما الجديد في قراءة د. دوراكوفيتش للتراث الشعري قبل الإسلام في ضوء القرآن/الإسلام يتمثل في بعض النتائج التي توصل إليها.
ينطلق د. دوراكوفيتش أولاً من أن الشعر العربي قبل القرآن / الإسلام كان يعتمد على الشفاهية والذاكرة والرواية في انتقاله من مكان إلى مكان ومن جيل إلى جيل، وهو ما أثّر أيضاً على طبيعته الفنية (التركيز على الشكل والإيقاع الخ) التي أصبحت تساعد أكثر على حفظ هذا الشعر.
وفيما يتعلق بالقرآن، الذي يعتبره مصدراً موثوقاً عن الظروف التاريخية التي كانت سائدة آنذاك، يذكر د. دوراكوفيتش على أن ما ورد في القرآن يؤكد وجود إبداع شعري لدى العرب، وإن كان القرآن / الإسلام يسجل مآخذه على هذا الشعر في ذلك الوقت.
وبالاستناد إلى مثل هذه المآخذ الواردة في سورة "الشعراء" وغيرها من السور يصل د.دوراكوفيتش إلى نتيجتين متتابعتين وإلى نتيجة ثالثة لاحقة.
أما النتيجة الفورية الأولى التي جاءت مع تتابع نزول القرآن فتتمثل في التحدي الموضوعي / الفني للشعر، حيث أن القرآن ككتاب مقدس كان يمثل الحق / الموضوع الذي لا ينافسه فيه آخر، بينما كان فنياً يتحدى الشعراء بدوره على أن يأتوا بمثله.
ومع انتشار الإسلام حدث نوع من الفتور الشعري لانشغال العرب بحروب الردة والفتوحات، مع أن الرسول نفسه لم يمانع في وجود شعراء إلى جانبه كحسان بن ثابت وكعب بن زهير .
ولكن مع الاستقرار في المدن الجديدة في بلاد الشام والعراق، وبداية حركة التدوين، واهتمام علماء اللغة بالشعر القديم/ قبل الإسلام لكونه كان يساهم في تفسير القرآن، برزت قضية النحل والتشذيب أو التعديل كما يقول د. دوراكوفيتش.
فالشعر الجاهلي كان يتميز بكونه يمثل الحياة الذهنية والاجتماعية للعرب قبل الإسلام، كما أن الشاعر كانت له مكانته في القبيلة وكان يقوم أحياناً بدور الكاهن.
ولكن مع قراءة هذا الشعر كما وصلنا من مختارات حماد الراوية وغيره يلاحظ المرء أن هذا الشعر قد تعرض إلى "روتشة" أو "أسلمة" حيث خلت منه ما يشير إلى الذهنية والعادات الوثنية التي كانت سائدة لدى العرب قبل الإسلام (ص ).
ويقود هذا الأمر إلى نتيجة أخرى ألا وهو ما وصلنا من ذلك الشعر. فحماد الراوية ، كما يقول د. دوراكوفيتش ، قام باختيار بعض القصائد/المعلقات.
وهذه المختارات كأية مختارات شعرية تحمل بصمة من يقوم باختيارها، وبالتحديد مفاهيمه ومعاييره النفسية.
ومن هنا فإن ما اختاره حماد الراوية من القصائد / المعلقات قد يعبّر عن معاييره الفنية الشخصية، أو يعبر عما يكون قد أصبح مقبولاً في وقته بعد انتشار / استقرار الإسلام.
ومن هنا يصل د.دوراكوفيتش إلى أن حماد قد اختار القصائد / النماذج التي تحولت إلى مثل أعلى للشعراء، الذين حاولوا أن يقلدوها أو يستلهموها على الرغم من تغير الأمكنة والأزمنة.
وهكذا يصل د.دوراكوفيتش إلى أن المعلقات أصبحت بذلك "المفتاح لفهم التراث الأدبي العربي" (ص30)، بل أن بعض الشعراء في مطلع القرن العشرين بقوا مع استبدال الجمل بالسيارة يقومون بدور الشاعر القديم الرحالة الذي ينتقل من مكان إلى آخر ومن موضوع إلى آخر في القصيدة الواحدة (ص32-33).
ولكل هذه الاعتبارات يوضح د.دوراكوفيتش أن الاهتمام بالشعر القديم/المعلقات كان مرتبطاً بعلماء اللغة، وهو ما استمر عليه في أوربا على يد المستشرقين. ومن هنا فقد انصبت محاولات المستشرقين على الجوانب اللغوية التاريخية على حساب الجوانب الفنية، مما جعل المستشرقين يكتفون بترجمة نثرية للمعلقات وغيرها من الشعر القديم.
ومن هنا فقد حاول د.دوراكوفيتش أن يتعامل مع المعلقات كنماذج لأسمى ما وصل إليه الشعر العربي قبل الإسلام، وأن يجعل القارئ البوسنوي يتواصل معها ويتذوقها كشعر في لغته الأم على الرغم من المسافة الزمنية (حوالي 1500 سنة) التي تفصله عن هذه المعلقات.
ولأجل ذلك فقد عمد د.دوراكوفيتش إلى تزويد القارئ بترجمتين مختلفتين: الترجمة الشعرية التى تعطي الأفضلية للشعر كإبداع يمكن أن يتذوقه القارى البوسنوى مع النص العربي لمن يود أن يقارن بينهما, و " الترجمة الفليولوجية" التي تعطى الأفضلية للمضمون على حساب الشعر مع النص الأصلي المكتوب بحروف لاتينية لمن لا يعرف قراءة النص الأصلى بالحروف العربية لكي يتعرف بنفسه على الأوزان والقوافي التي تميز هذه المعلقات .
إسهام علماء البوسنة في التأليف باللغة العربية
الشيخ يويو نموذجا
مع الفتح العثماني للبلقان وانتشار الإسلام هناك منذ القرن الخامس عشر، وخاصة في بعض المناطق كالبوسنة وألبانيا، بدأت اللغة العربية في الانتشار بدورها وأخذت تتحول إلى لغة للتأليف بالنسبة للعلماء المحليين.
وبهذا الشكل فقد برز هناك مئات من هؤلاء العلماء المحليين، الذين استفادوا من اللغة العربية في تحصيلهم العلمي وفي تواصلهم مع العالم الإسلامي آنذاك، ثم في التأليف في اللغة العربية والإسهام بذلك في الثقافة العربية الإسلامية.
ومع نهاية الحكم العثماني، الذي استمر في البوسنة أكثر من 400 سنة، واندراج البوسنة في الإطار النمساوي المجري أولاً (1878-1918) ثم في الإطار اليوغسلافي (1918-1992) أصبح الاهتمام بهذا التراث المكتوب في اللغة العربية (وفي التركية والفارسية أيضاً) يعايش حالة من المد والجزر حسب الظروف الجديدة التي كانت تحكم البوسنة.
ففي البداية حاولت فيينا أن تفصل البوسنة بالتدريج عن العالم الإسلامي تمهيداً لضمها في 1908، وشجعت لأجل ذلك نزعة "الأوربة" التي تضمنت فيما تضمنت تغليب ما هو قومي على ما هو ديني (البشنقة).
وفيما يتعلق بالإطار اليوغسلافي فقد عرفت البوسنة حالة مد وجزر في موقف بلغراد من الخصوصية البوسنوية، الذي انعكس بدوره على موقف المثقفين من التراث المكتوب باللغات الشرقية.
وفي هذا الإطار فقد جاء تأسيس معهد الاستشراق في سراييفو في 1950 ليعبر عن انعطاف مهم في هذا المجال.
وكان أول قسم للاستشراق في يوغسلافيا قد تأسس في بلغراد 1926 (بفضل أحد علماء البوسنة د. فهيم بايراكتاروفيتش) ولكنه كان يعبر أكثر عن الاستشراق الأوروبي المركزي الذي يعبر عن مشاعر / مصالح المركز تجاه الآخر.
ولكن مع تأسيس معهد الاستشراق في سراييفو (الذي بقي الوحيد من نوعه في يوغسلافيا حتى انهيارها) فقد اختلف الأمر إذ أن المعهد تولى بموجب قانون تأسيسه جمع وتحقيق ونشر التراث المحلي (البوسنوي) المكتوب في اللغات الشرقية.
وبهذا التطور المؤسسي شهدت البوسنة ما يمكن أن يسمى بـ "قومنة الاستشراق"، أي أن الجيل الجديد من المستشرقين أصبح يعتبر ما كتب في البوسنة باللغات الشرقية جزءاً من التاريخ المحلي/القومي للبوسنة أيضاً.
وضمن هذا الاحتفاء بالتراث البوسنوي في اللغات الشرقية فقد صدر في 2002 المجلد الذي يتضمن أعمال الندوة التي أقيمت في عاصمة الهرسك (موستار) في 2001 بمناسبة الذكرى الـ 350 لولادة أحد أشهر علماء البوسنة الذين ألفوا في اللغة العربية، ألا وهو مصطفى الموستاري البوسنوي المشهور بـ "الشيخ يويو"(1).
وتجدر الإشارة إلى أن مصطفى أيو بوفيتش الموستاري (الاسم الكامل لـه مصطفى يويي بن يوسف بن مراد أيوبي زاده الموستاري البوسنوي)، ولد في مدينة موستار Mostar (التي تعتبر مركز /عاصمة الهرسك) في سنة 1061هـ/1651م لأب مدرس معروف في المدينة.
وقد بدأ دراسته في موستار برعاية والده، حيث درس أسس العلوم اللغوية والشرعية (اللغة العربية وأصول الفقه الخ) ثم توجه إلى استنبول عاصمة الدولة العثمانية، التي كانت تعتبر مركز الجذب لأمثاله .
وهناك درس مصطفى الشاب الفلسفة والفلك والهندسة وغيرها، وكان يقضي كل ما لديه من وقت فراغ في مكتبات استنبول الغنية بالمخطوطات الشرقية، وقد قيّض لـه هناك أن يلازم بعض العلماء المشهورين في ذلك الوقت كالموسى صالح وعرب زاده وقرابكر طيري وغيرهم. ونظراً لما أبداه مصطفى من سبق فقد عين مدرساً في إحدى مدارس استنبول.
ويبدو أن مصطفى قد بدأ في التأليف في اللغة العربية خلال إقامته في استنبول، إذ أنه وضع هناك حاشية على كتاب: "مفتاح الأصول" للملا خسرف.
ولكن أهل الهرسك لم يتركوا مصطفى الشاب في استنبول إذ أنهم دعوه إلى موطنه لتولي الإفتاء بعد وفاة مفتي الهرسك الشيخ حسن الموستاري في 1104هـ / 1692م.
وهكذا مع عودته إلى موطنه الهرسك، حيث استقر فيه إلى وفاته في 1119هـ/1707م، اشتغل "الشيخ يويو" (كما أصبح يعرف بين مواطنيه) في التدريس والتأليف الغزير الذي جاء كله في اللغة العربية تقريباً، مما يعكس تمكنه من هذه اللغة ومكانة هذه اللغة آنذاك في البوسنة.
وقد ساهم عمل الشيخ يويو في التدريس والتأليف في بروز جيل جديد من التلاميذ/العلماء الذين استفادوا من علمه وساهموا بدورهم في التدريس والتأليف. ومن هؤلاء لابد أن نذكر أشهر تلميذين لـه كتبا في سيرته مما حفظ لنا الكثير من تفاصيل حياته وأعماله.
أما الأول فكان المدرس إبراهيم أوبياتش I. Opijac (توفي 1717م) الذي ألف "مناقب الفاضل المحقق مصطفى بن يوسف الموستاري"، وأما الثاني فهو الشاعر مصطفى خرّمي M. Hurremi (توفي 1727م ) الذي ألف "نظام العلماء".
ويلاحظ في مؤلفات الشيخ يويو في العربية التي قاربت العشرين أنها تعبّر عن ثقافة موسوعية لصاحبها إذ أنها تشمل العلوم المعروفة في عصره، التي كان لابد للعلماء أن يحيطوا بها.
فقد ألف الشيخ يويو في أصول الفقه والعقيدة والفرائض والوعظ والنحو والمعاني والأدب والمعاجم والوضع والمنطق.
ويلاحظ في هذه المؤلفات أن الشيخ يويو كان يناقش ويضيف على ما كتبه أهم علماء العالم الإسلامي في هذه المجالات كالسمرقندي والجرجاني والشيرازي والفرجاني والقراباغي والنسفي وشهيدي زاده والطرطوسي والخوقندي والتفتازاني والزمخشري والايجي والأبهري وغيرهم.
وقد بقي الشيخ يويو يشغل الإفتاء (مفتي الهرسك) والتدريس (مدرسة قراغوز في موستار)، بالإضافة إلى التأليف حتى وفاته في 15 ربيع الثاني 1119هـ / 16 تموز 1707م.
وقد بقي قبره يزار من قبل تلاميذه وتلاميذ تلاميذه إلى أن قام الوالي علي باشا رضوان بغوفيتش ببناء ضريح ضخم على قبره في 1247هـ/1831م، وهو ما أصبح إلى اليوم من معالم مدينة موستار.
وقد اهتم بمؤلفات الشيخ يويو الكثير من الباحثين الذين عنوا بالثقافة العربية الإسلامية مثل محمد طاهر في كتابه "المؤلفون العثمانيون" واسماعيل باشا البغدادي في كتابه "هداية العارفين" وكارل بروكلمان في كتابه "تاريخ الأدب العربي" ومحمد الخانجي في كتابه "الجوهر الأسمى" وغيرهم، كما كتب عنه بعد تأسيس معهد الاستشراق أكثر من رسالة ماجستير.
وفي هذا الإطار فقد جاء الاحتفاء بالذكرى الـ 350 لولادة الشيخ يويو للتعبير عما تغير في البوسنة بعد الاستقلال (1992).
فقد أصبح الاهتمام بالتراث البوسنوي المكتوب باللغات الشرقية (ومنها العربية) من سمات الدولة الجديدة في البوسنة، التي أصدرت طابعين جميلين بهذه المناسبة عن الشيخ يويو.
وفي هذا الإطار فقد كان الاحتفاء الأهم بهذه المناسبة يتمثل في تنظيم ندوة في مدينة موستار شارك فيها نخبة من الباحثين والمستشرقين الذين نشرت أوراقهم في مجلد خاص بعنوان "الحكمة تولّد التسامح".
وفي هذا المجلد يلفت الانتباه الورقة الأولى للدكتور أسعد دوراكوفتيش، رئيس قسم الاستشراق في جامعة سراييفو، التي كانت بعنوان "مصطفى أيوبو فيتش- اسهام حول تقييمه".
ففي هذه الورقة يعترف د. دوراكوفيتش أن معظم أعمال الشيخ يويو كانت حواشي وتعليقات على مؤلفات العلماء المعروفين في العالم الإسلامي، إلا أنه يعتبر أن هذا لا يقلّل من إسهام الشيخ يويو وإنما يزيد في تقديره لأنه أوصل إلى البوسنة مثل هذه المؤلفات من العالم الإسلامي مع إضافاته عليها.
ومن هنا يعتبر دوراكوفيتش أن مجرد الحفاظ على هذا التراث إنما هو قيمة في حد ذاتها، وأن الحفاظ عليه الآن إنما يمكن في الحفاظ على "النواة الحضارية" في مواجهة العولمة العاتية التي تهدد الخصوصية الثقافية التاريخية لكل شعب.
ثروة من المخطوطات الشرقية تجمعت خلال ألف عام وتلاشت في يوم واحد
جاءت الذكرى العاشرة لاندلاع الحرب في البوسنة (1992) مناسبة لمراجعة ما حدث سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي.
وعلى الرغم من أن المساعدات الدولية التي قدمت للبوسنة بعد وقف الحرب (1995) ساهمت في إعادة اعمار بعض ما تدمر خلال الحرب وإعادة بعض الثقة إلى الحياة المشاركة إلا أنها لم تستطع بطبيعة الحال أن تعيد ضحايا الحرب (حوالي ربع مليون معظمهم من المسلمين) إلى الحياة أو أن تستعيد الكنوز الثقافية التي فقدت إلى الأبد.
ومن هذه الكنوز الثقافية التي فقدت إلى الأبد آلاف المخطوطات الشرقية التي كان يعتز بها معهد الاستشراق في سراييفو، والتي كانت تعتبر من أهم المجموعات في البلقان.
وكانت هذه المخطوطات وغيرها قد تراكمت في البوسنة منذ الفتح العثماني للبلقان/البوسنة، الذي اكتمل في النصف الثاني للقرن الخامس عشر، حيث شهدت البوسنة بشكل خاص انتشار الإسلام بسرعة حتى أصبح دين الغالبية.
ومع انتشار الإسلام انتشرت اللغة العربية بطبيعة الحال وأصبحت إحدى لغات التأليف، وأخذ العلماء المحليون يحرصون على اقتناء ونسخ المخطوطات في اللغات الشرقية (العربية والتركية والفارسية)، ثم التأليف في هذه اللغات مما أدى مع الزمن إلى تراكم آلاف المخطوطات.
وقد توزعت هذه المخطوطات في المكتبات الخاصة أو في المكتبات شبه العامة في الجوامع والمدارس التي من أشهرها مكتبة الغازي خسروبك في سراييفو التي تعود نواتها إلى سنة 944هـ/ 1532م.
ولكن مع نهاية الحكم العثماني في 1878 شهدت البوسنة/ المنطقة سلسلة من الحروب والتطورات المتسارعة التي أخذت تؤثر بدورها على مصير هذه المخطوطات.
فقد احترق قسم منها نتيجة للحروب التي طالبت بعض المنشآت والبيوت التي كانت توجد فيها، كما أن عدم الاهتمام بها من الأجيال الجديدة، وتسرب بعضها إلى الخارج كان يمكن أن يؤثر عليها أكثر.
ومن هنا جاء تأسيس معهد الاستشراق في سراييفو في 1950 في وقته، إذ أن قانون تأسيسه قد نص على قيامه بجمع وتحقيق ونشر المخطوطات في اللغات الشرقية.
وهكذا فقد كانت أول وأهم مهمة للمعهد هي تجميع هذه المخطوطات المتبعثرة في كل أرجاء البوسنة والهرسك، سواء بواسطة الشراء أو بواسطة الإهداء.
وخلال ربع قرن كان المعهد قد نجح في إثبات ذاته إذ أصبح يفاخر بمكتبته التي تحتوي على آلاف المخطوطات في اللغات الشرقية، بالإضافة إلى عشرات الألوف من الوثائق التي تتعلق بتاريخ البوسنة خلال العهد العثماني، والتي كانت تشد إليها الباحثين من البوسنة وخارجها.
وفي السنة التي شهدت إعلان استقلال البوسنة عن يوغسلافيا السابقة (1992) كان عدد هذه المخطوطات قد وصل إلى (5263) مخطوطة في اللغات الشرقية الثلاثة (العربية والتركية والفارسية) بالإضافة إلى اللغة البوسنوية المكتوبة بالحروف العربية، مما كان يجعلها من المجموعات المهمة على مستوى البلقان.
فقد ضمّت هذه المجموعة مخطوطات متنوعة تعود أقدمها إلى سنة 413هـ / 1023م (ألا وهي "النوازل من الفتاوي" للسمرقندي) وتشمل على ما هو مكتوب خارج البلقان وما هو منسوخ ومؤلف في البلقان، وبالتحديد في البوسنة.
ولكن من كان يتوقع أن تكون الحرب القادمة في البوسنة تشتمل على ما صدم العالم من "تطهير عرقي" و"تطهير ثقافي" كان يهدف إلى "تطهير" مناطق واسعة في البوسنة من سكانها ومما يذكّر بهم من منشآت بغض النظر عن قيمتها التاريخية (جوامع ومدارس ومكتبات الخ).
وهكذا فقد جاء دور معهد الاستشراق في قلب سراييفو في 17 أيار 1992م، حين كانت المدينة محاصرة من الجهات الأربعة، عندما تعرض إلى قصف صربي مركّز أدى إلى تدميره.
وفي ذلك اليوم الأسود أمكن القول أن تلك الثروة الإنسانية من المخطوطات الشرقية التي تجمعت خلال ألف عام قد تلاشت في يوم واحد فقط.
وبعد وقف الحرب/ المأساة نتيجة للتدخل الدولي في 1995 عاد العاملون في معهد الاستشراق إلى ما بقي من معهدهم وهم أكثر عزيمة على مواصلة عملهم.
ومع أن المعهد حظي آنذاك باهتمام بعض المؤسسات الأوروبية لمساعدته في تأسيس مكتبة جديدة إلا أن ما احترق من مخطوطات كان من المستحيل أن يتعوض.
ومع ذلك فقد قام اثنان من أبرز العاملين في المعهد (صالح تراكو وليلى غازتيش) بعمل قيم يتمثل في إصدار "فهرس مخطوطات معهد الاستشراق" في 1997 الذي يشتمل فقط على ما يتعلق بالأدب(1).
ولاشك أن السؤال الذي يرد هنا: كيف أمكن لهذين الباحثين أن ينجزا مثل هذا الفهرس الضخم (410 صفحة من القطع الكبير) طالما أن مكتبة المعهد قد قضي عليها في ذلك اليوم الأسود؟
وفي الحقيقة أن الباحثين عمدا إلى ما نشر أولاً من فهارس سابقة لمخطوطات المعهد في المجالات الأخرى ("فهرس مخطوطات معهد الاستشراق في مجال الطب والصيدلة والصحة" الذي صدر في 1984 و "فهرس المخطوطات الفارسية في معهد الاستشراق" الذي نشر في 1968) ثم إلى ما نشر من دراسات وفهارس في البوسنة وخارجها أتت على ذكر أية مخطوطة من مخطوطات المعهد مما أمكن في نهاية الأمر التوصل إلى مثل هذا الفهرس المفترض لمخطوطات المعهد.
وحين نقول هنا "الفهرس المفترض" فهذا يعني أنه قد بقيت هناك مخطوطات كثيرة خارج هذا الفهرس حتى الآن، والتي يمكن إضافتها في وقت لاحق مع اكتشاف أية معطيات جديدة.
ولكن هذا "الفهرس" الذي بذل فيه كل هذا الجهد يرمز إلى التحدي أكثر مما يؤشر للواقع، إذ أنه "يحفظ" لنا عناوين وأوصاف مئات المخطوطات دون أن يسمح لنا بالاستفادة منها لأنها قد أصبحت تحت الرماد وفقدت إلى الأبد في ذلك اليوم الأسود.
ومع ذلك يسمح مثل هذا الفهرس لنا الآن بالتعرف إلى ما وصل إلى البوسنة وما نسخ وألف في البوسنة خلال القرون التي كانت فيها البوسنة في إطار الدولة العثمانية.
ففي الفهرس الحالي لدينا ذكر ووصف لـ 564 مخطوطة فقط أي حوالي 10% من مجموع المخطوطات التي كانت توجد في مكتبة المعهد في ذلك اليوم الأسود.
وقد توزعت هذه المخطوطات في الفهرس إلى قسمين، حيث احتوى القسم الأول على المؤلفات حسب اللغات (59 مخطوطة في العربية، و 280 مخطوطة في التركية، و 137 مخطوطة في الفارسية، و11 مخطوطة في اللغة البوسنوية بالحروف العربية).
أما في القسم الثاني فلدينا المجاميع التي تحتوي خليطاً من الموضوعات.
وفيما يتعلق بالمخطوطات العربية يلاحظ أن نصفها تقريباً (33 من أصل 59 مخطوطة) تتعلق بقصيدة البردة للبوصيري، وتتضمن ترجمات وشروحات مختلفة (لابن جابر والمراكشي والكازروني والكردي وغيرهم) جاءت إلى البوسنة من مختلف أرجاء العالم الإسلامي أو نسخت هناك، مما يدل على المكانة التي كانت لهذه القصيدة في المجتمع المحلي.
ويلاحظ هنا أن حوالي نصف هذه وغيرها (التركية والفارسية) منسوخة في البوسنة، حيث أن كل مخطوطة تتضمن عادة اسم الناسخ وتاريخ النسخ مما يوفر لنا معطيات مهمة عن شبكة انتشار هذه المخطوطات، ومعرفة اللغات التي كانت تكتب فيها، قبل أن تجمع في مكان واحد.
ومن الملاحظات المثيرة التي ترد في نهاية المخطوطات لدينا ما كتبه الكاتب البوسنوي سليمان بن حسن في نهاية مخطوطة "بهارستان" للشاعر الفارسي جامي (توفي 898هـ/1492م) من أنه أنجز نسخ هذا الديوان" في قهوة قولا غوز" في سراييفو في سوم الثلاثاء وسط شوال 1031هـ (2 آب 1622م).
وهذه المعلومة تؤكد ما لدينا من المصادر الأخرى عن المقاهي التي أخذت تنتشر آنذاك في البوسنة والتي كانت تجذب الشعراء والكتاب.
وعلى ذكر القهوة لدينا في هذا الفهرس مجموع بعنوان "مجموعة اللطائف وصندوقة المعارف" قام بنسخها لنفسه الدرويش إبراهيم مصطفى زاده في سراييفو في سنة 1159هـ / 1746 م، والتي يتضمن بعض فتاوي مفتي الهرسك الشيخ مصطفى الموستاري التي تتعلق بالدخان، إذ أن الدخان كان قد وصل تقريباً إلى البوسنة في وقت واحد مع القهوة.
وعلى كل حال أن مثل هذه المناسبة (الذكرى العاشرة لتدمير معهد الاستشراق في سراييفو) إنما تعبر عما كانت عليه الحرب/المأساة في البوسنة في تلك الأيام، التي تبدو كأنها كانت قبل قرن وليس قبل عقد فقط.
مخطوطات مكتبة الغازي خسروبك في سراييفو
بتعاون مثمر بين رئاسة الجماعة الإسلامية في البوسنة ومؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في لندن صدر مؤخرا الجزء الأول والثامن من المشروع الضخم "فهرس المخطوطات العربية والتركية والفارسية والبوسنوية" الذي يكاد العمل فيه يستغرق حوالي القرن من الزمن(1).
فقد بدأ العمل في فهرسة مخطوطات مكتبة الغازي خسرو بك الباحث البوسنوي محمد خانجيتش بعد عودته من القاهرة 1937، حيث وضع أكثر من ألفي بطاقة وصف فيها قسما لا بأس به من مخطوطات المكتبة بغرض وضع فهرس شامل لها ولكنه توفي 1944 قبل إكمال هذا العمل .
وبعد الحرب العالمية الثانية تابع هذا المشروع د. حازم شعبانوفيتش، الباحث المعروف والمستشار العلمي لمعهد الاستشراق الذي أسس حينئذ في سراييفو (1950)، حيث نشر بعض النماذج من عمله في مجلة "غلاسنيك" Glasnik خلال 1950 - 1953، ولكن انشغالات د. شعبانوفيتش حولت العمل في هذا المشروع الى الباحث قاسم دوبراتشا الذي استمر في هذا العمل حوالي عشر سنوات تتوجت بإصدار الجزء الأول في سراييفو 1963 بعنوان "فهرس المخطوطات العربية والتركية والفارسية" .
وعلى الرغم من الصدى الطيب الذي تركه إصدار الجزء إلا أن العمل تعثر بسبب المصاعب المادية/ المالية، ولم يصدر الجزء الثاني الذي أنجزه قاسم دوبراتشا إلا في 1979 في سراييفو والقاهرة، بينما تأخر صدور الجزء الثالث الذي أعده زينل فاييتش حتى 1991.
وهكذا فقد استغرق اصدار الأجزاء الثلاثة الاولى حوالي ثلاثين سنة (1963 - 1991)، وقد تعقد الأمر أكثر مع الحرب في البوسنة (1992 - 1995) حيث نجت المكتبة بمعجزة بعد أن نجح القصف الصربي المتعمد في تدمير المكتبة الوطنية ومكتبة معهد الاستشراق في سراييفو خلال 1992 .
إلا أن العمل في هذا الفهرس تسارع بعد استقرار الوضع في البوسنة (1995) وتبني مؤسسة الفرقان للتراث الاسلامي في لندن لهذا المشروع، حيث صدر في لندن / سراييفو خلال 1998 الجزء الرابع الذي أنجزه د. فهيم علي ناميتاك، وصدر في 1999 الجزء الخامس الذي أعده زينل فاييتش والجزء السادس الذي أنجزه مصطفى يحيتش، بينما صدر في عام 2000 الجزء السابع الذي أنجزه حاسو بوبارا وزينل فايتش والجزء الثامن الذي أنجزه مصطفى يحيتش، كما صدر من جديد الجزء الاول بعد أن اصبحت نسخة نادرة كالمخطوطات.
وتشير أغلفة هذه الأجزاء الثمانية إلى "تاريخ" بالفعل . فقد صدر الجزء الأول في سراييفو بعنوان "فهرس المخطوطات العربية والتركية والفارسية" من قبل "مشيخة الجماعة الاسلامية في جمهورية بوسنة وهرسك الاشتراكية"، وصدر الجزء الثاني بالعنوان ذاته في سراييفو والقاهرة سنة 1979، أما الجزء الثالث فقد صدر في سراييفو سنة 1991 عن "مشيخة الطائفة الاسلامية في جمهورية بوسنة وهرسك"، بينما حملت بقية الأجزاء (ابتداء من الجزء الرابع) عنوانا "فهرس المخطوطات العربية والتركية والفارسية والبوسنوية"، بعد أن أصبحت "البوسنوية" تعتبر لغة مستقلة بعد استقلال البوسنة، وأصبح الناشر الآن "رئاسة الجماعة الإسلامية في البوسنة والهرسك" ومؤسسة الفرقان للتراث الاسلامي التي أسسها في غضون ذلك الشيخ أحمد زكي اليماني .
وتجدر الإشارة إلى أن أهمية هذا الفهرس إنما تنبع من قيمة المخطوطات التي تراكمت عبر القرون في مكتبة الغازي خسروبك في سراييفو .
وكانت هذه المكتبة التي حملت اسم والي البوسنة الغازي خسروبك قد أسست في 944 هـ / 1537م لتكون مكتبة لمدرسته المعروفة التي بناها قرب جامعة المشهور في سراييفو.
ولكن وقفية المدرسة كانت توضح منذ البداية ان الكتب في هذه المكتبة كانت للعموم وليست للعاملين في المدرسة فقط، وبالتحديد لـ "يستفيد منها من يطالعها من المستفيدين ويستنسخ من يستنسخها من المحصلين" .
وعلى الرغم من أن المكتبة دمرت (مع غيرها) خلال الهجوم النمساوي على سراييفو في 1697م إلا أنها انبعثت من جديد، وتطورت بشكل واضح منذ 1864 حين استقلت في مبنى خاص في حوار الجامع حتى سنة 1935 حين انتقلت إلى مبنى أوسع مقابل جامع السلطان . وخلال 1864 - 135 و 1935 - 1991 تضخمت المكتبة بضم عشرات المكتبات الخاصة لكبار المثقفين في البوسنة، الذين اهتموا بجمع المخطوطات واشتغلوا في التراث الشرقي للبوسنة، وبعض مكتبات الجوامع والمدارس في البوسنة أيضا حتى أصبحت "المكتبة المركزية" للمخطوطات الشرقية في البوسنة وحتى في يوغسلافيا السابقة .
ونتيجة لهذه الظروف فقد تجمعت في المكتبة حوالي تسعة آلاف مخطوطة ما بين كتاب ورسالة في اللغات الشرقية (العربية والتركية والفارسية) واللغة البوسنوية، بالإضافة إلى السجلات الشرعية والوقفيات والوثائق التاريخية والمصادر / المراجع المطبوعة في اللغات الشرقية والأوروبية .
وكانت هذه المجموعة تعتبر من أغنى المجموعات في أوروبا الشرقية، وحتى أن بعض المخطوطات فيها تعتبر من أقدم النسخ المحفوظة في المكتبات العالمية لأنها نسخت في حياة مؤلفها أو بعد وفاتهم بوقت قصير .
ومن ذلك مثلا لدينا مخطوطة "الإيضاح في علم المعاني والبيان" للقزويني التي نسخت في خوارزم سنة 751 هـ / 1350م أي بعد 12 سنة فقط من وفاة المؤلف، و "حاشية" الجرجاني على "المطول" للتفتازاتي التي نسخت سنة 814 هـ / 1411م، أي قبل وفاة مؤلفها بسنتين.
وعلى الرغم من "استغراق" العمل في هذا الفهرس وتغير القائمين عليه والعاملين فيه إلا أن الأجزاء الثمانية التي صدرت حتى الآن حافظت على الأسس نفسها التي وضعت منذ البداية لهذا المشروع والتي أوضحت في الجزء الأول الذي صدر في 1963 .
وهكذا فقد قسمت جميع مخطوطات المكتبة حسب المواضيع إلى 14 بابا (دوائر المعارف، القرآن وعلومه، العقائد، الأدعية والأذكار، الفقه، الأخلاق والمواعظ، التصوف، الحكمة والفلسفة، علوم اللغة، التاريخ والجغرافيا، الطب والبيطرة، الطبيعة والحساب وأخيرا المتفرقات)، مما يعني أن العمل في فهرستها قد قطع شوطا كبيرا .
فالجزء الثامن الذي صدر مؤخرا اشتمل على مخطوطات علم النحو والصرف العربي وما يتعلق بهما بالإضافة إلى قواعد اللغة العثمانية وقواعد اللغة الفارسية . وقد توقف هذا الجزء عند المخطوطة رقم 5257 من مخطوطات المكتبة، التي هي جزء من رسالة عن النحو العربي في اللغة التركية .
وعلى هذا النحو أصبح هناك أمل في أن يتم اكتمال الأجزاء الباقية في العقد الأول لهذا القرن، أي قبل اكتمال القرن على بدء العمل في فهرسة مخطوطات هذه المكتبة .
وأخيرا تجدر الإشارة إلى أن ضخامة هذا المشروع إنما تعود إلى أن الفهرسة تقتصر على العناوين والمقدمات والنهايات في اللغات الأصلية (العربية والتركية والفارسية) بينما الشروحات والتعليقات في اللغة البوسنوية .
وبعبارة أخرى أن هذا المشروع على أهميته الكبيرة يكاد يحصر الاستفادة منه فيمن يعرف اللغة البوسنوية / اليوغسلافية، ولذلك نأمل من مؤسسة الفرقان أن تكمل معروفها وتصدر طبعة خاصة من هذا الفهرس باللغة العربية أيضا باعتبارها لغة عالمية توسع من دائرة المستفيدين من هذه المجموعة القيمة من المخطوطات.
(1) فهرس المخطوطات العربية والتركية والفارسية والبوسنوية في مكتبة الغازي خسروبك في سراييفو، ج1-8 لندن - سراييفو 2000 .
كتب أخرى للمؤلف عن البلقان
• الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية، الكويت (عالم المعرفة) 1983 • ملامح عربية إسلامية في الأدب الألباني، دمشق (اتحاد الكتاب العرب) 1990 • الإسلام في يوغسلافيا من بلغراد إلى سراييفو، عمّان (دار البشير) 1993 • دراسات في التاريخ الحضاري للإسلام في البلقان، تونس/أبو ظبي (مؤسسة التميمي/ مؤسسة جمعة الماجد) 1995 • كوسوفو/كوسوفا بؤرة النزاع الألباني الصربي في القرن العشرين، القاهرة (مركز الحضارة للدراسات السياسية) 1998 • مداخلات عربية بلقانية في التاريخ الوسيط والحديث، دمشق (اتحاد الكتاب العرب) 2000 • التأليف باللغة العربية في البوسنة، عمّان/اربد (دار الشروق/ مؤسسة حمادة) 2001 • مراجعة الاستشراق: ثنائية الذات والآخر/نموذج يوغسلافيا، بيروت (دار المدار الإسلامي) 2002 • من دار الإسلام إلى الوطن ومن الوطن إلى القومية (حالة البوسنة)، بيروت (الدار العربية للعلوم) 2004 • إسماعيل كاداريه بين الأدب والسياسة، عمان (دار أزمنة) 2005.
مقدمة 7 تاريخ وأعــلام 9 تاريخ البشانقة كما لا نعرفه حتى الآن 11 لماذا تنبع « لعنة المسلمين » في البوسنة من الجغرافية والسياسة؟ 20 مشاركة البشناق في حرب 1948 24 أعلام البوسنة في الذين حافظوا على تواصلها مع الشرق القرن العشرين 27 محمد خانجيتش أو محمد الخانجي من أعلام البوسنة في القرن العشرين 31 إسلام وسياسة 37 البشناق وتحديات الحداثة 39 الإسلام وأوروبا من زاوية نظر بوسنوية 44 إسلام البوسنة جسر أوروبا إلى العالم الإسلامي 48 الهروب إلى الحرية 57 يمكن أن يكون بالروح والفكر أيضاً 57 ثقافة الشرق في البوسنة 61 كيف أصبحت ترجمة "ألف ليلة وليلة" تعبيرا عن الهوية البوسنوية الجديدة؟ 63 ترجمة جديدة/مختلفة للقرآن الكريم إلى اللغة البوسنوية 67 ترجمة / قراءة بوسنوية جديدة للمعلقات في ضوء القرآن 71 إسهام علماء البوسنة في التأليف باللغة العربية 75 ثروة من المخطوطات الشرقية تجمعت خلال ألف عام وتلاشت في يوم واحد 79 مخطوطات مكتبة الغازي خسروبك في سراييفو 83 كتب أخرى للمؤلف 87 المحتويات 89 |
|