الرجل الذي اعترض الرسول وجواب سلمة له
قال ابن إسحاق: ثم مَرَّ على تُرْبان، ثم على ملل، ثم غَميس الحمام من مريين، ثم على صخيراًت اليمام، ثم على السيَّالة، ثم على فج الروحاء، ثم على شنوكة، وهي الطريق المعتدلة؛ حتى إذا كان بعرق الظبية -قال ابن هشام: الظبية: عن غير ابن إسحاق- لقوا رجلاً من الأعراب، فسألوه عن الناس، فلم يجدوا عنده خبراً؛ فقال له الناس: سَلِّمْ على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-؛ قال: أوَفِيكُمْ رسولَ الله؟ قالوا: نعم، فسَلَّمَ عليهِ؛ ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني عمَّا في بطن ناقتي هذه.
قال له سلمة بن سلامة بن وقش: لا تسأل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وأقبل علي فأنا أخبرك عن ذلك، نزوت عليها، ففي بطنها منك سخلة، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: مه، أفحشت على الرجل؛ ثم أعرض عن سلمة.
بقية الطريق إلى بدر
ونزل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- سجسج، وهي بئر الروحاء، ثم ارتحل منها، حتى إذا كان بالمنصرف، ترك طريق مكة بيسار، وسلك ذات اليمين على النازية، يريد بدرا، فسلك في ناحية منها، حتى جزع واديا، يُقال له: رُحْقان، بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم على المضيق، ثم انصب منه، حتى إذا كان قريبا من الصفراء، بعث بسبس بن الجهني، حليف بني ساعدة، وعدي بن أبي الزغباء الجهني، حليف بني النجار، إلى بدر يتحسسان له الأخبار، عن أبي سفيان بن حرب وغيره.
ثم ارتحل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وقد قدمها، فلمَّا استقبل الصفراء، وهي قرية بين جبلين، سأل عن جبليهما ما اسماهما؟ فقالوا: يُقال لأحدهما، هذا مسلح، وللآخر: هذا مخريئ؛ وسأل عن أهلهما، فقيل: بنو النار وبنو حراق، بطنان من بني غفار، فكرههما رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- والمرور بينهما، وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهلهما.
فتركهما رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- والصفراء بيسار، وسلك ذات اليمين على واد يُقال له: ذَفِران، فجزع فيه، ثم نزل.
ما قاله أبو بكر وعمر والمقداد تشجيعا للجهاد
وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم؛ فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش؛ فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن.
ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:
((اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون))،
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه؛ فقال له رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- خيراً، ودعا له به.
استشارة الأنصار
ثم قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: أشيروا علي أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله، إنا بُرآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يتخوَّف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا مِمَّنْ دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم.
فلمَّا قال ذلك رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل؛ قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لِمَا أردتَ فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجلٌ واحِدٌ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ في اللقاء، لَعَلَّ اللهَ يُريكَ منا ما تقرُّ به عينُك، فسر بنا على بركة الله.
فسُر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بقول سعد، ونشَّطه ذلك؛ ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.
التعرُّف على أخبار قريش
ثم ارتحل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- من ذفران، فسلك على ثنايا، يُقالُ لها: الأصافر؛ ثم انحط منها إلى بلد يُقال له: الدَّبَّة، وترك الحنَّان بيمين وهو كثيب عظيم كالجبل العظيم؛ ثم نزل قريبا من بدر، فركب هو ورجل من أصحابه.
قال ابن هشام: الرجل هو أبو بكر الصديق.
قال ابن إسحاق كما حدثني مُحَمَّد بن يحيى بن حبان: حتى وقف على شيخ من العرب، فسأله عن قريش، وعن مُحَمَّد وأصحابه، وما بلغه عنهم؛ فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: إذا أخبرتنا أخبرناك.
قال: أذاك بذاك؟ قال: نعم؛ قال الشيخ: فإنه بلغني أن مُحَمَّداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-؛ وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه قريش.
فلمَّا فرغ من خبره، قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: نحن من ماء، ثم انصرف عنه.
قال: يقول الشيخ: ما من ماء، أمن ماء العراق؟ قال ابن هشام: يُقال: ذلك الشيخ: سفيان الضمري.
ظفر المسلمين برجلين من قريش يقفانهم على أخبارهم
قال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إلى أصحابه؛ فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه، إلى ماء بدر، يلتمسون الخبر له عليه -كما حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير- فأصابوا رواية لقريش فيها أسلم، غلام بني الحجاج، وعريض أبو يسار، غلام بني العاص بن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قائم يصلي، فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء. فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما، فلمَّا أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما.
وركع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وسجد سجدتيه، ثم سلم، وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا، والله إنهما لقريش، أخبراني عن قريش؟ قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى -والكثيب: العقنقل- فقال لهما رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: كم القوم؟ قالا: كثير؛ قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندري؛ قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوما تسعا، ويوما عشرا؛ فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: القوم فيما بين التسع مئة والألف.
ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه، ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود، فأقبل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- على الناس، فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.
بسبس وعدي يتجسسان الأخبار
قال ابن إسحاق: وكان بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزغباء، قد مضيا حتى نزلا بدراً، فأناخا إلى تلٍ قريبٍ من الماء، ثم أخذا شنَّا لهما يستقيان فيه، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء.
فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحاضر، وهما يتلازمان على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غداً أو بعد غدٍ، فأعمل لهم، ثم أقضيك الذي لك.
قال عدي: صدقتِ، ثم خلَّص بينهما.
وسمع ذلك عدي وبسبس، فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فأخبراه بما سمعا.
نجاة أبي سفيان بالعير
وأقبل أبو سفيان بن حرب، حتى تقدم العير حذراً، حتى ورد الماء؛ فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسست أحدا؟ فقال: ما رأيت أحدا أنكره، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا.
فأتى أبو سفيان مُناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما، ففتَّه، فإذا فيه النوى؛ فقال: هذه والله علائف يثرب، فرجع إلى أصحابه سريعاً، فضرب وجه عيره عن الطريق، فساحل بها، وترك بدراً بيسار، وانطلق حتى أسرع.
رؤيا جهيم بن الصلت في مصارع قريش
قال: وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة، رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبدالمطلب بن عبد مناف رؤيا، فقال: إني رأيت فيما يرى النائم، وإني لبين النائم واليقظان، إذ نظرتُ إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعيرٌ له؛ ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وفلان وفلان، فعدَّدَ رجالاً مِمَّنْ قُتِلَ يوم بدر، من أشراف قريش، ثم رأيتهُ ضرب في لَبَّة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه.
قال: فبلغت أبا جهل؛ فقال: وهذا أيضاً نبيٌ آخر من بني المطلب، سيعلم غداً من المقتول إن نحن التقينا.
أبو سفيان يرسل إلى قريش يطلب منهم الرجوع
قال ابن إسحاق: ولمَّا رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله، فارجعوا؛ فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدراً -وكان بدر موسماً من مواسم العرب، يجتمع لهم به سوق كل عام- فنقيم عليه ثلاثاً، فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونُسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها، فامضوا.
الأخنس يرجع ببني زهرة
وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، وكان حليفاً لبني زهرة وهم بالجحفة: يا بني زهرة، قد نجَّى الله لكم أموالكم، وخلّص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا لي جُبْنها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، لا ما يقول هذا، يعني أبا جهل.
فرجعوا، فلم يشهدها زُهري واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعاً، ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس، إلا بني عدي بن كعب، لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق، فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد، ومشى القوم.
وكان بين طالب بن أبي طالب -وكان في القوم- وبين بعض قريش محاورة، فقالوا: والله لقد عرفنا يا بني هاشم، وإن خرجتم معنا، أن هواكم لمع مُحَمَّد، فرجع طالب إلى مكة مع من رجع.
وقال طالب بن أبي طالب:
لاهُمّ إما يغزونّ طـالـبْ في عصبة محالف محـاربْ
في مِقنب من هذه المقانب فليكن المسلوبَ غير السالـب
وليكن المغلوب غير الغالب
قال ابن هشام: قوله: (فليكن المسلوب)، وقوله (وليكن المغلوب) عن غير واحد من الرواة للشعر.
قريش تنزل بالعُدوة والمسلمون ببدر
قال ابن إسحاق: ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي، خلف العقنقل وبطن الوادي، وهو يَلْيَل، بين بدر وبين العقنقل، الكثيب الذي خلفه قريش، والقُلُب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة.
وبعث الله السماء، وكان الوادي دهساً، فأصاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأصحابه منها ما لبَّد لهم الأرض، ولم يمنعهم عن السير، وأصاب قريشاً منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، فخرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به.
الحُباب يشير على الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بمكان النزول
قال ابن إسحاق: فحُدثت عن رجال من بني سلمة، أنهم ذكروا: أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدَّمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نُغَوِّر ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون؛ فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: لقد أشرت بالرأي.
فنهض رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ومَنْ معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضاً على القَليب الذي نزل عليه، فمُلىء ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.