قدوم وفد النصارى الذين أسلموا من الحبشة
أبو جهل يحاول ردهم عن الإسلام، وإخفاقه
قال ابن إسحاق: ثم قدم على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وهو بمكة، عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة؛ فلما فرغوا من مسألة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- عما أرادوا، دعاهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إلى الله عز وجل وتلا عليهم القرآن.
فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله، وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره.
فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده، حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال، ما نعلم ركبا أحمق منكم.
أو كما قالوا.
فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نَأْلُ أنفسنا خيراً.
مواطنهم وما نزل فيهم من القرآن
ويُقال: إن النفر من النصارى من أهل نجران، فالله أعلم أي ذلك كان.
فيُقال -والله أعلم- فيهم نزلت هؤلاء الآيات:
((الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون . وإذا يُتلى عليهم قالوا آمنَّا به، إنه الحقُّ من ربنا، إنَّا كُنَّا من قبله مُسلمين))...
إلى قوله:
(لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين).
قال ابن إسحاق: وقد سألت ابن شهاب الزهري عن هؤلاء الآيات فيمن أنزلن، فقال لي: ما أسمع من علمائنا أنهن أنزلن في النجاشي وأصحابه.
والآية من سورة المائدة من قوله:
(ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا، وأنهم لا يستكبرون)... إلى قوله: (فاكتبنا مع الشاهدين).
تهكُّم المُشركين بالمُستضعفين، وما نزل في ذلك
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إذا جلس في المسجد، فجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خباب، وعمار، وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن أمية بن محرث، وصهيب، وأشباههم من المسلمين، هزئت بهم قريش، وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالهدى والحق! لو كان ما جاء به مُحَمَّد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا.
فأنزل الله تعالى فيهم:
(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين، وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا، أليس الله بأعلم بالشاكرين . وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا، فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم).
ادِّعاء المُشركين على النبي أنه يُعلمه بشر، ورد القرآن عليهم
وكان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- -فيما بلغني- كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مَبْيَعة غلام نصراني، يُقال له: جبر، عبد لبني الحضرمي، فكانوا يقولون: والله ما يُعلِّم مُحَمَّداً كثيرا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام بنى الحضرمي.
فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يُعلمه بشر، لسانُ الذي يُلحدون إليه أعجمي، وهذا لسانٌ عربيٌ مبينٌ).
قال ابن هشام: يلحدون إليه: يميلون إليه.
والإلحاد: الميل عن الحق.
قال رؤبة بن العجاج:
إذا تبع الضحاك كل ملحد
قال ابن هشام: يعني الضحاك الخارجي، وهذا البيت في أرجوزة له.
سبب نزول سورة الكوثر
نزول سورة الكوثر في العاص بن وائل قال ابن إسحاق: وكان العاص بن وائل السهمي -فيما بلغني- إذا ذكر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، قال: دعوه، فإنما هو رجل أبتر لا عقب له، لو مات لانقطع ذكره واسترحتم منه، فأنزل الله في ذلك: (إنا أعطيناك الكوثر) ما هو خير لك من الدنيا وما فيها.
والكوثر: العظيم.
معنى الكوثر قال ابن إسحاق: قال لبيد بن ربيعة الكلابي:
وصاحب ملحوب فجعنا بيومه وعند الرداع بيت آخر كـوثـر
يقول: عظيم.
قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة له.
وصاحب ملحوب: عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب، مات بملحوب.
وقوله: (وعند الرداع بيت آخر كوثر): يعني شريح بن الأحوص بن جعفر بن كلاب، مات بالرداع.
وكوثر: أراد الكثير.
ولفظه مشتق من لفظ الكثير.
قال الكميت بن زيد يمدح هشام بن عبدالملك بن مروان:
وأنت كثير ياابن مروان طيب وكان أبوك ابن العقائل كوثـرا
وهذا البيت في قصيدة له.
وقال أمية بن أبي عائذ الهذلي يصف حمار وحش:
يحامي الحقيق إذا ما احتدمن وحمحمن في كوثر كالجـلال
يعني بالكوثر: الغبار الكثير، شبهه لكثرته عليه بالجلال.
وهذا البيت في قصيدة له.
سُئِلَ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عن الكوثر ما هو؟ فأجاب
قال ابن إسحاق: حدثني جعفر بن عمرو -قال ابن هشام: هو جعفر ابن عمرو بن أمية الضمري- عن عبدالله بن مسلم أخي مُحَمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وقيل له: يا رسول الله، ما الكوثر الذي أعطاك الله؟ قال: نهر كما بين صنعاء إلى أيلة، آنيته كعدد نجوم السماء، ترده طيور لها أعناق كأعناق الإبل.
قال: يقول عمر بن الخطاب: إنها يا رسول الله لناعمة؛ قال: آكلها أنعم منها.
قال ابن إسحاق: وقد سمعت في هذا الحديث أو غيره أنه قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: مَنْ شرب منه لا يظمأ أبداً.
نزول: (وقالوا لولا أنزل عليه مَلَكٌ) مقالة زمعة وصحبه، ونزول هذه الآية
قال ابن إسحاق: ودعا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قومه إلى الإسلام، وكلمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، والأسود بن عبد يغوث، وأبي بن خلف، والعاص بن وائل: لو جُعل معك يا مُحَمَّد ملك يحدث عنك الناس ويُرى معك! فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم:
(وقالوا لولا أنزل عليه ملك، ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون، ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلاً، وللبسنا عليهم ما يلبسون).
نزول (ولقد استهزئ برسل من قبلك)
مقالة الوليد وصحبه، ونزول هذه الآية قال ابن إسحاق: ومَرَّ رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، -فيما بلغني- بالوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، وبأبي جهل بن هشام، فهمزوه واستهزءوا به، فغاظه ذلك.
فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من أمرهم:
((ولقد استهزىء برسل من قبلك، فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون)).
ذكر الإسراء والمعراج
قال ابن هشام: حدثنا زياد بن عبدالله البكائي عن مُحَمَّد بن إسحاق المطلبي قال: ثم أسري برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهو بيت المقدس من إيلياء، وقد فشا الإسلام بمكة في قريش، وفي القبائل كلها.
قال ابن إسحاق: كان من الحديث فيما بلغني عن مسراه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، عن عبدالله بن مسعود، وأبي سعيد الخدري، وعائشة زوج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ومعاوية بن أبي سفيان، والحسن بن أبي الحسن البصري، وابن شهاب الزهري، وقتادة وغيرهم من أهل العلم، وأم هانئ بنت أبي طالب، ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمره حين أُسري به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وكان في مسراه، وما ذكر عنه بلاء وتمحيص، وأمر من أمر الله عز وجل في قدرته وسلطانه، فيه عبرة لأولي الألباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق، وكان من أمر الله سبحانه وتعالى على يقين، فأسرى به سبحانه وتعالى كيف شاء، ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد.
رواية عبدالله بن مسعود عن الإسراء
فكان عبدالله بن مسعود -فيما بلغني عنه- يقول: أُتي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بالبراق -وهي الدابة التي كانت تحُمل عليها الأنبياء قبله، تضع حافرها في منتهى طرفها- فحُمل عليها، ثم خرج به صاحبه، يرى الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم الخليل وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمُعوا له، فصلى بهم.
ثم أُتي بثلاثة آنية، إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء.
قال: فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: فسمعت قائلا يقول حين عُرضت علي: إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته، وإن أخذ الخمر غوى وغوت أمته، وإن أخذ اللبن هُدي وهديت أمته.
قال: فأخذت إناء اللبن، فشربت منه، فقال لي جبريل عليه السلام: هُديت وهديت أمتك يا مُحَمَّد.
رواية الحسن عن مسراه -صلى الله عليه وسلم-
قال ابن إسحاق: وحُدثت عن الحسن أنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: بينا أنا نائم في الحجر، إذ جاءني جبريل، فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فعدت إلى مضجعي، فجاءني الثانية فهمزني بقدمه، فجلستُ ولم أر شيئاً، فعدت إلى مضجعي، فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه، فجلست، فأخذ بعضدي، فقمت معه، فخرج بي إلى باب المسجد، فإذا دابة أبيض، بين البغل والحمار، في فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه، يضع يده في منتهى طرفه، فحملني عليه، ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته.
رواية قتادة عن مسراه صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق: وحُدثت عن قتادة أنه قال: حُدثت أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: لما دنوت منه لأركبه شَمَس، فوضع جبريل يده على مَعرفته، ثم قال: ألا تستحي يا براق مما تصنع، فو الله ما ركبك عبد لله قبل مُحَمَّد أكرم عليه منه.
قال: فاستحيا حتى ارفضّ عرقا، ثم قر حتى ركبته.
عودة إلى رواية الحسن
قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ومضى جبريل عليه السلام معه، حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، فأمَّهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فصلى بهم، ثم أُتي بإناءين، في أحدهما خمر، وفي الآخر لبن. قال: فأخذ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إناء اللبن، فشرب منه، وترك إناء الخمر.
قال: فقال له جبريل: هديت للفطرة، وهديت أمتك يا مُحَمَّد، وحرمت عليكم الخمر.
ثم انصرف رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر.
فقال أكثر الناس: هذا والله الإمْر البين، والله إن العير لتطرد، شهراً من مكة إلى الشام مدبرة، وشهراً مقبلة، أفيذهب ذلك مُحَمَّد في ليلة واحدة، ويرجع إلى مكة! قال: فارتد كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبي بكر، فقالوا له: هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة.
قال: فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه؛ فقالوا: بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس؛ فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يُعجبكم من ذلك! فو الله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدّقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه، ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فقال: يا نبي الله، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم؛ قال: يا نبي الله، فصفه لي، فإني قد جئته - قال الحسن: فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: فرُفع لي حتى نظرت إليه - فجعل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يصفه لأبي بكر، ويقول أبو بكر: صدقت، أشهد أنك رسول الله، كلما وصف له منه شيئاً، قال: صدقت، أشهد أنك رسول الله، حتى إذا انتهى، قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لأبي بكر: وأنت يا أبا بكر الصديق؛ فيومئذ سماه الصديق.
قال الحسن: وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن إسلامه لذلك:
(وما جعلنا الرُّؤيَا التي أريناك إلا فتنةً للنَّاس، والشَّجرة المَلعُونة في القرآن، ونُخوفهم، فما يزيدُهُم إلا طغيانًا كبيرًا).
فهذا حديث الحسن عن مسرى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-.
وما دخل فيه من حديث قتادة.
رواية عائشة عن مسراه -صلى الله عليه وسلم-
قال ابن إسحاق: حدثني بعض آل أبي بكر: أن عائشة زوج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كانت تقول: ما فُقد جسد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ولكن الله أسرى بروحه.
رواية معاوية عن مسراه صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس: أن معاوية بن أبي سفيان، كان إذا سُئِلَ عن مسرى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، قال: كانت رؤيا من الله تعالى صادقة.