أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة غافر الآيات من 51-55 الأحد 11 يوليو 2021, 7:00 pm | |
| إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
هذا وعد منه سبحانه أنْ ينصر رسله وأنْ ينصر الذين آمنوا، كما قال سبحانه: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ) (الصافات: 171-173) لذلك قلنا: إذا رأيت قوماً نسبوا إلى الإسلام وانهزموا، فاعلم أنه قد اختلَّتْ فيهم شروط النصرة، وما داموا قد اختلت فيهم شروط النصرة فلا بدَّ أن يلقوا جزاء ذلك في الدنيا، لأنها سنة لله لا تتبدل.
قوله تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ) (غافر: 51) جاءت بعد أن قام الرجل المؤمن من آل فرعون يؤيد موسى عليه السلام، ويدعو بدعوته، ويجهر بمنطق الحق أمام فرعون، والمعنى: إنَّا لننصر رسلنا بأيِّ وسيلة من الوسائل، لأن الله تعالى ما كان ليرسل رسولاً بمنهج جديد يهدي به الضالين ثم يُسلمه.
لكن الحق سبحانه قد يترك أمر الدعوة في أولها تُضطهد وتُعاند من الخلق ليمحص أهل الدعوة وحتى لا يثبت من حملتها إلا الأقوياء الصناديد، لأنهم هم الذين سيحملون هذه المهمة على أكتافهم يسيحون بها في الكون كله، فلا غرابةَ أنْ يُمحَّصُوا، وأن يختبر إيمانهم ومدى ثباتهم على المبدأ.
رأينا هذا في المؤمنين الأوائل الذين حملوا راية الإسلام مع رسول الله، فهاجروا إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، قال تعالى: (أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) (العنكبوت: 2).
أبداً، والفتنة معناها عَرْض الناس على مِحَن وشدائد لا يثبت أمامها إلا أقوياءُ العقيدة الواثقون في الله وفي نصرة الحق، والمؤمن الحق هو الذي يرى أن ما بشر به من الوعد والوعيد في الآخرة أمر واضح لا شكَّ فيه، لأن الإنسان دائماً لا يخدع نفسه وإنْ خدع الآخرين.
لذلك لما سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيدنا حذيفة: "كيف أصبحتَ يا حذيفة"؟
قال: أصبحتُ بالله مؤمناً حقاً.
ولما كانت كلمة (حقاً) هنا كلمة كبيرة المعنى سأله رسول الله: "وما حقيقة إيمانك"؟
قال: عزفتْ نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها ومدرها، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعَّمون، وإلى أهل النار في النار يُعذَّبون، فقال له: "عرفتَ فالزم".
ومعنى (فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا) (غافر: 51) أي: ينصرهم في الدنيا بأن يغلب حقهم على باطل خصومهم، لذلك قال سبحانه: (فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) (غافر: 77) إذن: فهناك نُصْرة في الدنيا ونصرة في الآخرة.
ثم يبين سبحانه أن ما يحدث في الآخرة عليه شهود متعددون يشهدون عليكم في الآخرة (وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ) (غافر: 51) والأشهاد جمع شهود، فالشهود يومئذ كثيرون، تشهد الرسل والأنبياء: (يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ) (المائدة: 109).
والمؤمنون يشهدون أنهم بلَّغوا مَنْ بعدهم: (هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ..) (الحج: 78) وتشهد الأبعاض والأعضاء على صاحبها.
وكذلك يشهد علينا الحفظة، ويشهد الشهداء الذين قاتلوا فقُتِلوا، لأن الإنسان قد يُدلس في حياته الدنيا لينعم عيشه لكنه لا يخدع نفسه أبداً بعد أنْ يموت، فهو حريص أن يذهب به الموت إلى خير مما ترك، ولذلك يجازيه الله.
فلو تطوع إنسان لكي يجاهد في سبيل الله وهو يعلم أنه سيموت في سبيل الله يقول الله له: أنت متّ في الدنيا من أجلي فلا بدَّ أن تكون حياً عندي؛ لذلك قلنا في فلسفة الشهادة لما تكلمنا عن سيدنا حمزة أن الشهادة جعلتْ لك من الموت عصمة، كيف؟
لأنك حين تختار الموت على الحياة وتستشهد تصير حياً عند الله، فوصلتَ حياتك الأولى بحياتك عند الله بحياة البعث، فكأنك لم تمُتْ.
أحَمْزَة عَمّ المصْطفَى أنتَ سَيِّدٌ عَلَى شُهَداءِ الأرْضِ أَجْمعِهم طُرّا وَحَسْبُكَ مِنْ تلْكَ الشَّهادةِ عِصْمةٌ مِنَ الموْتِ في وَصْلِ الحيَاتَيْنِ بالأُخْرى
فمَنْ ضحَّى بحياته لله فكأنه قدَّمها تحيةً لربه وإعلاءً لمنهجه، فبماذا يُحييك الله، يحييك بأنْ يعصمك بعدها من الموت.
ثم يقول سبحانه: (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) (غافر: 52) يعني: إن اعتذروا لا يُقبل منهم عذر، وفي موضع آخر قال: (وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (المرسلات: 36) كأنها مواقف متعددة، مرة يعتذرون حين قالوا: (رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ) (فاطر: 37) ومرة لا يُؤذَن لهم في الاعتذار (وَلَهُمُ ٱلْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ) (غافر: 52).
بعد ذلك يتكلم الحق سبحانه عن موكب رسالة سيدنا موسى عليه السلام. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة غافر الآيات من 51-55 الأحد 11 يوليو 2021, 7:01 pm | |
| وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (٥٣) هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٥٤) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
(الهُدَى) يعني: الدلالة على الطريق الموصِّلة إلى الغاية النافعة، كما قال تعالى في أول البقرة: (أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) (البقرة: 5) فالدين لم يأتِ ليكلفكم أو يشقّ عليكم، إنما جاء الدينُ رحمةً بكم وليكون مركبَ النجاة والهداية الذي تركبونه فيحملكم ويُوصِّلكم إلى الغاية النافعة لكم (وَأَوْرَثْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ) (غافر: 53) أي: التوراة والإنجيل والزبور.
كل هذه الكتب (هُدًى وَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ) (غافر: 54) معنى (ذِكْرى) أي: تذكرةً لأن الإنسان إذا استمر على طبيعته الأصيلة بدون تأثر بعوامل الفساد تظل مناعة العهد القديم: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (الأعراف: 172) موجودة عنده تحميه، لكنه قد ينسى هذا العهد وينحرف عن الجادة، والإنسان من طبيعته النسيان؛ لذلك تأتي الرسل للتذكرة بهذا العهد الأول.
ومعنى (ٱلأَلْبَابِ) (غافر: 54) أي: العقول المفكرة المتأملة. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة غافر الآيات من 51-55 الأحد 11 يوليو 2021, 7:02 pm | |
| فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٥٥) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
كلمة: (فَٱصْبِرْ) (غافر: 55) دليل على أنه -صلى الله عليه وسلم- خُوطب بها في مواطن شدَّة، هذه المواطن قال الله فيها: (وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214).
وقوله: (إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ) (غافر: 55) الوعد هو: الإخبار بالخير قبل أوانه، ووعد الله حق.
يعني: متحقق لأن الوعد أنْ تعِدَ إنساناً وتُبشِّره بالخير والنعيم والسعادة، فهل تقدر وتضمن أن تفِيَ بوعدك؟
لا فربما تموت قبل أنْ يأتي أوانه، أو تضعف قدرتك التي تفعل بها فلا تستطيع، أما إذا جاء الوعد من القيوم القادر الذي لا يُعارَض، وهو سبحانه بَاقٍ لا يزول، فهو إذن وعد حَقٌّ لا بدَّ أنْ يتحقق.
لذلك يُعلمنا الحق سبحانه ألاَّ نجزم بوعد، ولا تقوله بصورة القطع لأنك من الأغيار، يقول تعالى: (وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ) (الكهف: 23-24).
فتعليق الوفاء على المشيئة يعفيك من الاتهام بالكذب لو لم تفعل فلو قلت أفعل كذا وكذا غداً، هل تملك أسباب الوفاء؟
هل تملك الزمن أو تضمن القوة الفاعلة؟
أبداً لا تضمن بقاء شيء من هذه الأسباب، إذن فَقُلْ: إنْ شاء الله ونزِّه نفسك عن الكذب لو لم تفعل.
وقوله: (وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ) (غافر: 55) يعني: اطلب المغفرة، وكلمة (لِذَنبِكَ) (غافر: 55) هل تعني أن الرسول فعل ذنباً؟
قالوا: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر يُوحَى إليه، وله رأي ببشريته في الأمور التي لم يأتِ فيها حكم من الله، حتى إنْ كان رأيُه صواباً فرأى الحق سبحانه أصوب.
لذلك يصوب له ربه (وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ) (غافر: 55) فمن أيِّ شيء يستغفر رسول الله؟
يستغفر الله من استبطاء النصر في قوله تعالى: (حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ) (البقرة: 214) فالنصر آتٍ، فلم استبطاؤه؟
لذلك وردتْ في القرآن آيات تثبت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعل شيئاً يُعاتَب عليه، والحق سبحانه صحَّح له وصوَّب له فعله، لكن كيف جاء هذا العتاب؟
تأمل قوله تعالى: (عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) (التوبة: 43) فقبل أن يعاتبه قدَّم العفو عنه.
لكن لماذا أذن الرسول لهؤلاء؟
قالوا: إن الذي شغل رسول الله في هذه المسألة أنه قال في نفسه أن الذي يطلب الإذن مني في ألاَّ يقاتل إما صادق العذر فلا مانع من الإذن له، وإما كاذب العذر وهذا لا خيرَ فيه، وعدمه أفضل من وجوده بين الصفوف، كما قال تعالى: (لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ) (التوبة: 47).
ثم إن هذا العتاب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) (التوبة: 43) لم نعلمه إلا من رسول الله نفسه، ولولا إخباره به ما علمناه، فهو -صلى الله عليه وسلم- لا يستنكف أنْ يعاتبه ربه، وأنْ يُصوِّب له اختياره.
وقد أوضحنا هذه النقطة في مسألة التبني التي كانت بين سيدنا رسول الله وزيد بن حارثة، وكيف أن الحق سبحانه لما أراد إبطالَ عادة التبني جعل نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- وزيد بن حارثة نموذجاً لهذا الحكم الجديد.
فزيد كان عبداً عند خديجة ووهبته لرسول الله، ولما علم أهله بوجوده بمكة عند رسول الله جاءوا واستأذنوا فيه رسول الله، فما كان من رسول الله إلا أنْ خيَّره بين البقاء معه أو الذهاب مع أهله، فاختار زيدٌ البقاءَ مع رسول الله، فأراد -صلى الله عليه وسلم- أنْ يكرم زيداً لموقفه منه وحُبه للبقاء في صحبته فتبنّاه ونسبه إليه، فصار زيد من يومها يُعرف بزيد بن محمد.
لكن أراد الحق سبحانه أنْ يبطل هذه العادة، وأنْ يُحرّم التبني فأنزل: (ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) (الأحزاب: 5).
فمعنى: (أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ) (الأحزاب: 5) أن ما فعله رسول الله قسط وعدل، لكن حكم الله أقسط وأعدل، فهل هذا التصويب يُغضب رسول الله؟
أبداً بدليل أنه -صلى الله عليه وسلم- هو الذي أخبرنا به ولو كتمه رسول الله ما عرفناه.
كذلك في قوله تعالى في أسرى بدر: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ) (الأنفال: 67) لما اختلفوا في أخذ الفداء من الأسرى، وعاتب الله رسوله بهذه الآية، لكن هل تغير الحكم بعد ذلك؟
لا بل ظل كما هو وقال تعالى: (لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (الأنفال: 68).
فكأن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينكر هذه المسألة، خاصة وأن الحكم كما هو لم يتغير، إذن: نحن لم نعلم معتبة الله على رسوله إلا من الرسول نفسه، والمتأمل في عتاب الحق سبحانه لرسوله يجد أنه إما عتاب لمصلحته هو -صلى الله عليه وسلم-، أو عتاب لأن جانبَ الصواب الذي حكم به الحق سبحانه، كما في هذه المسألة التي ذكرناها.
أما العتاب لمصلحته -صلى الله عليه وسلم- فمثل قوله تعالى: (يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) (التحريم: 1) وهذا كما تعاتب ولدك على كثرة سهره في المذاكرة وإجهاده لنفسه، كذلك الحق سبحانه يعاتب رسوله أنه ضيَّق على نفسه وشقَّ عليها طلباً لمرضاة أزواجه.
كذلك عاتبه في مسألة الأعمى فقال: (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ * أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ * وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ) (عبس: 1-10).
والعتاب هنا لأنه -صلى الله عليه وسلم- شقَّ على نفسه حين ترك هذا الأعمى وانصرف عنه لأنه مؤمن، وذهب إلى صناديد الكفر يدعوهم، ورأى أنهم أوْلَى بالدعوة منه.
بعض العلماء أخذوا من قوله تعالى (وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ) (غافر: 55) دليلاً على عدم عصمة الأنبياء، وقالوا آخرون: إن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقد ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في دعائه: "اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك".
والبعض له في الآية ملحظ آخر قال: (وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ) (غافر: 55) لا تدل على وقوع الذنب منه بالفعل، والمعنى: إنْ فعلتَ ذنباً.
أي في المستقبل استغفر، مثل قوله تعالى: (يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ) (الأحزاب: 1) فهل معنى هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكُنْ يتقي الله؟
لا بل هو أمر ابتدائي بالتقوى.
ولا يعني أنه -صلى الله عليه وسلم- خالف منهجه فأمره الله بتقواه، كما نرى نحن الآن مخالفاً لمنهج الله فنقول له: يا فلان اتق الله، يعني: استقم على منهجه، واترك المخالفة، واجعل بينك وبين الله وقاية.
لذلك قال: الأمر في: (وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ) (غافر: 55) أمر تعبُّدي، كما جاء في قوله سبحانه: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ) (آل عمران: 194) الأمر هنا أمر تعبُّدي لأننا نقول آتنا، وهو سبحانه قد وعد رسله بذلك، فهو أمر متحقق واقع.
ثم نقول للذين يقولون بوقوع الذنب من الرسل: هل خلعهم الله من الرسالة لأنهم ارتكبوا الذنب؟
أم تركهم رسلاً؟
بل تركهم وأبقى على رسالاتهم، إذن: ما قولك أنت إذا كان ما فعله الرسولُ لا ينافي رسالته، وهو مرضيٌّ عند مَنْ خالفه وأذنب في حقه؟
وقوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ) (غافر: 55) العشي: الوقت من بعد صلاة الظهر إلى آخر النهار، والإبكار من الفجر إلى الضحى، فالمعنى: كُنْ دائماً مُسبِّحاً بحمد ربك.
وإذا كان الأمر هنا للرسول -صلى الله عليه وسلم- ومَنْ معه من المؤمنين الذين اشتركوا معه في العشيِّ والإبكار، فهو من ناحية أخرى أمرٌ للناس كافَّة في الزمان وفي المكان لعموم رسالته -صلى الله عليه وسلم-.
إذن: فالعشيُّ والإبكار هنا شائع في الزمان كله والمكان كله، فكلٌّ له عشيٌّ وإبكار يناسب زمانه ومكانه، وهذا يعني أنْ يظلَّ تسبيحُ الله شائعاً في الزمان والمكان مستمراً لا ينقطع أبداً، هذا إذا نظرنا إلى اختلاف الأوقات من مكان لمكان.
لذلك قلنا: إن رَبْط التكاليف والعبادات بدورة الهلال يُراد بها استدامة دورة العبادة لله تعالى، فلو كانت مرتبطة بالشمس كانت تتحد الأوقات عند الناس، إنما بحساب الهلال ترى أن هذا يصلي الصبح، في نفس الوقت الذي يصلي فيه آخرُ الظهر، وآخرُ العصرَ، وآخر المغرب، وهكذا، إذن: فالحق سبحانه معبود في كلِّ وقت بكل وقت.
ومعنى (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) (غافر: 55) يعني: تسبيحاً موصولاً بالحمد، لأن التسبيحَ تنزيهٌ لله تعالى، وما دام الحق مُنزَّهاً عن كل النقائص فثمرة هذا التنزيه عائدة عليك أنت، أنت المستفيد من كوْن ربك الذي آمنت به واحداً مُنزَّهاً عن النقائص.
|
|