أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: شرح الحديث رقم (49) الإثنين 30 مايو 2011, 1:21 pm | |
| زيادات ابن رجب: ح49: ----------------------- 49- عَنْ عُمرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قَالَ:((لَوْ أنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ على اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُم كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا)). رواهُ الإمامُ أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَه وابنُ حِبَّانَ في ((صحيحِه))والحاكِمُ، وقالَ التِّرمذيُّ: حَسَنٌ صَحيحٌ. -------------------------- جامع العلوم والحكم للحافظ: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي ------------------------------------- (1) هذا الحديثُ خَرَّجَهُ هؤلاءِ كلُّهم مِن روايَةِ عبدِ اللَّهِ بنِ هُبيرةَ، سَمِعَ أبا تَميمٍ الجَيْشَانيَّ، سَمِعَ عمرَ بنَ الْخَطَّابِ يُحَدِّثُهُ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو تَميمٍ وعبدُ اللَّهِ بنُ هُبيرةَ خَرَّجَ لهما مُسلمٌ، ووَثَّقَهُما غيرُ واحدٍ، وأبو تَميمٍ وُلِدَ في حياةِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهاجَرَإلَى المدينةِ في زَمنِ عمرَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقد رُوِيَ هذا الحديثُ مِن حديثِ ابنِ عمرَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن في إسنادِهِ مَن لا يُعرَفُ حالُهُ. قالَهُ أبو حاتمٍ الرازيُّ. وهذا الحديثُ أَصلٌ في التوكُّلِ، وأنَّهُ مِن أعظمِ الأسبابِ التي يُسْتَجْلَبُ بها الرزقُ، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:2،3].
وقد قرأَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآيَةَ علَى أبي ذَرٍّ، وقالَ له: ((لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَخَذُوا بِهَا لَكَفَتْهُمْ)) يعني: لو أنهم حَقَّقوا التَّقوَى والتوكُّلَ لاكْتَفَوْا بذلك في مَصالِحِ دِينِهم ودُنياهمْ.
وقد سَبَقَ الكلامُ علَى هذا المعنَى في شَرْحِ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: ((احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ)).
قالَ بعضُ السلَفِ: (بِحَسْبِكَ مِن التوَسُّلِ إليهِ أن يَعلَمَ مِن قَلبِك حُسْنَ تَوَكُّلِكَ عليهِ، فكم مِن عبدٍ مِن عِبادِهِ قد فَوَّضَ إليهِ أَمْرَهُ، فكفاهُ منه ما أَهَمَّهُ، ثم قرأَ: {وَمَنْ يتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}).
وحقيقةُ التوكُّلِ: هو صِدْقُ اعتمادِ القلبِ علَى اللَّهِ عزَّ وجَلَّ في استجلابِ الْمَصالِحِ ودَفْعِ الْمَضارِّ، مِن أمورِ الدنيا والآخِرةِ كُلِّها، وكِلَةُ الأمورِ كلِّها إليهِ، وتحقيقُ الإِيمانِ بأنه لا يُعطِي ولا يَمنعُ، ولا يَضرُّ ولا يَنفعُ سواهُ.
قالَ سعيدُ بنُ جُبيرٍ: (التوَكُّلُ جِمَاعُ الإِيمانِ). وقالَ وَهبُ بنُ مُنبِّهٍ: (الغايَةُ القُصوَى التَّوَكُّلُ). قالَ الحسَنُ: (إنَّ تَوَكُّلَ العبدِ علَى ربِّهِ أن يَعْلَمَ أنَّ اللَّهَ هو ثِقَتُهُ).
وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ، فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)).
ورُوِيَ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقولُ في دُعائِهِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ صِدْقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْكَ))، وأنه كان يقولُ: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ فَكَفَيْتَهُ)).
واعلَمْ أنَّ تحقيقَ التوَكُّلِ لا يُنافِي السَّعيَ في الأسبابِ التي قَدَّرَ اللَّهُ سُبحانَهُ الْمَقدوراتِ بها، وجَرَتْ سُنَّتُهُ في خَلْقِهِ بذلك، فإنَّ اللَّهَ تعالَى أَمَرَ بتَعاطِي الأسبابِ مع أَمْرِهِ بالتوكُّلِ، فالسعيُ في الأسبابِ بالجوارِحِ طاعةٌ له، والتوكُّلُ بالقلبِ عليهِ إيمانٌ به، كما قالَ اللَّهُ تعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71].
وقالَ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60]. وقالَ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10].
وقالَ سَهْلٌ التُّستَرِيُّ: (مَن طَعَنَ في الحركةِ - يعني: في السعيِ والكسْبِ - فقد طَعَنَ في السُّنَّةِ، ومَن طَعَنَ في التوَكُّلِ، فقد طَعَنَ في الإيمانِ، فالتوَكُّلُ حالُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والكسْبُ سُنَّتُهُ، فمَن عَمِلَ علَى حالِهِ، فلا يَتْرُكَنَّ سُنَّتَهُ).
ثمَّ إنَّ الأعمالَ التي يَعْمَلُها العبدُ ثلاثةُ أقسامٍ: أحدُها: الطاعاتُ التي أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِهَا، وجَعَلَها سَببًا للنَّجاةِ مِنَ النَّار ودُخولِ الجنَّةِ، فهذا لا بُدَّ مِن فِعْلِهِ مع التوكُّلِ علَى اللَّهِ فيهِ، والاستعانةِ به عليهِ، فإنَّهُ لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا به، وما شاءَ كان، وما لم يكنْ، فمَن قَصَّرَ في شيءٍ ممَّا وَجَبَ عليهِ مِن ذلك اسْتَحَقَّ العقوبةَ في الدُّنيا والآخِرَةِ شَرْعًا وقَدَرًا.
قالَ يوسفُ بنُ أَسباطَ: (كان يُقالُ: اعملْ عَمَلَ رجلٍ لا يُنْجِيهِ إلا عَمَلُهُ، وتَوَكَّلْ تَوَكُّلَ رجلٍ لا يُصيبُهُ إلا ما كُتِبَ له).
والثاني: ما أَجْرَى اللَّهُ العادةَ به في الدُّنيا، وأَمَرَ عِبادَهُ بتَعاطيهِ، كالأكْلِ عندَ الجوعِ، والشُّربِ عندَ العَطشِ، والاستظلالِ مِن الحرِّ، والتَّدَفُّؤِ مِن الْبَرْدِ، ونحوِ ذلك، فهذا أيضًا واجبٌ علَى الْمَرْءِ تَعاطِي أسبابِهِ، ومَن قَصَّرَ فيهِ حتَّى تَضرَّرَ بتَرْكِهِ مع القُدرةِ علَى استعمالِهِ، فهو مُفرِّطٌ يَستحِقُّ العُقوبةَ.
لكنَّ اللَّهَ سُبحانَهُ قد يُقَوِّي بعضَ عِبادِهِ مِن ذلك علَى ما لا يَقْوَى عليهِ غيرُهُ، فإذا عَمِلَ بِمُقتَضَى قُوَّتِهِ التي اخْتُصَّ بها عن غيرِهِ، فلا حَرَجَ عليهِ، ولهذا كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُواصلُ في صيامِهِ، ويَنْهَى عَنْ ذلك أصحابَهُ، ويقولُ لهم: ((إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى))
-وفي روايَةٍ: ((إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي)). -وفي روايَةٍ: ((إِنَّ لِي مُطْعِمًا يُطْعِمُنِي، وَسَاقِيًا يَسْقِينِي)). والأظهَرُ أنَّهُ أرادَ بذلك أنَّ اللَّهَ يُقَوِّيهِ ويُغَذِّيهِ بما يُورِدُهُ علَى قلبِهِ مِن الفتوحِ القُدْسِيَّةِ، والْمِنَحِ الإلهيَّةِ، والْمَعارِفِ الربَّانيَّةِ التي تُغْنِيهِ عن الطعامِ والشرابِ بُرْهَةً مِنَ الدَّهرِ..
كما قالَ القائلُ:
لها أَحاديثُ مِنْ ذِكراكَ تَشغَلُها عَنِ الشَّرابِ وتُلْهِيهَا عَنِ الزَّادِ لَها بِوجْهِكَ نورٌ تَستَضيءُ بِهِ وقتَ الْمَسيرِ وفي أعقابِها حَادِي إذا اشتَكَتْ مِن كَلالِ السَّيرِ أوْعَدَها رَوْحُ القُدومِ فتَحْيَى عنـدَ مِيعـادِ
وقد كان كثيرٌ مِن السَّلفِ لهم مِن القُوَّةِ علَى تَرْكِ الطعامِ والشرابِ ما ليس لغيرِهم، ولا يَتضرَّرونَ بذلك.
وكان ابنُ الزُّبيرِ يُواصِلُ ثمانيَةَ أيَّامٍ. وكان أبو الْجَوزاءِ يُواصِلُ في صومِهِ بينَ سبعةِ أيَّامٍ، ثم يَقبِضُ علَى ذِراعِ الشابِّ فيكَادُ يَحْطِمُها. وكان إبراهيمُ التيميُّ يَمْكُثُ شهرينِ لا يَأكلُ شيئًا غيرَ أنه يَشربُ شَربةَ حَلْوَى.
وكان حَجَّاجُ بنُ فُرافصةَ يَبْقَى أكثرَ مِن عَشرةِ أَيَّامٍ لا يَأكلُ ولا يَشربُ ولا يَنامُ، وكان بعضُهم لا يُبالِي بالْحَرِّ ولا بالبَرْدِ، كما كان عليٌّ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ يَلبَسُ لِباسَ الصَّيْفِ في الشتاءِ ولِباسَ الشتاءِ في الصيفِ، وكان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا له أن يُذْهِبَ اللَّهُ عنه الحرَّ والْبَرْدَ.
فمَن كان له قوَّةٌ علَى مِثلِ هذه الأمورِ، فعَمِلَ بِمُقْتَضَى قوَّتِهِ ولم يُضْعِفْهُ عن طاعةِ اللَّهِ، فلا حَرَجَ عليهِ، ومَن كَلَّفَ نفسَهُ ذلك حتَّى أَضْعَفَها عن بعضِ الواجباتِ، فإنَّهُ يُنْكَرُ عليهِ ذلك، وكان السلفُ يُنكرونَ علَى عبدِ الرحمنِ بنِ أبي نُعمٍ، حيث كان يَتركُ الأكلَ مُدَّةً حتَّى يُعادَ مِن ضَعْفِهِ.
القسمُ الثالثُ: ما أَجْرَى اللَّهُ العادةَ به في الدنيا في الأعمِّ الأغلبِ، وقد يَخْرِقُ العادةَ في ذلك لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ، وهو أنواعٌ:
منها ما يَخْرِقُهُ كثيرًا، ويُغْنِي عنه كثيرًا مِن خَلْقِهِ كالأدويَةِ بالنسبةِ إلَى كثيرٍ مِن البُلدانِ وسُكَّانِ البَوادِي ونحوِها.
وقد اختلَفَ العلماءُ: هل الأفضلُ لِمَن أصابَهُ الْمَرَضُ التداوِي أم تَرْكُهُ لِمَن حَقَّقَ التوكُّلَ علَى اللَّهِ؟
وفيهِ قولان مَشهورانِ: وظاهرُ كلامِ أحمدَ أنَّ التَّوَكُّلَ لِمَن قَوِيَ عليهِ أفضلُ، لِمَا صَحَّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: ((يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ))، ثم قالَ: ((هُمُ الَّذِينَ لا يَتَطَيَّرُونَ، وَلا يَسْتَرْقُونَ، وَلا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)).
ومَن رَجَّحَ التداوِيَ قالَ: (إنَّهُ حالُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كان يُداوِمُ عليهِ، وهو لا يَفعلُ إلا الأَفْضَلَ، وحَمَلَ الحديثَ علَى الرُّقَى المكروهةِ التي يُخْشَى منها الشركُ؛ بدَليلِ أنه قَرَنَها بالكَيِّ والطِّيَرَةِ، وكِلاهما مَكروهٌ).
ومنها: ما يَخرِقُهُ لِقليلٍ مِن العامَّةِ، كحصولِ الرِّزقِ لِمَن تَرَكَ السعيَ في طَلَبِهِ، فمَن رَزَقَهُ اللَّهُ صِدْقَ يَقينٍ وتَوَكُّلٍ، وعَلِمَ مِن اللَّهِ أنه يَخرِقُ له العوائدَ، ولا يُحْوِجُهُ إلَى الأسبابِ الْمُعتادَةِ في طَلَبِ الرزْقِ ونحوِهِ، جازَ له تَرْكُ الأسبابِ، ولم يُنْكَرْ عليهِ ذلك، وحديثُ عمرَ هذا الذي نَتَكَلَّمُ عليهِ يَدُلُّ علَى ذلك، ويَدُلُّ علَى أنَّ النَّاسَ إنما يُؤتَوْنَ مِنْ قِلَّةِ تحقيقِ التَّوَكُّلِ، ووُقوفِهم مع الأسبابِ الظاهرةِ بقلوبِهم ومُساكنتِهم لها، فلذلك يُتْعِبُونَ أنفسَهم في الأسبابِ، ويَجتهدونَ فيها غايَةَ الاجتهادِ، ولا يأتيهِم إلا ما قُدِّرَ لهم، فلو حَقَّقُوا التوكُّلَ علَى اللَّهِ بقلوبِهم، لساقَ اللَّهُ إليهم أَرزاقَهم مع أَدْنَى سَبَبٍ، كما يَسوقُ إلَى الطَّيْرِ أرزاقَها بِمُجَرَّدِ الغُدُوِّ والرَّواحِ، وهو نَوعٌ مِن الطَّلَبِ والسَّعيِ، لكنه سَعيٌ يَسيرٌ.
وربما حُرِمَ الإنسانُ رِزْقَهُ أو بعضَهُ بذَنبٍ يُصيبُهُ،كما في حديثِ ثَوبانَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ)).
وفي حديثِ جابرٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ)).
وقالَ عمرُ: (بينَ العبدِ وبينَ رِزْقِهِ حِجابٌ، فإن قَنَعَ ورَضِيَتْ نفسُهُ، أتاهُ رِزْقُهُ، وإن اقتحَمَ وهَتَكَ الْحِجابَ، لم يَزِدْ فوقَ رِزْقِهِ).
وقالَ بعضُ السلَفِ: (تَوَكَّلْ تُسَقْ إليك الأرزاقُ بلا تَعَبٍ ولا تَكَلُّفٍ). قالَ سالِمُ بنُ أبي الْجَعْدِ: (حُدِّثْتُ أنَّ عيسَى عليهِ السلامُ كان يقولُ: اعْمَلُوا لِلَّهِ ولا تَعْمَلُوا لبُطونِكم، وإيَّاكم وفُضولَ الدُّنيا؛ فإنَّ فُضولَ الدُّنيا عندَ اللَّهِ رِجْزٌ، هذه طَيْرُ السماءِ تَغْدُو وتَروحُ ليس معها مِن أَرزاقِها شيءٌ، لا تَحْرُثُ ولا تَحْصُدُ، اللَّهُ يَرزُقُها، فإن قلتُم: إنَّ بُطونَنا أَعْظَمُ مِن بُطونِ الطَّيْرِ، فهذه الوُحوشُ مِن البقرِ والحميرِ وغيرِها تَغدو وتَروحُ ليس معها مِن أرزاقِها شيءٌ، لا تَحْرُثُ ولا تَحْصُدُ، اللَّهُ يَرْزُقُها) خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا.
وخَرَّجَ بإسنادِهِ عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (كان عابدٌ يَتَعَبَّدُ في غارٍ، فكان غُرابٌ يَأتيهِ كلَّ يوْمٍ برغيفٍ يَجِدُ فيهِ طَعْمَ كلِّ شيءٍ حتَّى ماتَ ذلك العابدُ).
وعن سعيدِ بنِ عبدِ العزيزِ، عن بعضِ مَشيخةِ دِمَشقَ، قالَ: (أقامَ إلياسُ هاربًا مِن قومِهِ في جَبَلٍ عِشرينَ ليلةً - أو قالَ: أربعينَ - تَأتيهِ الغِربانُ برِزْقِهِ).
وقالَ سفيانُ الثوريُّ: قرأَ واصلٌ الأَحْدَبُ هذه الآيَةَ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، فقالَ: ألا إنَّ رِزْقِي في السماءِ وأنا أَطْلُبُهُ في الأرضِ؟ فدَخَلَ خَرِبَةً، فمَكَثَ ثلاثًا لا يُصيبُ شيئًا، فلمَّا كان اليومُ الرابعُ، إذا هو بدَوخَلةٍ مِن رُطَبٍ، وكان له أخٌ أحسَنُ نِيَّةً منه، فدَخَلَ معه، فصارتا دَوْخَلَتَيْنِ، فلم يَزلْ ذلك دَأْبَهما حتَّى فَرَّقَ الموتُ بينَهما.
ومِن هذا البابِ مَن قَوِيَ تَوَكُّلُهُ علَى اللَّهِ ووُثوقُهُ به، فدَخلَ الْمَفَاوِزَ بغيرِ زادٍ، فإنَّهُ يَجوزُ لِمَن هذه صِفتُهُ دونَ مَن لم يَبْلُغْ هذه الْمَنزِلَةَ، وله في ذلك أُسوةٌ بإبراهيمَ الخليلِ عليهِ السلامُ، حيث تَرَكَ هاجرَ وابنَها إسماعيلَ بِوادٍ غيرِ ذي زَرْعٍ، وتَرَكَ عندَهما جِرابًا فيهِ تَمْرٌ وسِقاءً فيهِ ماءٌ، فلمَّا تَبِعَتْهُ هاجَرُ، وقالَتْ له: (إلَى مَن تَدَعُنَا؟ قالَ لها: إلَى اللَّهِ، قالَتْ: رَضِيتُ بِاللَّهِ، وهذا كان يَفعلُهُ بأَمْرِ اللَّهِ ووَحْيِهِ، فقد يَقْذِفُ اللَّهُ في قلوبِ بعضِ أوليائِهِ مِن الإلهامِ الحقِّ ما يَعلمون أنه حَقٌّ، ويَثِقُون به).
قالَ الْمَرُّوذيُّ: (قيلَ لأبي عبدِ اللَّهِ: أيُّ شيءٍ صِدْقُ التوَكُّلِ علَى اللَّهِ، قالَ: أنْ يَتوكَّلَ علَى اللَّهِ، ولا يكونَ في قلبِهِ أحدٌ مِن الآدَمِيِّينَ يَطمعُ أن يَجيئَهُ بشيءٍ، فإذا كان كذا، كان اللَّهُ يَرزُقُهُ، وكان مُتَوَكِّلاً، قالَ: وذَكَرْتُ لأبي عبدِ اللَّهِ التوكُّلَ، فأَجازَهُ لِمَن استَعْمَلَ فيهِ الصِّدْقَ، قالَ: وسألتُ أبا عبدِ اللَّهِ عن رجلٍ جلَسَ في بيتِهِ، ويقولُ: أَجْلِسُ وأَصْبِرُ ولا أُطْلِعُ علَى ذلك أحدًا، وهو يَقدِرُ أن يَحْتَرِفَ، قالَ: لو خرَجَ فاحترفَ كان أحبَّ إليَّ، وإذا جلسَ خِفْتُ أن يُخْرِجَهُ إلَى أن يكونَ يَتَوَقَّعُ أن يُرْسَلَ إليهِ بشيءٍ، قلتُ: فإذا كان يُبْعَثُ إليهِ بشيءٍ، فلا يَأخذُ، قالَ: هذا جَيِّدٌ، وقلتُ لأبي عبدِ اللَّهِ: إنَّ رَجُلاً بِمَكَّةَ قالَ: لا آكُلُ شيئًا حتَّى يُطعمونِي، ودَخَلَ في جَبَلِ أبي قُبَيْسٍ، فجاءَ إليهِ رجلانِ وهو مُتَّزِرٌ بخِرْقَةٍ، فأَلْقَيَا إليهِ قَميصًا، وأخذا بيديهِ، فأَلبساهُ القميصَ، ووَضَعَا بينَ يديهِ شيئًا، فلم يَأْكُلْ حتَّى وَضَعَا مِفتاحًا مِن حديدٍ في فيهِ، وجَعلا يَدُسَّانِ في فَمِهِ، فضَحِكَ أبو عبدِ اللَّهِ، وجَعَلَ يَعجَبُ، وقلتُ لأبي عبدِ اللَّهِ: إنَّ رَجُلاً تَرَكَ البيعَ والشراءَ، وجَعَلَ علَى نَفْسِهِ أن لا يَقَعَ في يَدِهِ ذَهَبٌ ولا فِضَّةٌ، وتَرَكَ دُورَهُ لم يَأْمُرْ فيها بشيءٍ، وكان يَمُرُّ في الطريقِ، فإذا رأَى شيئًا مَطروحًا، أَخَذَهُ ممَّا قد أُلْقِيَ، قالَ المروذيُّ: فقلتُ للرجلِ: ما لك حُجَّةٌ علَى هذا غيرُ أبي مُعاويَةَ الأسودِ؟ قالَ: بل أُوَيْسٌ القَرَنيُّ، وكان يَمُرُّ بالْمَزابلِ، فيَلتقطُ الرِّقاعَ، قالَ: فصَدَّقَهُ أبو عبدِ اللَّهِ، وقالَ: قد شَدَّدَ علَى نفسِهِ، ثم قالَ: قد جاءني البَقْلِيُّ ونَحْوُهُ، فقلتُ لهم: لو تَعَرَضْتُم للعَمَلِ تُشهِرونَ أنفسَكم، قالَ: وأَيْشِ نُبَالِي مِن الشُّهرةِ؟).
وروَى أحمدُ بنُ الحسينِ بنِ حَسَّانَ عن أحمدَ أنه سُئِلَ عن رَجلٍ يَخرجُ إلَى مَكَّةَ بغيرِ زادٍ، قالَ: (إن كنتَ تُطِيقُ وإلا فلا إلا بزادٍ وراحلةٍ، لا تُخاطِرْ).
قالَ أبو بكرٍ الْخَلالُ: (يعني إنْ أطاقَ وعَلِمَ أنَّهُ يَقْوَى علَى ذلك، ولا يَسألُ، ولا تَسْتَشْرِفُ نفسُهُ لأنْ يَأخذَ أو يُعْطَى فيَقْبَلَ، فهو متَوَكِّلٌ علَى الصدْقِ، وقد أجازَ العُلماءُ التوَكُّلَ علَى الصِّدْقِ). قالَ: (وقد حَجَّ أبو عبدِ اللَّهِ وكَفاهُ في حَجَّتِهِ أربعةَ عشرَ دِرهمًا).
وسُئِلَ إسحاقُ بنُ رَاهَوَيْهِ: هل للرجُلِ أن يَدخلَ الْمَفازةَ بغيرِ زادٍ؟فقالَ:(إن كان الرجلُ مِثلَ عبدِ اللَّهِ بنِ مُنيرٍ فله أنْ يَدخلَ الْمَفازةَ بغيرِ زادٍ، وإلا لم يكنْ له أن يَدخلَ، ومتَى كان الرجُلُ ضَعيفًا، وخَشِيَ علَى نفسِهِ أن لا يَصْبِرَ، أو يَتعرَّضَ للسؤالِ، أو أن يقعَ في الشَّكِّ والتسخُّطِ، لم يَجُزْ له تَرْكُ الأسبابِ حينئذٍ، وأَنْكَرَ عليهِ غايَةَ الإِنكارِ كما أَنْكَرَ الإِمامُ أحمدُ وغيرُهُ علَى مَن تَرَكَ الكسْبَ وعلَى مَن دَخَلَ الْمَفازةَ بغيرِ زادٍ، وخُشِيَ عليهِ التعرُّضُ للسؤالِ).
وقد رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ، قالَ: (كان أهلُ اليمنِ يَحُجُّونَ ولا يَتَزَوَّدُونَ، ويَقولون: نحن مُتوكِّلونَ، فيَحُجُّونَ، فيَأتونَ مَكَّةَ، فيَسألونَ الناسَ) فأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَةَ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
وكذا قالَ مُجاهِدٌ، وعِكرمةُ، والنَّخَعِيُّ، وغيرُ واحدٍ مِن السلَفِ، فلا يُرَخَّصُ في تَرْكِ السببِ بالكلِّيَّةِ إلا لِمَن انْقَطَعَ قلبُهُ عن الاستشرافِ إلَى المخلوقينَ بالكُلِّيَّةِ.
وقد رُوِيَ عن أحمدَ أنه سُئِلَ عن التوكُّلِ، فقالَ: (قَطْعُ الاستشرافِ باليأسِ مِن الخلْقِ، فسُئِلَ عن الحُجَّةِ في ذلك، فقالَ: قولُ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ لَمَّا عَرَضَ له جبريلُ وهو يُرْمَى في النارِ، فقالَ له: ألك حاجةٌ؟ فقالَ: أمَّا إليك، فلا).
وظاهرُ كلامِ أحمدَ أنَّ الكَسبَ أَفْضَلُ بكلِّ حالٍ، فإنَّهُ سُئِل عمَّنْ يَقعدُ ولا يَكتسِبُ ويقولُ: تَوكَّلْتُ علَى اللَّهِ، فقالَ: (يَنبغِي للناسِ كُلِّهم يَتوكَّلونَ علَى اللَّهِ، ولكن يَعودونَ علَى أنفسِهم بالكَسْبِ).
وروَى الْخَلالُ بإسنادِهِ، عن الفُضيلِ بنِ عِياضٍ أنه قيلَ له: (لو أنَّ رَجُلاً قَعَدَ في بيتِهِ زَعَمَ أنَّهُ يَثِقُ بِاللَّهِ، فيَأتيهِ برِزْقِهِ، قالَ: إذا وَثِقَ بِاللَّهِ حتَّى يَعلمَ منه أنه قد وَثِقَ به، لم يَمْنَعْهُ شيءٌ أرادَهُ، لكنْ لم يَفْعَلْ هذا الأنبياءُ ولا غَيرُهم)
وقد كان الأنبياءُ يُؤَجِّرُون أنفُسَهم، وكان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَجِّرُ نفسَهُ وأبو بكرٍ وعمرُ، ولم يَقُولوا: نقْعُدُ حتَّى يَرْزُقَنا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وقالَ اللَّهُ عزَّ وجَلَّ: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10]، ولا بُدَّ مِن طَلَبِ الْمَعيشةِ.
وقد رُوِيَ عن بِشْرٍ ما يُشْعِرُ بخِلافِ هذا، فروَى أبو نُعيمٍ في (الحليَةِ) أنَّ بِشْرًا سُئِلَ عن التوكُّلِ، فقالَ: (اضطرابٌ بلا سُكونٍ، وسُكونٌ بلا اضطرابٍ، فقالَ له السائلُ: فسِّرْهُ لنا حتَّى نَفْقَهَ، قالَ بِشرٌ: اضطرابٌ بلا سُكونٍ، رجُلٌ يَضطرِبُ بجَوارِحِهِ، وقَلْبُهُ ساكِنٌ إلَى اللَّهِ، لا إلَى عَمَلِهِ، وسكونٌ بلا اضطرابٍ فرَجُلٌ ساكنٌ إلَى اللَّهِ بلا حَرَكَةٍ، وهذا عَزيزٌ، وهو مِن صفاتِ الأَبدالِ).
وبكلِّ حالٍ: فمَن لم يَصِلْ إلَى هذه الْمَقاماتِ العاليَةِ، فلا بُدَّ له مِن مُعاناةِ الأسبابِ، لا سِيَّمَا مَن له عِيالٌ لا يَصْبِرُونَ، وقد قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ)).
وكان بِشْرٌ يقولُ: (لو كان لي عِيالٌ لعَمِلْتُ واكْتَسَبْتُ). وكذلك مَن ضَيَّعَ بتَرْكِهِ الأسبابَ حَقًّا له، ولم يكنْ راضيًا بفَواتِ حَقِّهِ، فإنَّ هذا عاجزٌ مُفَرِّطٌ.
وفي مِثلِ هذا جاءَ قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجِزْ، فَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلا تَقُولَنَّ: لَوْ أَنَّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ اللَّو تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ))، خَرَّجَهُ مسلمٌ بمعناهُ مِن حديثِ أبي هُريرةَ.
وفي (سنن أبي داود) عن عوفِ بنِ مالكٍ، أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضَى بينَ رجلين، فقالَ المَقْضِيُّ عليهِ لمَّا أدبرَ: حسبُنا اللَّهُ ونِعمَ الوكيلُ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ يَلومُ عَلَى العَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالكَيْسِ، فَإِذا غَلَبَكَ أَمْرٌ، فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكيلُ)).
وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ أنسٍ، قالَ: قالَ رَجُلٌ: يَا رسولَ اللَّهِ، أَعْقِلُها وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُها وَأَتَوَكَّلُ؟ قالَ: ((اعْقِلْها وَتَوَكَّلْ)).
وذُكِر عن يحيَى القَطَّانِ أنه قالَ: (هو عندي حديثٌ منكرٌ). وخَرَّجَهُ الطبرانيُّ من حديثِ عمرِو بنِ أميَّةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ورَوَى الوَضِينُ بنُ عَطاءٍ، عن مَحفوظِ بنِ عَلقمةَ، عن ابنِ عائذٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ التَّوَكُّلَ بَعْدَ الْكَيْسِ)) وهذا مُرْسَلٌ، ومعناهُ: أنَّ الإنسانَ يَأخذُ بالْكَيْسِ والسعْيِ في الأسبابِ الْمُباحةِ، ويَتَوَكَّلُ علَى اللَّهِ بعدَ سَعْيِهِ، وهذا كلُّهُ إشارةٌ إلَى أنَّ التوَكُّلَ لا يُنافِي الإتيانَ بالأسبابِ، بلْ قد يكونُ جَمْعُهما أفضلَ.
قالَ مُعاويَةُ بنُ قُرَّةَ: (لَقِيَ عمرُ بنُ الْخَطَّابِ ناسًا مِن أهلِ اليمنِ، فقالَ: مَن أَنتمْ؟ قالُوا: نحن الْمُتَوَكِّلونَ، قالَ: بل أنتم الْمُتَأَكِّلُونَ، إنما المتوَكِّلُ الذي يُلْقِي حَبَّهُ في الأرضِ، ويَتوكَّلُ علَى اللَّهِ عزَّ وجَلَّ).
قالَ الْخَلالُ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أحمدَ بنِ مَنصورٍ قالَ: (سألَ الْمَازِنيُّ بِشْرَ بنَ الحارِثِ عن التَّوَكُّلِ، فقالَ: الْمُتَوَكِّلُ لا يَتوكَّلُ علَى اللَّهِ لِيُكْفَى، ولو حَلَّتْ هذه القِصَّةُ في قلوبِ الْمُتَوَكِّلَةِ لضَجُّوا إلَى اللَّهِ بالندَمِ والتوبةِ، ولكنَّ الْمُتَوَكِّلَ يَحُلُّ بقلبِهِ الكفايَةُ مِن اللَّهِ تَبارَكَ وتعالَى فيُصَدِّقُ اللَّهَ عزَّ وجَلَّ فيما ضَمِنَ).
ومعنَى هذا الكلامِ: أنَّ الْمُتَوَكِّلَ علَى اللَّهِ حقَّ التوَكُّلِ لا يَأتِي بالتوَكُّلِ ويَجْعَلُهُ سَببًا لحصولِ الكفايَةِ له مِن اللَّهِ بالرِّزقِ وغيرِهِ، فإنه لو فعلَ ذلك لكانَ كمَن أَتَى بسائرِ الأسبابِ لاستجلابِ الرِّزْقِ والكفايَةِ بها، وهذا نوعُ نَقْصٍ في تحقيقِ التوكُّلِ.
وإنَّما الْمُتَوَكِّلُ حقيقةً مَن يَعلمُ أنَّ اللَّهَ قد ضَمِنَ لعبدِهِ رِزْقَهُ وكِفايتَهُ، فيُصَدِّقُ اللَّهَ فيما ضَمِنَهُ، ويَثِقُ بقلبِهِ، ويُحقِّقُ الاعتمادَ عليهِ فيما ضَمِنَهُ مِن الرِّزقِ مِن غيرِ أن يُخْرِجَ التوكُّلَ مَخْرَجَ الأسبابِ في استجلابِ الرزْقِ به، والرزْقُ مَقسومٌ لكلِّ أحدٍ مِن بَرٍّ وفاجرٍ، ومُؤمنٍ وكافرٍ، كما قالَ تعالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، هذا مع ضعْفِ كثيرٍ مِن الدوابِّ وعَجْزِها عن السَّعيِ في طَلَبِ الرزْقِ، قالَ تعالَى: {وَكَأيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60].
فما دامَ العبدُ حَيًّا، فرِزْقُهُ علَى اللَّهِ، وقد يُيَسِّرُهُ اللَّهُ له بكَسْبٍ وبغيرِ كَسْبٍ، فمَن تَوَكَّلَ علَى اللَّهِ لطلَبِ الرزْقِ، فقد جَعَلَ التوَكُّلَ سَببًا وكَسْبًا، ومَن تَوكَّلَ عليهِ لثِقَتِهِ بضَمانِهِ، فقد تَوَكَّلَ عليهِ ثِقةً به وتَصديقًا.
وما أَحْسَنَ قولَ مُثَنَّى الأنباريِّ وهو مِن أعيانِ أصحابِ الإمامِ أحمدَ: لا تَكونوا بالمضمونِ مُهْتَمِّينَ، فتَكونوا للضامِنِ متَّهِمِينَ، وبرِزْقِهِ غيرَ راضينَ.
واعلمْ أنَّ ثَمرةَ التوَكُّلِ الرِّضا بالقضاءِ، فمَن وَكَلَ أمورَهُ إلَى اللَّهِ ورَضِيَ بما يَقضِيهِ له ويَختارُهُ، فقد حَقَّقَ التوَكُّلَ عليهِ، ولذلك كان الحسَنُ والفُضيلُ وغيرُهما يُفَسِّرون التوَكُّلَ علَى اللَّهِ بالرِّضا.
قالَ ابنُ أبي الدنيا: (بلَغَنِي عن بعضِ الْحُكَمَاءِ قالَ: التوَكُّلُ علَى ثلاثِ دَرجاتٍ: أوَّلُها: ترْكُ الشِّكايَةِ، والثانيَةُ: الرِّضَا، والثالثةُ: الْمَحَبَّةُ..
فتَرْكُ الشكايَةِ: دَرجةُ الصبْرِ.
والرضا: سُكونُ القلبِ بما قَسَمَ اللَّهُ له، وهي أَرفعُ مِن الأَوْلَى.
والْمَحَبَّةُ: أن يكونَ حُبُّهُ لِمَا يَصنعُ اللَّهُ به؛ فالأُولَى للزاهدينَ، والثانيَةُ للصادقينَ، والثالثةُ للمُرْسَلينَ، انتهَى.
فالمتوَكِّلُ علَى اللَّهِ إن صَبَرَ علَى ما يُقَدِّرُهُ اللَّهُ له مِن الرزْقِ أو غيرِهِ، فهو صابرٌ، وإن رَضِيَ بما يُقَدَّرُ له بعدَ وُقوعِهِ، فهو الراضِي، وإن لم يكنْ له اختيارٌ بالكلِّيَّةِ ولا رِضًا إلا فيما يُقَدَّرُ له، فهو دَرجةُ الْمُحِبِّينَ العارفينَ، كما كان عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ يقولُ: أَصْبَحْتُ وما لي سُرورٌ إلا في مَواضِعِ القضاءِ والقَدَرِ. ----------------- الأسئلة ----------------- س1: بين بإيجاز منـزلة حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ س2: اذكر بعض ثمرات التوكل على الله تعالى؟ س3: ما حقيقة التوكل على الله تعالى؟ س4: هل التوكل ينافي بذل الأسباب والسعي في تحصيلها؟ س5: ما حكم ترك التداوي توكلاً على الله عز وجل؟ س6: ما الفرق بين التوكل والتأكل؟ ----------------- |
|