منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Empty
مُساهمةموضوع: قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)   قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Emptyالإثنين 17 مايو 2021, 11:28 pm

قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)
الشيخ/ زيد بن عبدالعزيز الفياض
غـفـر الله لـه ولوالديـه وللمسلمين
قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Untit181
بسم الله الرحمن الرحيم
قاهر الصليبيين
وَالنَّاسُ أَلْفٌ مِنْهُمُ كَوَاحِدِ = وَوَاحِدٌ كَالأَلْفِ إِنْ أَمْرٌ عَنَا

كانت البلاد الإسلامية قد توالتْ عليها المحن، وتكالَبَ عليها الأعداء، ومزَّقَتْها الفرقة، وتقسَّمت إلى دويلات وإمارات، يثير الأعداء بينها الشقاق، ويُطَمِّعون بعض أُمَرائها في ولايات الآخرين؛ ليسهل بعد ذلك على العدو ضربها جميعًا.

وقد استولى الإفرنج على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وعلى القدس الشريف، وما أشبه الليلة بالبارحة!

في هذه الأيام العصيبة، والبلية الأكيدة، وُلد بطلٌ صار له دويٌّ في الدنيا، فملأ الأسماع، وتَمَّ على يده إنقاذ المسجد الأقصى، وقهر الصليبيين، حتى تحطّمتْ آمالهم، ورضوا من الغنيمة بالإياب بعد حروب استمرَّت حوالي رُبع قرن من الزمان.

ولنبدأ قصة هذا البطل من أولها على حسب الإمكان، وما يقتضيه المقام مع مراعاة الإيجاز.

مَوْلده ونشأتُه
في قلعة تكريت (1) وُلد صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي أبو المظفر، الملقَّب بالملك الناصر من الرَّوَادية (2)، أحد فروع الأكراد، ومولده في سنة 532 هـ.

كان أبوه وأهله يسكنون قرية في دُوِين (3)، بلدة في آخر عمل أَذْرَبِيْجَان، وتدعى تلك القرية أَجْدَانَقَان (4).

وقيل: إن صلاح الدين يمتد نسبه إلى قيس عيلان، مِن مُضر، والمشهور أنه كردي.

وقد نزح جَدُّهُ شادي بولديه أسد الدين شيركوه، ونجم الدين أيوب إلى تكريت بالعراق، وكان نجم الدين أكبر من أخيه أسد الدين.

وتولّى نجم الدين محافظة قلعة تكريت من قِبَلِ شحنة بغداد صاحب الشرطة مجاهد الدين بِهْرُوز (5) بن عبدالله الغياثي، فأبدى شهامة، وسداد رأي، وحُسن سيرة؛ مما جعله موضع تقدير من مجاهد الدين وغيره، وصادف أن مَرَّ به عماد الدين زنكي منهزمًا بعد قصده حصار بغداد فأكرمه، وسَيَّرَهُ وأصحابه في السُّفن لعبور دجلة، فلم يعجب عمله هذا شحنة بغداد؛ فسخط على نجم الدين، وجرى لأسد الدين حادثة قتل فيها رجلاً بسبب كلام بينهما، فأمرهما مجاهد الدين بالخروج من تكريت، فقصدا عماد الدين زنكي فأكرمَهُمَا وقرَّبهُما، ثم فتح عماد الدين بعلبك سنة 534هـ، فعيَّن نجم الدين مُحافظًا على قلْعتِها.

ثم انضم نجم الدين إلى صاحب دمشق بعد استيلائه على بعلبك لما توفي عماد الدين زنكي، ولم يستطع ابنه سيف الدين غازي بن عماد الدين إنجاد بعلبك، فسلمها لصاحب دمشق مجير الدين آبق بن محمد لقاء شروط ذكرها، وقد أكرمه صاحب دمشق، وجَعَلَه مِن مقدمي أمرائه وخاصته، وذهب أسد الدين إلى نور الدين بحلب، فأدناه وجعله مقدم عسكره؛ لما رأى فيه من سداد الرأي والإقدام، وقد اتَّفق المؤرخون على أن مولد صلاح الدين كان سنة 532 هـ بقلعة تكريت، ولم يكد المولود يطل على الدنيا حتى أُخْرِج أبوه وعمه من تكريت حتى قيل: إنه ولد في الليلة التي جليا فيها!!

ونشأ وتَرَعْرَع تحت رعاية والده، وتعلم وعني بالفروسية، وقد حظي نجم الدين بمكانة مرموقة لدى نور الدين بعد استيلائه على دمشق سنة 549 هـ، فصار من المقَرَّبين إلى نور الدين.

وجرتْ حادثة في مصر كان لها دورها في حياة صلاح الدين وعمه شيركوه، فقد استولى أبو الأشبال ضرغام بن عامر اللخمي على الوزارة المصرية، وقهر الوزير شاور السعدي، فأسرع هذا الأخير إلى نور الدين في دمشق يطلب النجدة، فسير معه نور الدين جيشًا بقيادة أسد الدين شيركوه، وبرفقته صلاح الدين الشاب النجيب، وقد اشترط نور الدين على شاور أن يقوم بدفع التكاليف الناجمة عن سفر هذا الجيش، ولعل نور الدين كان يخشى على مصر من الإفرنج الذين تساورهم المطامع في مصر، فقد حاولوا قبل مدة يسيرة دخولها مع تردِّي الأوضاع هناك، وفي مصر العاضد العبيدي من فرقة الباطنية وهو ضعيف، ولا يهمه أمر الإسلام لفساد عقيدة هذه الفرقة، خرج صلاح الدين مع عمه على كره منه، وكان العاضد قد كتب سرًّا إلى الفرنج ليمنعوا نور الدين عنه، ويكتب في الوقت نفسه إلى نور الدين يستنجده ليخلص البلاد من طغيان ضرغام (6)!

سافَرَ هذا الجيش في سنة 559 هـ على ما رجحه ابن خلِّكان أو سنة 558 هـ كما ذكر ابن شداد، وأعيد شاور إلى الوزارة، وقتل ضرغام، ولَم يلبث شاور أن غدر بأسد الدين وجيشه، فقد احتال على أسد الدين حتى أخرجوه من القاهرة، وأغلق أبوابها دونه، وطلب منه أن يعود إلى الشام، وتحصن شيركوه في بلبيس بعساكره، ولجأ شاور إلى أموري ملك الإفرنج ببيت المقدس والساحل، فتشاور مع أمراء الإفرنج وأشاروا بإنجاد شاور، ووصل جيش الإفرنج، واستمر القتال بين جيش الإفرنج ومعهم جيش شاور وبين أسد الدين وعساكره ثلاثة أشهر، انتهت باتفاق بين أسد الدين وملك الإفرنج على أن يرجعا إلى بلادهما بما معهما من القوات، وكان نور الدين في هذه الأثناء يهاجم أطراف البلدان الإفرنجية مما يليه، وقد أرسل أعلام الفرنجة التي غنمها لتنشر على بلبيس.

عاد أسد الدين وبرفقته صلاح الدين إلى دمشق، وتشاورا مع نور الدين بشأن الخطر الذي يتهدد مصر من جراء مطامع الإفرنج فيها، وكان أسد الدين يرغب في الرجوع إلى مصر، ثم تأكد لدى نور الدين وأسد الدين أن شاور قد استنجد بالإفرنج، فتجهز جيش بقيادة أسد الدين ويرافقه صلاح الدين مستشارًا ومساعدًا على كره منه لهذا السفر.

وفي 12 ربيع الأول سنة 562 هـ غادر هذا الجيش دمشق، والتقى بأموري وجيشه الإفرنجي في مصر بعد أن عقد الفرنج مع العاضد وشاور معاهدة تصبح مصر بموجبه تحت حماية ملك القدس الصليبي، وتدفع مصر أموالاً طائلة نفقات لجيش أموري وخراجات سنوية في مقابل الحماية.

وكان جيش الصليبيين لَجِبًا كثيرًا، بينما كان جيش أسد الدين لا يتجاوز ألفي فارس، فليس هناك تكافؤ في العدد والعدة.

وتقابَل الجيشان يفصل بينهما النيل، وقد انضم جيش العاضد وشاور إلى الصليبيين، وحاول أسد الدين أن يتخلَّى شاور وعساكر مصر عن الوقوف إلى جانب الفرنج، مذكرًا له بواجب الدفاع عن بلاد المسلمين، فلم يزده إلا إصرارًا، وأبلغ الفرنج ما قاله أسد الدين.

وابتدأ القتال فكانت الهزيمة على الفرنج، ولكن جند شاور وتوالي وصول النجدات الإفرنجية قد خففت من هزيمتهم، فتجمعوا في القاهرة، وانسحب أسد الدين بجيشه إلى الإسكندرية، وخلف فيها صلاح الدين وألف فارس، وعاد هو إلى الصعيد لمقاومة الإفرنج، فانتهز الفرنجة هذه الفرصة، وحاصروا صلاح الدين بالإسكندرية، وطال الحصار، ولقي صلاح الدين وجيشه المتاعب، ولم يحصل الفرنج على شيء، وقد شغلهم نور الدين بغاراته حتى خافوا على مملكتهم وضجر جندهم، وأخيرًا وقع الصلح على أن يرحل الفريقان عن مصر، على أن يقدم شاور لأسد الدين جميع ما غرمه في هذه الحملة، وثلاثين ألف دينار أخرى، وأن يقدم ملك الفرنج لصلاح الدين السفن لتنقل الضعفاء من جنده إلى الشام.

وفي ربيع الأول سنة 564 هـ سافر أسد الدين وبرفقته صلاح الدين الذي خرج كارهًا ومعهما جيش لإنقاذ مصر، قال السلطان: كنت أُكْرِه الناس للخروج في هذه الواقعة، وما خرجت مع عمي باختياري، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216]، وقد تلَقَّى نور الدين وأسد الدين دعوة عاجلة من مصر.

فقد بعث العاضد برسالة إلى نور الدين تستصرخه بإنجاد مصر من الفرنج، وأرسل شاور إلى أسد الدين يبين له الأخطار المحدقة بمصر، فقد كان بمصر حامية من الفرنج تثير الأقباط ضد المسلمين، وصار الإفرنج الذين بمصر يحرضون أموري بالعودة إلى مصر، فتشاور مع فرسانه وأمرائه فأشاروا بغزو الديار المصرية، وفي جيش ضخم زحف على بلبيس، فاحتلها وأحرقها، ثم أغاروا على الصعيد وصاروا يقتلون كل من بلغته أيديهم، لم يستثنوا امرأة ولا طفلاً ولا شيخًا، وارتكبوا من الفظائع ما تقشعر له الأبدان، وتنخلع له القلوب، وتركوا بلبيس طُعمة للنيران المشتعلة فيها.

ولم يكن من شاور إلا أن أحرق الفسطاط كي لا يحتلها الصليبيون، فظلت النار مشتعلة فيه ما يقارب الشهرين، وعلى الإثر كتب العاضد وشاور إلى نور الدين وأسد الدين، فسار الجيش الشامي من دمشق إلى مصر في ربيع الأول سنة 584هـ، وفي 7 ربيع الثاني وصل هذا الجيش إلى مصر، وأدرك ملك الإفرنج تعذُّر البقاء عليه، فعاد إلى بلاده بدون قتال، وأبى طبع شاور إلا أن يرجع سيرته الأولى في الدسائس والتآمر ونقض العهود، فمع أنه كان التزم بدفع نفقات الجيش الشامي الذاهب إلى الشام لإرجاعه إلى الوزارة؛ فقد كان يماطل ويراوغ، ولما رأى ما لأسد الدين من مكانة في مصر ساءه ذلك؛ فدبر مكيدة للقضاء على أسد الدين وكبار قادة الجيش الشامي خلال مأدبة يقيمها، وهدده ابنه الكامل بفضح المؤامرة، وإعلام أسد الدين شيركوه بها، ولعلها بلغته وهو يعلم سابقة شاور في إطلاع الإفرنج على أسرار الدولة في مصر، ودعوته لهم لقتاله وجنده، فلا تؤمن غائلته وهو المتقلب الخداع.

نظر أسد الدين إلى واقع مصر وما يمكن أن تتعرض له من نكبات على يد شاور لا يقتصر ضررها على مصر وحدها، ولكنه على جميع البلاد الإسلامية، وقرر أنه لا بد من عمل عاجل لحل هذه المشكلة، وقام صلاح الدين مع جماعة من العسكر بالقبض على شاور.

وفي الحال جاء التوقيع من المصريين على يد خادم خاص لا بد من رأسه جريًا على عادتهم في وزارتهم في تقرير قاعدة فيمن قوي منهم على صاحبه، فخرت رقبته وأنفذ رأسه إليهم، وأنفذ إلى أسد الدين خلعة الوزارة، فلبسها وسار ودخل القصر ورتب وزيرًا، وذلك في سابع عشر ربيع الآخر سنة أربع وستين وخمسمائة (7).

وفي 22 من جمادى الآخرة توفِّي أسد الدين على إثر مرض أصابه، ولم يمض عليه في منصب الوزارة سوى شهرين وخمسة أيام، ثم استدعى العاضد صلاح الدين وعمره آنذاك 32 سنة، فولاه الوزارة مع تطلُّع بعض كبار القادة من الجيش النوري إليها، وكان الذي حمل العاضد على اختياره ما كان يظنه فيه من الضعف لقلة رجاله وضعف عسكره، فظن أنه إذا ولاه يكون مستضعفًا ولا يجسر على مخالفته (8)، وقد كاد بعضُ القادة أن ينشقوا على صلاح الدين لظنهم أنهم أولى منه بهذا المنصب، ولكنه استمالهم حتى رضوا به.

قَدَّرَ صلاح الدين عِظَم المسؤوليَّة؛ فتاب عن اللهْو وشُرب الخمر، وشَمَّر للجهاد في سبيل الله وتخليص القُدس والبلدان الساحلية مِن عدوان الإفرنج، وصار ذلك شغله الشاغل، فقد قال السلطان لما يسر الله تعالى فتح الديار المصرية: علمت أنه أراد فتح الساحل؛ لأنه أوقع ذلك في نفسي (9).



قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Empty
مُساهمةموضوع: رد: قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)   قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Emptyالإثنين 17 مايو 2021, 11:31 pm

وحكى ابن شداد هذه القصة التي تُبَيِّن مدى عزم صلاح الدين على الجهاد وبيعه نفسه في سبيل الله، وكان قد صَحِبَ السلطان من عسقلان إلى عكا، قال:
"ثم سرنا في خدمته إلى الساحل طالبي عكا، وكان الزمان شتاء، والبحر هائجًا شديدًا، وموجه كالجبال، كما قال تعالى، وكنتُ حديث عهد برؤية البحر، فعظم أمر البحر عندي حتى خُيِّل لي أني لو قال لي: إن جزت في البحر ميلاً واحدًا ملكتك الدنيا لما كنت أفعل، واستسخفت رأي مَنْ ركب البحر رجاء دينار أو درهم، واستحسنت رأي مَنْ لا يقبل شهادة راكب بحر، فبينا أنا في ذلك إذ التفت إليَّ -رحمه الله- وقال: أما أحكي لك شيئًا؟ في نفسي أنه متى ما يَسَّرَ اللهُ تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد، وأوصيت، وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائره، واتبعتهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت، فعظم وقع هذا الكلام عندي حيث ناقض ما كان خطر لي، وقلت له: ليس في الأرض أشجع نفسًا من المولى، ولا أقوى منه نية في نصرة دين الله تعالى، فقال: كيف؟ فقلت أمَّا الشجاعة فلأن مولانا ما يهوله أمر هذا البحر وهوله، وأما نصرة دين الله فهو أن المولى ما يقنع بقلع أعداء الله من موضع مخصوص في الأرض حتى تطهر جميع الأرض منهم، واستأذنت أن أحكي له ما كان خطر لي، فحكيت له ثم قلت: ما هذه إلا نية جميلة، ولكن المولى يسيِّر في البحر العساكر وهو سور الإسلام ومنعته، فلا ينبغي له أن يخاطر بنفسه فقال: أنا أستفتيك، ما أشرف الميتتين؟ فقلت: الموت في سبيل الله، فقال: غاية ما في الباب أن أموت أشرف الميتتين (10).

وكان مع ذلك مهتمًّا بشؤون الرَّعية، ناشرًا للعقيدة السلفيَّة والعلم والثقافة، رافعًا للظُّلم، محققًا للعدل، فأبطل الضرائب والمكوس التي كانتْ ترهق الشعب، وسار سيرة حميدة.

كل ذلك وهو مُصمم على هدفه في دفع الفرنج عن مصر والبلاد الإسلاميَّة وتحرير الساحل من احتلالهم، ولا ريب في نبل القصد وشرف الغاية، ولكن هل يترك صلاح الدين ليعمل ما يرى فيه رفعة الأمة وإعلاء شأنها وانتشالها من الوهدة المتردية فيها؟

لقد كانت هناك عقبات كثيرة في طريق صلاح الدين، فقد اكتشف مؤتمن الخلافة يبعث للإفرنج يستعديهم على صلاح الدين، ومنصب هذا المؤتمن يشبه وظيفة رئيس الديوان والحرس الملكي، أو الجمهوري في هذا العصر، وكان عددهم كبيرًا، فكان عددهم عند سقوط الدولة الفاطمية ثمانية عشر ألفًا.

علم صلاح الدين بخيانة هذا المؤتمن فدبر لقتله، فهاج السودان، وكانوا أكثر من خمسين ألفًا، وأحاطوا بقصر صلاح الدين، فأمر جيشًا بقيادة أخيه توران شاه بردِّهم، وجرى القتال مدة يومين، وليس بعيدًا أن يكون العاضد له يد في هذه الحركة إلا أنَّه لما رأى علائم الفشل بدتْ عليها أمر أحد المقربين عنده أن يقول: أمير المؤمنين يسلم على شمس الدولة ويقول: دونكم العبيد الكلاب فاقتلوهم أو أخرجوهم من البلد، وانتهت هذه المعركة بهزيمة السود، ثم عين صلاح الدين بهاء الدين قراقوش مؤتمنًا للخلافة، وبذلك حصل نصر جديد لصلاح الدين، وهدأت الأمور في مصر.

وهذا ما يفزع الصليبيين الذين يرون أحلامهم قد تحطمت في مصر، وفي الشام رجل قوي يأمل في طرد الفرنج، فقد شعر الفرنج أنهم وقعوا بين فكي الأسد، وأن الكماشة توشك أن تنطبق عليهم إذ ليس صلاح الدين أقل أملاً في طردهم من نور الدين، وهم يعتبرون الوقت ليس في صالحهم، وعليهم أن يسارعوا لتحطيم القوة الإسلامية في مصر، ممثلة في صلاح الدين وعساكره قبل أن تجتثهم، فاستنجد أموري ملك القدس وزعيم الدولة اللاتينية في المشرق بالدولة البيزنطية وأمراء الإفرنج بالساحل، وجمع جيشًا كثيفًا بعد أن وعد بعض كباره بتوزيع دخل مصر عليهم مقدمًا.

فقصدوا دمياط ليمكن محاصرتها من البر والبحر ولتكون نقطة ارتكاز لهم، يعبرون عن طريقها إلى جميع البلاد المصرية، (اجتمع الإفرنج والروم في سنة 565هـ، 1169م، وقادوا أساطيلهم البحرية مجتمعة إلى دمياط في نحو ستين سفينة من مختلف السفن تحت قيادة كونستفانوس البيزنطي، وحشد بها كل آلات الحرب والمجانيق والدبابات وآلات الحصار، ونزلوا بها إلى البر (11)، وكان صلاح الدين لما علم بِقَصْد الإفرنج لها حشد فيها العساكر والأسلحة والميرة، ولما نزلوا صار يقاتلهم بالعساكر من الخارج، بينما تقاتل القوات في دمياط من الداخل، فلم تنفع الفرنج أسلحتهم ومعداتهم وأبراجهم ذات السبع الطبقات، وفي الشام كان نور الدين يشاغلهم بالغارات على بلدانهم، ورجع الفرنج يجرون أذيال الفشل وقد خسروا الكثير، وقد هبت عليهم رياح عاصفة في البحر دمَّرَتْ كثيرًا من سفنهم بعد أن توالت عليهم الضربات من كل جانب، وأعيتهم كل الوسائل في الاستيلاء على دمياط، فرحلوا عنها بعد أن قُتِل منهم خَلْقٌ كثيرٌ، وحرقت مجانيقهم، ونهبت أموالهم، وقد كان الفرنج قويت نفوسهم لما توجهت حملة الفرنج إلى مصر وسرقوا حصن عكا.

اجتماع الشَّمل
استَقَرَّتِ الأُمورُ في مصر، وأصبح هو صاحب الكلمة فيها، ومِن ثَم أراد أن يكتملَ سروره، ويجتمع شمله، وكاتب نور الدين بشأن إرسال والده، وفي قصته شبه بقصة يوسف -عليه السلام-.

فوصل والده نجم الدين في جمادى الآخرة 565 هـ، فولاه وزارة المالية وكرمه وقر به عينًا، ثم أرسل إلى نور الدين يطلب موافقته على أن يقدم إليه إخوته، فمانع في ذلك أولاً ثم وافق، وكان لنور الدين نظرة فاحصة، فقد قال في تبرير تمنعه: أخاف أن يخالف أحد منهم عليك فتفسد البلاد، وعندما وافق على ذهابه استدعى توران شاه، وهو أكبر من صلاح الدين سنًّا، فصارحه بما يقول في نفسه، ومحضه النصح، وأرشده إلى الصواب، فقال له: إن كنت تسير إلى مصر وتنظر إلى أخيك أنه يوسف الذي كان يقوم في خدمتك وأنت قاعد فلا تسر، فإنك تفسد البلاد، وأُحْضرك حينئذ وأعاقبك بما تستحقه، وإن كنت تنظر إليه أنه صاحب مصر وقائم مقامي وتخدمه بنفسك كما تخدمني فسر إليه، واشدد أزره، وساعده على ما هو بصدده، فقال: أفعل معه من الخدمة والطاعة ما يتصل بك - إن شاء الله تعالى.

وفي يوم الاثنين عاشر محرم 567 هـ توفي العاضد آخر ملوك العبيديين بعد أن دام حكم هذه الطائفة في مصر مائتي سنة وثماني سنين، وكان ابتداء ظهورهم في المغرب وإفريقية، وكانت مدة دولتهم من حين ظهورها حتى انقراضها مائتين وستًّا وستين سنة، وبموت العاضد اجتثت شجرة العبيديين الباطنية، وكان ذلك من النعم الجلى، وقد استولى السلطان على ثروة العاضد وجواهره ونفائسه ومكتبته التي تحوي نحو مائة ألف مجلد، فأهدى بعضها، وقسم بعضها، وضم الباقي إلى بيت المال، وقد ذكر في الخطبة اسم الخليفة المستضيء بأمر الله بدلاً من العاضد، وذلك قبل وفاة العاضد بأيام، بناء على أمر من نور الدين، وقد كان العاضد مع تلقيبه بالخلافة لا حول له ولا طول، ولا سيما في آخر عمره.

وقد كان عددُ نسائه وأولاده وأقاربه 152 شخصًا، فأخرجوا من القصر، وأسكنوا دارًا فسيحة وأحسن معاملتهم فيها، وجَرَتْ عليهم الأرزاق.

نور الدين وصلاح الدين
ينظر صلاح الدين إلى نور الدين على أنه الرئيس المُطاع، وصاحب الشأن، وأنه ليس إلا واحدًا من جند نور الدين، ولكنه يرى أشياء لا يدرك منها نور الدين إلا القليل، والشاهد يرى ما لا يراه الغائب.

وإذا كان صلاح الدِّين أحد جنود نور الدين، فإنه قد بلغ منزلة سامقة، وهمه الجهاد في سبيل الله، وهو في مركز كبير وفي ثغر مِن ثغور الإسلام، تستدعي اليقظة وصرف الجهود كلها لِمُواجَهة الإفرنج الطامعين.

أمَّا نور الدين فهو يُوافق صلاح الدين في كلِّ ذلك، ولكنه لا يريد أن يخرج صلاح الدين عن إمرته، ولا أن يَتَصَرَّف تصرُّفًا مُطلقًا، وقد يكون في ذلك مُشابهة لما جرى بين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد -رضي الله عنهما-.

ولا بد أن بعض الحاسدين لصلاح الدين قد شوشوا فكر نور الدين، والإفرنج لن يألوا جهدًا في إيقاع النزاع بين الرجلين العظيمين، ولكن الله لطيف بعباده؛ فقد أرسل نور الدين في مطلع عام 567هـ إلى صلاح الدين يأمره بقطع الخطبة يوم الجمعة عن العاضد، وإقامة الخطبة للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله في بغداد، وهذا يعني عدم الاعتراف بخلافة العاضد، ومع أن السلطان يكره العبيديين، ويقاوم مذهبهم الانحلالي الإلحادي، فإنه خشي من مغبة ذلك، وأن يستغل بعض أتباع العاضد ومن لهم أهواء هذا العمل فتثور في البلد فتنة، والعدو يتحَيَّن الساعة التي يحصل فيها الشقاق ليعتدِي.

فاعْتَذَر صلاح الدين وكَرَّر نور الدين التأكيد على ذلك، فلم يَسَعِ السلطان أخيرًا إلا الرضوخ للأمر، وكفى الله المؤمنين القتال، ولم تمضِ إلا أيام يسيرة حتى هلك العاضد.

وإذا كانت تبعية نور الدين وصلاح الدين لخليفة بغداد شكلية، فإنها قد وقعتْ موقعًا عظيمًا في نفسه، وهدَّأت مما كان في نفس نور الدين، واستقبلها المسلمون استقبالاً حسنًا.

وبعث الخليفة المستضيء الخلع والهدايا إلى كلٍّ مِن نور الدين وصلاح الدين.

ولم تكدْ تَمُرُّ هذه الأزمة بسلام حتى وقعت أزمة أخرى كادت أن تستفحل، فقد كتب نور الدين إلى السلطان يطلب موافاته على الكرك لمقاتلة الإفرنج، وأن يستصحب معه العساكر لهذا الغرض، ووعد صلاح الدين بذلك، وانتظره نور الدين هناك فلم يحضر، ثم اعتذر بأن بعض شيعة العبيديين في مصر أرادوا تدبير فتنة، فاضطر للبقاء في مصر لإخمادها، وتثبيت الأمن فيها، وكان بعض الناس قد خوفه من نور الدين، ولم يرضِ اعتذاره نور الدين فعزم على دخول مصر، وإخراج السلطان منها، وتعيين بديل عنه، وتشاور صلاح الدين مع والده وإخوته وسائر الأمراء ماذا يصنع؟ فأشار الكثيرون منهم بمقاتلة نور الدين، وعنفه والده في ذلك، ووبَّخ المتكلمين بذلك، وأشار بأن يكتب إلى نور الدين بالسمع والطاعة، وأنه مستعد للذهاب إليه بنفسه في أي وقت يريد، دون أن يكلف نفسه عناء السفر إلى مصر، وقنع نور الدين -على ما يبدو- بهذا الجواب، وانتهت هذه الزوبعة التي كادت أن تصبح عاصفة مُدمِّرة.

وفي سنة 569 هـ دبر أتباع الدولة العبيدية مؤامرة لاغتيال صلاح الدين، وكاتبوا الفرنج، فأرسلوا إلى أموري ملك بيت المقدس، ووليم الثاني ملك صقلية للوثوب على صلاح الدين، ووعدوا بأن يثوروا متى وصلتْ جيوشهم إلى مصر، وقد علم السلطان بذلك فبطش بالمتآمرين في رمضان 569 هـ، وصلب عمارة اليمني، وثمانية من زُعماء المؤامَرة، كما نفى بعضًا، وسجن بعضًا آخر.

وجاء أسطول صقلية في صفر عام 570 هـ، ولم يكن علم بما تَمَّ في الأمر مِن اكتشاف السلطان للمؤامرة، وتوجه لمصر أسطول ضخم فيه ما يُقارب خمسين ألفًا من الرجال، ومن العتاد والأسلحة الشيء الكثير، فنزلوا بثغر الإسكندرية، فهب صلاح الدين وأرسل العساكر الإسلامية الكثيفة لقتالهم، فرجع الفرنجُ بعد أن تكبَّدُوا خسائر جسيمة، وتركوا مجانيقهم وآلاتهم فغنمها المسلمون أو حرقوها، ولم يمضِ على وصولهم إلى الإسكندرية سوى ثلاثة أيام.

وفي 27 من ذي الحجة سنة 569 هـ توفِّي نجم الدين أيوب على إثر سقوطه عن ظهْر فرس، وكان يهوى ركوب الخيل إلى حدٍّ غريب، وكان السلطان في حصار الكرك، وحين علم بوفاته حزن كثيرًا، وأنشد بعد رجوعه إلى مصر:
وَتَخَطَّفَتْهُ يَدُ الرَّدَى فِي غَيْبَتِي = هَبْنِي حَضَرْتُ فَكُنْتُ مَاذَا أَصْنَعُ؟!

وفي يوم الأربعاء 21 شوال من هذه السنة توفي نور الدين محمود بن زنكي، وبِمَوْته فقدت الأمة الإسلامية أحد رجالها العُظماء والمُدافِعين عن حوزة الإسلام (12)، وخلفه ابنه الملك الصالح، وكان صغير السن لا يتجاوز عمره الحادية عشرة فتضاعفت أعباء صلاح الدين، واهتم بالشام أكثر من ذي قبل خوفًا عليها من العدو المجاور.

وفي شوال من هذه السنة أيضًا توفي أموري ملك القدس، وخلفه ابنه بلدوين الرابع، ويلقب في التاريخ بلدوين المجذوم.

وفي سنة 570هـ جرت محاولة من سوداني يُقال له: كنز الدولة، وهو والي أسوان ومن أنصار العبيديين متمالئًا مع عباس بن شادي والي قوص، وجمع السودان، وأقام بأسوان وناوأ صلاح الدين، وزعم أنه يريد إعادة الدولة المصرية، فجرَّد له السلطان جيشًا كثيفًا بقيادة أخيه العادل سيف الدين أبي بكر، فأخمد هذه الفتنة وقتل متزعميها.



قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Empty
مُساهمةموضوع: رد: قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)   قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Emptyالإثنين 17 مايو 2021, 11:35 pm

خروج السلطان إلى الشام
بعد موت نور الدين بدأ الاضطراب في الشام، وأصبح ابنه الملك الصالح ألعوبة في يد كبار رجال الدولة، كُلٌ يريد أن يجره إليه ليستغل اسمه، وبدأ التطاحن على السلطة، والعدو قريب يترقب ويتحفز، ولم يستطع صلاح الدين أن يسكت عمَّا يجري من هذه الأحداث، وأراد وضع حَدٍّ لها قبل أن تستفحل ويتطاير شررها في الآفاق، فسار إلى دمشق ودخلها في سلخ ربيع الآخر سنة 570هـ، واستقبله أهلها بالترحاب، وكان الملك الصالح بحلب، وتسلّم قلعة دمشق ورَتَّبَ شُؤونها، ثم حمص، ومنها سار إلى حلب فحاصرها، وحين شعر صاحب الموصل سيف الدين غازي بما حصل خشي على مركزه إذا ما تَمَّ الأمر للسلطان في الشام، فأرسل جيشًا بقيادة أخيه مسعود لمقاتلة السلطان، ولكن صلاح الدين رحل عن حلب عائدًا إلى حماة، ثم إلى حمص وأخذ قلعتها، واجتمعتْ عساكر صاحب الموصل مع عسكر الملك الصالح، وأراد السلطان مصالحتهم فامتنعوا، وأخيرًا جرى القتال بين الجيشَيْن فانهزم جيش الملك الصالح وصاحب الموصل وكسروا شر كسرة، وكان ذلك في تاسع عشر رمضان، وكان معهم، ثم عاد إلى حلب، وحاصرها حتى وقع الصلح بينه وبينهم في أواخر السنة على أن تكون له (المعرة)، و (كفر طاب)، و (ماردين) زيادة على ما بيده من أراضي حمص وحماة، ثم جاء سيف الدين صاحب الموصل بعساكره لقتال صلاح الدين، وانضم إليه عسكر الملك الصالح، فجرت وقعة في 10 شوال اندحر فيها صاحب الموصل وعساكره التي تبلغ ألف مقاتل.

لقد أراد صلاحُ الدين أن يجمع كلمة الأمة الإسلامية؛ لتكون قوية في مواجهة الصليبيين الأعداء، ولذلك فقد بذل المساعي الكثيرة لتوحيد الجهود، وضم الصفوف حتى لا تصبح الأمة الإسلامية نهبًا للأعداء، وقد نجح آونة وأخفق أخرى، وبدأه بعض هؤلاء الأمراء بالقتال في بعض الفترات؛ لئلا يحقق هذه الأمنية الغالية خوفًا على سلطانهم، وأحيانًا اضطر إلى بدئهم بالقتال، وأخذهم بالشدة، هال صلاح الدين ما يراه من فرقة وتناحر بين بعض الأمراء والكبراء، وغفلتهم عن العدو المتربص بهم، والجاثي في ديارهم، فأعلن رأيه الصريح في رسالة بعثها إلى الخليفة، وطبقه عمليًّا في معاركه.

وهذا ابن جبير يصف الوضع الذي عاينه والحالة التي شاهدها، وهي نفس ما يعتمل في نفس صلاح الدين وما باح به للخليفة العباسي.

زار ابن جبير في رحلة العراق والجزيرة وبلاد الشام في عام 580هـ فكتب يقول:
"فلا تسمع إلا ألقابًا هائلة، وصفات لذي التحصيل غير طائلة، قد تساوى فيها السوقة والملوك، واشترك فيها الغني والصعلوك، ليس فيهم من اتسم بسمة تليق، أو اتصف بصفة هو بها خليق، إلا صلاح الدين صاحب الشام، وديار مصر، والحجاز، واليمن، المشتهر الفضل والعدل، فهذا اسم وافق مسماه، ولفظ طابق معناه، وما سوى ذلك في سواه فزعازع ريح، وشهادات يردها التجريح، ودعوى نسبة للدين برّحت به أي تبريح (13)".

لقد كان الأمر من الخطورة في نظر صلاح الدين إلى درجةٍ مخيفةٍ، وهو مُحِقٌ في نظرته تلك التي تصوّرها هذه المقتطفات من رسالة بعث بها صلاح الدين إلى الخليفة المُستضيء بأمر الله في بغداد، وهي من إنشاء القاضي الفاضل:
"وتوافت إلينا الأخبار بما المملكة النورية عليه من تشعُّب الآراء وتوزُّعها، وتشتُّت الأمور وتقطُّعها، وأن كل قلعة حصل فيها صاحب، وكل جانب قد طمح إليه طالب.

والإفرنج قد بنوا قلاعًا يتخوفون بها الأطراف الإسلامية، ويضايقون بها البلاد الشامية، وأمراء الدولة النورية قد سجن كبارهم، وعوقبوا، وصودروا، وأن المماليك قدموا الأيدي والأعين والسيوف، وسارتْ سيرتهم في الأمر المنكر والنهي عن المعروف، وكل واحد يتخذ عند الإفرنج يدًا أو يجعلهم لنظره سندًا.

وعلمنا أن بيت المقدس إن لم تتيسر الأسباب لفتحه، وأمر الكفر إن لم يتجه العزم في قلعه، وإلا نبتت عروقه، واتسعت على أهل الدين خروقه، وكانت الحجة لله قائمة، وهمم القادرين بالقعود آثمة، وإنا لا نتمكن بمصر منه مع بعد المسافة، وانقطاع العمارة، وكلال الدواب التي بها على الجهاد القوة، فإذا جاورناه كانت المصلحة بادية، والمنفعة جامِعة، واليد قادرة، والبلاد قريبة، والغزوة ممكنة، والميرة متَّسعة، والخيل مستريحة، والعساكر كثيرة الجموع، والأوقات مساعدة، وأصلحنا ما في الشام من عقائد مُعتلَّة، وأمور مختلة، وآراء فاسدة، وأمراء مُتحاسِدة، وأطماع غالبة، وعقول غائبة، وحفظنا الولد القائم بعد أبيه، فأنا به أولى من قوم يأكلون الدُّنيا باسمه، ويظهرون الوفاء في خدمته، وهم عاملون بظُلمه.

والمُراد الآن هو كل ما يقوي الدولة، ويُؤكِّد الدعوة، ويجمع الأمة، ويحفظ الألفة، ويضمن الرأفة، ويفتح بقية البلاد، وهو تقليد جامع بمصر، واليمن، والمغرب، والشام، وكل ما تشتمل عليه الولاية النورية، وكل ما يفتحه الله للدولة العباسية بسيوفنا وسيوف عساكرنا" (14).

هذا ما يُريده السلطان وهو مطلب معقول، فإن بعض هؤلاء الأمراء ليس في مستوى المسؤولية، وقصة صلاح الدين مع سيف الدين غازي بن مودود صاحب أربل تمثل كثيرًا من الواقع، فقد أصبح يُرْسل بعض جنده لإيذاء السلطان وجنده، ولَمَّا لم يرتدع رجع إليه صلاح الدين فكسره وتسلَّم خزائنه وإصطبلاته ومطابخه، ففرَّقها جميعًا، ثم رأى في السُّرادق طيورًا من القماري، والبلابل، والهزارات، والببغاوات في الأقفاص، فاستدعى أحد نُدماء سيف الدين، وقال له: خُذ هذه الأقفاص، واذهب بها إلى سيف الدين، وسلّم عليه عنّا وقُلْ لهُ: عُدْ إلى اللعب بهذه الطيور فهذا أسلمُ لك عاقبةً من الحرب! (15)

وكان سيف الدين هذا قد اصطحب مائة مغنية، وآلات لهو، وشراب سكر.

وفي رابع من شهر ذي القعدة سنة 571هـ، وبينما كان السلطان يحاصر قلعة عزاز من إقليم حلب، دخل ثلاثة من الباطنية خيمة السلطان، فأهوى أحدهم بسكين معه على رأس السلطان فأمسكه السلطان بيده فخفف ذلك من حدة الضربة، ووجهت ضربات أخرى إلى عنق السلطان، ومن توفيق الله أنه كان لابسًا الدرع فكان وقاية له، وكانت مؤامرة استهدفت اغتيال السلطان، وقتل بعض المتآمرين، وفر آخرون، وحين عاد السلطان من حلب في العام التالي مال إلى قلعتهم في مصياد بين حماة وطرابلس، ونصب عليها المجانيق وأوسعهم قتلاً وأسرًا، واسترجع ما نهبوه من دواب الناس وأموالهم.

وفي مصر قام شخص يُدعى (أبا شجاع الزجّاجي)، من بلدة تُدعى الزجاجة بين قوص وقِفط بصعيد مصر، واستتر وراء رجل يُدعى (عبدالجبار بن إسماعيل بن عبدالقوي) داعي الدعاة، الذي قُتل إثر معركة السود وخلع العاضد -ومنصب داعي الدعاة كان المنصب الأول للباطنية- مدَّعيًا أن هذا الرجل إنما هو (داود بن العاضد)، فله ميراث مصر في زعمه، وتبعه جماعة كبيرة من الناس.

وكان أبو بكر الملك العادل نائبًا عن أخيه السلطان على مصر فسار إليهم من فوره، وقتل منهم نحوًا من ثلاثة آلاف، وأخذهم أخذًا وبيلاً (16).

وفي أواخر ذي القعدة سنة 571 هـ وصل توران شاه إلى دمشق قادمًا من اليمن بعد أن استتب الأمن فيها، وقضى على فتنة (عبدالنبي بن مهدي)، الذي ادَّعى أنه (المهدي)، وأنه يملك الأرض، ثم تمادى في غروره حتى استولى على اليمن، وملك حصونها في سنة 569 هـ.



قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Empty
مُساهمةموضوع: رد: قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)   قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Emptyالإثنين 17 مايو 2021, 11:41 pm

الحُروب الصليبيَّة تدخل مرحلةً جديدةً
في سنة 568 هـ خَرَج السلطان من مصر لحصار الكرك والشوبك؛ وأملاً في تخليصهما من يد البرنس أرناط (رينولد دي شاتيون) الطاغية، فقد كان هذا من أعتى الفرنج، وأشدّهم عَدَاءً للإسلام وأذَىً للمُسلمين، وكان يقطع الطريق على الحُجَّاج الذاهبين من الشام إلى مكة.

والكرك والشوبك موقعان حصينان ومرتفعان جدًّا.

حاصر صلاح الدين الكرك والشوبك، وجرى بينه وبين الإفرنج قتال ووقعات متَعَدِّدة، كانت بداية لحروب طويلة ومريرة.

وفي أوائل جمادى الأولى سنة 573هـ نزل السلطان بعساكره على الرملة، وكانت وقعة الرملة بين عساكر المسلمين بقيادة السلطان، وبين الإفرنج بقيادة (البرنس) أرناط، وكان هذا (البرنس) قد أُسر في عهد نور الدين وبيع في حلب، وقد غير المسلمون تعبئتهم في هذه المعركة، فكان أن هجم عليهم العدو، وهم لم يستكملوا تعبئتهم بعد، وصارت الهزيمة على المسلمين فتشرَّدوا في الصحارى، وضلوا في الطريق، وأسر جماعة منهم.

وفي جمادى الآخرة سنة 573هـ نزل الإفرنج على حارم قرب حلب، فقابلهم عسكر الملك الصالح، ثم عاد الإفرنج إلى بلادهم.

ثم عاد السلطان إلى مصر يتأهب للقاء العدو مرة أخرى، فوصله رسول (قليج أرسلان) يلتمس نصرته على الأرمن في بلاد سيس الفاصلة بين حلب والروم، فسار السلطان إلى بلاد ابن لاون نجدة لـ (قليج أرسلان)، وعاد منهم بعد المصالحة، وراسله (قليج أرسلان) في صلح الشرقيين بأسرهم، فوافق السلطان على ذلك، وتم الصُّلح، ودخل في الصلح (قليج أرسلان) والمواصلة، وديار بكر، ثم عاد إلى دمشق، ومنها إلى مصر.

وفي محرم سنة 575 هـ جرتْ معركة بين السلطان والإفرنج في برجيون، فهزم الفرنجة هزيمة منكَرة.

وفي سنة 575 هـ توفِّي الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله، وبويع لولده الناصر لدين الله.

وفي سنة 576 هـ توفِّي توران شاه أخو السلطان بالإسكندرية.

وفي سنة 576هـ توفي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي صاحب الموصل.

وفي 577هـ توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين في قلعة حلب، ولما بلغ السلطان خبر موته حرص على العودة إلى الشام، ثم بلغه نبأ وفاة ابن أخيه عز الدين فخرو شاه نائبه على الشام، فازداد رغبة في سرعة الرجوع إلى دمشق، ووصلها في سبعة عشر صفر سنة 578هـ، ثم أنشأ التأهب لغزو الإفرنج في بيروت، فقصد بيروت، ولم ينل منها غرضًا لتكاثر الإفرنج الذين تجمعوا بها.

عين جالوت
في ثامن جمادى الآخرة سنة 579 هـ خرَج السلطان بعساكره قاصدًا غزو الإفرنج، فعبَّأ جيشه، وسار حتى أتى بيسان، فوجد أهلها قد رَحَلُوا عنها، وتركوا ما بها من ثقيل الأمتعة والأقمشة والغلال فنهبها العسكر، وغنموا ما فيها، وحرقوا ما لم يمكن أخذه؛ لئلا ينتفع به العدو، ثم سار حتى أتى الجالوت وهي قرية عامرة، وعندها عين جارية، فخيم عليها، وفي نزوله هذا قدم عليه بعض الأمراء، وأخبروه أنهم التقوا عسكر الكرك والشوبك سائرين لنجدة الإفرنج، فقاتلهم بعض عساكر المسلمين، وقتلوا كثيرين منهم، وأسروا منهم زهاء مائة نفر، ولم يُفقد من المسلمين أحدٌ.

وفي يوم السبت الحادي عشر من جمادى الآخرة وصل الخبر أن الإفرنج قد اجتمعوا في صفورية فرحلوا إلى الفُولة (17)، وهي قرية معروفة، وكان غرضُه القتال، فرتب السلطان قواته وتهيَّأ لملاقاة الأعداء، وحاول المسلمون جذبهم إلى معركة حامية، وناوَشوهم وقتلوا منهم، ولكن الإفرنج ساروا حتى أتوا عين جالوت، ثم رَحَلُوا عنها راجعين، هذا السلطان وعساكره يحاولون جرهم إلى المعركة، ولكنهم قد رهبوا من قتال المسلمين، فساروا حتى نزلوا الفُولة عائدين إلى بلادهم بعد أن قتل من قتل منهم، وأسر من أسر، وخربت عَفْرَ بلا، وقلعة بيسان، وزرعين، وهي من حصونهم المذكورة، وخربت لهم قرى عديدة.

وفي سنة ثمانين في شهر ربيع الأول خرج السلطان من دمشق قاصدًا الكرك ومعه العساكر، ثم تبعه أخوه العادل، وتتابعت العساكر حتى أحدقوا بالكرك في رابع جمادى الأولى، وركب المجانيق عليها، وقد التقت العساكر المصرية والشامية كما التقت معها العساكر الجزرية أيضًا مع قوة أرسلان، ثم خرج الإفرنج براجلهم وفارسهم؛ لحماية الكرك من المسلمين، وعلم السلطان بذلك فأمر القوات أن تكونَ على أهبة الاستعداد، وأن تقابل العدو قبل وصوله إلى الكرك، فنـزل الإفرنج بموضع يقال له: (واله)، ونزل السلطان بعساكره بموضع يقال له: (ماء عين)، ثم رحل الإفرنج قاصدين الكرك، ودخلت عساكر المسلمين نابلس ونهبوها وغنموا ما فيها، ولم يبق فيها إلا حصناها، وأخذوا جانين، وعادوا إلى السلطان، وكانت بعض العساكر قد لحقت بالإفرنج بعد رحيلهم، وقاتلوهم حتى آخر النهار، ثم عاد السلطان إلى دمشق يوم السابع جمادى الآخرة 580هـ.

وفي المحرم سنة 583هـ عزم السلطان على قصد الكرك، وسار حتى نزل بأرض نيطرة، منتظرًا اجتماع الجيوش المصرية والشامية، وأمر الجيوش الواصلة أن تهاجم العدو في البلدان التي يمرون بها في طريقهم إلى الكرك، ولم يهاجم الكرك؛ نظرًا لتأخر العساكر الحلبية لانشغالها بالإفرنج في جِهتِهم.

وقعة حطين (18)
وهي الموقعة التي ما برحت ذكراها الجميلة عالقة بنفوس المسلمين، يروونها باعتزاز وحبور جيلاً بعد جيل.

ففي يوم السبت 14 من ربيع الآخر سنة 583 هـ (1187 م)، سار بِمَن اجتمع له من العساكر الإسلاميَّة الكثيرة التي يبلغ تعدادها ثمانين ألفًا، بينهم اثنا عشر ألف فارس، في عدة عظيمة وتهيُّؤ لِمُلاقاة العدو الذي جمع قوات ضخمة في مرج صفورية بأرض عكا، فسار السلطان حتى نزل على بحيرة طبرية على سطح الجبل ينتظر قدوم الفرنج له عندما يعلمون بوصوله هذا المكان غير البعيد عنهم، ولكنهم لم يفعلوا، فذهب ببعض من قواته إلى طبرية، بينما معظم الجيش قد لزم أمكنته، واستطاع هو ومن معه من العسكر أن يهجموا على طبرية ويستولوا عليها خلال ساعة واحدة، وانتهب الناس ما بها، وحين علم العدوُّ بذلك رحل نحو طبرية، فأبقى السلطان عددًا من العساكر يُحاصرون طبرية، وعاد إلى مقرِّ قِيادته في الجيش، والتقى بالعدو على سطح جبل طبرية في الجانب الغربي منها، وكان ذلك في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر ربيع الآخر، واشتد القتالُ، ثم حال الليل بين العسكرين.

وفي يوم الجمعة نشب القتالُ مرة أخرى، والتحم الفريقان بأرض قرية تسمى (لوبيا)، وضاق الخناق بالعدو وأيقنوا بالهلاك، ولم تزل الحرب مضطرمة والمعارك حامية حتى حال الليل بينهم بظلامه، وبات كل من الفريقين في مقامه، وتحقق المسلمون أن من ورائهم الأردن، ومن بين أيديهم بلاد العدو، وأنهم لا ينجيهم إلا الاجتهاد في القتال، فحملت أطلاب المسلمين من كل جانب، وحمل القلب، وصاحوا صيحة رجل واحد: الله أكبر، فألقى الله الرعب في قلوب الكافرين، ونصر المؤمنين، ولما أبصر صاحب طرابلس (ريموند) ذلك هرب، ولم يلبث بعد وصوله طرابلس إلا قليلاً حتى هلك بذات الجنب.

وأحاط المسلمون بالأعداء من كل جانب، وأطلقوا عليهم السهام، وحكموا فيهم السيوف، وسقوهم كأس الحمام، واعتصمت طائفة منهم بتل يقال له: (تل حطين)، بين طبرية وعكا، بينه وبين طبرية مسافة فرسخين (19)، وهو ينسب إلى بلدة حطين التي يقال: إن بها قبر النبي شعيب -عليه السلام-، فضايقهم المسلمون، وأشعلوا حولهم النيران فاشتد بهم العطش، وضاق بهم الأمر، فقتل منهم في ذلك اليوم أكثر من عشرة آلاف، ولم ينج من الموت إلا هارب أو أسير، وكانت طائفة قد انهزمت، فتبعها المسلمون يقتلون فيها حتى أبادوها عن آخرها، ووقع في الأسر ذلك اليوم: الملك جفري (جوي) ملك بيت المقدس، وقريبه البرنس أرناط (رينولد دي شاتيون) صاحب الكرك والشوبك، وابن الهنغري، وصاحب جبيل، وابن صاحب طبرية.

"وَوَقَعَ في الأسر مقدم الداوية أو الهيكليين: فرسان المعبد، وكانوا فرقة من الرهبان، قد حبسوا أنفسهم على الجهاد -في زعمهم- وزهدوا فامتنعوا عن الزواج والشهوات، ثم تعاوَنوا القوة، وعالجوا السلاح، ولا طاعة لأحد عليهم.

ووقع في الأسر كذلك مقدم الإسبتارية: وهو لفظ محرَّف عند الفرنجة قليلاً، وكانوا يسمون ضياف الغرباء، وقد بدؤوا في القرن التاسع الميلادي بإيطاليا، ثم في بيت المقدس، فلما اشتركوا في الحروب الصليبية انقلبت حالهم من علاج المرضى بإيواء الغرباء، فصاروا من أشد الفرق قساوة وضراوة في الحروب والعناد" (20).

وكان الهلع قد بلغ من الإفرنج مبلغًا هائلاً حتى تقاطروا على الأسر فرقًا من القتل الزُّؤام، فأصيبوا بالذعر وسقط في أيديهم.

قال القاضي ابن شداد:
"ولقد حكى لي من أثق به أنه رأى بحوران شخصًا واحدًا معه نيف وثلاثون أسيرًا قد ربطهم بطنب خيمة لما وقع عليهم منَ الخذلان".

وقد أمر السلطان بقَتْل مقدمي الإسبتارية والداوية، بعد أن صاح فيهم قائلاً: أريد تطهير الأرض منكم، ثم تخاطفهم الفرسان بالسيوف؛ وذلك لشدة عدائهم للمسلمين وقسوتهم عليهم، وقتل أرناط؛ لأنه مِن ألد أعداء المسلمين، وأكثرهم غدرًا، وقد نقض العهد مرارًا، وغدر مرة بقافلة مصرية تريد الحج فنكّل برجالها، وحين ذكّرُوه العهد الذي بينه وبين المسلمين تنقَّص الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال: دعوا محمدكم يخلصكم، واستشاط صلاح الدين لَمَّا بلغهُ ذلك، ونذر أن يقتل هذا الغادر بيده إن أظفره اللهُ به، وقد كان أرناط من شدَّة عدائه للإسلام قد بعث قوة بحرية لمحو مكة والمدينة من الوجود، فأرسل لؤلؤ أمير البحر قوة لحقتهم وأبادتهم بعد أن وصلوا رابغ قتلاً وأسرًا، وقدم اثنان من هؤلاء العُتاة إلى مِنَى فنُحِرَا بها يوم عيد الأضحى سنة 578هـ الموافق 1182م.

وقد استحضر الملك جفري وأخاه، والبرنس أرناط، وناول السلطان جفري شربة من جلاب وثلج فشرب منها، وكان على أشد حال من العطش، ثم ناولها البرنس فقال السلطان للترجمان: قل للملك: أنت الذي سقيته أمَّا أنا فما سقيتُه، وكان من جميل عادة العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير إذا أكل أو شرب من مال مَنْ أسره أمِنَ، فقصد السلطان بقوله إشعار الملك أن إسقاءه للبرنس لن يخلص البرنس من القتل.

ثم أمر بتسييرهم إلى موضع عينه لهم، فمضوا بهم إليه، فأكلوا شيئًا، ثم عادوا بهم، ولم يبق عنده سوى بعض الخدم فاستحضرهم، وأقعد الملك في دهليز الخيمة، واستحضر البرنس أرناط وأوقفه بين يديه، وقال له: ها أنا أنتصر لمحمد -عليه الصلاة والسلام- منك، ثم عرض عليه الإسلام فلم يفعل، فسل المنجاة فضربه بها فحلَّ كتفه، ثم أجهز عليه من حضر، وأخرجت جثته ورميت على باب الخيمة، فلما رآها الملك جفري على تلك الحالة لَم يشك أنه يلحقه به، فاستحضره وطيب قلبه، وقال له: لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك، وأما هذا فقد تجاوز الحد وتجرأ على الأنبياء.

وهكذا يتصرف السلطان العظيم في الحرب والسلم، في الانتصار والهزيمة، في شمم وإباء، وسياسة وذكاء.

في يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر نزل السلطان على طبرية فتسلم قلْعَتها، وفي نهاية الشهر قصد عكا فقاتَل الفرنج الذين كانوا بها يوم الخميس مُستهل جمادى الأولى من هذه السنة أي سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فأخذها واستنقذ من كان فيها من أسارى المسلمين، وكانوا أكثر من أربعة آلاف أسير، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع.

واتَّجَهَتْ عساكر المسلمين إلى كل بلدان الساحل يطردون الفرنج، ويطهرون البلدان منهم، ويولون الحصون والقلاع والأماكن المنيعة أهمية خاصة، فأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة، ولم يلقوا مقاومة تُذكَر.

ولَمَّا استقرت عكا ورتب أمورها، سار لفتح بقية بلدان الساحل، فحاصر تبنين، وهي قلعة منيعة فنصب عليها المجانيق، وبعد أسبوع من بدء الحصار تسلمها، ثم حاصر صيدا وسلمت له في نفس اليوم الذي بدأ فيه الحصار، ثم توجه إلى بيروت، وبدأ حصارها يوم الخميس 22 جمادى الأولى، وركب عليها المجانيق، وبعد قتال وحصار استمَرَّ أسبوعًا سلمت له، وسقطت جبيل في يد بعض جنده، وقد تطلع إلى عسقلان، وأماكن أخرى؛ لذا لم ينتظر استسلام صور، وقد بدأ حصارها، فقصد عسقلان ونزل عليها يوم الأحد السادس عشر من جمادى الآخرة، وفي طريقه إليها تسلم عددًا كثيرًا من البلدان كالرملة والدارون.

وأقام على عسقلان ونصب المجانيق حتى سلمت له بعد حصار وقتال شديد استمر نصف شهر، وكان الفرنج حكموها خمسًا وثلاثين سنة، ثم تسلم جيشه غزة، وبيت جبرين (21)، والنطرون من غير قتال.



قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Empty
مُساهمةموضوع: رد: قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)   قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Emptyالإثنين 17 مايو 2021, 11:46 pm

فتح بيت المقدس
كان جرحًا ينـزف دمًا، وكان كل مسلم يشعر بالأسى لما آلت إليه حالة القدس، وقد صارت الغلبة فيها للصليبيين، يدنسون المساجد، ويضطهدون المسلمين، ويقيمون قاعدة لهم في القدس ينطلقون منها إلى بقية البلاد الإسلامية المجاورة، لحرب المسلمين وإيذائهم، وإثارة الفتن بينهم، ومضت تسعون سنة من الزمان على هذا الوضع الشائن حتى خارت العزائم، وتصاغر كل ملك وأمير وزعيم في العالم الإسلامي عن محاربتهم والتصميم على طردهم (22)، حتى قيض الله البطل الذي ضرب للعالم الإسلامي بل العالم أجمع مثلاً عاليًا في الشجاعة، والصبر، والجهاد في سبيل الله، ذلكم هو صلاح الدين يوسف بن أيوب، فلم يثنه ما صادفه من مشاق، ولا فل عزمه ما جابهه مِنْ مشاكِل، بل كان يأخُذ الدُّروس، ويستفيد مِنَ التجارب، وهو ماضٍ إلى هدفِه النبيل، وغايته المرْجُوَّة.

مضى صلاح الدين وعساكر المسلمين إلى القدس يُريد تخليصه من الصليبيين المتسلِّطين، فنـزل عليه يوم الأحد الخامس عشر من رجب سنة 583 هـ بالجانب الغربي الذي كان مشحونًا بالمقاتَلة من الخيالة والرجالة، وحزر أهل الخبْرة ممن كان معه، من كان فيه من المقاتلة، فكانوا يزيدون على ستين ألفًا عدا النساء والصبيان، ثم انتقل لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي يوم الجمعة العشرين من رجب ونصب عليه المجانيق، وضيق على البلد بالزحف، والقتال، وكثرة الرماة، حتى أخَذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم في قرنة شماليَّة.

ولَمَّا رأى أعداءُ الله ما نزل بهم من الأمر الذي لا قِبل لهم به، أصيبوا بالذُّعر والهلَع، وأيْقَنوا أنهم صائرون إلى الأسر والقتل، فأخلدوا إلى طلب الأمان، وجرتْ مُراسلة بينهم وبين المسلمين إلى أن تسلم صلاح الدين والمسلمون معه القدس في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة 583 هـ (1187م)، وكان فتحًا عظيمًا، شهده من أهل العلم خُلُق عظيم، ومِن أرباب الحرف وغيرهم، وقد تناقَل الناسُ البشائر، وهرعوا مِن كل مكان، وقصده العلماء من مصر والشام بحيث لم يتخلَّف معروف من الحضور، وارتفعت الأصوات بالدعاء والتهليل والتكبير، وخطب في المسجد الأقصى، وصليت فيه الجمعة يوم فتحه، وحط الصليب الذي كان على قبة الصخرة، وقد كان الصلح على أن يدفع عن كل رجل من الفرنج عشرة دنانير، وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية، وعن كل صغير ذكر أو أنثى دينار واحد، فمن سلم الفداء أعتق وإلا أخذ أسيرًا.

وفرج الله عمن كان أسيرًا منَ المسلمين، وكانوا زهاء ثلاثة آلاف أسير (23)، وكان ما أخذ من الفرنج فدية تبلغ مائتي ألف دينار وعشرين ألفًا، وقد رحل صلاح الدين وليس معه من هذه الأموال شيء حيث فرقها كلها، وكان من يدفع ما عليه من الفرنج يذهب إلى صور.

الأيَّام دول
أضحتْ صور مقر للفرنجة تجتمع بها فلولهم، وتقوى شوكتهم، فكان لا بد لصلاح الدين من منازلتهم لحسم شرِّهم وإبعاد خطرهم، ففي يوم الجمعة خامس رمضان سنة 583هـ نزل قريبًا من صور، واستدعى القوات البرية والبحرية وحاصرها إلى أن حل الشتاء وتكاثرت الأمطار، وكان القتال المستمر قد أضنى العسكر، وصادف أن الأسطول البحري قد هوجم من قبل أسطول العدو، وقُتل كثيرٌ من جنده، وأسر بعض قادة الأسطول، وخمس قطع بحرية، وبعد استشارة أجراها السلطان تقرر أن يعطي الجيش إجازة للراحة، وليكونوا أكثر استعدادًا لمُلاقاة العدو، فرحلوا بعد أن حملوا ما قدروا على حمله، وأتلفوا ما عجزوا عنه، وبعد حوالي ثلاثة أشهر من نزول السلطان قريبًا مِن صور رحل إلى عكا.

وفي أثناء حصاره لصور بعث قوة من الجيش، فاستولتْ على هونين في 23 شوال، وفي مُستهل محرم 584 هـ حاصر كوكب الحصن المنيع بعسكر قليل، وكان أهلُه قد استعدُّوا وخزَّنوا أقْواتًا كثيرة، فرحل عنه قبل فتحه.

وبعد خمسة أيام قَضاها في دمشق، سار بالعساكر إلى جبيل لتخْليصِها من الإفرنج الذين جاؤوا لاحتلالها، فلمَّا علِموا بمسيرِه رجعوا، ثم سار نحو حصن الأكراد فحاصره، ثم أغار على طرابلس، وحاصر أنطرطوس (24) سادس جمادى الأولى، وسرعان ما أخذها المسلمون بالسيف، وغنموا جميع ما فيها، ثم أحرقت، ثم توجه بعساكره إلى جبلة فأخذها وسلمت القلعة بالأمان، ثم رحل إلى اللاذقية فأخذها بعد قتال دون قلعتيها، وغنموا منها غنائم عظيمة، ثم نزل من في القلعتين بالأمان على نفوسهم، وذراريهم، ونسائهم، وأموالهم، ويكون للمسلمين الغلال والذخائر والسلاح وآلات الحرب، فأجابهم إلى ذلك، ورفع العلم الإسلامي عليها يوم السبت 26 جمادى الأولى 584هـ، ومنها سار إلى قلعة صهيون فأخذها بالأمان على أنفس من فيها وأموالهم، ويؤخذ من الرجل منهم عشرة دنانير، ومن المرأة خمسة، وعن الصغير ديناران، ثم أقام السلطان عليها حتى أخذ عدة قلاع كالعبد، وفيحة، وبلاطنيس (25) وغيرها، بواسطة من يبعث من عساكره لهذا الغرض، ثم أتى بكاس -بتخفيف الكاف- وهي قلعة حصينة من نواحي حلب، على جانب العاصي، ففتحها عنوة بعد حصار وقتال دام ثلاثة أيام، وقتل أكثر مقاتلتها، وأسر الباقون، وغنم المسلمون جميع ما كان فيها، ثم بعث ابنه الملك الظاهر إلى قلعة سرمانية، فأخذها بعد قتال، ورحل إلى بَرْزيه (26) القلعة الشاهقة، وحاصرها، ويحسن أن نورد وصفًا لخطط السلطان في حصاره؛ لنستشف منها براعة السلطان الحربية، وقدرته على مناهضة العدو.

يقول ابن شداد في وصف هذه الموقعة (27):
ثم سير السلطان جريدة إلى قلعة برزيه، وهي قلعة حصينة في غاية القوة والمنعة على سن جبل شاهق، يضرب بها المثل في جميع بلاد الإفرنج والمسلمين، يحيط بها أودية من سائر جوانبها، وذرع علوها كان خمسمائة ذراع ونيفًا، وسبعين ذراعًا، ثم جدد عزمه على حصارها بعد رؤيتها، واستدعى الثقل، وكان نزول الثقل وبقية العسكر تحت جبلها في الرابع والعشرين من الشهر.

وفي بكرة الخامس والعشرين منه صعد السلطان جريدة مع المقاتلة، والمنجنيقات، وآلات الحصار، إلى الجبل فأحدقت بالقلعة من سائر نواحيها، وركب القتال من كل جانب، وضرب أسوارها بالمنجنيقات المتواترة الضرب ليلاً ونهارًا.

وفي السابع والعشرين قسم العساكر ثلاثة أقسام، ورتب كل قسم يقاتل شطرًا من النهار، ثم يستريح، ويسلم القتال للقسم الآخر؛ بحيث لا يفتر القتال عنها أصلاً، وكان صاحب النوبة الأولى عماد الدين صاحب سنجار فقاتلها قتالاً شديدًا حتى استوفى نوبته، وضرس من القتال، وتراجعوا، واستلم النوبة الثانية السلطان بنفسه، وتحرك خطوات عدة، وصاح في الناس فحملوا عليها حملة الرجل الواحد، وصاحوا صيحة الرجل الواحد، وقصدوا السور من كل جانب، فلم يكن إلا بعض ساعة حتى رقى الناس على الأسوار، وهجموا على القلعة، وأخذت القلعة عنوة فاستغاثوا الأمان، وقد تمكنت الأيدي منهم، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا، ونهب جميع ما فيها، وأسر جميع من كان فيها، وكان قد أوى إليها خلق عظيم، وكانت من قلاعهم المذكورة، وكان يومًا عظيمًا، وعاد الناس إلى خيامهم غانمين، وعاد السلطان إلى الثقل فرحًا مسرورًا، وأحضر بين يديه صاحب القلعة، وكان رجلاً كبيرًا منهم، وكان هو ومن أخذ من أهله سبعة عشر نفسًا، فمنَّ عليهم، ورقَّ لهم، وأنفذهم إلى صاحب أنطاكية استمالة له، فإنهم كانوا يتعلقون به ومن أهله.

ومن هذا المشهد الرائع لمهارة السلطان الحربية، وقيادته الحكيمة، وشجاعته النادرة، يتجلى مقدار ما يتحلى به صلاح الدين من صفات فذَّة لرجل من طراز فريد.

وسار إلى دربساك، وهي قلعة منيعة قريبة من أنطاكية، وقاتلها، ثم نزل أهلها بالأمان على أنفسهم، وليس لهم إلا ثيابهم فقط.

وحاصر بغراس، وهي قلعة منيعة كذلك، وأقرب إلى أنطاكية من دربساك، واستلمها بالأمان، ثم راسله أهل أنطاكية على الصلح، فصالحهم على أن يطلقوا جميع أسارى المسلمين الذين عندهم، وقام بجولة يتفقَّد فيها الحصون والقلاع، وينظر في شؤون الرَّعيَّة، ويستعد للجهاد.

وفي أوائل رمضان توجه من دمشق إلى صفد، وهي قلعة منيعة، فحاصرها حتى سلمت بالأمان في الرابع عشر من شوال، وفي هذه الأثناء سلمت الكرك للسلطان، ونزل على قلعة كوكب، فحاصرها حتى أخذها بالأمان في منتصف ذي القعدة، وصلى الجمعة في القدس، ثم سار في وداع أخيه العادل، وتفقد البلدان، حتى وصل عسقلان ورتب شؤونها، وعاد إلى عكا ينظم العساكر في الحصون والقلاع، وعين الأمير بهاء الدين قراقوش واليًا على عكا، وأمر بعمارة سورها والاهتمام به، ثم رجع إلى دمشق.

وفي شهر ربيع الأول 585هـ أزمع قصد حصن يسمى (شقيف أرنون) قريب من بانياس (28)، ونزل بالعساكر قريبًا منه، وبينما السلطان يتأهب لمحاصرته وقتاله، إذا بصاحبه يأتي فجأة إلى خيمة صلاح الدين فيكرمه السلطان، ويظهر هذا الإفرنجي الذي يجيد اللغة العربية إجادة تامة الطاعة للسلطان، واستعداده تسليم الحصن بلا قتال، وادعى أنه يريد إحضار أهله وجماعته من صور، وتبين فيما بعد أن هذه خديعة فأرسل السلطان له عساكر جاءت به إلى دمشق أسيرًا ذليلاً مهانًا.

وفي أثناء ربيع الأول وصل الخبر بتسليم الشوبك من الإفرنج، بعد حصار استمر سنة من جانب بعض قوات السلطان.



قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Empty
مُساهمةموضوع: رد: قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)   قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Emptyالإثنين 17 مايو 2021, 11:50 pm

عكا البلد الجبار
وأي حديث عن عكا يمكن أن يؤدي إلى نعت معارك عكا، ثم لا يقصر كثيرًا؟!

لقد كان صلاح الدين يهمه تحرير بلاد المسلمين من الإفرنج، ويولي الساحل عناية فائقة، ومن بلدان الساحل وحصونه وقلاعه ما يحظى من صلاح الدين بالنصيب الأوفر، وهكذا بعض البلدان القريبة من الساحل.

فالقدس وعكا وعسقلان لها شأن في نظر صلاح الدين، وحرص على إبعاد الكفار عنها مهما تحمل في ذلك مِن مشقات، وناله من متاعب، وهو الصابر المجاهد يقاتل في سبيل الله يبتغي رضا ربه وثوابه ما يفوق الوصف، وقد استمر حصار الإفرنج لعكا عامين كاملين، والقتال دائب برًا وبحرًا لا يكاد يتوقف، وقد انتزع صلاح الدين عكا من الإفرنج يوم الخميس مستهل جمادى الأولى سنة 583هـ، ثم قام بزيارة تفقُّدية لها في أوائل عام 585هـ، وعين الأمير بهاء الدين قراقوش واليًا عليها في شهر محرم سنة 585هـ، وأمره ببناء سورها.

وقع الإفرنج في دهشة عظيمة لهذه الانتصارات التي تحققت على يد صلاح الدين، ورأوا قواتهم تفر بين يديه لا تلوي على شيء، وفي حطين وفلسطين المثل الصارخ، إذًا فلا بد أن يستقدم الإفرنج المزيد من الجنود والعتاد والذخائر والأقوات، وتجمع الإفرنج بصور، ثم جاءت الإمدادات الهائلة من أوروبا، حتى وضعوا ضريبة باهظة على كل من لم يرغب التطوع في هذا القتال وسموها (العشور الصلاحية).

وكانت الحملة الصليبية الثالثة بقيادة فردريك بارباروس إمبراطور ألمانيا، وفيليب أوجست ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك الإنجليز.

أما الجيش الألماني فقد لقي مقاومة من البيزنطيين والسلاجقة، وسبح إمبراطوره في نهر سالف بجبال أرمينية، فمرض بسبب برودة الماء ثم مات، فرجع معظم الجيش إلى ألمانيا، ومضى بعضه إلى عكا وصور بقيادة فردريك الثاني نجل الإمبراطور الغريق، ثم مات هذا الابن قبل وصوله إلى عكا، وانتشر المرض بين أفراد هذا الجيش الذي كان عند خروجه يتراوح بين مائتين ومائتين وخمسين ألف رجل، مع أسلحة هائلة، وقوة عجيبة، وعند أوبته إلى ألمانيا صار يقدر عدده بخمسة آلاف رجل.

أما الجيشان الفرنسي والإنجليزي فقد التقيا في صقلية، ولم يتفق ملكاهما، فأبحر الفرنسيون إلى عكا وحدهم، فبلغوا شاطئها يوم السبت 23 ربيع أول سنة 587هـ الموافق في نيسان (أبريل) 1191م.

أمَّا ريتشارد فقد استقر في قبرص بعد احتلالها من البيزنطيين، ثم أبحر إلى عكا بعد أن استنجد به ملك القدس جفري (جوي)، وكان صلاح الدين قد أطلقه بعد أن أسره في وقعة حطين (29).

وردت الأنباء إلى صلاح الدين عند نزول الإفرنج على عكا يوم الاثنين 13 رجب 585هـ، وكان من رأي السلطان مناجزة العدو قبل وصولهم إلى عكا إلا أن كثيرين من الأمراء والقادة خالفوه، سارع السلطان إلى عكا ودخل إليها ليطمئن قلوب من فيها من المقاتلة وغيرهم، وطلب حضور العساكر على وجه السرعة، وكان الإفرنج قد ضيقوا الخناق على عكا حتى أوشك ألا يبقى لها منفذ، وكانت قواتهم تقدر بألفي فارس، وثلاثين ألف راجل، وما زالت في تكاثر، والقوات تتوارد عليهم حتى ضربوا الحصار كاملاً، ولم يعد المسلمون يستطيعون الدخول ولا الخروج من عكا وإليها، ولا بد من إرسال النجدات إلى من في داخل البلد، وتشاور السلطان مع الأمراء وكبار القادة، فرأوا أنه لا مندوحة عن القيام بحملة على العدو المقابل حتى يمكن إمداد قوات المسلمين في عكا ونجحت الخطة، وحصل قتال ومناوشات، ومكث الإفرنج شهرًا يرتبون أمورهم، ويعززون مراكزهم.

وفي يوم الجمعة ثمان شعبان خرجت عساكر الإفرنج إلى التلول، فجرت بينهم وبين المسلمين معركة انتصر فيها المسلمون.

وفي يوم الأربعاء 21 شعبان 585هـ وصل إلى عكا كونراد بعساكره من صور، كما وصلت سفن من أوربا تحمل أعدادًا كبيرة من الإفرنج للقتال مع العدو، تهيأ الإفرنج للحرب، ورتب المسلمون صفوفهم تحسُّبًا لما قد يحدث، وكان السلطان ينادي في الناس يا للإسلام، وعساكر الموحدين، ويأمر مناديه بذلك، ويطوف على الجند يحثهم على الجهاد والاستبسال، وبعد أن مضى من النهار نحو أربع ساعات -وكل من الجيشين يزحف نحو الآخر ويستعد لمقابلته- نشبت المعركة، فانهزمت ميمنة المسلمين، وأكثر القلب، وثبت السلطان في قلة من الميمنة، أما الميسرة فكانت ثابتة، وأخذ السلطان يطوف على الجنود يحثهم على القتال والصبر، ومعه خمسة أشخاص غير مكترث بالعدو، ولا متخف منه، ويناديهم إلى رص الصفوف، ولقاء العدو، وتجمع الناس، ثم هاجموا من كان لاحقًا بالمسلمين المنهزمين فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وكان عدد القتلى من المسلمين في هذا اليوم قليلاً إذا ما قيس بعدد القتلى من العدو، وقد حزر ما قتل من الفرنج بسبعة آلاف نفر، وكانت الروح المعنوية عالية بين المسلمين لم توهنها الهزيمة، وإن آلمتها وأحزنها نهب ما في الخيام من جانب بعض المسلمين المنهزمين الذين حسبوا أن العدو قد تغلب وأنه سيأخذ الخيام بما فيها، وأمر السلطان برد المنهزمين من المسلمين، وجمع ما أخذ واستحلف كل من ادعى بشيء أنه ماله ودفعه إليه، ويسمي المؤرخون المسلمون هذه الوقعة بـ (الوقعة الكبرى).

في هذا اليوم استشهد ظهر الدين أخو الفقيه عيسى الهكاري، وكان هذا الفقيه المجاهد يضحك والناس يعزونه وهو ينكر عليهم، ويقول: هذا يوم الهناء لا يوم العزاء، وكان هو قد وقع عن فرسه وأركبه فقتل عليه جماعة من أقاربه (30).

وأمر السلطان بالانسحاب إلى الخرُّوبة (31)، وهو موضع قريب من موقعهم الأول خشية على العسكر من روائح القتلى وآثار الوخم.

وعقد مجلسًا استشاريًا خطب فيه خطبة بليغة دعا فيها إلى الجهاد، وبين الأخطار المحيطة ببلاد المسلمين بسبب بقاء عساكر الإفرنج على عكا، وواجب عسكر المسلمين الدفاع عن بلاد الإسلام (32).

وقد آثر السلطان أن يبقى في جماعة من العسكر قريبًا من العدو، ثم انتقل إلى المعسكر الجديد، وبعد التشاور والمداولة رؤي تأجيل المعركة القادمة حتى يأخذ الجيش قسطًا من الراحة، وتصل الإمدادات، ودخل شهر رمضان، وقد أصاب السلطان مرض لم يمنعه عن الترتيب والتخطيط والاستعداد.

وورد إليه نبأ من ابنه الملك الظاهر أمير حلب يخبره بخروج ملك الألمان في مائتي ألف مقاتل قاصدًا البلاد الإسلامية، فبعث السلطان إلى الأمراء والعساكر، وإلى الخليفة العباسي من أجل حشد القوى وأخذ اليقظة والحذر، والتعاون لرد العدوان، فلبَّى الأمراء النداء، وأرسل الخليفة جماعة من النقاطين والزراقين (33)، صار لهم دور كبير في المعارك القادمة.

أخذ صلاح الدين يتهيأ لقتال عنيف، وأمر بإعداد أسطول بحري في مصر، والسلطان مواجه للعدو، ثم نزل على تل كيسان في 18 ربيع الأول 586 هـ، ورتب قواته ترتيب قتال، وفي هذا اليوم زحف العدو على البلد فقاتلهم السلطان إلى أن فصل بين الجيشين ظلام الليل، ثم انتقل السلطان بقواته إلى تل العجول؛ لأنه قريب من البلد، وتعبؤوا لمجابَهة الأعداء.

وكان الإفرنج قد صنعوا ثلاثة أبراج شاهقة من خشب وحديد، وألبسوها الجلود المسقاة بالخل؛ بحيث لا تنفذ فيها النيران، وركبت على عجل يسع الواحد منها ما يزيد على خمسمائة شخص، ويتسع سطحها؛ لأن ينصب عليه منجنيق، وقد أصاب المسلمين منها هم عظيم، وكاد الإفرنج أن يدكوا سور البلد بهذه الأبراج، وشجع السلطان النقاطين والزراقين على إحراقها، ووعدهم ببذل المكافآت السخية لهم، فلم يستطيعوا ذلك، وتقدم شاب نحاس دمشقي، وأبدى استعداده لإحراقها إذا ما أتيحت له الفرصة لدخول البلد، وأعطي المواد اللازمة، فأجيب إلى طلبه، فطبخ المواد مع النفط في قدور نحاسية حتى صارت كأنها جمرة، وأطلق القدور الثلاثة على الأبراج فاشتعلت فيها النيران حتى صارت رمادًا، فكان في هذه تثبيط للعدو وبشرى للمسلمين، وكان ذلك في 28 ربيع الأول 586هـ.

استمر ورود القوات الإسلامية، وتوقف القتال إذ إن العدو على ما يبدو لم يكن راغبًا في القتال حينئذ، وبعد شهر وعشرة أيام، أي: في اليوم التاسع من شهر جمادى الأولى، قدم الأسطول البحري من مصر، فاعترضه العدو يريد منعه من الوصول إلى المسلمين، واشتد القتال بين جيشي المسلمين والإفرنج برًّا، وبين الأسطولين بحرًا، وفي النهاية انتصر الأسطول الإسلامي ودخل مظفرًا إلى عكا، فانفرجت كربة المسلمين المحاصرين ووصلتهم الإمدادات من الميرة والذخائر، وما فتئ القتال بين المسلمين والإفرنج إلى أن فصل فيهما الليل، وكان النصر للمسلمين، وقد اشترك من في داخل البلد في قتال الإفرنج، فكان العدو يحارب في ثلاثة جبهات في البحر مع الأسطول، وفي البر مع السلطان وعساكره، ومع جبهة عكا، فقتل خلق كثير من الإفرنج في هذا اليوم.

وفي يوم الأحد 15 ربيع الأول طلب الإفرنج الموجودون بالشقيق الصلح على إعطاء صاحبه ومن فيه من الإفرنج الأمان، ويأخذ المسلمون ما فيه من الأموال والذخائر ويتسلمونه، فرحل الإفرنج ومنهم صاحب صيدا إلى صور، ثم ذهبوا إلى الإفرنج المحاصرين لعكا.

وردت أنباء تفيد أن التركمان قاوموا ملك الألمان فعجز عنه لكثرة جيوشه، وأن هذا الملك قد وصل إلى طرطوس (34) بقواته، فسبح في نهر هناك، ثم لم يلبث أن مات، وتولى ابنه مكانه، وأن كثيرين من جيشه قد عادوا إلى بلادهم، وأصابهم تعب كثير وأمراض، وقد نقلت عظام الملك ليدفنها ابنه في القدس، وأتلفوا كثيرًا من معداتهم لعجزهم عن حملها.

دعا السلطان مُستشاريه لمناقشة الموضوع، واتَّفَق الرأيُ على أن يكون عسكر المسلمين فئتين: فئة تقيم على عكا في مواجهة الإفرنج، وفئة تنهض لملاقاة الألمان قبل وصولهم.

وانتشر الوباء في الجيشين، جيش المسلمين وجيش الإفرنج، وربما كان في الإفرنج أكثر، ولكن ذلك لم يمنع العدو مِن أن يقوم بهجوم على المسلمين، فانسحب بعض جند المسلمين في بادئ الأمر لاستدراج العدو الذي انشغل بالنهب، ثم لم يلبثوا أن تراجعوا وأحاطوا بالعدو، وأبدى قائد الميمنة الملك العادل شجاعة في هذه المعركة فائقة، فامتلأت الأرض بين خيام العادل وخيام الإفرنج بجثث القتلى من العدو في مساحة تقدر بفرسخ، وقتل عدد يسير من المسلمين، وكانت هذه الوقعة في 24 جمادى الآخرة سنة 586هـ، ومع أنها جرت في ظرف يقارب أربع ساعات فقد نالت من العدوِّ نيلاً عظيمًا، حتى هجم المسلمون على خيامه، ونهبوا ما بها من النسوان والأقمشة والقدور التي فيها الطعام، وقدر عدد القتلى من العدو بثمانية آلاف نفس أو تزيد، وقدرت خسائر المسلمين من القتلى بعشرة أنفس فقط، وتُسَمَّى هذه الوقعة (العادلية) نسبة إلى الملك العادل لما أظهره فيها من بطولة وإقدام.

ثُم قدم على الإفرنج صليبي كبير يُدعى (هنري دي تروا)، ومعه عشرة آلاف مقاتل، ومعه الكثير من الأموال والأسلحة والميرة، فشجعت هذه القوة العدو على أن يركبوا المنجنيقات على البلد، ويواصلوا ضربها ليلاً ونهارًا، وقام المقاتلون في داخل عكا بخطوة جريئة إذ فتحوا أبواب البلد وانطلقوا نحو العدو في هجوم انتحاري، وقد أذهلت المفاجأة العدو فانهزم، وأعمل فيه أبطال الإسلام السيوف حتى دخلوا خيامه وأتلفوا منجنيقاته، فأوهى ذلك من عزم العدو، وتجرأ عليه الناس بالقتل والنهب، وعمل الإفرنج منجنيقًا هائلاً فقام بعض الفدائيين بإحراقه، وفي مرات قادمة حاول العدو دك سور البلد بالمنجنيقات، فقذفها المسلمون بالنيران فاحترقت.

أما ملك الألمان فقد واصل سيره إلى أنطاكية فأخذها من صاحبها بالحيلة، ونهب ما فيها من الأموال، ثم سار متوَجِّهًا إلى طرابلس على طريق اللاذقية، وكان صاحب صور قد خف لاستقباله وهو من أشد الناس عداوة للمسلمين، والمحرض للإفرنج على قتال المسلمين لما يدعيه كذبًا ويروج له من أن المسلمين يهينون المسيح، وكان المسلمون يغيرون على جيش الألمان ويتخطفونه حتى ضعف جدًّا، وقد كانت أنباء تحركاتهم تصل إلى السلطان تباعًا.

وفي العشر الأوسط من شعبان ورده كتاب من الأمير بهاء الدين قراقوش والي عكا، والحاجب لؤلؤ يذكران فيه أن الميرة التي في البلد لا تكفي سوى لأيام فقط، وكتمها السلطان خوفًا من تسرب النبأ فيتجرأ العدو وتضعف معنوية المسلمين! وفي الليلة المحددة لانتهاء جميع مواد الأغذية من البلد وهي ليلة النصف من شعبان، وقد فني جميع الزاد بحيث لا يجدون للغد ما يطعمون به الجند، وصلت ثلاث سفن كبيرة مشحونة بالأقوات والأدم، وجميع ما يحتاج إليه المحاصرون في البلد طيلة الشتاء، وأراد العدو منعها فقاتله المسلمون ونجت المراكب.



قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Empty
مُساهمةموضوع: رد: قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)   قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Emptyالإثنين 17 مايو 2021, 11:57 pm

حادثة طريفة
وقد حصلتْ حادثة طريفة أثناء هذه الفترة، فقد كان عوامٌ مسلمٌ اسمه عيسى ينقل الرسائل والنقود إلى المسلمين المحاصرين خفية، وذات مرة أشعرهم بتوجهه نحوهم بواسطة الرسائل الطائرة وانتظروه فلم يصل، وبعد أيام قذف به البحر نحو الشاطئ غريقًا، ووجدت معه النقود والرسائل، وكانت النقود في ثلاثة أكياس، في كل كيس ألف دينار، وقد ربطت على وسطه فكان وفيًّا حيًّا وميتًا.

وفي سادس رمضان 586هـ وصل فردريك بن فردريك ملك ألمانيا إلى الإفرنج بعكا، وكان قد سَيَّرَ بعض قواته إليهم وهو في صور، وقد أراد مُنازلة المسلمين من حين وصوله، فنهاه الإفرنج عن ذلك، ثم رضخوا لرأيه وجَرَتْ معركة بين المسلمين والإفرنج هزم فيها الإفرنج، وولّى الأدبار ملك الألمان لا يلوي على شيء، وهو لا يُصَدِّقُ بأنه نجا من الموت.

وكان معه أسلحة هائلة من الدبابات، والأبراج، والزنبورك وغيرها، وقد لقي المسلمون منها المتاعب، بيد أنهم أحرقوا كثيرًا منها خلال المعارك الدامية.

وقد تعدَّدت الآلات الحربية التي استخدمها الفرنجة في هذا الحصار الطويل والقتال الضاري ومنها الزنبورك، وهو سهم في سُمك الإبهام وفي طول الذراع ذو أربعة أوجه وحدّه من الحديد، وطلقته سريعة تخترق رجلين جالسين أحدهما خلف الآخر بزيهما العسكري ودروعهما، وكان هذا السلاح قد حُرِّم استعماله، ثم استخدمه الصليبيون في حصار صور، وعكا، وانتشر بعد ذلك في أوربا، وقتل ريتشارد نفسه بطلقة منه، ومنها دبابة هائلة مصنوعة من الخشب، والرصاص، والحديد، والنحاس، مُقامة على عجل تسير من داخلها تنقر الأسوار وتلقي بالنار تُسَمَّى كبشًا، ولها رقبة ورأس من الحديد يحتمي فيها المقاتلة، وقد تمكَّن المسلمون من تدميرها بإلقاء النار عليها لَمَّا فُتِحَ بابُها فقُتِلَ مَنْ فيها.

وصنع الإفرنج أبراجًا كبيرة من الأخشاب والحديد ذات خمس طبقات، يسع سطحها منجنيقًا، ومن المقاتلة ما يزيد على خمسمائة رجل، وقد علت هذه الأبراج على أسوار المدينة ومنازلها، وكانت مكسوة بجلد البقر، ومبللة بالخل والطين؛ كي لا تتأثر بالنار إذا أطلقت عليها، وكان الإفرنج يقذفون منها النار والأحجار والسهام، فتقدم شاب من دمشق يشتغل في صناعة النحاس يُدعى (علي بن عريف النحاسين)، وأعلن أنه يستطيع إحراقها إذا ما أحضرت له مواد عَيَّنها، وتمكّن من دخول البلد فأجِيبَ طلبُه، وقذف هذه الأبراج؛ فاندلعت فيها ألسنة اللهب حتى احترقت، وأراد السلطان مكافأة الشاب لشجاعته فامتنع الشاب، وقال: إنما فعلتُه لله وأريدُ المكافأة منه.

ومن الآلات الغريبة التي كان يستخدمها الفرنجة في حصار عكا آلة تُسَمَّى (سنورًا)، وهي قبو فيه رجال السحب، ورأسها محدد على شكل آلة الحرث، وتهدم الأسوار والبنيان بحدها، بينما تهدم الدبابة بثقلها وحدها معًا.

ومن آلات الإفرنج سفينة كبيرة، فيها جسر طويل يدار بحركة ويكون على السور لعبور الجند عليه إلى البلد المحاصر (35)، وغير هذا من الآلات والأسلحة.

وفي رمضان 586هـ زحف العدوُّ على البلد فضيقوا عليه، واشتدت ضرباتهم بالمنجنيقات والزنبورك، فخرج عليهم المسلمون من عكا وباعوا نفوسهم لله، وهجموا عليهم بالسيوف يقتلون فيهم بلا هوادة، فانهزم العدوُّ ودُمر كثير من آلاته، وقتل جمع غفير من رجاله، وأبيد منهم من كان في الخنادق، وأحرق مركب حربي للعدو بواسطة قوارير النفط التي ألقاها المسلمون عليه، وكان ذلك مِن أحسن أيام الإسلام، وبينما كان المسلمون يقاتلون الإفرنج عند عكا بقيادة السلطان كان يجري في الوقت نفسه مناوشات ومعارك في أماكن أخرى بين جند المسلمين وجند الكافرين.

وفي يوم الخميس 16 من رمضان 586هـ بلغ السلطان كتاب طائر من حلب، ذكر فيه أن البرنس صاحب أنطاكية خرج بعسكر على القرى الإسلامية التي تليه؛ لشن الغارات عليها، ووقعت في الكمائن التي أعدتها لهم عساكر المسلمين بحلب، فهرب برنس إلى بلده، وقد خلف قتلى وأسرى كثيرين.

في أثناء العشر الأوسط من الشهر غنم المسلمون سفينتين كبيرتين للعدو، وكأنها جاءتا عوضًا عن زورق أخذه العدو قبل مدة وجيزة.

وفي 19رمضان مرض زين الدين يوسف بن زين الدين صاحب أربد مرضًا شديدًا، استأذن في الذهاب إلى الناصرة، ولم يمض عليه إلا أيام حتى توفي هناك.

وفي يوم عيد الفطر المبارك 586هـ دخل معز الدين صاحب الجريدة على السلطان فودعه، ورجع بجنده دون موافقة السلطان، وكان قد استأذن مرارًا، فلم يأذن له؛ لئلا يتشتت شمل الجند المواجه للعدو، ولا سيما وهم يترقبون هجوم العدو بين لحظة وأخرى، وفي طريق معز الدين لقيه الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه، وعلم بمغاضبة معز الدين للسلطان فأرجعه كارهًا، وقال لـه: المصلحة لك أن ترجع إلى الخدمة، وتلازم إلى أن يأذن لك وأنت صبي ولم تعرف غائلة هذا الأمر، فقال: ما يمكنني الرجوع، فقال: ترجع عن غير اختيارك، ورضخ لذلك، وطلب من السلطان الصفح عنه.

وكرر عماد الدين بن زنكي صاحب سنجار عم معز الدين الطلب في السماح له بالانصراف، فلم يسمح السلطان له، وبقي مع العساكر.

وإذا كان طول الحصار والقتال قد أضنى المسلمين، فقد عانى الصليبيون منه أكثر، وغليت لديهم الأسعار، ودب فيهم المرض؛ مما حملهم على التداعي للقيام بحملة على المسلمين يؤملون منها أن يضعوا حدًّا لهذا الوضع المُرْهِق، وشعر السلطان بما يبيته العدو فعبأ قواته، وعدل في التخطيط للمعركة بحيث أمر طلائع العسكر أن تذهبَ إلى تل كيسان بدلاً من العياضية، وأن يسير الثقل إلى الناصرة والقيمون.

وفي يوم الأربعاء 13 شوال 586هـ رتَّب السلطان قواته، وسار حتى أتى أقرب جبال الخروبة إلى العدو، بحيث يشاهد أحوالهم، ثم أمر الجند بالمقاتلة، والحملة على الأعداء من كل جانب، وسار العدو إلى شاطئ النهر من الجانب الغربي يرفع علمًا نقش في وسطه الصليب، وبعد قتال شديد تراجَع العدو، وقد تبعهم المسلمون حتى عبر جسر داعوق فخربه؛ لئلا يقوى المسلمون على اللحاق به، وتطويقه من كل جانب، وكان السلطان مريضًا في هذا اليوم فلم يباشر القتال بنفسه، وحزن لذلك حزنًا عظيمًا يقول ابن شداد (36): "ولقد رأيته وهو يبكي في حال الحرب، كيف لم يقدر على مخالطته، ورأيته وهو يأمر أولاده واحدًا بعد واحد بمكافحة الأمر، ومخالطة الحرب، فلقد سمعته وقائل يقول: إن الوخم قد عظم في مرج عكا بحيث إن الموت قد كُثر بين الطائفتين، ينشد متمثلاً:
اقْتُلانِي وَمَالِكًا = وَاقْتُلا مَالِكًا مَعِي

يريد بذلك أنِّي قد رضيت أن أتلف أنا إذا تلف أعداء الله، وحدث بذلك قوة عظيمة في نفوس العسكر الإسلامي".

وفي 23 شوال وقع مائتا فارس من فرسان العدو في الكمين، فقتل أكثرهم وأسر الباقون، وكان من جملة الأسرى مقدم عسكر الإفرنسيس، وحمل الأسرى إلى دمشق، وأُذن لهم في مكاتبة رئيسهم وإحضار حوائجهم ولقوا معاملة لطيفة، ومنح جوائز للفدائيين المسلمين.

وأقبل الشتاء فأُعطي الجند إجازة يستريحون فيها بعض الوقت ما دام البحر هائجًا، وقد أمن جانب العدو أن يقوم بهجوم.

وجرى إبدال المقاتلة في عكا بمقاتلين جدد، وزودهم بما يحتاجون، وأمر كل جندي يدخل إلى عكا أن يصطحب نفقة سنة.

وصادف أن مراكب تحمل الميرة جاءت من مصر فتكسرت على الصخر بسبب هيجان البحر؛ فحزن المسلمون لهذا الحادث.

وحاول العدوُّ أن يباغت السلطان وعساكره بهجوم فلم يفلح، ثم حاول اقتحام البلد حين سقطت قطعة كبيرة من سور البلد، فتمكن المسلمون من بناء الثغرة، وأبدوا ضروبًا من البطولة الرائعة.

وفي 22 ذي الحجة 586هـ (1191م) هلك فردريك السوابي بن فردريك ملك الألمان بسبب المرض، وقد تفشت الأمراض والطاعون بين الإفرنج بشكل فظيع.

وفي يوم السبت 24 ربيع الأول 587هـ وصل إلى الفرنج فيليب وأوجست ملك الفرنسيس، وكانوا يتطلعون إلى وصوله بشوق ويهددون المسلمين به، وهو صاحب الكلمة الأولى عندهم وينقادون له جميعًا إذا حضر.

وجرَتْ مُناوشات عند عكا وغيرها وغارات متعددة وكمائن، وقد جيء إلى السلطان بأسرى وقعوا في كمين للمسلمين بقيادة الملك العادل، ورغب أولاد السلطان الصغار إليه الإذن في قتل أسير، فلم يفعل، وعلل ذلك حين سئل عنه قائلاً: لئلا يعتادوا من الصغر على سفك الدماء، فيهون عليهم ذلك، وهم الآن لا يُفَرِّقون بين المسلم والكافِر!

وتوالت الأخبار عن قدوم ملك الإنجليز ريتشارد قلب الأسد إلى جزيرة قبرص في طريقه إلى عكا، ولكنه داخله الطمع في قبرص وقرر الاستيلاء عليها، فقاتله صاحبها مما اضطره إلى طلب النجدة من الملك جفري الذي كان على عكا مع الإفرنج.

وفي نهاية ربيع الآخر 587هـ وصلت كتب من بيروت أن المسلمين أخذوا من مراكب الإنجليز القاصدة إلى عكا خمسة مراكب وطرادة فيها خلق كثير، وميرة، وأخشاب، وآلات، وغيرها.

وفي 4 جمادى الأولى 587هـ زحف العدو على البلد ونصبوا عليها سبعة مجانيق، وطلب من في البلد من المسلمين خارجها إشغال العدو عنهم، فأمر القوات أن تدنو منهم، واقتتل الفريقان، وتوقف بحلول الظلام، وتكرر ذلك عدة أيام، وكان المسلمون المحاصرون بعكا قد اشتد عليهم الخطب وقاسوا المشقات في هذا الحصار الطويل، واستمات الأعداء في الوصول إلى البلد.

وفي يوم السبت 13 جمادى الأولى 587هـ وصل ملك الإنجليز ريتشارد قلب الأسد بعد أخذه قبرص واعتقال صاحبها الكسيوس كومينيوس الذي كان يطلق على نفسه لقب إمبراطور قبرص، وريتشارد هذا شجاع قوي الهمة، وقدم بصحبته العساكر والسلاح والعتاد.

وفي 16 جمادى الأولى 587هـ قدمت من بيروت بطسة (سفينة كبيرة) عليها ستمائة رجل، ومشحونة بالآلات والأسلحة، فأحاطت بها قوات الأعداء البحرية من كل جانب، وجرى بين ركابها وبين الأعداء قتال استبسل فيه المسلمون، ولما رأى قائد البطسة واسمه (يعقوب) وهو من أهل حلب أنها ستقع في يد العدو، وأنه لا بد قاتلهم، قال: والله لا نقتل إلا عن عزم، ولا نسلم إليهم من هذه البطسة شيئًا، ثم أعمل هو ومن معه المعاول فيها؛ حتى غرقت، وغرقوا ما عدا القليل منهم الذي استنقذه الإفرنج من البحر.



قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Empty
مُساهمةموضوع: رد: قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)   قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Emptyالإثنين 17 مايو 2021, 11:58 pm

وكان العدو قد صنع دبابة عظيمة من أربع طبقات:
الطبقة الأولى من الخشب، والثانية من الرصاص، والثالثة من الحديد، والرابعة من النحاس، وكانت مكسوة بجلد البقر، ومطلية بالخل والطين؛ كي لا تتأثر بالنار، وكانت قد اقتربت من السور حتى لم يبقَ بينه وبينها إلا خمسة أذرع، وخاف أهل البلد منها خوفًا شديدًا، ثم قذفوها بالنفط ليلاً ونهارًا؛ فاشتعلت فيها النيران، وكان ذلك في نفس اليوم الذي غرقت فيه البطسة (37) فكانت جبرًا لما أصابهم بسبب غرقها.

وفي يوم الجمعة 19 من الشهر زحف العدو على البلد وضايقه، فهجم المسلمون على العدو في خيامه، فترك العدو مقاتلة البلد، وصار يقاتل العساكر الإسلامية من الخارج، ولما كانت الظهيرة وأرهق كل من الطائفتين رجع كل إلى مكانه.

وجرى قتال متقطع خلال أسبوع، وطلب ملك الإنجليز الاجتماع بالسلطان فلم يوافق؛ لأنه لا يليق بالملوك إذا اجتمعوا أن يتحاربوا، ويشترط إجراء محادثات تمهيدية يعقبها اجتماع بينهما؛ لتقرير التفاهم والمصالحة، وكان ملك الإنجليز قد مرض مرضًا شديدًا حتى شارف على الهلاك، ثم كرر طلب التفاوض.

وفي يوم الاثنين سلخ جمادى الأولى هرب المركيز صاحب صور إلى بلده، خوفًا أن يرجع الإفرنج إليها صاحبها القديم.

وفي 7 جمادى الآخرة قام العدو بزحف هائل على أسوار عكا، وكلما تعب فريق منهم حل محله فريق آخر قد أخلد إلى الراحة، وصمد المسلمون في عكا صمودًا عجيبًا على قلة عددهم وعتادهم إذ إنهم يخوضون معركة غير متكافئة، وكان السلطان يحث الناس على الجهاد، والكآبة بادية على وجهه، والإرهاق قد بلغ منه مبلغه.

وفي اليوم 8 جمادى الآخرة أنذر المقاتلون في عكا السلطان بأنهم لم يعودوا قادرين على القتال، وأنهم في هذا اليوم سيسلمون البلد إلى الإفرنج، إن لم يعمل لهم شيئًا يقيهم هجمات العدو المتتالية.

أي حدث هذا؟! وأي مصيبة حلت بالمسلمين؟! وبذل السلطان ومعه عساكر الإسلام جهودًا مضنية، ولكن العدو قد احتمى بالأسوار، وتعذرت زحزحته، وأدرك من في البلد خطورة الوضع وعدم جدوى المقاومة، فخرج سيف الدين المشطوب وفاوض ملك الفرنسيس وطلب الأمان له وللمسلمين المحاصرين، فرفض ملك الفرنسيس وجرى بينهما كلام حاد، وخرج بعض من كان في البلد حين رأوا فشل هذه المفاوضة، وأراد السلطان اقتحام خنادق الأعداء، وشن هجوم صاعق عليهم، فرفض العساكر هذه الفكرة، وقالوا: هذه مخاطرة بالإسلام ولا مصلحة في ذلك، ثم إن المسلمين في عكا صمموا على الاستبسال، وكتبوا للسلطان أنهم لن يسلموا البلد وهم أحياء، وأنهم يطلبون من العساكر إشغال العدو عنهم ومقاتلته، واستطاعوا أن يقيموا سورًا داخليًّا بدلاً من السور الذي تغلب عليه العدو، ثم جرت محاولات للصلح لم تسفر عن شيء.

وفي يوم الجمعة 17 جمادى الآخرة علم السلطان أن جميع من في البلد لم يعودوا يقدرون على الدفاع، وأنهم في وضع غاية في الحرج، وقد اضطروا لمصالحة الإفرنج مرغمين، على أن يكون للإفرنج البلد بجميع ما فيه من العتاد والأسلحة والمراكب وغير ذلك، ومائتا ألف دينار، ويطلق المسلمون سراح خمسمائة فارس أسير مجاهيل الأحوال، ومائة فارس يعينهم الإفرنج، وصليب الصلبوت، وفي مقابل ذلك يخرج المسلمون سالمين آمنين على أنفسهم وذراريهم ونسائهم وأموالهم، وضمنوا للمركيز عشرة آلاف دينار؛ لأنه كان الواسطة في الصلح، ولأصحابه أربعة آلاف دينار، وبلغ ذلك السلطان فأنكره إنكارًا شديدًا، واستدعى أرباب مشورته فاضطربت الآراء، (وقد سبق السيف العذل)؛ إذ رفعت أعلام الكفر على سور البلد، وظهرت صلبانه وشعاره وناره، وذلك في 12 تموز سنة 1180م الموافق يوم الجمعة 17/6/587هـ، وكانت مأساة من أعظم المآسي وفاجعة مروعة، فعظمت المصيبة، واشتد الحزن، وغشيت الناس بهتة عظيمة وحيرة شديدة، لا سيما وأن عكا كانت تحوي جميع سلاح الساحل والقدس ودمشق وحلب، وزاد من عظيم المصيبة أن الفرنجة نقضوا شروط الصلح؛ فأسروا من فيها وكانوا ألوفًا، وكانت هذه المعركة أول معركة يخسرها صلاح الدين الأيوبي منذ أربعة عشر عامًا (38) .

ثم انتقل السلطان بعساكره إلى موضع يكون أكثر ملاءمة، وجرت معركة انتصر فيها المسلمون وقتلوا من العدو زهاء خمسين نفسًا.

ثم دارتْ مُفاوضات لتنفيذ ما تَمَّ الصلح عليه، ورفض الإفرنج تسليم الأسرى المسلمين؛ لأنهم قد بيتوا الغدر، وأبوا أن يعطوا ضمانات بعدم تعريض الأسارى المسلمين للخطر، وطلبوا أن يسلم إليهم الصليب، والنقود، والأسرى الإفرنج، دون وفاء لما التزموا به هم، ثم نكثوا العهد، وغدروا بالمسلمين.

ففي يوم الثلاثاء 27 رجب 587هـ ركب ملك الإنجليز بعساكر الإفرنج بعد صلاة العصر حتى أتوا الآبار التي تحت العياضية، ثم قدموا ثلاثة آلاف أسير مسلم مقيدين في الحبال، وحملوا عليهم حملة الرجل الواحد فقتلوهم ضربًا وطعنًا بالسيوف.

وفي مستهل شعبان 587هـ سار العدو إلى عسقلان عن طريق الساحل بقوات تتراوح بين مائة ألف وثلاثمائة ألف مقاتل، وسارت عساكر السلطان بمحاذاته برًّا، ثم أسرع السلطان ليسبق العدو، ويختبر مدى صلاحية الأرض للمعارك، ويتفقد شؤون البلدان.

ووقعت مناوشات ومعارك ترجح فيها كفة المسلمين حينًا، ويقوى جانب العدو حينًا آخر، وهي أشبه بحرب العصابات منها بحرب منظمة، ثم جرت محادثات للصلح بين ملك الإنجليز والملك العادل نيابة عن أخيه السلطان لم تسفر عن نتيجة.

وفي 8 شعبان سنة 587هـ أمر السلطان بمقاتلة العدو، وحصلت معركة شديدة، ولكن استعداد العدو وتنظيم قواته وما لديه من الأسلحة والمعدات الحربية جعل تأثير هذه المعركة عليه ضعيفًا.

ثم أعاد الإفرنج طلب الصُّلح، فكتب العادل إلى السلطان بما رغبوه، وكانوا قالوا: إنا قد طال بيننا القتال، وقد قتل من الجانبين الرجال الأبطال، وإنا نحن جئنا في نصرة إفرنج الساحل، فاصطلحوا أنتم وهم، وكل منا يرجع إلى مكانه، وكتب السلطان له يقول: "إن قدرت أن تطاول الإفرنج فلعلهم يقيمون اليوم حتى يلحقنا التركمان، فإنهم قد قربوا منا"، ثم اجتمع الملك العادل بملك الإنجليز بناء على طلب الأخير وترجم بينهما (ابن الهنغري) وهو من إفرنج الساحل وكبارهم، وطلب الصلح، فقال الملك العادل: أنتم تطلبون الصلح ولا تذكرون مطلوبكم فيه حتى أتوسط أنا الحال مع السلطان، فقال الملك الإنجليزي: القاعدة أن تعود البلاد كلها إلينا، وتنصرفوا إلى بلادكم، فأخشن له الجواب، وجرت منافرة، اقتضت أنهم رحلوا بعد انفصالهم، ثم استدعى السلطان أخاه العادل؛ ليعرفَ نتيجة المباحثات، ولما توجه العدو نحو (أرسوف) سبقهم السلطان إليها، ورتب الدفاع عنها، ووقعت معركة عنيفة، صارت الهزيمة فيها على المسلمين حتى لم يبق مع السلطان إلا سبعة عشر مقاتلاً، ودعا الناس للرجوع والتجمع بعد تعديل في الخطة، حتى اجتمع كثيرون ممن انهزموا، وقد قتل اثنان وثلاثون أميرًا، وسبعة آلاف جندي، مع أن العدو خاف مغبة متابعتهم بأن يكون المسلمون قد أعدوا كمينًا، وأن هزيمتهم للإيقاع به، وكان السلطان في هذه المعركة يحث الناس على الجهاد "فيطوف من الميمنة إلى الميسرة، ويحث الناس على الجهاد، وتكرر ذلك منه وليس معه إلا صبيان بجنبه لا غير، وكان أخوه الملك العادل على مثل هذه الحال، وأضافت هذه المعركة إلى معركة عكا جرحًا عميقًا في نفوس المسلمين، وكان في قلب صلاح الدين من هذه الموقعة ما لا يعلمه إلا الله، والناس بين جريح الجسد وجريح القلب" (39).

وفي 17 شعبان 587هـ نزل السلطان على الرملة، وأحضر أرباب مشورته فاستشارهم في تخريب عسقلان حتى لا يتحصن بها العدو، فينطلق منها إلى القدس، ويقطع الطريق بين مصر والشام، وحتى لا تتكرر مأساة المسلمين بعكا، وتقرر تدميرها، فرحل السلطان بالعساكر، وبقي العادل لمسايرة العدو في طائفة من العسكر، ولقد كان محزنًا أن تحرق هذه المدينة العظيمة، ولكن المصلحة تقضي بذلك، ودرء خطر العدو عن سائر بلاد المسلمين يستدعي هذا الصنيع، يقول صلاح الدين وكأنه يعبر عما يعتمل في نفوس الجميع: "والله لأن أفقد أولادي بأسرهم أحب إلي من أن أهدم منها حجرًا، ولكن إذا قضى الله ذلك لحفظ مصلحة المسلمين كان" (40)، ثم استخار الله تعالى فأوقع الله في نفسه أن المصلحة في خرابها لعجز المسلمين عن حفظها، وكان صلاح الدين قد استردها من الإفرنج بعد أن احتلوها خمسة وثلاثين عامًا.

وفي يوم الخميس 18 شعبان كانت المعاول تنسف المدينة الجميلة، وأهلها يرحلون منها، ويبيعون أثاثهم بأرخص الأثمان، وهدمها يجري على قدم وساق خوفًا من وصول الإفرنج قبل إنجاز المهمة فيتحصنون بها، ودمر سورها الهائل، وبرجها السامق، ثم أمر السلطان بتدمير اللد، والرملة؛ لنفس الغرض، كما أمر بتخريب النطرون بعد ذلك.

وكان السلطان يذهب بين وقت وآخر لتفقد البلدان، وترتيب شؤونها والاهتمام بالدفاع عنها، والعدو يحاول إجراء مباحثات للصلح، فقد سئم الجميع الحرب وأرهقوا بأعبائها، غير أن العدو يريد مكاسب على حساب المسلمين مهددًا أمنهم، وسلامتهم، وعقائدهم، والمناوشات بين عساكر المسلمين وعساكر العدو تقع بين آونة وأخرى، وكاد أحد الفدائيين المسلمين أن يقتل ملك الإنجليز، وقد ألح الإفرنج على أن تعود إليهم مملكة القدس، وأبى صلاح الدين ذلك.

من طريف الأمر أن ملك الإنجليز اقترح أن يتوج العادل ملكًا عليها، ويتزوج أخت ملك الإنجليز؛ لتكون هي الأخرى ملكة، ويكون حلاًّ وسطًا، غير أن ذلك لم يقع؛ لأنه لم ينجح.



قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Empty
مُساهمةموضوع: رد: قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)   قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Emptyالثلاثاء 18 مايو 2021, 12:01 am

"ورأى السلطان أن يقوم -خفية- بجولة تفقدية للقدس، ففي أول ليلة خامس رمضان سار في نفر يسير، وبات في بيت نوبة، وبعد صلاة الفجر سار إلى القدس، وأقام ذلك اليوم يتصفح أحوال القدس في عمارته وميرته وعدته ورجاله وغير ذلك، وما زال يتصفَّح أحوال المكان، ويأمر بسد خلله إلى الثامن، ولما كان التاسع وصل إلى المعسكر، فلقيه الناس مُستَبْشِرين بقدومه" (41).

وفي غضون ذلك حدثت تطورات جديدة، فقد بدأ الشقاق بين الإفرنج، وخشي صاحب صور من الإفرنج أن ينـزعوه من ملكه، وبلغت ملك الإنجليز أخبار عن محاولات لاستيلاء أخيه على عرش بلاده.

وبعث (المركيس) كونراد دي مونتفيرات صاحب صور رسولاً إلى السلطان يفاوضه في الصلح، وأن يعطيه المسلمون صيدا وبيروت، ويحارب إلى جانبهم جيوش الصليبيين، ويلقي القبض على ريتشارد ويسلمه إلى صلاح الدين، واشترط السلطان لإبرام الصلح أن يبدأ المركيز بمجاهرة الإفرنج بعدائه، وأن يحاصر عكا، ويطلق سراح الأسرى المسلمين الموجودين فيها، وبذلك يطمئن إلى صدقه فيما يدعي، ورغبته في الصلح حقيقة.

لَم تمْضِ مدة طويلة حتى قتل كونراد غيلة بيد أحد الحشاشين الإسماعيلية في فراشه في مدينة صور في 17 ربيع الثاني 588هـ، وقيل: إنَّ الذي دبَّر قتله هو ريتشارد قلب الأسد، وعين ملك الإنجليز بدلاً منه ليكون ملكًا لا على صور وحدها وإنما لجميع عرش المملكة الصليبية في الساحل هنري دي شامبانيا (الكندهري) وهو قريب لملك الإنجليز، وقد عقد قرانه على الأميرة (إيزابيلا)، وريثة العرش بعد مصرع زوجها بيومين.

وكان ريتشارد قد عاد إلى عكا بعد أن علم أن المركيس قد فاوض المسلمين في الصلح المنفرد وأن العلاقات حسنة بينه وبينهم.

ومن أحداث هذه الفترة:
وفي 5 شوال 587 هـ وصل الخبر باستيلاء الأسطول الإسلامي على مراكب للإفرنج، وفيها مركب يسمى (السطح) يحمل ما يزيد على خمسمائة مقاتل، وقد قتل في هذه المعركة البحرية كثير من الإفرنج.

وفي 6 شوال استشار السلطان كبار الأمراء وأرباب الرأي ماذا يصنع إذا خرج العدوُّ إليهم؟ واتفقوا أن يظلوا حيث هم، وأن ينتقل الثقل إلى مكان آخر، وأن العدو إذا قدم إليهم قاتَلوه.

وكان ملِكُ الإنجليز بعث وفدًا إلى السلطان برئاسة (ابن الهنغري) وهو من أكابرهم، وكانت رسالة إلى السلطان مؤثرة، وقد وصف ابن شداد ما جرى في هذا الاجتماع وصفًا دقيقًا قال: "وكانت رسالته أن الملك يقول: إني أحب صداقتك ومودتك، وإنك ذكرت أنك أعطيت هذه البلاد الساحلية لأخيك، وأريد أن تكون حكمًا بيني وبينه، ولا بد أن يكون لنا علقة بالقدس الشريف، ومقصودي أن تقسم بحيث لا يكون عليه لوم من المسلمين، ولا عليَّ لوم من الإفرنجية، فأجابه في الحال بوعد جميل، ثم أذن له في العودة في الحال، وتأثر بذلك تأثرًا عظيمًا، وأنفذ وراءهم من سألهم عن حديث الأسارى، وكان منفصلاً عن حديث الصلح، فقال: إن كان صلح فعلى الجميع، وإن لم يكن صلح فلا يكون من حديث الأسارى شيء، وكان غرضه -رحمه الله- أن يفسخ قاعدة الصلح، فإنه التفت إلي في آخر المجلس بعد انفصالهم، وقال: متى ما صالحناهم لا تؤمن غائلتهم، فإنني لو حدث بي حادث الموت ما تكاد تجتمع هذه العساكر، وتقوّى الإفرنج، فالمصلحة أن لا نزال على الجهاد حتى نخرجهم من الساحل أو يأتينا الموت، هذا كان رأيه قدس الله روحه، وإنما غلب على الصلح (42).

وفي 11 شوال عقد السلطان مؤتمرًا استشاريًّا جمع الأمراء والأكابر وأرباب الرأي، وعرض عليهم مطالب ملك الإنجليز وشروطه للصلح، وهي إما أن تكونَ للمسلمين من القرى الساحلية مواضع معينة، وأن تكون للمسلمين كذلك الجبليات بأسرها، وإما أن تكون القرى كلها مناصفة بين المسلمين والإفرنج، وفي الحالين يكون للإفرنج قساوسة في بيع القدس الشريف وكنائسه، وتداولوا الرأي في ذلك، وأعقبت ذلك المجلس استشارات أخرى، ثم سار السلطان بعساكره إلى تل الجزر (43)، ثم رحل إلى القدس، ورحل الإفرنج إلى البلدان التي يسيطرون عليها في الشمال، وجاء الشتاء فتوقف القتال والمناوشات، وأعطى السلطان إجازة للجند للاستجمام.

وطلب ملك الإنجليز الاجتماع بالعادل وذهب العادل للقاء الملك -بعد موافقة السلطان- وحتى يتفقَّد العساكر الإسلامية التي في الغور وكوكب، وقد اتفق مع السلطان على الأسس التي ينبغي أن تكون المفاوضات جارية عليها، وهي مناصفة البلاد بين الإفرنج والمسلمين، وأن يُعطي للإفرنج صليب الصلبوت، ويكون لهم في كنيسة القيامة قس، وتفتح لهم أبواب زيارتها بشرط أن لا يحملوا السلاح.

في 4 ربيع الأول سنة 588هـ سار الملك العادل من القدس الشريف لهذا الغرض، ثم جاء منه كتاب يفيد أن الملك يوافق على قسمة البلاد، وأن كل من في يده شيء فهو له، فإن كان ما في يده زائدًا أخذ المسلمون في مقابلته ما يقابل الزيادة مما في يده، وإن كان ما في أيدي المسلمين أكثر أعطوه مقابل ذلك مما في أيديهم، ويكون للإفرنج القدس، وللمسلمين فيه الصخرة، وبعد استشارة أجراها السلطان رؤي تفويض الملك العادل في توقيع الصلح على هذا الأساس.

وفي 11 شوال جاء الخبر بموت الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، فحزن عليه الناس، وفي مقدمتهم السلطان، وأمرهم أن يكتموا خبره؛ لئلا يتسرب إلى العدو فيقوي من عزيمته.

وفي 13 شوال وصل صاحب صيدا يحمل رسالة من المركيس صاحب صور فأكرمه السلطان، وأبدى رغبته ورغبة صاحب صور الذي انضم إليه عدد من أكابر الإفرنج في إتمام الصلح، وحصل التفاهُم بأن تكون صيدا لصاحب صور، وأن يكونَ مع المسلمين في قتال الإفرنج.

وفي 16 شوال أعد المسلمون كمينًا بإشارة السلطان، وقتل من الإفرنج نحو ستين شخصًا، وجُرح من المسلمين جماعة.

وفي 18 شوال اجتمع الملك العادل بملك الإنجليز، وتَبَادلا الأحاديث المطولة، وتناولا الطعام والحلوى، وقدما لبعضهما الهدايا، ثم طلب ملك الإنجليز الاجتماع بالسلطان، وبلغ العادل طلبه إلى السلطان، فرفض قائلاً: الملوك إذا اجتمعوا يقبح منهم المخاصمة بعد ذلك، واقترح أن يُستبدل بمباحثات تمهيدية، فإذا اتفق على الأسس أمكن الاجتماع؛ ليكون عقبه الوفاق والمصافاة.

وفي 19 شوال اجتمع السلطان بصاحب صيدا والوفد المرافق له، وعرضوا مطالبهم بشأن الصلح.

وفي 11 ربيع الأول وصل رسول من العادل يخبر عن رحيل ملك الإنجليز من يافا إلى عكا، وأن مفاوضات دارت بين العادل والملك، وافق فيها ملك الإنجليز على أن تكون الصخرة والقلعة للمسلمين، والباقي مناصفة، وألا يكون في البلد منهم مذكور، وأن تكون قرى القدس وباطنه مناصفة.

وكان قد وصل رسول من المركيس يلتمس الصلح فاشترط السلطان شروطًا حملها الرسول إلى المركيس وهي:
1 - أن يقاتل الإفرنج ويباينهم.
2 -أن ما يأخذه من البلاد الإفرنجية بعد الصلح بانفراده يكون له، وما يأخذه المسلمون يكون لهم، وما يشترك فيه هو والمسلمون يكون للبلد، ويكون للمسلمين ما فيها من الأموال، ويطلق سراح من به من أسرى المسلمين.
3 - وأن يطلق المركيس كل أسير مسلم في مملكته.
4 - في حال تفْويض ملِك الإنجليز له بتولِّي شؤون البلدان التي يسيطر عليها يكون ملتزمًا بالصلح الذي يوقعه السلطان مع ملك الإنجليز بشأن هذه البُلدان.
5 - يستثنى مِن ذلك عسقلان وما بعدها جنوبًا فلا تدخل في الصلح.
6 - تكون البلدان الساحلية للمركيس، وما في أيدي المسلمين لهم، وما في الوسط مناصفة، وتم الاتِّفاق أخيرًا بين السلطان والمركيس غير أن الأخير لم يلبث أن قُتل في 6 ربيع الأول.

وفي مُستهل جمادى الأولى، وصل رسول من ملك القسطنطينية ومعه رسالة من الملك يعرض عقد معاهدة صلح مع السلطان، ويقدم مطالب منها أن يسلم إليه:
1 - صليب الصلبوت.
2 - وأن تكون كنيسة القيامة بيد قسس من جانبه، وكذا سائر كنائس القدس.
3 - عقد معاهدة صداقة وتحالف بأن يكون عدو من عاداه وصديق من صادقه.
4 - أن يوافق على قصد جزيرة قبرص.

ولكن مقترحاته قوبلت بالرفض.

وفي 9 جمادى الأولى 588هـ انتهز الإفرنج ذهاب العساكر الإسلامية في إجازتهم الشتوية، فنزلوا على الدارون، وزحفوا على الحصن حتى أخذوه وقتلوا من فيه من المسلمين أو أسروهم، ثم حاولوا أخذ حصن يابا وجرى قتال عنده ولم يظفروا به.

في 23 جمادى الأولى وردتْ أنباء عن خروج العدو في راجله وفارسه وسواد عظيم إلى تل الصافية (44)، فأمر السلطان قواته أن تكونَ مُستعدة للطوارئ، وعقد اجتماعًا للتشاوُر، ثم رحل العدو إلى جانب النطرون، وتأكد أنه يستعد لقصد القدس، وكانت العساكر الإسلامية قد بدأت بالوصول بناء على أوامر السلطان العاجلة.

في 27 جمادى الأولى رحل العدو من النطرون، ونزلوا بيت نوبة، وبعد التشاور تقرَّر أن يوكل الدِّفاع عن القدس إلى الأمراء كل واحد يدافع عن جانب، وأن يخرج السلطان في بعض العساكر لمهاجمة العدو أثناء سيره، وعمل كمين سقط فيه ثلاثون خيالاً من العدو قتلى وأسر عدد آخر، وجيء بالأسرى إلى القدس، وارتفعت معنويات المقاتلين، ووهنت من عزم العدو.

وفي يوم الخميس مستهل جمادى الآخرة أمر السلطان ابنه الملك الأفضل باستلام البلدان التي يتولاها الملك المنصور بن الملك المظفر؛ لإظهاره العصيان، إلا أن المنصور طلب العفو من السلطان وشفع فيه الأمراء والملك العادل، وخشي السلطان من انتهاز العدو الفرصة واستغلال النـزاع، فهدأت الأمور وانتهت بسلام، والملك المنصور هذا هو ابن المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب.

وفي صبيحة يوم الثلاثاء 11 جمادى الآخرة جرَتْ حادثة أخذ القوافل المصرية التي جاءت مَدَدًا للمسلمين، وسبب ذلك إهمال قائد القوافل، وهو (فلك الدين) أخو الملك العادل لأمه، وقد هاجمهم ملك الإنجليز بعساكره على ماء الخويلفة وهم نائمون (45)، وتشرد الناس في القفار، فمنهم من قصد الكرك، وقسم أوغلوا في البرية، وقسم استولى عليهم العدو فساقهم بجمالهم وأحمالهم وجميع ما كان معهم، وأخذ العدو منهم أقمشتهم وخيلاً وبغالاً وجمالاً وسائر أنواع الأموال، ثم ساقهم حتى وصل الحسي، وكان عدد الجمال التي استولى عليها العدو في هذه الحادثة تقارب ثلاثة آلاف، والأسارى تُناهز خمسمائة، وعدد الخيل قريب مِن خمسمائة، وقد تألَّم السلطان والمسلمون جميعًا لهذا الحادث، وصادف أن شاع في العدو أن عسكر المسلمين قد دنا منهم، فهربوا إلا أنه استبان لهم أن الأمر ليس له حقيقة، فرجعوا، وفي أثناء هزيمتهم كان بعضُ الأسرى من المسلمين قد فرَّ إلى معسكر السلطان، ثم عاد العدوُّ إلى خيامه ومعسكره في بيت نوبة، وأرسل في طلب الإمدادات من عكا وصور وطرابلس يستحضر مَن فيها من المقاتلة، وقد تأهب المسلمون لِمُلاقاتهم، وقسموا السور بين الأمراء لحفظه، وأفسدت المياه خارج المدينة، وتخريب الصهاريج والجباب، بحيث لم يبق حول القدس ماء يشرب أصلاً، وأرض القدس جبلية يصعب حفر الآبار بها، ثم أرسل السلطان في طلب مزيد من العساكر من سائر النواحي.

وفي ليلة الخميس 19 جمادى الآخرة استدعى السلطان الأمراء فحضروا عنده، فتكلَّم القاضي بن شداد وحثهم على الجهاد، وذكر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا اشْتَدَّ به الأمر بايعه الصحابة، وأن على المسلمين التأسي بذلك، والمصلحة التحالف على الموت، وكان السلطان قد طلب من القاضي حثهم على الجهاد، ثم خطب السلطان خطبة في الجهاد، وواجبهم في الدفاع عن بلدان المسلمين، وما يعلقه المسلمون عليهم من آمال في سائر الأقطار (46)، ثم تكلم سيف الدين المشطوب نيابة عن الحاضرين بكلمة قال فيها: "والله لا يرجع أحد منا عن نصرتك إلى أن نموت"، فقال الجماعة مثل ما قال فارتاح السلطان وسر لهذا الصمود والإقدام.

وتلاحَقَتِ الأحداث، فقد ورد إلى السلطان كتاب أرسله جماعة من المماليك الذين يدافعون عن القدس يطلبون أن يكون دفاعهم عن القدس خارج الأسوار؛ لئلا يقعوا فيما وقع فيه أهل عكا، وأصاب السلطانَ هَمٌّ عظيمٌ من هذه الفكرة، وجاء الفرج سريعًا، إذ تواردت الأنباء بانشقاق وقع بين الإفرنج حول رأيهم في حصار القُدس، فبينما يؤيد هذا الرأي الفرنسيون يأباه الإنجليز، وعلى إثر هذا النِّزاع عاد الإفرنج إلى الرملة ومنها إلى يافا.

وفي 9 جمادى الآخرة وصل رسول مِن هنري دي شامبانيا (الكندهري)، ونقل طلبًا إلى السلطان بأن يكون الصلح على نحو ما جرى بين المسلمين والمركيز كونراد حول عكا وصور، وأنه يرغب الصلح رغبة أكيدة ويود إنهاء الحرب، ودعا السلطان سيف الدين المشطوب والي نابلس؛ لاستشارته في الموضوع، وأشار بإعطائه عكا، ويترك المسلمين والإفرنج فلا ينضم إلى أحدهما.

وفي يوم الجمعة 26 جمادى الآخرة بعث الملك ريتشارد رسالة مع مبعوث منه، ومضمون الرسالة طلب الصلح، وأنه قد ملك ابن أخته (الكندهري) هذه الديار، ويسلمه إلى صلاح الدين ليكون هو وعسكره تحت حكم السلطان بحيث لو استدعاهم للشنق لأجابوا، ويلح في طلب الصلح، ويقول: أنه لا يريد أن يكون فرعون يملك الأرض، ولا يظن ذلك في صلاح الدين، ويقول: ولو أعطيتني مقرعة أو خربة قبلتها!



قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Empty
مُساهمةموضوع: رد: قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)   قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Emptyالثلاثاء 18 مايو 2021, 12:03 am

واجتمع صلاح الدين بمستشاريه وسألهم إبداء الرأي، فاستحسنوا المصالحة، واعتبروا هذا العرض تطورًا مهمًّا ينبغي أن يقابل بالاستجابة، سيما وأن المقاتلين قد ضجروا من هذه الحروب المستمرة، وكتب السلطان إليه:
"إذا دخلت معنا هذا الدخول فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، إن ابن أختك يكون عندي كبعض أولادي وسيبلغك ما أفعل معه، وأنا أعطيك أكبر الكنائس وهي القيامة، وأما بقية البلاد فنقسمها فالساحلية التي بيدك تكون بيدك، والذي بأيدينا من القلاع والجبلية يكون لنا، وما بين العملين يكون مناصفة، وعسقلان وما وراءها يكون خرابًا لا لنا ولا لكم، وإن أردتم قراها كانت لكم، والذي كنت أكرهه حديث عسقلان".

وفي 28 جمادى الآخرة وصل رسول من قطب الدين بن قلح أرسلان، يقول: إن البابا قد وصل إلى القسطنطينية في خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، ويقول: تقدم إلي من يستلم بلادي مني فإني قد عجزت عن حفظها، فلم يصدق السلطان هذا الكلام واعتبره لغوًا من القول (47).

وبعث ملكُ الإنجليز يطلب إدخال بعض التَّعديلات على تلك المقترحات، وأهدى بازيين للسلطان، وبعث السلطان له بهدية مقابل هديته، وإذا كان السلطان يُفاوض فهو لا يهمل الاحتياط والتهيُّؤ:
يَنَامُ بِإِحْدَى مُقْلَتَيْهِ وَيَتَّقِي = بِأُخْرَى المَنَايَا فَهْوُ يَقْظَانُ نَائِمُ

وفي 10 رجب بلغ السلطان أن الإفرنج قصدوا بيروت، فخرج من القدس، وتفقد بعض البلدان والمواقع، وأمر الجيش باللحاق به، ونزلوا على يافا، وذلك في يوم الثلاثاء 15 رجب، وكان معه الملِك العادل والملك الظاهر وكبار القادة والأمراء، فحاصروا يافا حتى أخذها المسلمون عنوة في يوم الجمعة 18 رجب بعد قتال مرير، وبقيت القلعة محاصرة، وعلم الإفرنج بما حدث فعادوا مسرعين في خمسين مركبًا بحريًّا، وأخرج من في القلعة بعد طلبهم الأمان.

واشتد القتال بين المسلمين داخل يافا وخارجها وبين عساكر الإفرنج الضخمة، ثم أمر السلطان قواته بالانسحاب على عجل، فتركوا بعض الثقل مما غنموا لم يتمكَّنوا من نقله، وأرسل ملك الإنجليز يجدد الرغبة في عقد الصُّلح، ويبدي إعجابه بمهارة السلطان الحربية، وشجاعة المسلمين، ويستغرب كيف أخذ المسلمون يافا خلال يومين، وكان يظن أنهم لن يتمكنوا من ذلك طيلة شهرين، وكتب إلى السلطان يلح في تعديل بعض بنود الاتِّفاقية التي يقترحها السلطان، فلم يجد مُوافقة لطلبه.

وبلغ السلطان توجه قوات عسكرية إفرنجية من عكا إلى يافا لإنجاد الإفرنج فيها، وجاءت الأخبار بأن ريتشارد قد نزل خارج يافا في نفر يسير بخيم قليلة تقدر بعشر، وفعلاً كان ذلك صحيحًا، وقد كان في معسكره أقل من ألف مقاتل وسبع عشرة فرسًا على أكثر تقدير، واستشار السلطان ذوي الرأي، فأشاروا بالهجوم عليهم قبل أن تصلهم الإمدادات، فسار بمن معه من العسكر وباغتهم فثبتوا ثباتًا عجيبًا، وكان بعض الذين مع صلاح الدين مُستاء؛ لأنَّه لَم ينلْ نصيبًا حسنًا مِن غنائم يافا، وقال له بعضُ كبار المماليك: قل لغلمانك الذين ضربوا الناس يوم فتح يافا وأخذوا منهم الغنيمة أن يقاتلوا، والسلطان يحرض الناس على القتال، ولكن الوهن قد دب إلى النفوس، وحمل ريتشارد برمحه مِن طرف المَيْمَنة إلى طرف الميسرة، فلم يتعرض له أحد، وبرزتْ شجاعته، وكاد ريتشارد يُؤخذ أسيرًا في إحدى ضواحي يافا، لولا أن افتداه أحد فرسانه المخلصين حين هرع إلى الساحة وهو يصيح: أنا الملك فأُسر بدلاً منه، وقتل جواد قلب الأسد في إحدى هذه المعارك فحارب راجلاً، وأخذ يضرب ذات اليمين وذات الشمال بفأسه الدانمركية التي اشتهر بها، والتي يقال: إنه ضرب بها أحد المقاتلين فشطر جسمه شطرين من رأسه إلى خصره، ولم تنقذ القتيل درعه الفولاذيَّة من تلك الضربة الرائعة.

وبينما ملك الإنجليز يُقاتل راجلاً إذا بصرخة ترتفع من معسكر المسلمين، ونادى المنادون: تفرقوا عن ملك الإفرنج يا رجال! وشق الصفوف فارس يعدو نحوه على جواد أصيل وهو يجر معه جوادًا آخر، وقدم الجوادين لريتشارد مُعلنًا أن صلاح الدين قد رأى الملك راجلاً فبعث إليه بهذَيْن الجوادين الأصيلين لكي يواصل القتال، وهو راكب إذْ لا يليق في رأيه أن يحاربَ بطلٌ شجاعٌ مثله وهو واقف على قدميه (48).

ثُم أمر السلطان أن تجتمعَ العساكر بالنطرون، وسار هو إلى بيت المقدس يَتَفَقَّده، وصلَّى فيه الجمعة بالقدس، ورتب العساكر بها، ثم عاد في نفس اليوم إلى النطرون.

وفي 26 من رجب 588 هـ وردت رسالة شفهية من ملك الإنجليز -وهو في يافا- يقول فيها: "إلى كم أطرح نفسي على السلطان وهو لا يقتلني؟! وأنا كنت أحرص على أن أعود إلى بلادي، والآن قد هجم الشتاء وتغير الأنواء، وقد عزمت على الإقامة وما بقي بيننا حديث".

وقد كان ريتشارد بارعًا في المُفاوَضة فهو يلين تارة، ويقسو أخرى، ويخضع حينًا، ويتعاظَم آونة، وقد شهد له بهذه البراعة ابنُ شدَّاد وغيره.

وفي يوم الخميس 9 شعبان قدم عسكر مصر، فخرج السلطان إلى لقائهم، وكان في خدمته الملك المؤيد مسعود.

نهاية الحرب
وبلغ السلطان أن ريتشارد مريض مرضًا شديدًا، والإفرنسيسة قد ساروا عائدين إلى بلادهم، ونفقاتهم قد قلَّتْ، واستشار أصحاب الرأي، ثم بعث فرقة استكشاف لتعطيه الحقيقة عن كثب.

وفي ليلة الخميس 16 شعبان سار هؤلاء الجند ومعهم بعض الأمراء، وكانت رسل ملك الإنجليز لا تنقطع في طلب الفاكهة والثلج للملك مع اشتهائه الشديد للكمثرى والخوخ، فكان السلطان يمده بذلك، وكان الرسل الذين يذهبون إلى العدو ويأتون يكشفون له الواقع الأليم الذي يعيش فيه الإفرنج، فقد تحول عزهم ذلاًّ وقوتهم ضعفًا، حتى لم يبق لديهم في يافا إلا ثلاثمائة فارس أو أقل.

ونزل السلطان على الرملة في يوم الخميس 16 شعبان، وأغار المسلمون عليهم غارات تشبه حرب العصابات الخاطفة، فتأكَّد أنهم لا يتجاوزون ثلاثمائة فارس معظمهم على بغال.

ووصلتْ رسالة شفهية مِن ملك الإنجليز يشكر السلطان على إنعامه بالفواكه والثلج، وطلب من العادل التوسُّط لدى السلطان ليسمح له بعسقلان؛ لأنه لا يريد الإقامة هنا، وأنه إذا حصل على عسقلان حصل له جاه بين الإفرنج؛ لذلك فهو حريص على أن يعطيه السلطان إياها، وإذا لم يوافق السلطان على هذا المطلب فهو يودُّ أن يعطيه عِوضًا عن السور الذي كلفه باهظًا من الثمن.

وأسر السلطان إلى مَن يخبر العادل أن الإفرنج إن تنازلوا عن إصرارهم على عسقلان، فلا مانع مِنَ الصُّلْح معهم؛ لأنَّ العسكر قد ضجروا، والأقوات قد نفذتْ، ثم جاء للسلطان مَن أخبره أن ريتشارد قد تنازل عن طلبه عسقلان وعن العوض جميعًا، ولكن السلطان يريد توقيع الملك على هذا الكلام، ووقع الملك عليه.

ولَمَّا كان يوم السبت ثامن عشر شعبان أنفذ بدر الدين، وذكر أنه أخذ يده على هذه القاعدة بمن يثق به، وأن حدود البلاد على ما استقر في الدفعة الأولى مع الملك العادل، فأحضر السلطان الديوان، فذكروا يافا وأعمالها، وأخرج الرملة، ويُبْنَى (49)، ومجدل يابا، ثم ذكر قيسارية وأعمالها، وأَرْسُوف وأعمالها (50)، وحيفا وأعمالها، وعكا وأعمالها، وأخرج منها الناصرة وصفورية، وأثبت الجميع في ورقة.

وكتب جواب الكتاب، وقال للرسول: هذه حدود البلاد التي تبقَى في أيديكم، فإنْ صالحْتُم على ذلك فمبارك قد أعطيتهم يدي ولينفذ الملك من يحلف في غداة غد، وإلا فليعلم أن هذا تدفيع ومماطلة، ويكون الأمر قد انفصل مِن بيننا.

وسار بهذه الرسالة صباح الأحد، وبعد العشاء جاء الرسول ليبلغ السلطان: الملك قد وقف على تلك الرقعة وأنه قال: قولوا للسلطان: مبارك رضيت بهذه القاعدة، وقد رجعت إلى مروءتك، فإن زدتني شيئًا فمِن فَضْلك وإنعامك!

وفي يوم الاثنين حضر عند السلطان أرباب المشورة واتفق الرأي على الصلح، ثم كتب معاهدة الصُّلح، ووضحت فيها الشروط، ويسري مفعولها لمدة ثلاث سنين، اعتبارًا من يوم الأربعاء 22 شعبان 588 هـ، وتكون اللد والرملة مناصفة، وأما عسقلان فتكون خرابًا فلا ينتفع بها أحد الطرفين، ويدخل صاحب أنطاكية وطرابلس في الصُّلح على قاعدة آخر صُلح صالحهم عليه المسلمون، فوقَّع الملك على المعاهدة دون أن يقرأها أو تقرأ عليه؛ لأنه مريض جدًّا، وقال: أنا قد صالحت وهذه يدي.

وفي يوم الأربعاء 22 شعبان حضر الجماعة عند الملك، وأخذوا يده وعاهَدوه، واعتذر أن الملوك لا يحلفون، وقنع السلطان بذلك، ثم حلف الجماعة، وحلف نيابةً عن الملك ابن أخيه (الكندهري)؛ لأنه خليفته في الساحل، وباليان بن بارزان صاحب طبرية، ورضي سائر الإفرنجية بذلك.

وفي صبيحة 23 شعبان حضر الرسل في خدمة السلطان، وأخذوا بيده وعاهَدوه على الصلح حسب ما اتفق عليه، وحلف جماعة نيابةً عن السلطان، فحلف الملك العادل والملك الأفضل والملك الظاهر وغيرهم، وحلف صاحب أنطاكية وطرابلس وعلى اليمين على شرط حلفهم للمسلمين، فإن لم يحلفوا فلا يدخلوا في الصلح.

ثم أمر المنادي أن ينادي في الأسواق: ألا إن الصلح قد انتظم في سائر بلادهم، فمَن شاء من بلادهم أن يدخل إلى بلادنا فلْيفعل، ومَن شاء مِن بلادنا أن يدخل إلى بلادهم فلْيفعل (51).

وهكذا انتهت الحربُ الصَّليبيَّة الثالثة التي تُعرف بحملة الملوك الكثيرة؛ لكثرة من اشترك فيها من الملوك الإفرنج وأمرائهم.



قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Empty
مُساهمةموضوع: رد: قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)   قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Emptyالثلاثاء 18 مايو 2021, 12:05 am

وماذا جنت الفرنجة مِن أرباحها سوى الدماء والأحقاد وكسر الهيبة؟!
جاؤوا بجموع تربو على خمسمائة ألف مقاتل، فقتل منهم مائة ألف أو يزيدون، وتَشَتَّت الباقون ففتكت بهم الأمراض والطواعين، ولاقوا صنوفًا من الجوع والنصب والضياع، ومن آب منهم حيًّا فقد رجع كسيرًا أو جريحًا أو قلق النفس والفؤاد، تزعجه ذكرى الأهوال المروعة والمعارك الضارية.

وبعد أن تنفَّس الناس الصعداء من هذه الحرب الضروس، وفرح الناس بانتهائها، استبشر السلطان بإبعاد الفرنجة عن بلاد المسلمين؛ لأنه يريد أن يعمر البلاد، ويشحن القدس بما يقدر عليه من الآلة، ويتفرغ لعمارتها (52).

لقد جاء دور البناء بعد أن دفع الخطر، ولكن ذيول المعركة ما تزال قائمة، ولا بد من معالجتها فورًا؛ ولذا قرر السلطان أن يبادر إلى هدم عسقلان، وإخراج الحامية الإفرنجية منها إنفاذًا للصلح، وبعد المفاهمة مع ملك الإنجليز خربت عسقلان مرة أخرى في 27 شعبان 588هـ.

ثم تتابعتْ أفواج المسلمين يذهبون إلى يافا للتجارة، كما تقاطرت الإفرنج على القدس للزيارة والسلطان يكرمهم.

وفي 29 شعبان عاد ملكُ الإنجليز يرافقه الكندهري إلى عكا، وكان الملك قد اشتد به المرض أكثر من ذي قبل.

وسمح السلطان للعساكر بالعودة إلى أماكنها، ثم أزمع الحج، وكتب إلى البلدان ما يحتاجون إليه هو والعساكر المرافقة له، وأمر بتدوين اسم كل من يرغب الحج معه من العسكر، ولكن أمام السلطان مشاكل كثيرة، فالقدس -وهي شغله الشاغل- يحتاج إلى نظر في شؤونه وعمارته ومصالحه.

وفي يوم الأحد 4 من رمضان دخل السلطان القدس ومعه أخوه الملك العادل، وكان مريضًا عدة أيام وقد تماثَل للشفاء.

وفي يوم الجمعة 23 من رمضان وصل رسول وكتاب من ديوان الخليفة الناصر لدين الله يعتب على السلطان تأخره عن إرسال الرسل إلى الخليفة، ويقترح انتداب القاضي الفاضل لإزالة الجفوة بين الاثنين، وقد وعد الديوان الملك العادل بوعود عظيمة إذا هو تَحَقَّق هذا الطلب.

وفي يوم الثلاثاء 26 منه سار الملك العادل إلى الكرك بعد موافقة السلطان؛ لينظر في أحواله، ويعود إلى البلاد الشرقية يديرها، فإنه كان قد أخذها من السلطان باتِّفاق بينهما.

وفي 29 منه توجه الملك الظاهر إلى حلب، ثم رجع إلى السلطان، ووصاه والده وصية جليلة القدر تدل على ما يتوسم فيه مِن كفاءة وعلوِّ هِمة.

وفي ليلة 5 شوال سار الملك الأفضل إلى دمشق، وكان قد تأخر يراجع السلطان في أشغال له.

ونوى السلطان العودة إلى الديار المصرية؛ لترتيب شؤونها بعد هذا الغياب الطويل عنها.

وفي مستهل شوال علم السلطان بإقلاع مراكب ريتشارد، فعزم على تفَقُّد القلاع البحرية على طول الساحل إلى بانياس، ثم يعود إلى القدس، ومنها إلى الدِّيار المصرية، ووكل القاضي ابن شداد في عمارة مستشفى بالقدس، مع تولي إدارة المدرسة التي أنشأها فيه.

وفي يوم الخميس 6 شوال قام السلطان بجولته التفَقُّدية لعدد من البلدان والحصون، وبعد الفراغ من تفَقُّد القلاع الساحلية بأسرها، والتقدم بسد خللها، وإصلاح أمور أجنادها، وشحنها بالأجناد والرجال، عاد إلى دمشق فدخلها يوم الأربعاء 26 من شوال، وكان يحب الإقامة فيها، وحضر الناس عنده، وأنشده الشُّعراء، وقام ينشر العدل، ويكشف المظالم.

وقد انتظره الملك الظاهر في دمشق؛ ليودعه فودعه مرات عديدة في تلك الليلة، وكأنه كان يحس بدنو أجل هذا البطل العظيم.

وقد أولم الملك الأفضل -والي دمشق- لأخيه الملك الظاهر -والي حلب- وليمة فخمة، وسأل السلطان الحضور فحضر جبرًا لقلبه.

ثُم حضر الملك العادل إلى دمشق يوم الأربعاء 17 ذي القعدة، فخرج السلطان للقائه، وخرج السلطان يَتَصَيَّد شرقي دمشق وبرفقته أخوه وأولاده، ودخلوا دمشق يوم الأحد 21 ذي القعدة.

لقد كان السلطان -تغمده الله برحمته- يعتزم مُواصلة الجهاد، إلى جانب اهتمامه بالبناء، وإصلاح شؤون الرعية، وقد اتَّفق الحال بينه وبين أخيه، أنه بعد ما يفرغ مِن أمْر الفرنج يسير هو إلى بلاد الروم، ويبعث أخاه إلى بغداد، فإذا فرغا مِنْ شأنهما، سارا جميعًا إلى بلاد أذربيجان بلاد العجم، فإنه ليس دونها أحَدٌ يُمانع عنها (53)، ولكن الأمر كما قيل:
مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ = تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لا تَشْتَهِي السُّفُنُ

وكانت أمنيته جهاد الكفار، والقتال في سبيل الله، ودحر الأعداء.



قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Empty
مُساهمةموضوع: رد: قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)   قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Emptyالثلاثاء 18 مايو 2021, 12:07 am

قال القاضي ابن شداد:
"وكان إذا أراد أحد أن يتقَرَّب إليه يحثه على الجهاد، وأنا ممن جمع له فيه كتابًا، جمعت فيه آدابه، وكل آية وردت فيه، وكل حديث روي في فضله، وشرحت غريبها، وكان -رحمه الله- كثيرًا ما يطالعه حتى أخذه منه ولده الملك الأفضل" (54).

ثم ركب في بكرة الجمعة 13 صفر 589هـ؛ لاستقبال الحجاج، وكانت آخر مرة يركب فيها.

مرض السلطان ووفاته
في ليلة السبت 14 منه، وجد كسلاً عظيمًا، وما زال يتزايد به المرض، واشتد ألم رأسه، وقصده الأطباء، فاشتد مرضه حتى انتهى به الحال إلى غاية الضعف، ثم حدثت عليه غشية، وامتنع من تناول المشروب، وغشي الناس من الكآبة والحزن ما لا يمكن وصفه.

ولَمَّا تحقق الملك الأفضل أن والده في النـزع، وأنه يوشك أن يفارق الدنيا بين لحظة وأخرى، جمع الناس فأمرهم بالبيعة له، واستحضر القضاة، وعمل له نسخة يمين مختصرة تتضمن البيعة للسلطان مدة حياته وللأفضل بعد وفاة السلطان، واشترط بعض الذين بايعوا أن يقبضوا ثمن هذه البيعة، واشترط آخرون ألا يسلوا سيفًا في وجه أحد من إخوته.

واشتد المرض بالسلطان، وأمر الملك الأفضل أن يبيت عنده كل من القاضي الفاضل، والقاضي ابن شداد، والشيخ أبي جعفر أمام الكلاسة، وكان الشيخ أبو جعفر يقرأ عنده القرآن، ويذكره الشهادة، ولما انتهى إلى قوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الحشر: 22]، سمعه وهو يقول -رحمة الله عليه-: "صحيح"، ولما بلغ قوله تعالى: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ تبَسَّم وتَهَلَّل وجْهُه، وأسلم الروح.

وكانتْ وفاته بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء 27 صفر سنة 589هـ (1193م)، وكان يومًا كئيبًا، قال ابن شداد: "وكان يومًا لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقدوا الخلفاء الراشدين، وغشي القلعة والبلد والدنيا من الوحشة ما لا يعلمه إلا الله تعالى" (55).

قال العماد وغيره:
لم يترك في خزانته من الذهب سوى جرم واحد، أي دينار واحد صوريًّا، وستة وثلاثين درهمًا، ولم يترك دارًا ولا عقارًا ولا مزرعة ولا بستانًا ولا شيئًا من أنواع الأملاك.

وخلف سبعة عشر ولدًا ذكرًا وابنة واحدة (56).

وهكذا طويت صفحة مشرقة في تاريخ الإسلام، يذكرها المسلمون بإعزاز وإكبار.

وصيته
وصَّى ابنه الملك الظاهر بالوصيَّة التالية:
"أوصيك بتقوى الله تعالى؛ فإنها رأس كل خير، وآمرك بما أمر الله به، فإنه سبب نجاتك، وأحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلُّد بها، فإن الدم لا ينام، وأوصيك بحفظ قلوب الرعية، والنظر في أحوالهم، فأنت أميني وأمين الله عليهم، وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء وأرباب الدولة والأكابر فما بلغت ما بلغت إلا بمداراة الناس، ولا تحقد على أحد فإن الموت لا يبقي على أحد، واحذر ما بينك وبين الناس، فإنه لا يغفر إلا برضاهم، وما بينك وبين الله، يغفره الله بتوبتك إليه، فإنه كريم".

تعزية بليغة
كان الملك الأفضل أكبر أولاده، وهو أكبر من الظاهر بثلاث سنين، وكان السلطان يتوسم النجابة في ولده الظاهر لما فيه من الشجاعة والشهامة.

وقد كتب القاضي الفاضل إلى الملك الظاهر حين توفِّي أبوه السلطان صلاح الدين التعزية التالية:
"﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: 1]، كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاه، وجبر مصابه، وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة، وقد زلزل المسلمون زلزالاً شديدًا، وقد حفرت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الحناجر، وقد ودعت أباك ومخدومي وداعًا لا تلاقي بعده، وقد قبلت وجهه عني وعنك، وأسلمته إلى الله تعالى، مغلوب الحيلة، ضعيف القوة، راضيًا عن الله -عز وجل- ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وبالباب من الجنود المجندة، والأسلحة المغمدة، ما لا يدفع البلاء، ولا ملك يرد القضاء، وتدمع العين، ويخشع القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا عليك يا يوسف لمحزونون، وأما الوصايا مما يحتاج إليها، والآراء، فقد شغلني المصاب عنها، وأما لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم، وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلة أهونها موته، وهو الهولُ العظيم، والسلام".

ويعقب ابن خلكان (57) على هذه الرِّسالة قائلاً:
لله دره، لقد أبدع في هذه الرسالة الوجيزة مع ما تضمنته من المقاصد السديدة في مثل هذه الحالة التي يذهل فيها الإنسان عن نفسه.

لقد أشْفَق القاضي الفاضِل على أبناء صلاح الدين، وعلى الأمة الإسلامية جمعاء، منَ الخلافات والمنازَعات، ولكن ما خشي منه وقع، فقد نشب النـزاع بين الأيوبيين، ولطف الله بالمسلمين، فاستقرتْ أخيرًا للملك العادل أخو صلاح الدين ورفيقه في الجهاد.

نبذة مِنْ أخلاقه
يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((خياركم أحاسنكم أخلاقًا))، والمتتَبِّع لسيرة صلاح الدين لا يدري بأي أخلاقه وسجاياه يعجب، خِلالٌ كثيرة، ومزايا عظيمة، تجمعت في شخصه، وتكونت مجموعة رفيعة من الفضائل، وفضل الله يؤتيه من يشاء، وحسبي أن أورد منها على سبيل المثال خوف الإطناب القصص التالية:

قال القاضي بهاء الدين بن شداد:
ولقد كانت طراحته تداس عند التزاحم عليه لعرض القصص، وهو لا يتأثر لذلك، ولقد نفرت يومًا بغلتي مع الجمال وأنا راكب في خدمته، فزحمت وركه حتى آلمته وهو يتبسم -رحمه الله-.

ولقد دخلت بين يديه في يوم ريح مطير إلى القدس الشريف، وهو كثير الوحل، فنضحت البغلة عليه من الطين حتى أتلفت جميع ما كان عليه، وهو يتبسم، وأردت التأخر عنه بسبب ذلك فما تركني (58).

وهذه قصة أخرى:
فبينما كان راكبًا في بعض الأيام قبالة الإفرنج حضر بعض العسكر، ومعهم امرأة شديدة التخوف، كثيرة البكاء، متواترة الدق على صدرها، فقال أحد العسكر: هذه خرجت من عند الإفرنج، فسألت الحضور بين يديك، فأمر الترجمان أن يسألها عن قصتها، فقالت: إن بعض المسلمين أغاروا على مواقع الإفرنج، وأخذوا ابنتي، وبت البارحة استغيث إلى بكرة النهار، فقيل لي: السلطان هو أرحم، ونحن نخرجك إليه، وتطلبين ابنتك منه، فأخرجوني إليك، وما أعرف ابنتي إلا منك، فرق لها، ودمعت عينه، وأمر بشراء البنت ممن هي عنده، فما مضت ساعة حتى وصل الفارس والصغيرة على كتفه، والسلطان واقف ينتظر وصولها حتى سلَّمها إلى أمها، وأُعيدت المرأة مع ابنتها إلى معسكر الإفرنج (59).



قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Empty
مُساهمةموضوع: رد: قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)   قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Emptyالثلاثاء 18 مايو 2021, 12:09 am

وفي القصة التالية ما يدل بجلاء على مدى حبه للعدل وإنصاف الرعية حتى من نفسه دون تكبر أو تعاظم:
حضر عند القاضي ابن شداد تاجر يُدعى عمر الخلاطي في مجلس القضاء، وزعم أنَّ بينه وبين السلطان دعوى؛ لأنه ظلمه كما يقول، وسأله عن ظلامته، فقال: إن سنقر الخلاط كان مملوكي، ولم يزل في ملكي، وقد مات وفي يده أموال عظيمة، فأخذها السلطان، وأحضر صكًّا فيه صفة المملوك، وشهادة شهود بأنه مملوكه، وقد أبق منه، وحددوا اليوم والشهر والسنة التي هرب فيها، وأخبره القاضي أنه لا بد من سماع كلام الخصم قبل الحكم، وعرف القاضي السلطان القضية فأبدى استعداده للجلوس عند القاضي معه، ودخل الرجل على القاضي، فنزل السلطان عن طراحته حتى ساواه، وقال: إن كان لك دعوى فاذكرها فحرر الرجل دعواه، فأجابه السلطان أن (سنقر) هذا كان مملوكي، ولم يزل على ملكي حتى أعتقته، وتوفي وخلف ما خلف لورثته، فقال الرجل: لي بينة تشهد بما ادعيته، ثم سأل فتح كتابه ففتحه القاضي، فلما سمع السلطان التاريخ قال: عندي من يشهد أن (سنقر) هذا في هذا التاريخ كان في ملكي وفي يدي بمصر، وإني اشتريته مع ثمانية أنفس في تاريخ متقدم على هذا التاريخ بسنة، وأنه لم يزل في يدي وملكي إلى أن أعتقته، ثم استحضر جماعة من أعيان الأمراء والمجاهدين فشهدوا بذلك، وذكروا القصة كما ذكرها، والتاريخ كما قاله، فأبلس الرجل.

قال القاضي للسلطان:
إن هذا الرجل ما فعل ذلك إلا محتاجًا لعون السلطان، ولا يحسن أن يرجع خائبًا فأمر السلطان له بخلعة، ونفقة بالغة (60).

وإنَّه مِن الصعب تعداد مزايا هذا الرجل النادر، عليه الرحمة والرضوان.

أنموذج لخطبِه
في الخطبتَيْن اللتين نوردهما ما يدل على أن السلطان يميل إلى الإيجاز في خطبه، والتركيز على النقاط الحساسة، فقد خطب في مجلس استشاري ضَمَّ الأمراء والكبراء وأصحاب الرأي، وهو يقاتل الإفرنج بعكا في آخر شهر شعبان سنة 585هـ فقال:
"بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، اعلموا أن هذا عدو الله وعدونا، قد نزل في بلدنا، وقد وطئ أرض الإسلام، وقد لاحتْ لوائح النصر عليه -إن شاء الله تعالى-، وقد بقي في هذا الجمع اليسير، ولا بد من الاهتمام بقلعه، والله قد أوجب علينا ذلك، وأنتم تعلمون أن هذه عساكرنا ليس وراءنا نجدة ننتظرها سوى الملك العادل وهو واصل، وهذا العدو إن بقي وطال أمره إلى أن يفتح البحر جاءه مدد عظيم، والرأي كل الرأي عندي مناجزتهم فلينجزنا كل منكم ما عنده في ذلك".

وفي خطاب للسلطان وهو يتأهَّب لقتال الإفرنج عند القدس، وقد أحضر الأمراء والكُبراء وأصحاب الرأي وقادة الجيش في ليلة الخميس 19 جمادى الآخرة سنة 588هـ.

"الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، اعلموا إنكم جند الإسلام اليوم ومنعته، وأنتم تعلمون أن دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم معلقة بذممكم، وأن هذا العدو ليس له مِنَ المسلمين من تلقاه إلا أنتم، فإن وليتم بأنفسكم -والعياذ بالله- طوى البلاد طي السجل للكتاب، وكان ذلك في ذمتكم، فإنَّكم أنتم الذين تَصَدَّيْتم لهذا، وأكلتم مال بيت المال، فالمسلمون في سائر البلاد متعلقون بكم، والسلام".

وقد ألهب الحاضرين بهذا الخطاب وأجابوه بلسان سيف الدين المشطوب، بقولهم:
"ليس لنا إلا رقابنا وهي بين يديك، والله لا يرجع أحد منا عن نصرتك إلى أن نموت"، فقال الجماعة مثل ما قال، فانبسط السلطان، وطاب قلبه.

أُسلوبه في المفاوَضات
لا يقل أسلوب السلطان في المفاوضات عن شجاعته في الحرب، وحنكته في السلم، وهذا الأنموذج يعطينا المثل لما يتمتع به من سعة الأُفُق، والذكاء اللامع.

كان صلاح الدين قد تلقَّى مِن ريتشارد قلب الأسد رسالة يقول فيها:
"إنَّ المسلمين والإفرنج قد هلكوا وخربت البلاد، وخرجت مِن يد الفريقين بالكلية، وقد تلفت الأموال والأرواح منَ الطائفتين، وقد أخذ هذا الأمر حقه، وليس هناك حديث سوى القدس، والصليب، والبلاد، القدس متعبدنا ما ننزل عنه ولو لم يبق منا إلا واحد، وأما البلاد فيعاد إلينا ما هو قاطع الأردن، وأما الصليب فهو خشبة عندكم لا مقدار له، وهو عندنا عظيم فيمن به السلطان علينا، ونصطلح ونستريح من هذا التَّعَب".

وبعد المشاوَرة كتب السلطان الجواب التالي:
"إنَّ القُدس لنا كما هو لكم، وهو عندنا أعظم مما هو عندكم؛ فإنه مسرى نبينا ومجتمع الملائكة فلا تتصور أن ننزل عنه، ولا نقدر على التفريط بذلك بين المسلمين، وأمَّا البلاد فهي أيضًا لنا في الأصل، واستيلاؤكم كان طارئًا عليها؛ لضعف من كان فيها من المسلمين في ذلك الوقت، وما يقدركم الله على عمارة حجر منها ما دام الحرب قائمًا، وما في أيدينا منها نأكل بحمد الله مغلته وننتفع به، وأما الصليب فهلاكه عندنا قربة عظيمة، لا يجوز لنا أن نفرط فيها إلا لمصلحة راجعة إلى الإسلام هي أوفى منها" (61).

وفي يوم الأحد 20 رجب سنة 588هـ، وفد عليه رسول ملك الإنجليز يرغب في أن تكونَ له عسقلان، ويتم الصلح، ويعود إلى بلاده.

فكتب السلطان جوابه:
"أما النزول عن عسقلان فلا سبيل إليه، وأما تشتيته هنا فلا بد منها؛ لأنه قد استولى على هذه البلاد، ويعلم أنه متى غاب عنها أُخذت بالضرورة كما تؤخذ أيضًا إذا أقام - إن شاء الله تعالى، وإذا سهل عليه أن يشتي ها هنا، ويبعد عن أهله ووطنه مسيرة شهرين، وهو شاب في عنفوان شبابه، وقت اقتناص لذاته، أفلا يسهل علي أن أشتي وأصيف وأنا في وسط بلادي، وعندي أولادي وأهلي، ويأتي إليَّ ما أريد، وأنا رجل شيخ قد كرهت لذات الدنيا، وشبعت منها، ورفضتها عني، والعسكر الذي يكون عندي في الشتاء غير العسكر الذي يكون عندي في الصيف، وأنا أعتقد أني في أعظم العبادات ولا أزال كذلك حتى يعطي الله النصر لمن يشاء" (62).

وبعد فما أحوج الأمة الإسلامية إلى أخذ الدروس من سيرة البطل المجاهد صلاح الدين في ظروف تشبه تلك الظروف، وقد تداعت الأمم على المسلمين ومزقت بلادهم، وأثارت الشحناء بينهم، فصاروا شِيَعًا وأحْزابًا.

وقد حلَّ اليهود في القدس وعكا وحيفا ويافا وغيرها من بلاد المسلمين، وشردوا أهلها، وانتهكوا الحرمات، واعتدوا على المقدسات، وقد وجدوا من أتباع ريتشارد، وفيليب أوجست، وفردريك بارباروس، من يؤيدهم في عدوانهم، ويقدم لهم المال والسلاح، وكل أنواع المساعدة.

إن هذه الأمَّة الإسلامية العظيمة تريد من أبنائها أن يقتدوا بصلاح الدين وأمثاله الذين جاهدوا لإعلاء كلمة الله فنصرهم الله، ونالوا العِزَّ في الدنيا، والفوز في الآخرة -إن شاء الله-.

وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كبَارًا = تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأَجْسَامُ



قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Empty
مُساهمةموضوع: رد: قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)   قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) Emptyالثلاثاء 18 مايو 2021, 12:10 am

فهرس كتاب قاهِر الصليبيين:
مقدمة الكتاب.
مولد صلاح الدين ونشأته.
اجتماع الشمل.
نور الدين وصلاح الدين.
خروج السلطان إلى الشام.
الحروب الصليبية تدخل مرحلة جديدة.
عين جالوت.
وقعة حطين العظيمة.
فتح بيت المقدس.
الأيام دول.
عكا البلد الجبار.
نهاية الحرب.
مرضه ووفاته.
وصيته.
تعزية بليغة.
نبذة عن أخلاقه.
أنموذج لخطبه.
أسلوبه في المفاوضات.
فهرس الكتاب.



قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
قاهِر الصَّليبيين (صلاح الدين الأيوبي)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» صلاح الدين الأيوبي
» القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي
» "بطل معركة حطين الباسلة" (صلاح الدين الأيوبي)
» (15) خيانات الشيعة ومحاولاتهم الفتك بصلاح الدين الأيوبي
» صلاح الدين.. والدنيا

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــافـــــــــة والإعـــــــــلام :: الملك الناصر صلاح الدين-
انتقل الى: