أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة ص الآيات من 36-40 السبت 13 فبراير 2021, 12:06 am | |
| فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (٣٦) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٣٨) هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٩) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
قال سبحانه: (فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ..) (ص: 36) وكان تسخير الريح لسليمان أول نعمة أضيفتْ إلى ملكه لم تكُنْ موجودة من قبل، ومعنى (رُخَآءً..) (ص: 36) أي: لينة ناعمة كالمطية التي تمشي براكبها مَشْياً هادئاً لا تزعجه ولا توقعه.
إلا أن بعض المفسرين قالوا إن كلمة رخاء تتعارض مع قوله تعالى في نفس القصة: (ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً..) (الأنبياء: 81) ونقول: هي بالفعل عاصفة، لكن في موقف آخر؛ لأن الريح في القصة لها عدة استعمالات، فالريح إنْ كانت تحمله للنزهة فهي رُخاء لينة، وإنْ كانت لحمل الأشياء فهي عاصفة، إذن: فالجهة في الوصف مُنفكَّة.
وقلنا: إن الريح إنْ جاءت هكذا مفردة فهي للعذاب، كما في قوله تعالى: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ) (الذاريات: 41-42) فإنْ كانت جَمْعاً فهي للخير كما في: (وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ..) (الحجر: 22).
ومعلوم أن الهواء هو الذي يحفظ توازن الأشياء، بدليل أننا لو فرَّغْنَا الهواء من جهة من جهات عمارة مثلاً، فإنها تنهار في نفس الجهة، لأن الهواء هو الذي يسندها ويحفظ توازنها.
فإذا أراد الله تعالى أن يدمر بالريح أتى به من جهة واحدة.
فكأن الحق سبحانه يقول: الريح المفروض أنه لا يأتي إلا في العذاب والنقمة، لكن سخرته لسليمان بحيث لا يأتي معه إلا بالخير (فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ) (ص: 36).
وقوله: (حَيْثُ أَصَابَ) (ص: 36) حيث قصد وأنّى ذهب.
وهذا يعني أن سليمان خاطب الريح التي لا لغةَ لها لكن فهمه الله، فكأنه أصبح آمراً والريح مأمورة، إذن: فهمتْ عنه الريح، فالحق سبحانه جعل لكل جنس من الأجناس لغته التي يتخاطب بها في بني جنسه، فإذا فَهَّم الله إنساناً هذه اللغة فهمها وتخاطب بها مع هذه الأجناس.
ومن ذلك قوله تعالى: (عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ..) (النمل: 16).
لذلك حدثونا عن التماسيح في أعالي النيل، وعن الانسجام والتكامل بينها وبين الطيور التي تتغذَّى على الفضلات التي بين أسنان التمساح، فالتمساح بعد تناول طعامه يخرج إلى اليابسة ثم يفتح فمه، فيأتي الطير وينقر ما بين أسنان التمساح فينظفها له، فإذا أحسَّ الطير بقدوم الصياد صوّت صوتاً خاصاً يعرفه التمساح، فيسرع إلى الماء وينجو من الصياد، وهكذا يكون التمساح مُقوِّمَ حياة للطير، والطير مُبقى حياة بالنسبة للتمساح، فتأمل الجزاء الأوْفى، كيف يوجد في عالم الطير والحيوان؟
ولا يصل إلى مرتبة الفهم عن الطير والحيوان إلا مَنْ أعطاه الله هذه الخصوصية، وقد أعطى الله هذه الخصوصية لسيدنا سليمان، ففهم لغة الطير ولغة النمل: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ) (النمل: 18-19).
إذن: فهم عنها سليمان، وأحسَّ أن هذه نعمة اختصَّه الله بها وتستوجب الشكر، كذلك فهم عن الهدهد وخاطبه ودار بينهما حوار، وقصة الهدهد مع سليمان تدلنا على أن كلّ مَنْ يلي أمراً عليه أن يتابعه متابعةً، يعرف بها الملتزم من غير الملتزم.
ولولا أن سليمان تفقَّد الطير ما عرف بغياب الهدهد.
وقوله: (مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ..) (النمل: 20) كأنه تصوَّر أن الهدهد موجود، لكن المانع عنده هو أنْ يراه؛ لذلك قال: (أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ) (النمل: 20) لأنه نظر فلم يَرَهُ، ثم جاء الهدهد وقال: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) (النمل: 22-23).
والذي أثَّر في نفسه أن تعبد هي وقومها الشمسَ من دون الله(وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ) (النمل: 24).
وهذه اللقطة من القصة تعلمنا أن الذي يلي أمراً لا يرد مَنْ وُلِّيَ عليه في أمر يشير به، بل ينتظر حتى يسمع منه، ويحترم رأيه لا : يصادره، ونتعلم أيضاً أن الهدهد كان يعلم قضية التوحيد وقضية الإيمان بالله.
ثم يُعلِّمنا الهدهد أن كل إنسان عليه أنْ يحافظ على مُقوِّم حياته، وأنْ يظل دائماً على باله إنْ أراد أنْ يعيش عيشةً كريمة، فمُقوِّم الحياة هو الأَوْلَى قبل التخطيط ورسم الأهداف، نفهم هذا من قول الهدهد: (أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) (النمل: 25).
لكن لماذا خَصَّ الخبأ، وهو المخبوء تحت الأرض؟
قالوا: لأن غالب غذاء الهدهد مما خُبئ في الأرض، لذلك جعل الله له منقاراً طويلاً ينقر به الأرض، ويُخرِج به غذاءه.
وقوله تعالى: (وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ) (ص: 37) أي: وسخَّرنا أيضاً له الشياطين، منهم البنَّاء وهو الذي يعمل ويجهد طاقته في يابسة الأرض ويعمرها.
والغواص مَنْ يجهد طاقته في البحر ليخرج نفائسه (وَآخَرِينَ..) (ص: 38) أي: من الشياطين (مُقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ) (ص: 38) أي: مقيدين ومكبَّلين بالسلاسل.
والأصفاد جمع: صفد وهو السلسلة.
فهؤلاء مقيدون ليسوا مُطلقين كالبنَّاء والغوَّاص، لكن لماذا قيَّد اللهُ هؤلاء، وأطلق هؤلاء؟
قالوا: لأن منهم الصالحين الطائعين، ومنهم العصاة الذين تأبَّوْا على منهج الله، ومن الممكن أنْ يتأبَّى أيضاً على رسول الله، وهؤلاء هم الذين يُقيِّدون بالسلاسل، فكأن الصالحين يخدمونه بتوجيه الإيمان، وغير الصالحين يخدمونه بتوجيه القيود والسلاسل، يعني هؤلاء بالرغبة وهؤلاء بالرهبة.
ثم يقول سبحانه: (هَـٰذَا عَطَآؤُنَا..) (ص: 39) فالعطاء مناسب لطلب سليمان حين طلب من الله مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده، قال: (إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ) (ص: 35) فردَّ الله عليه (هَـٰذَا عَطَآؤُنَا..) (ص: 39) وما دمت قد وهبتك فسوف أجعلك تتصرف فيما وهبته لك لأنني أمنَّتك (فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (ص: 39) يعني: أنت حر في أنْ تعطي أو أنْ تمسكَ وتمنع.
والحق سبحانه لم يجعل لسليمان طلاقة التصرُّف، إلا لأنه ضمن منه عدالة التصرف، لأن سليمان حين طلب الملْك الواسع تعهَّد لله تعالى بهذه العدالة، لذلك قالوا عنه -عليه السلام- إنه كان لا يأكل إلا خشكار الحب يعني الردَّة أو النخالة، ويترك الصافي للعبيد ولعامة الناس.
فكأنه لم يطلب النعمة والملْك الواسع ليتنعم هو به، أو يتباهى، إنما طلبه ليسخره في خدمة الدعوة إلى الله، ولأنه سيجابه قوةً كانت أعظمَ القُوَى في هذا الوقت، ويكفي أن الله تعالى وصف هذه القوة بقوله: (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) (النمل: 23) أي: بلقيس.
وهنا وفي هذه المواجهة سيظهر أثر الملْك وقيمته، فلما أغرتْه بلقيس بالمال قال: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ ٱللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) (النمل: 36).
وهنا تظهر الحكمة في أن سليمان حين طلب ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، طلبه حتى لا يتميَّز عليه أحد، ولا يحاول أنْ يُغريه أو يرشيه، أو يستميله بالمال، كما حاولت بلقيس بملْكها الواسع في اليمن السعيد في ذلك الوقت.
والذي دلَّ على حصافة بلقيس في هذا الموقف أنها استشارتْ أعيان القوم وأشرافهم وذوي الرأي عندها: (قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ) (النمل: 29-30).
أولاً: كيف عرفتْ أنه كتاب كريم؟
قالوا: لأنها وجدته في مخدعها دون أنْ يأتي به رسول، أو يدخل به أحد، ولم يمنعه حراس، ولم يطلب استئذاناً عليها، لذلك علمتْ أنه من جهة أعلى منها، ولابُدَّ أن حركة صاحب الكتاب في الحياة أقوى من حركتها، بدليل أن الكتاب وصلها بهذه الطريقة، لذلك استشارت القوم: (مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ) (النمل: 32).
وانتهت القصة بقولها: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ) (النمل: 44).
إذن: دَلّ قوله تعالى (هَـٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (ص: 39) على أن عطاء الله للأنبياء ليس للتباهي والتفاخر، إنما هو عطاء لخدم الدعوة إلى الله؛ لذلك نرى الذين ملّكهم اللهُ بعضَ مفاتيح الغيب لم يستغلوا معرفة الغيب لصالحهم، وربما جَرَتْ المعجزةُ على أيديهم أو على ألسنتهم، وهم لا يدرون بها، وتظهر منهم الكرامات وهم أنفسهم لا يعرفونها ولا يشعرون بها.
ذلك لأن سِرَّ الله وهبه لهم، لا ليتعالوْا به على الناس، إنما ليزدادوا هم عبوديةً واستطراقاً في العبودية لله تعالى، وليكونوا نماذج لهداية الخَلْق والأخذ بأيديهم إلى طريق الحق.
لذلك يُرْوى أن سيدنا عمر -رضي الله عنه- لما امتنع الغيثُ وأجدبت الأرضُ خرج يستسقي، وأخرج الضعفاء من الأطفال والشيوخ والنساء حتى أخرج البهائم وكأنه يقول يا رب إنْ كنتَ قد منعت عنَّا المطر لذنوبنا فاسْقِنَا لأجل هؤلاء، لكن لم تمطر السماء وهَمَّ عمر بالانصراف، وبينما هو قافل إذ وجد عبداً واقفاً بين الصخور يرفع يديه ويشخص ببصره إلى السماء، قال عمر: فو الله ما وضع يديه حتى أمطرت السماء كأفواه القِرَب.
وعندها تعجب سيدنا عمر كيف أن السماء لم تستجبْ له واستجابتْ لهذا العبد، وتأمل عمر وجه العبد حتى عرفه، وذهب إلى النخَّاس، وقال له: اعرض عليَّ عبيدك، فظن النخَّاس أنه يريد الشراء، فعرض عليه أفضل ما عنده من أصحاب العضلات المفتولة والقوام السليم، لكن لم يلتفت عمر إلى واحد من هؤلاء، فقال الرجل: والله ما عندي غير هذا العبد وهو كَلٌّ على مولاه أينما توجَّه لا يأتي بخير.
فلما جاء العبد عرفه عمر، وقال له: أهذا أنت؟
فنظر إليه العبد ورفع بصره إلى السماء وقال: اللهم كما فضحتني بين خَلْقك فخُذْني غير مفتون ومضى لحاله.
هكذا حال مَنْ تظهر منه الوَلاية والكرامة، لا يرضى بها ولا يحب أنْ تنكشف أمام الناس، فهو لا يريدها ويكفيه وُدُّ الله له بها. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة ص الآيات من 36-40 السبت 13 فبراير 2021, 12:07 am | |
| وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
(لَزُلْفَى) يعني: قُرْبى، ودَلَّ على هذه القربى أن الله تعالى أعطاه مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وأعطاه حرية التصرف في هذا الملْك، يعطي مَن يشاء، ويمنع مَنْ يشاء، وقد أعطاه الله هذا العطاء مقابل أنه علم أنه لن يصرفه في طغيان ولا في جبروت، ولا في إدلال على الناس، لكن سيضعه في موضعه الذي يريده الله، فأصبح مأموناً على عطاء الله.
ومعنى: (وَحُسْنَ مَآبٍ) (ص: 40) أي: حُسْن مرجع ومَردّ إلى الله يوم القيامة.
ثم ينتقل بنا السياق إلى قصة نبي آخر هو سيدنا أيوب عليه السلام: (وَٱذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ...). |
|