أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة ص الآيات من 26-29 الجمعة 12 فبراير 2021, 11:54 pm | |
| يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (٢٦) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
كلمة (خَلِيفَةً) (ص: 26) هنا إما خليفة لله في الأرض خلافة عامة لأن الإنسان كله خليفة لكنه عليه السلام عمدة على الخليفة، أو خليفة الأنبياء في حَمْل رسالاتهم إلى الناس، وما دام هو مستخلفاً فهو موظف إنْ أحسنَ الوظيفة دامتْ له، وإنْ لم يحسن نُزِعَتْ منه.
فآفة الإنسان أنه إذا ما استجابتْ له الأشياء وطاوعتْه الأسباب يظن أنه صار أصيلاً في الكون، ونسي أنه مُسْتخلف غيرِ أصيل، إنما لو ظَلَّ على ذِكْرِ لخلافته في الأرض، وأنه من الممكن أنْ يُعزِلَ عن الخلافة في أيِّ وقت لظلَّ مؤدباً مع ربه الذي استخلفه: (كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ) (العلق: 6-7).
وقوله تعالى (فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ) (ص: 26) يعني: ما دُمْتَ خليفة لله في الأرض تعمرها بالأحكام وتقيم فيها الحق (فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ) (ص: 26) وهذه نصيحة غالية لكل مَنْ يحكم بين الناس، فالحق أمامك نبراس يهديك، فضعْهُ في موضعه أياً كان، ولا تتبع هواك لأن الرأي يُفسِده الهوى.
لذلك وقف بعض المفكرين أمام قول الله تعالى عن سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ) (النجم: 3-4).
قالوا: ما دام هو وَحْي يُوحَى، فلماذا يُعدِّل الله له كما في قوله سبحانه: (عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ..) (التوبة: 43).
وقوله تعالى: (يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ) (التحريم: 1).
وقوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ) (عبس: 1-2).
قالوا: إن الحق سبحانه لا يعدل لرسوله، إنما يخبر أنه لا هوى له يجعله يميل عند الحكم، فهو -صلى الله عليه وسلم- يدخل على المسألة بدون هوى، سواء أكان الأمر من عند الله أو من المفوَّض له أنْ يشرع فيه.
والحق سبحانه حينما أراد أنْ يحدد مهمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- حدَّد مهمة كتابه بأنه كتاب مُعجز، ويحمل أصول المنهج لا فروعه، وأنه مهيمن على غيره من الكتب السابقة، لأن الكتب السابقة عليه أثبتَ الله أنها بُدِّلَتْ وحُرِّفت، فلم يأمن عليها المؤمنين بها كما قال سبحانه: (بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ..) (المائدة: 44).
ومعنى استحفظوا: طُلب منهم حفظه وحفظ منهجه، فحِفْظ الكتاب المنزَّل كان تكليفاً والتكليف عُرْضة أَنْ يُطاع وأنْ يُعصَى، وهؤلاء عَصَوْا وبدَّلوا وحرَّفوا، كما قال الله: (وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ) (المائدة: 13) والذين لم ينسوا حرَّفوا: (يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) (المائدة: 13) ومنهم مَنْ جاء بكلام من عند نفسه، وأدخله في كلام الله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 78).
إذن: مثل هؤلاء لا يُؤتَمنون على حفظ كتاب الله، وقد ثبت ذلك بهذه التجربة، لذلك لم يجعل الحق سبحانه حِفْظ القرآن إلى المؤمنين به، إنما تكفَّل سبحانه بحفظ القرآن، فقال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).
ولأن الحق سبحانه جعل لنبيه محمد هذه المنزلة أراد أنْ يُبينها، فقال: "مَثَلي ومَثَل الأنبياء من قَبْلي كَمَثَل رجل بنى بيتاً فحسَّنه وأجمله، إلا موضعَ لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هَلاَّ وُضِعت هذه اللبنة؟
قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين".
والحق سبحانه يُبيِّن منزلة رسوله في إكمال الأديان، فيقول: (ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي..) (المائدة: 3) ليس هذا فحسب، إنما يعطيه مهمة أخرى، هي صيانة هذه الأديان به وبالعلماء الذين يخلفون مَنْ بعده، لذلك قال سبحانه: (لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً..) (البقرة: 143).
فالرسول يشهد أنه بلغنا، وعلينا نحن أنْ نمد رسالة رسول الله، فنشهد أننا بلغنا الناس من بعده.
لذلك يحذرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من طائفة تأتي ممَّن لا يؤمنون بسنته يقولون: علينا بكتاب الله فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه.
وحين تتتبع لفظ الطاعة في القرآن تجد أنه أتى على صور متعددة.
فمرة يقول: (وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ) (التغابن: 12) بتكرار الأمر بالطاعة.
ومرة يقول: (وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ) (آل عمران: 132) بدون تكرار لفعل الأمر.
ومرة يقول: (أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ) (الأنفال: 20).
فتكرار الأمر بالطاعة مرة لله ومرة لرسول الله حين يكون لله أمر في القضية الإجمالية مثل الصلاة مثلاً، ولرسول الله أمر في تفصيل كيفية الصلاة.
فإنْ توارد أمر رسول الله مع أمر الله جاء الأمر واحداً بدون تكرار، فإنْ كان الأمر خاصاً برسول الله، ولم يردْ فيه من الله شيء قال: أطيعوا الرسول.
لذلك تلحظ العظمة في الأداء في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59) ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر..
لماذا؟
ليلفتنا إلى أن طاعة أُولي الأمر من باطن طاعة الله، وطاعة رسول الله يعني ليس لهم طاعة خاصة بهم؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقوله تعالى (فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ) (ص: 26) أي: حكماً عاماً للناس جميعاً ليس خاصاً بك، وهنا لابُدَّ أنْ نذكر قوله تعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً) (النساء: 105).
ولهذه الآية قصة، فقد نزلت في كل من زيد بن السمين، وكان رجلاً أميناً مع أنه يهودي، وفي قتادة بن النعمان وطعمة بن أبيرق، فقد كان لقتادة دِرْع سرقه ابن أبيرق واتهِم فيه اليهودي ابن السمين، وبعد استقصاء الأمر وجدوا الدرع عند ابن أبيرق المسلم وظهرت براءة اليهودي.
وهنا أسرع الناس إلى رسول الله حتى لا يحكم على المسلم، فتكون سبة في حق المسلمين أمام اليهود، فتردَّد رسولُ الله في المسألة، فأنزل الله عليه: (إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ) (النساء: 105) أي: الناس جميعاً اليهود والنصارى والمسلمين وفعلاً حكم رسول الله على المسلم وبرَّأ ساحة اليهودي ولم يُبَال أحد لا رسولُ الله ولا المسلمون بأنْ ينتصر اليهودي على المسلم؛ لأن الحق أعزُّ من هذا ومن ذاك.
وحين رأى اليهودُ رسولَ الله يحكم لليهودي ويدين المسلم أقبلوا على الإسلام، وأسلم منهم كثيرون على رأسهم (مخيريق) الذي أعلن إسلامه، ووهب كل ماله لرسول الله، ثم خرج للغزو لما أعجله النفير قبل أن يصلي لله ركعة واحدة، وقُتِل (مخيريق) في هذه الغزوة شهيداً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه: "نِعْمَ مُخيريق، دخل الجنة ولم يُصَلِّ لله ركعة".
هذا معنى (فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ..) (ص: 26).
ومعنى (خَلِيفَةً..) (ص: 26) أن الله استخلفنا جميعاً في الأرض، وجعل للمستخلفين خليفة يدبر أمرهم ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه بمنهج من استخلف الكُلَّ.
أو خليفة للرسل الذين سبقوه يُنبه إلى ما انطمس من مواكب الحق في الخَلْق، والحكومة بين الناس لا تكون إلا عن اختلاف بينهم؛ لأنهم لو لم يختلفوا ما تحاكموا، وما لم يختلف فيه الناس فلا دَخْلَ للحاكم فيه إلا أنْ يكونوا قد اختلفوا مع الحق الأعلى، فعندها لابُدَّ أنْ يتدخَّل.
وكلمة (بِٱلْحَقِّ..) (ص: 26) الحق يعني: الشيء الثابت الذي لا يتغير، وهذا لله تعالى، أما الإنسان فأموره تتغير ولا تستقر على حال، ونحن منها أغيار، لكن الحكم الذي يحكم حركة الإنسان ما دام من الله فهو ثابت لا يتغير، وما دام الله تعالى قد أتمَّ النعمة وأكمل الدين ورضي الإسلام، فلا استدراك لأحد عليه في شيء من الأشياء؛ لأن الاستدراك طَعْنٌ في استقصاء الله لحكمة الحكم.
والحق يقابله الباطل، وقد يعلو الباطل في بعض الأحيان، لكن يظل الحق هو الحق حتى يعلوَ في نهاية المطاف.
والحق سبحانه يترك الباطلَ يعلو في بعض الأحيان لحكمة، هي أن يعضَّ الباطلُ الناسَ، ويكويهم بناره لتظهر لهم حلاوة الحق، فإذا لَذَعهم مُرُّ الباطل فزعوا هم إلى طلب الحق.
إذن: فإنْ عَلاَ الباطل فالحق أعْلَى، وقد ضرب لنا الحق سبحانه مثلاً يوضح هذه المسألة، فقال سبحانه: (أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ) (الرعد: 17).
إذن: فالحق ثابت، وبهذا الثبات نفهم أن المناهج الإلهية ما جاءت لتجعل كلمة الله هي العليا، إنما جاءت لتجعلَ كلمة الذين كفروا السفلى، وهذا المعنى واضح في قوله تعالى: (وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا..) (التوبة: 40) فلم يعطف الثانية على الأولى، ولم يقل: وكلمة الله هي العليا.
لأن كلمة الله ليستْ جعلاً، وإنما هي شيء ثابت، وهي حَقٌّ أزلاً.
ثم يقول سبحانه مخاطباً سيدنا داود: (وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ..) (ص: 26) الهوى: مَيْلُ النفس إلى شيء تهواه بغَضِّ النظر عن منهج يحكمه، والهوى يختلف باختلاف الناس، حتى الأصدقاء الحميمون المتلازمون في المأكل والمشرب والميول إذا ذهبوا لشراء شيء اشتروا أشياء مختلفة وألواناً متباينة.
نعم، هناك جامعة تجمعهم هي الصداقة، لكن الأهواء مختلفة، فإذا كان هواي يخالف هواك، فلابُدَّ أنْ نرجع إلى شيء لا نختلف فيه، فإنْ كان هذا الشيء الذي لا نختلف فيه من أعلى مِنّا فلا غضاضة، الغضاضة تأتي حين تخضع لمن يساويك وتحكّمه، وتنتهي إلى رأيه.
لذلك الحق سبحانه يحكم هذه المسألة بقوله تعالى: (وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ..) (المؤمنون: 71).
ونحن نفهم أن اختلاف الأهواء يفسد الحياة على الأرض، لكن كيف يفسد السماء؟
ولماذا بدأ بفساد السماوات قبل الأرض؟
قالوا: نعم، لأن الفساد سيتعدَّى فسادَ الأرض، ويفسد أيضاً السماء، بمعنى أنه سيفسد حكم الله المنزَّل من السماء، وما دام سيفسد حكم الله المنزَّل من السماء وهو الحق، وهذا الفساد سابق لفساد ما على الأرض.
لذلك لم يقولوا: (أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً..) (الإسراء: 92) هذا هوى، ولو أجابهم الله فيما طلبوا لفَسدتْ فعلاً السماوات والأرض، فمن رحمة الله بالخَلْق أنْ عَصَم أهواءهم في المناهج النظرية التي تحكم الناس فيما يختلفون فيه، أما الشيء الذي لا يُختلف فيه فتركه لكم تربعون فيه كما تشاءون.
فإنْ قلتَ: فلماذا ترك لهم الأمور التي لا اختلاف فيها؟
نقول: لأنهم سينتهون فيها إلى حَقٍّ واحد مجْمع عليه، وهذا ما نراه مثلاً في العلوم المادية التجريبية، فهي مجال مفتوح للجميع، الروس مثل الأمريكان، بل نراهم يجعلون على هذه العلوم حواجز حديدية حتى لا تصل إلى غيرهم، والبعض يتلصَّص ويسرق ما وصل إليه الآخرون.
إذن: فالشيء الذي سنتفق فيه لا تتدخَّل فيه السماء، وهذه المسألة حكمها سيدنا رسول الله، وأعطانا مثالاً في نفسه -صلى الله عليه وسلم- في مسألة تأبير النخل، فلما اقترح عليهم عدم تأبير النخل فسد في هذا العام ولم يثمر، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أنتم أعلم بشئون دنياكم".
لماذا؟
لأنكم ستصلون بالتجربة إلى شيء واحد، تتفقون عليه وتسرقونه من الآخرين، أما في الأهواء فهي مختلفة من واحد لآخر، ويحصل منها الصدام بارداً كان أو حاراً.
ثم يُبيِّن الحقُّ سبحانه العِلَّة من النهي عن اتباع الهوى، فيقول: (فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ..) (ص: 26) يعني: لا تتبع الهوى، لأن اتباع الهوى يُضلّك عن سبيل الله، وقد أوضح لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المسألة حين خَطَّ للصحابة خطاً مستقيماً، وخَطَّ حوله خطوطاً متعددة، ثم تلا: (وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ..) (الأنعام: 153).
وتفرُّق السُّبُل ينشأ من الاختلاف مهما كان يسيراً، (فالمللي) الواحد يُفرِّق السبل، ولو رسمتَ خطَّيْن من مركز واحد ومال أحدهما عن الآخر (مللي) واحد لنتج عن ذلك تباعدهما بالتدريج كلما بَعُدَا عن المركز، أرأيتَ مثلاً المحولجي الذي يقوم بتحويل مسار القطار ماذا يفعل؟
إنه يحرك طرف القضيب الذي لا يتجاوز سمكه خمسة (مللي) متر، فينتج عن هذه الحركة تحويل مسار القطار من الإسكندرية إلى أسوان.
وهكذا تتفرق السبل، وينشأ عن الاختلاف اليسير اختلاف عظيم، فالتباعد الهيِّن البسيط عند المركز ينتج عنه تباعد واسع كلما طالت المسافة، وكما يكون التفرُّق في السُّبُل المتعددة يكون التفرق كذلك في الطريق الواحد حين يكون واسعاً يسمح بالتفرق.
فمثلاً الطريق الصحراوي إلى الإسكندرية طريق واسع من اتجاهين، ويمكنك أنْ تسير في أحدهما بطريقة ملتوية تميل مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار، فينشأ عن ذلك طول الطريق؛ لذلك قالوا سواء السبيل يعني: أن تجعل الجانبين على سواء.
ثم يوضح الحق سبحانه عاقبة الضلال والانحراف عن جادة الطريق، فيقول: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ) (ص: 26).
إذن: فالغفلة عن هذا اليوم ونسيان العاقبة هو سبب الوقوع في العذاب الشديد، فلو ذكر الإنسانُ الجزاءَ على السيئة ما فعلها، ولو ذكر ثوابَ الحسنة مَا غفل عنها، ولا تكاسل عن أدائها. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة ص الآيات من 26-29 الجمعة 12 فبراير 2021, 11:55 pm | |
| وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
يعني: ما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً، بل خلقناهما بالحق، لذلك تجدها ثابتة لا تتغير، كما قال سبحانه: (لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس: 40) ولو كان هذا الخَلْق على غير ذلك لحدثَ صدام في كل دقيقة وفي كل لحظة بين هذه الأجرام والأفلاك.
ومعنى (ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ..) (ص: 27) أي: أنهم يظنون أنها خُلِقَتْ باطلاً، ذلك ظَنُّهم وهو مجرد ظن، ولو جاء الخَلْق كما يظنون ما كان خَلْقاً، لأن الخَلْق لابُدَّ أن يكون له غاية عند الخالق قبل أنْ يخلق، كما قلنا أن الذي اخترع الغسالة أو الثلاجة قبل أنْ يخلقها حدَّدَ لها مهمتها، لا أنه خلقها.
وقال: انظروا فيما تصلح هذه الآلة.
فالذي صنع هو الذي يحدد الغاية، وهو الذي يضع قانون الصيانة لصناعته.
لذلك نقول: إن ضلالَ العالم كله ناشئ من أنهم يريدون أنْ يقننوا بأنفسهم غاية ما صنع الله، ويريدون أنْ يضعوا لخَلْق الله قانون صيانته، وأنْ يتجاهلوا ما وضع الله، لا رد الأمر إلى صاحبه كما تفعل في أمور الدنيا، فكل صانع أعلم بما يُصلح صَنْعته.
ثم يأتي هذا التهديد: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ) (ص: 27) كثيراً ما يُهدِّد الخالق سبحانه خَلْقه بالنار، ويتوعَّدهم بالعذاب، والبعض يرى في ذلك لوناً من القسوة، والحقيقة أنها لَوْنٌ من ألوان الرحمة لا القسوة، فمن رحمة الله بنا أنْ يعظم الذنب، وأنْ يُظهر العقوبة، ومن رحمته بنا أنْ يضعَ الجزاء قبل أنْ يقع الذنْب؛ لأنك حين تستحضر الجزاء ترتدع ولا تفعل.
إذن: التهديد والوعيد لحكمة. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة ص الآيات من 26-29 الجمعة 12 فبراير 2021, 11:56 pm | |
| أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
بعد أن ذكر الحق سبحانه جزاءَ الكافرين في النار أراد سبحانه أنْ يذكر المقابل، وبضدِّها تتميز الأشياء، أراد سبحانه أنْ يعقد لنا هذه المقارنة بين الكافرين والمؤمنين الذين استقاموا على منهج الحق، وساروا على الصراط، وسَلِمَ الناسُ من أيديهم ومن ألسنتهم، وأشاعوا الأمن وأشاعوا المحبة، كيف إذن نسوِّيهم بالكافرين المفسدين؟
وفي هذا إشارة من الحق سبحانه كأنه يقول لنا: إياكم أنْ تُسووا بين هؤلاء وهؤلاء، إياكم أنْ تأخذكم بالمفسدين الظالمين رحمةٌ؛ لأنكم إنْ رأفتم بهم فقد سَوَّيْتُم بينهم وبين المؤمنين.
لذلك كنا نردُّ على الشيوعيين ونقول لهم: نعم لقد انتقمتم من خصومكم الرأسماليين والإقطاعيين، وفعلتم بهم الأفاعيل، لكن ما بال الذين ماتوا قبل أنْ تدركوهم وتنتقموا منهم؟
لا شكَّ أنهم ظلموا ثم ذهبوا دون أنْ يُعاقبُوا.
إذن: كان لابُدَّ أنْ تعترفوا بيوم آخر يُقتصّ فيه من هؤلاء الذين لم يُقتص منهم في الدنيا، وإلاَّ سَوَّيْنا بين المحسن والمسيء.
وقال: (كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ..) (ص: 28) لأن الله تعالى خلق الأرضَ على هيئة الصلاح، فإنْ لم تُزدْها صلاحاً يريح الناس ويسعدهم، فلا أقلَّ من أنْ تُبقي عليها كما هي لا تفسدها، وأوجه الإصلاح في الكون كثيرة، ومثّلنا لذلك ببئر الماء، إما أنْ تتركه على حال يستفيد منه الناسُ كما هو، وإما أنْ تزيده حسناً، كأن تبنى حوله سوراً يحميه، أو تجعل عليه آلة لرفع الماء.. إلخ.
أما أنْ نلقي فيه بالقاذورات فهذا هو الفساد.
وقلنا: لو دخلت بستاناً أُنُفاً أي: لم يدخلْه أحد قبلك تجده على طبيعته، لا ترى فيه شجرة كُسِرت، ولا تشُم فيه رائحة كريهة، رغم أن فيه حشرات وحيوانات وفضلات.. إلخ لكن إنْ دخلها الإنسان ظهر فيها الخَلَل والفساد..
لماذا؟
لأنه لا يبقى على الصلاح الذي خلق اللهُ الطبيعة عليه؛ لأنه دخلها بغير منهج الله، ولو دخل بمنهج الله لاستقامتْ الأمور.
ثم يؤكد الحق سبحانه هذا المعنى فيقول: (أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ) (ص: 28) الفاجر هو الفاسق الذي يفسق عن القانون الذي يحميه ويحمي المجتمع كما تفسق الرطبة من قشرتها، والحق سبحانه قبل أنْ يحمي المجتمع من الفاسق حَمَى الفاسق من المجتمع، والفاسق واحد، والمجتمع كثير.
إذن: فالفرد هو المستفيد من منهج الحق وهو الرابح.
وأيضاً، الإنسان حين تمرّ المسألة بخاصة نفسه يلتفت إلى الحق قَصْراً عنه، لأنه لن يجد حمايةً إلا في الحق، وسبق أنْ ضربنا مثلاً لطلاب الجامعة قلنا: هَبْ أن ثلاثةً من الشباب في دور المراهقة اثنان منهم ساروا -كما نقول- على حَلِّ شعرهم.
والآخر استقام على المنهج حتى أنهما كانا يسْخران منه، ويقولان عنه: فلان جردل.. قفل.. إلخ ما نسمع من هذه الكلمات.
وصادف أنْ كان عند أحدهما أخت، بالله لمن يُزوِّجها؟
لصاحبه المنحلّ؟
أم لصاحبه الملتزم المستقيم؟
لا شكَّ أنه يفضل الثاني، لأنه يأمنه ويطمئن إليه، إذن: لابُدَّ أنْ يظلَّ الحق حقاً، والفضيلةُ فضيلة، ولا يمكن أنْ يستوي التَّقِيُّ والفاجرُ.
ثم يخاطب الحق سبحانه نبيه -صلى الله عليه وسلم- ليسليه؛ لأن قصصَ القرآن جاء تسلية له -صلى الله عليه وسلم-، وتثبيتاً لفؤاده: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ...). |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة ص الآيات من 26-29 الجمعة 12 فبراير 2021, 11:57 pm | |
| كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٩) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
الكتاب هو القرآن، والمبارك هو الشيء الذي يعطي من الفائدة والخير فوق ما يُتصوَّر منه، تقول: هذا الشيء نأخذ منه ولا ينقص، نسميه مبروك كرجل يعيش على راتب محدود، ومع ذلك تراه يُربِّي أولاده أحسن تربية ويعيش بين الناس عيشة الأغنياء، فيقولون: إنه رجل مبارك، وأن الله يبارك في راتبه القليل فيصير كثيراً، لكن كيف يبارك الله في القليل؟
قالوا: ينزل على القليل، القناعة أولاً فيرضى صاحبها، ثم يسلب المصارف فلا ينفق منها إلاَّ في المفيد، الناس يظنون أنَّ الرزق هو المال، ولا يدرون أن سَلْبَ المصارف لونٌ من ألوان الرزق، وقلنا: إن الرزق رزقُ إيجابٍ بأنْ يزيد الدَّخْل، ورزقُ سَلْب بأنْ تقلَّ المصارف.
ومثَّلْنا لذلك بالرجل يعيش من الحلال، وحين يمرض ولده مثلاً يكفيه كوبٌ من الشاي وقرص أسبرين، أما الذي يعيش من الحرام ويكثُر المال في يده حين يمرض ولده لابُدَّ أنْ يذهبَ به إلى أفضل الأطباء، وينفق على شفائه أضعاف ما يُنفق الأول.
والقرآن مباركٌ، وآياته مباركة من حيث الأحكام الظاهرية، لأنه سيربي النفس على استقامة، هذه الاستقامة لو نظرتَ إليها اقتصادياً تجد أنها لا تُكلِّفك شيئاً، نعم الاستقامة لا تكلفك، أمَّا الانحراف فهو الذي يُكلِّف، لذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن يأكل في مِعَىً واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء".
نعم الكافر يأكل كثيراً ليشبع، أما المؤمن فتكفيه لُقيمات يُقمْنَ صُلْبه، ثم هو لا يأكل إلا إذا جاع، وإذا جاع صار أيُّ طعام بالنسبة له لذيذاً، ولو كان الخبز الجاف والملح، لذلك قال العربي الحكيم: طعام الجائع هنيء.
أما الآن فنراهم يجهزون قبل الطعام السَّلَطات والمشَهِّيات والمقبِّلات..
لماذا؟
ليأكل الإنسان كثيراً، يأكل حتى التخمة، ثم بعد ذلك يحتاج إلى المسهِّلات والمهضمات.. إلخ.
وهذا ليس من صفات المؤمن؛ لأن سيدنا رسول الله وضع لنا المنهج في ذلك، فقال: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع".
فهذا المنهج يراعي الناحية الاقتصادية، ويوفر الخير والسعادة للكل: اقتصادياً، واجتماعياً، وسياسياً، وأمنياً بدون تكلفة.
ثم إن القرآن مُبَاركٌ من ناحية أخرى، فحين تتفاعل مع المنهج، وحين تعشقه يُبيِّن لك الحق سبحانه ألواناً من الأسرار يتعجَّب منها غيرك، ويفتح عليك فُتُوحات عجيبة، ألم يتعجَّبْ موسى -عليه السلام- وهو نبيّ الله من عمل العبد الصالح، والعبد الصالح عبد الله على منهج موسى، ومع ذلك أمر الله موسى أنْ يتبعَ العبد الصالح، وأن يتعلَّم منه، لكنه يتبعه بإخلاص وبعشق، فلما اتبعه موسى بعشق وإخلاص تعلَّم منه الأعاجيب، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى: (يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ) (الأنفال: 29).
الفرقان هنا ليس هو القرآن، بل هو فرقانٌ خاصٌّ لمن يتبع الفرقان الأول وهو القرآن، ويصل به إلى درجة التقوى، يعطيه الحق سبحانه فرقاناً خاصاً لأنه اتبع القرآن بإخلاص وبعشق.
ومعنى (لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِه..) (ص: 29) والتدبُّر هو ألاَّ ننظر إلى الوسيلة نظرةً سطحية، إنما ننظر بتفكُّر وتمعُّن وحساب للعاقبة، ننظر إلى الخلفيات واللوازم لنستنبط ما في الشيء من العِبَر، لذلك لما خرقَ الخِضْر السفينة اعترض موسى؛ لأنه نظر إلى سطحية المسألة والمنطق.
يقول: إن السفينة السليمة أفضل من المعيبة, إنما للعبد الصالح مقياسٌ آخر، فهو لا يقارن بين سفينة سليمة وأخرى مخروقة، إنما يُقارن بين سفينة مخروقة ولا سفينة أصلاً أيهما أفضل؟
لأن الرجل الظالم كان سيأخذ السفينة، إنْ كانت سليمة فَخُرقها هو الذي نجَّاها من هذا الظالم، وبقيتْ السفينةُ لأصحابها، هذا هو علم الملكوتيات والغيبيات التي يفيض الله بها على مَنْ يشاء من عباده الذين أخلصوا له سبحانه وقوله: (وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ) (ص: 29) أي: أصحاب العقول الواعية، وتأمل هنا أن الحق سبحانه يُنبِّه العقول، ويُحرِّك الفهم إلى تأمُّل آياته في الكون، والمقابل لك أو الذي بينك وبينه صفقة لا ينبهك إليها، إلا لأنه واثق أنك ستُقبل عليها وإلا أخفاها ودلَّسَ عليك، كالذي يبيع لك سلعة جيدة تراه يشرح لك مزاياها، ويدعوك إلى اختبارها، والتأكد من جودتها ويُنبِّه عقلك إلى ما خَفِي عنك منها.
أما صاحب السلعة الرديئة فإنه يصرف نظرك عن عيوبها، ويشغل عقلك بأمور أخرى، حتى لا تتنبه إلى عيوب السلعة، فمثلاً تدخل المحل لشراء حذاء مثلاً، فإنْ كان ضيقاً يقول لك البائع: إنه يتسع بالمشي فيه، وإنْ كان واسعاً سبقك هو بقول: أنا أرى أنه ضيق عليك قليلاً، المهم عنده أن (يلف) عقلك حتى تشتريه.
فالحق -سبحانه و تعالى- يدعونا إلى تأمُّل آياته وتدبُّرها والبحث فيها، لأنه سبحانه واثق أننا حين ننظر وحين نبحث ونتأمل سنقتنع بها، وسنصل من خلالها إلى الحق والصواب.
ومع ذلك نرى البعض يقف أمام بعض المسائل الدينية يقول: هذه مسألة فوق البحث ولا عملَ للعقل فيها، ونقول: لكن أمرنا بالتدبُّر والتفكّر والتأمّل في الكون، فلا مانع أنْ نبحث.
ثم يعود بنا السياق القرآني مرة أخرى إلى سيدنا داود، لا ليقصَّ علينا قصته، إنما لأنه سيكون أباً لنبي آخر، هو سيدنا سليمان عليهما السلام: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ...). |
|