تفسير السورة خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
(نـال شــرف تنسيــق هـــذه الســورة الكريمــة: أحمد محمد لبن)
http://ar.assabile.com/read-quran/surat-sad-38
سورة ص
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
سبق أنْ تكلمنا عن الحروف المقطعة في فواتح السور، وقلنا: إن الحق سبحانه بدأ بعضها بحرف واحد مثل: (ص) و (ن) و (ق)، وبعضها بحرفين مثل: (طس) و(حم) وبعضها بثلاثة أحرف مثل: (الم)، وبعضها بأربعة مثل: (المص)، وبعضها بخمسة مثل (كهيعص) و (حم عسق).
وقلنا: إن الحروف على قسمين: حروف مبنى وحروف معنى، حروف مبنى هي التي تتكوَّن منها الكلمة مثل: كتب فهي مبنية من الحروف: الكاف والتاء والباء، إنما الكاف وحدها أو التاء ليس لها معنى بمفردها.
أما حروف المعنى مثل تاء الفاعل في كتبتُ لأنها دَلَّت على الفاعل المتكلم، وكتبتَ الفاعل المخاطب، وكتبتِ للمؤنثة المخاطبة.
وقلنا: إن حروف اللغة عبارة عن ثمانية وعشرين حرفاً، جاء منها في فواتح السور أربعة عشر حرفاً، وأحسنُ ما قيل فيها إنها مادة كلمات القرآن، ولَبنات بنائه، ومع أن العرب يعرفون هذه الحروف وينطقونها إلا أنهم عجزوا عن محاكاة القرآن والإتيان بمثله، مع أن هذه صنعتهم ومجال نبوغهم وتفوقهم، نعم الحروف هي الحروف، والكلمات هي الكلمات، لكن المتكِّلم بالقرآن هو الله فلابُدَّ أنْ يعجزوا.
وقوله تعالى: (صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ) (ص: 1) دليل على الإعجاز وحامل الإعجاز، فكلمة (ص) حرف من مكونات القرآن، والقرآن مُعجز؛ لأن العرب عجزتْ عن الإتيان بمثله ولو آية واحدة من آياته، وهي أمة بيان وكلام وفصاحة، وهي الأمة الوحيدة التي جعلتْ للكلمة معرضاً، وللبلاغة أسواقاً في عكاظ، والمربد وذي المجنة، وقد بلغ بهم تقديس الكلمة إلى أنْ علَّقوا الجيد منها على أستار الكعبة.
لذلك جاءتْ معجزته -صلى الله عليه وسلم- من جنس ما نبغ فيه قومه.
فالمعنى (ص) أي: حرف من حروفهم (وَٱلْقُرْآنِ) (ص: 1) الذي عجزوا عنه، والقرآن مرة يُطْلَق عليه الكتاب لأنه مكتوب، ويُطلق عليه القرآن لأنه مقروء، فهو مكتوب في السطور ومقروء، ومحفوظ في الصدور.
ومعنى (ذِي ٱلذِّكْرِ) (ص: 1) أي: صاحب الذكر، وكلمة الذكر تُطلَق على معان عدة مثل: كلمة عين تُطلق على عين الماء، وعلى العين الباصرة، وعلى الذهب والفضة، وعلى الجاسوس، وتُطلق على الوجيه من الناس، والسياق وذكاء السامع هو الذي يُحدِّد المعنى، فهذه المعاني بينها مشترك لفظي يجمعها، وهذه من مميزات اللغة.
كذلك قلنا مثلاً: كلمة النجم تُطلَق على النجم في السماء، وتُطْلَق على النبات الذي لا ساقَ له، ومنه قوله تعالى: (وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) (الرحمن: 6).
ومن ذلك قول الشاعر:
أُرَاعِي النَّجْمَ في سَيْرِي إليكُمُ ويَرْعَاهُ مِنْ البَيْدَا جَوَادِي
فكلمة الذكر تطلق على القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: (وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (الحجر: 6) ويُطلق الذكر على كتب الرسل السابقين، كما في قوله تعالى: (فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ) (النحل: 43).
ويُطلق الذكر على الصِّيت والسمعة، كما جاء في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف: 44) أي: القرآن.
وفي قوله تعالى: (لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ..) (الأنبياء: 10) وما ارتفع العرب ولا علَتْ لغتهم إلا لأنها لغة القرآن.
ويُطلق الذكر أيضاً على التذكُّر، كما في قوله تعالى: (فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ..) (يوسف: 42).
ويُطلق الذكر على التسبيح، كما في قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ) (النور: 36-37).
ويُطلق الذكر على معنى آخر، هو العطاء الجيد من الله، والعمل الطيِّع من العبد.
إذن: فلفظ الذكر أشبه في القرآن بالماسة تتلألأ في يدك، كلما قلَّبتها وجدتَ لها بريقاً.
فكلُّ هذه المعاني تدخل تحت قوله تعالى: (صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ) (ص: 1).