| دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| |
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الجمعة 28 أغسطس 2020, 2:49 am | |
| أسباب الهجرة النبوية الشريفة بسم الله الرحمن الرحيم أيُّها الأحبَّة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. لا شك أن حَدَثاً مثل الهجرة النبوية حين تكون تاريخاً للأمَّة لا شك أنها حدثٌ عظيمٌ في تاريخها ونقطة تحول في حياتها.. فالهجرة فرَّقت بين الحق والباطل، وميَّزَتْ بين الخير والشر.. حوَّلت ضعف المسلمين إلى قوَّة، وذلَّهم إلى عزَّة، وعجزهم إلى قُدرة. وكما يقولون: إن لكل شيءٍ سبباً، فللهجرة النبوية أيضاً أسباب، وهما سببان: 1) شدة الأذى والاضطهاد الذي كان يتعرَّض له النبي -صلى الله عليه وسلم- هو وأصحابه من كفار قريش. 2) قبول أهل المدينة الإسلام ودخولهم فيه. السبب الأول: شدة الإيذاء والاضطهاد من كفار قريش لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. حقيقة: لقد أوذي النبي -صلى الله عليه وسلم- إيذاءً شديداً لم يتعرَّض له نبيٌ من الأنبياء السابقين.. من أنواع الإيذاء: كان المشركون يسخرون منه ويحتقرونه، ويستهزؤون به ويكذبونه، فكانوا ينادونه بالمجنون كما قال الله تعالى عنهم: وقالوا يا أيها الذي نُزِّلَ عليه الذِّكْرُ إنك لمجنون. كانوا يقولون عنه انه ساحر كذاب، كما قال تعالى: وعجبوا أن جاءهم مُنذر منهم وقال الكافرون هذا ساحرٌ كذابٌ. كانوا يستقبلونه بنظرات استحقار، كما قال سبحانه: (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) (51) سورة القلم. كانوا يشوهون تعاليمه الشريفة ويثيرون حولها الشبهات، وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً. وقالوا عن القران الكريم: إن هذا إلا إفكٌ افتراه… وكانوا يقولون أيضاً: إنما يُعلمه بشر. وقالوا عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. من أنواع الإيذاء أيضاً: إنهم عرضوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- ان يتنازل عن بعض تعاليمه ويتركون هم بعض ما عليه مثل المفاوضات فنزل قوله تعالى: ودُّوا لو تُدْهِنُ فيُدْهِنُون. وأيضاً عرضوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدون الله تعالى سنة فنزل قوله سبحانه: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون. من أنواع الإيذاء أن أبا لهب وهو عَمِّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر ولديه عتبة وعتيبة أن يُطَلِّقَا ابنتي النبي -صلى الله عليه وسلم- رقية وأم كلثوم لَمَّا جاء بالدعوة وكان قد كتب كتابهما فقط. وأيضاً: لَمَّا توفي عبد الله وهو الابن الثاني للنبي -صلى الله عليه وسلم- استبشر أبو لهب وقال لقومه: ابشروا فإنَّ محمداً قد صار أبتراً يعني ليس له ولد يحمل ذكره من بعده. فنزل قوله تعالى: "إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر. وكانت زوجة أبي لهب وهي أخت أبي سفيان كانت تحمل الشوك وتضعه في طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى بابه، ولذلك وصفها القران الكريم بأنها حمَّالة الحطب. من أنواع الإيذاء أيضاً: إنهم وضعوا رحم الشاة وهو يُصَلِّي كما وضع عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهره الشريف وهو ساجدٌ -صلى الله عليه وسلم- حتى جاءت فاطمة فطرحته عن ظهره. وكان أمية بن خلف إذا رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- همزه ولمزه، ونزل فيه قوله تعالى: "وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزِةٍ لُمَزَةٍ". وكذلك الأخنس بن شريق كان مِمَّنْ ينال من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فوصفه الله تعالى في القرآن بتسع صفات: "وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أثِيمٍ عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ". أَمَّا أبو جهل رأس الكفر والشرك فقد كان ينهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة فنزل فيه قوله تعالى: "أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صَلَّى…". وفي يوم أراد أن يطأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقدمه ويعفر وجهه في التراب لكن الله تعالى حال بينه وبين ما يريد. ومرة أخرى حمل أبو جهل لَعَنَهُ اللهُ - حجراً كبيراً ليضرب به النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ساجد لكن الله تعالى منعه من ذلك. من أنواع الإيذاء انه في يوم اجتمع عليه عشرة رجال وأحاطوا به فهذا يجذبه والأخر يدفعه والثالث يضربه حتى جاء أبو بكر رضي الله عنه فدفعهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. كما أنهم غيَّرُوا اسمه الشريف -صلى الله عليه وسلم- من مُحَمَّدٍ إلى مذمم. من أشد أنواع الإيذاء التي تعرض لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: الحصار في شِعْبِ أبي طالب ثلاث سنوات حتى أكلوا أوراق الشجر فصارت مخرجاتهم وفضلاتهم مثل الدواب حتى أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وجد في ليلة جلدة شاة فأخذها فوضعها على النار حتى تفحمت ثم أكلها وظل عليها ثلاث ليال لا يأكل شيئاً. من أنواع الإيذاء أنهم حاولوا قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- عدة مرات، ففي يوم الخميس 26 صفر سنة 14 من البعثة اجتمع سبعة من كبار كفار قريش في دار الندوة وجاءهم الشيطان في صورة شيخ يريد نصحهم ودار نقاش طويل. فقال احدهم: نخرجه من بيننا وننفيه من بلادنا. فقال الشيطان: لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حُسْنَ حديثه وحلاوة كلامه والله لو فعلتم ذلك فسينزل على حَيٍّ من العرب فيتبعوه فيسير بهم إليكم فيقاتلوكم. فقال أبو البختري: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه الباب حتى يموت. فقال الشيطان: لا والله، لئن حبستموه ليَخْرُجَنَّ من وراء الباب. فقال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كل قبيلة شاباً جلداً قوياً فنعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً فيضربوه ضربة رجل واحدٍ فيتفرَّق دمه في القبائل فلا يقدر بنو عبد مناف على حربكم فيرضوا مِنَّا بالدِّيَّةِ. هذا عن السبب الأول ويعتبر هو السبب الرئيسي من أسباب الهجرة.السبب الثاني: قبول أهل المدينة الإسلام ودخولهم فيه: كان من عادة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحكمته أن يعرض الإسلام على القبائل بالليل، وفي موسم الحج سنة 11 من البعثة خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب إلى منى فسمع أصوات رجال يتكلمون وكانوا ستة نفر من شباب المدينة وكانت تسمى يثرب. فعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- الإسلام عليهم فاسلموا، وحملوا الإسلام إلى أهل المدينة حتى لم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وفيه ذكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. في موسم الحج سنة 12 جاء 12 رجلا وبايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بيعة العقبة الأولى. وأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- مصعب بن عمير معهم غالى المدينة. في موسم الحج سنة 13 من البعثة جاء 73 رجلا وامرأتان وبايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بيعة العقبة الثانية. وبذلك أصبح للإسلام قواعد وأرضية صلبة يستند عليها في المدينة. ونواصل الحديث في اللقاء القادم إن شاء الله عن أهم الدروس المستفادة من قصة الهجرة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام.. والله ولي التوفيق. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الجمعة 28 أغسطس 2020, 3:03 am | |
| أهمية المخابرات.. في صفوف العدو إن بث العيون والمخابرات في صفوف أعداء المسلمين، وخصوم الحركة الإسلامية: أمر تحتمه الظروف وطبيعة العلاقة الأبدية بين أنصار الحق من جهة وأنصار الباطل من جهة أخرى، فضلا عن أنها معاملة بالمثل: حيث إن هؤلاء الأعداء الخصوم، لا يسكتون عن محاولات بث عيونهم بين المسلمين، واختراق صفوفهم؛ لضربهم.. كسراً لشوكتهم، ومنعاً أو إعاقة لهم عن بلوغ أهدافهم، وتحقيق غاياتهم فلا أقل من أن يكون المسلمون بعامة، وأبناء الحركة بخاصة: على مستوى حماية هذه الدعوة، وشرف تبليغها، ورفع رايتها، وإعلاء شأن أتباعها، بكل الوسائل المشروعة الممكنة. ومن هذه الوسائل: بث عيونهم ومخابراتهم في صفوف أعدائهم، وخصومهم. حيث إنه: لابد من التعرف مباشرة على كل أسرار العدو ومخططاته وتوقعاته، بحيث تصل إلى القيادة أولاً بأول، فتكون المتابعة، قائمة على خبرة بالواقع، لا على الظن التخمين، الذي قد يخطئ ويصيب. "59". وهذا ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- في هجرته من مكة إلى المدينة. ففي البخاري: "...ثم لحق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر، بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو: غلام، شاب، ثقف، لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يكتادان به، إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك، حين يختلط الظلام.." الحديث "53". وما كان أغنى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذا الأمر، وهو الذي يوحي إليه، ويكشف له ربه سبحانه عن خططهم ومخططاتهم..!! ولكنه: التدريب لهذه الجماعة المؤمنة الوليدة، التي تحيط بها سهام الأعداء من كل جانب..!! ولكنه: التعليم لهذه الأمة المؤمنة، التي سوف يتربص بها الأعداء، وتحيط بها سهامهم، في كل عصر، وفي كل مصر. ولكنه: التنبيه لأبناء الحركة الإسلامية على هذا الأمر الذي ينبغي عليها أن تعيه جيدا، وأن لا تهمله أو تقصر فيه أبدا، إن كانت جادة، في أداء الأمانة، ورفع الراية. ولكنه: التكليف لقادة الحركة الإسلامية بدراسة هذا الأمر، وإعطائه بالغ اهتمامها؛ إذ كلما كانت القيادة أعلم بواقع العدو، وأدرى بأسراره، ولها في صفوفه من ينقل إليها كل تخطيطاته: كلما كان ذلك أنجح لها في تنفيذ خططها ومخططاتها وأنجع لها في توقى سهامه وإبطال ضرباته. وهذا أمر: يجب عدم إغفاله أو التهاون فيه، في السراء والضراء، في الصفاء والكدر، في عظيم الأمور وصغيرها، فقد تنقلب السراء -غدا أو فجأة -إلى ضدها، وقد يتحول الصفاء -غدا أو فجأة -إلى عكسه، وقد يكون صغير الأمور مقدمة إلى عظائمها، والقائد -بل المؤمن -العاقل من لا يستهين بأي شئ لصالح دعوته. وينبغي لمن يكلف بمثل هذه الأمور: أن يمتلك من الصفات ما يعينه على النجاح في مهمته، وأن يؤديها تعبدا لله تعالى، ومرضاة له سبحانه، لا انتظارا لمغنم، ولا طمعا في مكسب، ولا ثأرا لشيء أصابه، وفي حديث البخاري: ما يوضح بعض هذه الصفات المطلوبة لهذه المهمة، ثم يضاف إليها ما قد تدعو إليه الضرورة وتقتضيه الظروف الخاصة، بشرط: أن لا يرتكب المكلف بهذه المهمة مخالفة شرعية، كأن يطلع على عورات، أو يقترف محرمات، أو يهمل في أداء الواجبات. ومن المهم جداً: أن لا يؤدي أحد هذه المهمة دون اختيار له وتكليف من القيادة، وإلا صار الأمر فضولاً وفوضى، وقد يحدث لأبناء الدعوة ما لا تُحمد عُقباه. ولا مانع -بل إنه لمن اللازم- أن تكون هناك، لدى المسلمين، وأبناء الحركة على وجه الخصوص، دراسات جادة في هذا الموضوع وأمثاله، توضح: أهميته، وأساليب ممارسته، و.. الخ، على أن تُعَدُّ هذه الدراسات من قبل متخصصين فيها، عالمين بها، وليس هذا بالمستحيل، حيث إن هذه الدراسات تقوم بها كل الدول، ولها مدارس كثيرة. كما أنه لا مانع -بل إنه من اللازم- أن تكون هناك دورات دراسية وتدريبية لِمَنْ يُختارون للقيام بهذه المهام، وتتوافر فيهم مؤهلات النجاح فيها. كما أنه لا مانع -بل إنه من اللازم- أن يقيم هؤلاء الأفراد، وقد يوظفون، أو.. أو.. الخ، لدى هؤلاء الأعداء أو الخصوم، لتقريبهم من مصادر المعلومات، وأماكن صنع القرارات، والتيسير عليهم في أداء مهمتهم. كل ذلك: بشرط أن لا ينحرف المسلمون عامة وأبناء الحركة خاصة، فيما تستتبعه هذه الأعمال من مخالفات شرعية، أو ممارسات لا أخلاقية، أو أية أمور غير ذلك، مما هو معروف أو غير معروف، فيما يُسَمَّى بعالم "الجاسوسية" هذا.. وإن هذا الدرس لا تقتصر فائدته على الأمَّة أو الجماعات فقط، بل إنه لِمَنَ المُمكن أن يستفيد به الفرد -على شرط المحافظة على ضوابطه الشرعية -مع أيَّة خصوم له؛ رغبة فقط في الوقاية من شرهم، والنجاة من أضرارهم، وليس توصلاً لإيذائهم، أو النيل منهم. يتبع إن شاء الله... |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ السبت 29 أغسطس 2020, 2:42 pm | |
| أهمية دور المرأة المسلمة المرأة: نصف المجتمع: (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى) "90 "، ويقول سبحانه كذلك: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى) "91".
وهي هدية الله تعالى -قدمها على غيرها- لِمَنْ يَشَاءُ: (للهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) "92 ".
وهي: باب من أبواب الجنة إذا أحسن إليها، وبولغ في إكرامها، "مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتً أوْ ثَلَاثُ أخَوَاتٍ أوْ ابْنَتَانِ أوْ أخْتَانْ فأحْسَنَ صُحبتهُنَّ، واتَّقَى اللهَ فِيهِنَّ: فَلَهُ الجَنَّة" "93".
بل إن الجنة نفسها: تحت قدميها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "الجنة تحت أقدام الأمهات" "94".
وهي: صانعة الأجيال، ومربية الأبطال الأم مدرسة إذا أعددتها...أعددت شعبا طيب الأعراق
ولذلك..!! ففي طهارتها: طهارة المجتمع ونظافته. وفي الإحسان إليها: سعادة المجتمع وبهجته. وفي تعليمها: وعي المجتمع ورقيه. وفي حسن تربيتها: نجاح المجتمع وفلاحه.
ومن هنا.. يجب الاهتمام بها، وعدم الإهمال لها، أو التقليل من شأنها، أو الإغفال لدورها، أو الإهدار لجهودها.
وإذا كان ذلك بصفة عامة: فهو بالنسبة لها في مجال الدعوة إلى الله تعالى، ونشر هذا الدين، ونصرته، بصفة خاصة؛ أكد وأولى وأوجب.
نستفيد ذلك من الهجرة على النحو التالي: أ - فهي التي كانت على مستوى المسئولية، والقدرة على كتمان السر، والفوز بتزكية أبي بكر لها أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في معرفة أمر خطير، حجب عن كثير من الرجال، حينما طلب النبي -صلى الله عليه وسلم- من أبي بكر إخراجهما.
ب - وهي التي كانت على مستوى المسئولية، والقدرة على التمويه عن جدها، حينما وضعت حجارة في حائط بالبيت وغطتها، وأوهمته أنها أموالا تركها لهم أبوهم، أبو بكر، قبل هجرته، وذلك حتى يطمئن جدها عليهم في حال غياب أبي بكر عنهم، وهي تقول -في نفسها -والله ما ترك لنا شيئا، ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك. "95 ".
ج - وهي التي كانت على مستوى المسئولية، والقدرة على الصمود في مواجهة بطش " فرعون " عصرهم، أبي جهل حينما جاء ليعرف منها مكان المهاجرين، فأنكرت معرفتها، وتأبت على جبروته، ولم تخش ظلمه وطغيانه؛ مما أغضبه، ودفعه لأن يلطمها على وجهها الشريف، وخلف من بعده خلف اتبعوه، واقتدوا به في تعذيب النساء المسلمات الصالحات القانتات الصامدات.
د - وهي التي كانت على مستوى المسئولية، والقدرة على التضحية وتحمل المشاق، حينما ذهبت للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأبيها بالغار مع بعد الطريق، ومشقة المشوار، وخطورة الحركة إلى هذا المكان، حاملة لهما سفرتهما، خلال رحلتهما، دون خوف، من اكتشاف لأمرها، أو اعتقال تتعرض له، أو تعذيب ينالها، وهي تدرك جيدا أن بعض ذلك -بل كله- محتمل جداً.
هـ - وهي التي كانت على مستوى المسئولية، والقدرة على حسن التصرف، وسرعة البديهة، حينما لم تجد ما تعلق به السفرة في الراحلة، إذ شقت نطاقها، وربطت السفرة بنصف، وانتطقت بالأخر، ولذا سميت بذات النطاقين.
و - وهي التي كانت على مستوى المسئولية، والقدرة على الحركة والسفر الشاق المضني من المدينة إلى مكة لملاقاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، في بيعة العقبة، كما حدثت من السيدتين العظيمتين "أم عمارة"، "أم منيع".
ز - وهي التي كانت على مستوى المسئولية، والقدرة على الحركة السرية، والتخفي التام، والتسلل كالقطا من رحال القوم في جنح الليل مع رجال من قومها للقاء الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، ومبايعته في بيعة العقبة، بمنى.
ومما ينبغي ملاحظته جيداً: أن السيدة أسماء بنت أبي بكر، لم تكن هي المرأة الوحيدة في المسلمات -آنئذ- هي المهيأة لذلك، أو المستعدة، أو المضحية، لهذا العمل، بل كان هناك الكثير والكثير، ولكن لظروف السرية التي أحاطت بالهجرة، لم يكتب هذا الشرف -بل لم يجلب هذا الشرف- لواحدة من بنات حواء إلا لهذه السيدة العظيمة، التي رفعت قدر المرأة ومكانتها عالياً.
وهي نفس الملحوظة بالنسبة لهاتين السيدتين، أم عمارة، وأم منيع.
ولذلك، ومن هذا الدرس: علينا أن نعيد النظر في علاقة المرأة بالدعوة الإسلامية، وموقفها منها، ودورها فيها، بشرط: وضوح الفرق بين واجباتها وواجبات الرجال، وبين ما يناط بها وما يناط بالرجال، وما يطلب منها وما يطلب من الرجال، وما تختص هي به، وما لا يقوم به إلا الرجال، على ضوء ما يمليه التشريع الإسلامي في هذا الخصوص، وما يتطلبه واقع الدعوة الإسلامية -تحت هذا الإطار، وهذا الحصار- في هذا العصر.
بدلاً من هذا الإغفال، وهذا الإهمال، الذي يؤدي بدوره إلى ضياع فرص للدعوة كثيرة، وإلى تفويت منافع على المجتمع المسلم -رجالاً ونساءً- كبيرة.
فليست المرأة كالرجل -كما يقول منافقوها- سواءً بسواءٍ، حتى تقوم بكل شئ، وتُمارس كل شئ، وبالتالي تفشل في كل شئ، أو على الأقل في أهم شئ، وهو دورها الذي خُلِقَتْ له.
وليست المرأة كماً مهملاً، حتى تبعد عن كل شئ، ولا تمارس -فيما يخص الدعوة- أي شئ، وبالتالي نفشل نحن في الإفادة من أعز شيئٍ، وهو نصف المجتمع.
وعلى الحركة الإسلامية أن تُسارع في فتح ملف "المرأة المسلمة" ودراسته جيداً، في ضوء ما يكشفه الدين، وتقدمه النماذج الإسلامية الرائدة، وليس في غبش ما قيده الواقع مما أطلقه الدين، أو أطلقه الواقع مما قيَّده الدين، وذلك.. حتى تستفيد المرأة المسلمة، -ونستفيد من المرأة المسلمة- في ظلال ديننا السَّمح الحنيف، وإلا فستظل الجمعيات العالمية، المشبوهة وغير المشبوهة تلعب بعواطف المرأة، وتدغدغ أحاسيسها بدعوات: ظاهرها الرحمة، وباطنها من قبله الدمار والعذاب.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ السبت 29 أغسطس 2020, 2:50 pm | |
| أهمية مبادئ الإدارة في الدعوةبقلم: نبيل بن جعفر الفيصلإن الدعوة إلى الله (سبحانه وتعالى) هي الأساس الذي قامت عليه هذه الأمَّة ونهضت به، وإذا نظرنا في تاريخ الدعوة منذ بعثته وجدنا أنها كانت تسير ضمن عملية إدارية محكمة، بلغت في تخطيطها وتنظيمها وتربيتها للسلوك الإنساني ذروتها. وكما أن حركة الدعوة الإسلامية مطالبة بدراسة التجارب التي مرَّت بها عبر القرون للاستفادة منها بحكمة -بعد تقييمها وعرضها على الكتاب والسنة وإجماع السلف- فكذلك هي مطالبة أيضاً بالاستفادة بكل مايعينها لتحقيق هدفها.
ونستعرض هنا بإيجاز العملية الإدارية من منظورها النظري، وكيفية ملاءمة هذه العملية بوصفها أداة تعين في النهوض بالدعوة. ومع العلم، فإن نجاح تطبيق وظائف الإدارة المختلفة في مجالات الدعوة مرهون بتصور واستيعاب القارئ لتطبيق هذه الوظائف في حياته الدعوية: فمثلاً عندما نتحدث عن إدارة الوقت من الناحية النظرية، فإنا نقوم خلالها بتحديد الأعمال المطلوبة وترتيبها في قائمة حسب الأولوية والأهمية، وتحديد وقت لكل مهمة ومراجعة وتحديث القائمة باستمرار، ثم تقييم ماتم إنجازه حسب الوقت المخصص لكل مهمة ودقة الإنجاز وعمل التعديل اللازم.. إلى غير ذلك من التوجيهات الخاصة بإدارة وتنظيم الوقت. وإذا تصورنا هذه التوجيهات من الناحية العملية، نجد أننا فعلاً نقوم بمثل هذا التخطيط للوقت بصورة غير مباشرة، فتجد أنك تلقائياً وقبل شروعك في إنجاز مهمة ما تفكر ذهنياً وبسرعة متى يجب عليك الانطلاق، وكيف؟ ومع من؟ وأي طريق ستسلك؟، وأثناء الطريق ستفكر ماذا ستفعل عند وصولك وإلى أين ستذهب بعد ذلك.. إلخ.
هذا ما نقصده بالتصور التطبيقي للعملية الإدارية: أي أن ننقلها من الوضع النظري إلى الواقع العملي.
ماهي العملية الإدارية؟
إن الإدارة بحد ذاتها هي: عملية دمج وتنسيق الموارد المادية (كالمعدات والأدوات)، والبشرية (الأفراد) في منشأة من خلال التخطيط لها وتنظيمها وتوجيهها ومراقبة إنتاجها؛ لتحقق بالتالي أهداف المنشأة. كل جهاز دعوي على اختلاف مستوياته لابد له من الاستفادة من علم التخطيط والتنظيم والتوجيه والمراقبة، أو ما يسمى بالوظائف، وبالتالي شرح هذه الوظائف وكيفية الاستفادة منه، خاصة إذا استحضر الإداري المسلم في قلبه وكيانه أنه في إدارته مدفوع بذاتية ربانية ونبوية المنهج، تقوده للتفكير السليم القويم كسمة يتميز بها عن غيره.
أولاً: التخطيط:
هو"ضرورة لكل المنشآت؛ لأنها تعمل في ظروف متغيرة، ومن ثم فإن محاولة التخفيف من مفاجآت هذه الظروف هو الدافع وراء عملية التخطيط، كما أنه عملية مستمرة تدعو لاختيار بديل من عدة بدائل لتطبيقه في المستقبل" (1) ونحدد من خلاله مانريد أن نعمله، وما الذي يجب عمله، وأين؟ وكيف؟ ومتى؟ وعن طريق مَنْ؟ والتخطيط للدعوة يبدأ من المنطلق الاستراتيجي (الإحكامي) البعيد المدى عن طريق القياديين ومفكري الأمة: مثل ما حصل في خطة صلح الحديبية ذات النظرة البعيدة الذي يعده بعض المؤرخين بداية الفتح الإسلامي الفعلي،"ثم على الخطة أن تتسم بالواقعية والمرونة والشمولية وكذلك تناسق الخطط فيما بينها لضمان استمراريتها" (2). ثانياً: التنظيم:
يأتي دور التنظيم لضمان تنفيذ الخطط بالشكل المطلوب، أو بمعنى آخر تنظيم التنفيذ دون الارتباك في توزيع العمل، والتنظيم مهم لتحديد مهام وواجبات كل الأفراد -أعضاء المنشأة- وكذلك تحديد وبيان علاقة كل فرد وأين موقعه من الجماعة، وتوزيع السلطات والصلاحيات لمستويات الأفراد المختلفة؛ كل ذلك من أجل إيجاد تنسيق بشري يساهم فيه كل فرد لإنجاح مسيرة العمل الإسلامي، ولنا من الهجرة النبوية إلى المدينة درس يمثل غاية التنظيم والتنسيق لإحكام خطة الهجرة، وتوزيع العمل والمسؤوليات على الأفراد حسب تخصصهم دون فوضى، وعمل الاحتياطات اللازمة لكل حادث قد يصادف تلك الرحلة، وبالإخلاص وتضافر الجهود تتحقق الأهداف المنشودة بإذن الله. ومن السابق يمكن تعريف التنظيم بأنه: عملية بناء العلاقات بين أجزاء العمل، ومواقع العمل، والأفراد من خلال سلطة فعالة بهدف تحقيق الالتحام والترابط وأداء العمل بطريقة جماعية منظمة وفعالة (3).
ثالثاً: التوجيه والقيادة:
إن للتوجيه الإداري ارتباطاً وثيقاً بمهارات القياديين؛ لذا هو: "فن وقدرة المدير على السير الصحيح بمن تحت إمرته وهدايتهم وتوجيهم مع إشاعة روح الود والحب والرضا والتفاني والانتماء في العمل حتى يتحقق الهدف المطلوب" (4). ولنجاح عملية التوجيه ينبغي مراعاة الاتصال الفعال الذي يربط قنوات النظام الداخلي والخارجي مع وضوح أهداف النظام الكلية والأهداف المطلوب تحقيقها من كل فرد يعمل لهذا النظام على اختلاف مستواه.
أضف إلى ذلك رفع الروح المعنوية للأفراد العاملين في مجال الدعوة من تقديم التشجيع والثناء والمزيد من الحرية والتصرف، ناهيك عن الدافع الديني الذاتي لدى كل من يفهم معنى الدعوة وحجم الاستثمار فيها، ولايفوتنا الإشارة للتوجيه الرباني لكل من القائد وأتباعه (مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح: 29).
رابعاً: الرقابة:
والرقابة بمفهومها العام تعني التأكد من أن المبادئ الآنفة الذكر -التخطيط، التنظيم، التوجيه- تسير في الاتجاه الصحيح نحو الأهداف المرسومة، ويكون ذلك بقياس الأداء ومقارنة النتائج بالأهداف ضمن معايير موضوعة سلفاً لتصحيح وتعديل أي انحراف في الأداء ضماناً لفاعلية وكفاءة التنفيذ. ولعل أبرز ما يتسم به الإداري المسلم الرقابة الذاتية على نفسه، فهي تشمل كافة شئون الحياة الفردية والجماعية، حيث يعلم أنه خلق لعبادة الله وحده، وبالتالي فإن جميع أفعاله -إدارية أو دعوية- مقياس لمدى طاعته لأوامر الله، ثم محاسبة نفسه قبل أن يحاسبه خالقه، يقول تعالى: (إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء: 1).
والمسلم كذلك مطالب برقابة أخيه المسلم بالتناصح والتوجيه يقول (تعالى) (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ) (التوبة: 71).
وإن كان ترتيب الرقابة في النظرية الإدارية في النهاية، إلا أني أعتقد أن عنصر الرقابة هو العنصر الأول والملازم للعملية من بداية التخطيط وأثناء التنظيم والتوجيه وانتهاء بالتأكد من تحقيق الهدف المطلوب..
وبذلك يعي الإداري المسلم مدى نجاح دعوته المستمدة من الكتاب والسنة بتوفيق الله كسمة يجب أن يتميز فيها عن غيره.
-------------الهوامش:(1) الإدارة دراسة تحليلة للوظائف والقرارات الإدارية د. مدني عبد القادر علاقي، مطبوعات تهامة، جدة، الطبعة الرابعة، 1410ه- ص 85.(2) الخطة والتخطيط، لماذا وكيف، نبيل بن جعفر الفيصل، مطابع التسهيلات، الخبر، 1413ه- ص 17: 20.(3) مرجع سابق، رقم (1) ص 156.(4) الإدارة في الإسلام، الفكر والتطبيق، د.عبدالرحمن إبراهيم الضحيان، دار الشروق، جدة، الطبعة الأولى، 1407ه- ص 166.مجلة البيان / عدد 96************ |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ السبت 29 أغسطس 2020, 2:59 pm | |
| إذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه بالهجرة إلى المدينة قال ابن سعد فى طبقاته يروى عن عائشة رضى الله عنها: لَمَّا صدر السَّبعون من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طابت نفسه’ فقد جعل الله له مَنَعَةً وقوماً وأهل حَرْبٍ وعُدَّةٍ ونَجْدِةٍ’ وجعل البلاءُ يشتدُّ على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج’ فَضَيَّقُوا على أصحابه وتعبثوا بهم’ ونالوا ما لم يكونوا ينالون من الشَّتم والأذى’ فشكا ذلك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستأذنوه فى الهجرة’ فقال: (قد أخْبِرْتُ بدار هجرتكم وهى يثرب’ فمَنْ أراد الخروج فليخرج إليها) فجعل القوم يتجهزون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك’ فكان أول مَنْ قَدِمَ المدينة من أصحابه -صلى الله عليه وسلم- أبو سلمة بن عبد الأسد ثم قدم بعده عامر ابن ربيعة ومعه امرأته بنت أبى حشمة’ فهى أول ظعينة قدمت المدينة ثم قَدِمَ أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسالاً فنزلوا على الأنصار فى دُورهم’ فآووهم ونصروهم وآسوهم.
ولم يهاجر أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا متخفياً غير عمر ابن الخطاب رضى الله عنه’ فقد روى علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه أنه لمّا همّ بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه’ وانتضى فى يده أسهماً’ واختصر عنزته (عصاه) ومضى قبل الكعبة’ والملأ من قر يش بفنائها فطاف فى البيت سبعاً متمكناً مطمئناً’ ثم أتى المقام فصلى’ ثم وقف فقال: (شاهت الوجوه’ لا يرغم الله إلا هذه المعاطس’ مَنْ أراد أن يثكل أمه’ أو ييتم ولده’ أو ترمل زوجته فليلقنى وراء هذا الوادى).
قال عليٌ فما أتبعه إلا قوم مستضعفون علّمهم ما أرشدهم ثم مضى لوجهه.
وهكذا تتابع المسلمون في الهجرة إلى المدينة حتى لم يبق بمكة منهم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعلىّ’ أو معذب محبوس’ أو مريض’ أو ضعيف عن الخروج.
العبر والعظات: كانت فتنة المسلمين من أصحاب النبى -صلى الله عليه وسلم- فى مكة’ فتنة الإيذاء والتعذيب وما يرونه من المشركين من ألوان الهزأ والسُّخرية’ فلمَّا أذِنَ لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة’ أصبحت فتنتهم فى ترك وطنهم وأموالهم ودُورهم وأمتعتهم’ ولقد كانوا أوفياء لدينهم مُخلصين لربهم’ أمام الفتنة الأولى والثانية’ قابلوا المِحَنَ والشدائد بصبر ثابتٍ وعزم عنيدٍ.
حتى إذا أشار عليهم رسول الله بالهجرة إلى المدينة’ توجهوا إليها وقد تركوا من ورائهم الوطن وما لهم فيه من مال ومتاع ونشب’ ذلك أنهم خرجوا مستخفين متسللين’ ولا يتم ذلك إلا إذا تخلصوا من الأمتعة والأثقال’ فتركوا كل ذلك فى مكة ليسلم لهم الدين’ واستعاضوا عنها بالأخوة الذين ينتظرونهم فى المدينة ليؤووهم وينصرونهم.
وهذا هو المثل الصحيح للمسلم الذى أخلص الدين لله: لا يبالى بالوطن ولا بالمال والنشب فى سبيل أن يسلم له دينه. هذا عن أصحاب رسول الله فى مكة.
أما أهل المدينة الذين آووهم فى بيوتهم وواسوهم ونصروهم’ فقد قدموا المثل الصادق للأخوة الإسلامية و المحبة فى الله تعالى.
وأنت خبير أن الله عز وجل قد جعل أخوة الدين أقوى من أخوة النسب وحدها’ ولذلك كان الميراث فى صدر الإسلام على أساس وشيجة الدين’ وأخوته والهجرة فى سبيله’ ولم يستقر حكم الميراث على أساس علاقة القرابة إلا بعد تكامل الإسلام فى المدينة وصارت للمسلمين دار إسلام قوية منيعة.
يقول الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (72) سورة الأنفال.
ثم إنه يستنبط من مشروعية هذه الهجرة حكمان شرعيان: 1- وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام’ وروى ابن العربى (أن هذه الهجرة كانت فرضاً فى أيام النبى -صلى الله عليه وسلم-’ وهى باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والتى انقطعت بالفتح’ إنما هي القصد إلى النبى -صلى الله عليه وسلم-’ فإن بقى فى دار الحرب عصى) ومثل دار الحرب فى ذلك كل مكان لا يتسنَّى للمسلم فيه إقامة الشعائر الإسلامية من صلاة وصيام وجماعة وأذان’ وغير ذلك من أحكامه الظاهرة.
وما يستدل على ذلك قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا؟ فيمَ كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين فى الأرض’ قالوا ألم تكن أرض الله واسعةً فتُهاجروا فيها’ فأولئك مأواهم جهنَّم وساءت مصيرًا’ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلًا).
2- وجوب نصرة المسلمين لبعضهم مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكناً’ فقد اتفق العلماء والأئمة على أن المسلمين إذا قدروا على استنقاذ المستضعفين أو المأسورين أو المظلومين من إخوانهم المسلمين’ فى أي جهة من جهات الأرض’ ثم لم يفعلوا ذلك فقد باءوا بإثم كبير.
يقول أبو بكر العربى: إذا كان فى المسلمين أسراء أو مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة بالبدن’ بأن لا تبقى منا عين تطرف’ حتى نخرج الى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك’ أو نبذل جميع أموالنا فى استخراجهم’ حتى لا يبق لا لأحد درهم من ذلك.
وكما تجب موالاة المسلمين ونصرتهم لبعضهم’ فإنه يجب أن تكون هذه الموالاة فيما بينهم’ ولا يجوز أن يشيع شىء من الولاية والتناصر أو التآخى بين المسلمين وغيرهم’ وهذا ما يصرح به كلام الله عز وجل’ إذ يقول: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير).
يقول ابن العربى قطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين’ فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض’ وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض’ يتناصرون بدينهم ويتعاملون باعتقادهم.
ولا ريب أن تطبيق مثل هذه التعاليم الإلهية’ هى أساس نصرة المسلمين فى كل عصر وزمن’ كما أن إهمالهم لها وانصرافهم إلى ما يخالفها هو أساس ما نراه اليوم من ضعفهم وتفككهم وتألب أعدائهم عليهم من وكل جهة وصوب. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ السبت 29 أغسطس 2020, 3:02 pm | |
| هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- جاء فى صحاح السنة وما رواه علماء السيرة أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه لما وجد المسلمين قد تتابعوا مهاجرين الى المدينة’ جاء يستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الآخر فى الهجرة’ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (على رسلك’ فإني أرجو أن يؤذن لى) فقال أبو بكر: (وهل ترجو ذلك بأبى أنت وأمى؟) قال: (نعم) فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليصحبه’ وعلف راحلتين كانتا عنده’ وأخذ يتعهدهما بالرعاية أربعة أشهر.
وفى هذه الأثناء رأت قريش أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صارت له شيعة وأصحاب غيرهم بغير بلدهم’ فحذروا خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم وخافوا أن يكون قد أجمع لحربهم.
فاجتمعوا له فى دار الندوة (وهى دار قصى ابن كلاب التى كانت قريش لا تقضى أمراً إلا فيها) يتشاورون فيما يصنعون بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-’ فاجتمع رأيهم أخيراً على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً جلداً’ ثم يعطى كل منهم سيفاً صارما’ ثم يعمدوا اليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه’ كى لا تقدر بنو عبد مناف على حربهم جميعاً’ وضربوا لذلك ميعاد يوم معلوم فأتى جبريل عليه السلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمره بالهجرة’ وينهاه أن ينام فى مضجعه تلك الليلة.
قالت عائشة رضى الله عنها فيما يروى البخارى: فبينما نحن يوماً جلوس فى بيت أبى بكر فى حر الظهيرة’ قال قائل لأبى بكر: (هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متقنعاً’ فى ساعة لم يكن يأتينا فيها) فقال أبو بكر: (فداً أبى وأمى’ والله ما جاء فى هذه الساعة إلا لأمر) قالت: فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-’ فاستأذن’ فأذن له’ فدخل’ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبى بكر: (أخرج من عندك) فقال أبة بكر: (إنما هم أهلك بأبى أنت يا رسول الله) ’ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فإنى قد أذن لى فى الخروج) فقال أبو بكر: (الصحبة يارسول الله) ’ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (نعم) فقال أبو بكر: (فخذ بأبى أنت يا رسول الله إحدى راحلتى) ’ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بالثمن).
قالت عائشة: فجهزناهما أحث جهاز’ وصنعنا لهما سفرة فى جراب’ فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب’ فبذلك سميت ذات النطاق.
وانطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه فأمره أن يتخلف بعده بمكة ريثما يؤدى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع التى كانت عنده للناس’ إذ لم يكن أحد من أهل مكة له شىء يخشى عليه إلا استودعه عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما يعلمون من صدقه وأمانته.
وأمر أبو بكر غبنه عبد الله أن يتسمّع لهما ما يقوله الناس عنهما فى بياض النهار’ ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون معه من أخبار.
وأمر عامر ابن فهيرة (مولاه) أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى إلى الغار (غار ثور) ليطعما من ألبانها’وأمر أسماء بنته أن تأتيهما من الطعام بما يصلحهما فى كل مساء.
وروى ابن إسحاق والإمام أحمد’ كلاهما عن يحى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير’ عن أسماء بنت أبى بكر قالت: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرج معه أبو بكر’ إحتمل أبو بكر ماله كله معه: خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم’ قالت وانطلق بها معه’ قالت: فدخل علينا جدى أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال: والله إنى لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه’ قالت: قلت: كلا يا أبت’ إنه قد ترك لنا خيراً كيثراً’ قالت: فأخذت أحجارا فوضعتها فى كوة فى البيت الذى كان أبى يضع ماله فيها’ ثم وضعت عليها ثوباً’ ثم أخذت بيده’ فقلت يا أبت ضع يدك على هذا المال’ فقالت: فوضع يده عليه’ قال: لابأس’ إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن’ وفى هذا بلاغ لكم.
ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكنى أردت أن أسكت الشيخ بذلك.
ولما كانت عتمة تلك الليلة التى هاجر فيها النبى -صلى الله عليه وسلم- أجتمع المشركون على باب رسول اله -صلى الله عليه وسلم- يتربصون به ليقتلوه’ ولكنه عليه الصلاة و السلام خرج من بينهم وقد ألقى الله عليهم سنة من النوم بعد أن ترك عليّاً رضى الله عنه فى مكانه نائماً على فراشه’ وطمأنه بأنه لن يصل إليه أى مكروه.
وانطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبو بكر إلى غار ثور ليقيما فيه’ وكان ذلك على الراجح فى اليوم الثانى من ربيع الأول الموافق 20 أيلول سنة (622 م) بعد أم مضى ثلاثة عشر سنة من البعثة’ فدخل أبو بكر قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلمس الغار’ لينظر أفيه سبع أو حيّة’ يقى رسول الله صلى اله عليه وسلم بنفسه’ فأقاما فيه ثلاثة أيام’ وكان يبيت عندهما عبد الله ابن أبى بكر يخبرهما بأخبار مكة’ ثم يدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت بها’ وكان عامر ابن فهيرة يروح عليهما بقطيعه من الغنم’ فإذا خرج من عندهما عبد الله تبع عامر أثره بالغنم كى لا يظهر لقدميه أثر.
أما المشركون فقد انطلقوا - بعد أن علموا بخروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينتشرون فى طريق المدينة يفتشون عنه فى كل المظان’ حتى وصلوا إلى غار ثور’ وسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أقدام المشركين تخفق من حولهم فأخذ الروع أبا بكر وهمس يحدث النبى -صلى الله عليه وسلم-: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا’ فأجابه عليه الصلاة و السلام: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)...
فأعمى الله أبصار المشركين حتى لم يحن لأحد منهم التفاتة الى ذلك الغار ولم يخطر ببال واحد منهم أن يتساءل عما يكون بداخله.
ولما انقطع الطلب عنهما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر’ بعد أن جاءهما عبد الله ابن أرقط وهو من المشركين’ كانا قد استأجراه ليدلهما على الطرق الخفية الى المدينة بعد أن اطمأنا إليه’ وواعداه مع الراحلتين عند الغار) فسارا متبعين طريق الساحل بإرشاد من عبد الله بن أرقط’ وكان قد جعل مشركوا مكة لكل من أتى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر رضى الله عنه ديّة كل منهما.
وذات يوم’ بينما كان جماعة من بنى مدلج فى مجلس لهم’ وبينهم سراقة ابن جعشم’ إذ اقبل إليهم رجل منهم فقال: إنى قد رأيت آنفاً أسودة بالساحل’ أراها محمداً و أصحابه’ فعرف سراقة أنهم هم’ ولكنه أراد أن يثنى عزم غيره عن الطلب’ فقال له: إنك قد رأيت فلاناً و فلانا’ انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم.
ثم لبث فى المجلس ساعة’ وقام فركب فرسه ثم سار حتى دنا من رسول الله فعثرت به فرسه فخرّ عنها’ ثم ركبها ثانية وسار حتى صار يسمع قراْءة النبى صلى اله عليه وسلم وهو لا يلتفت’ وأبو بكر يكثر الالتفات’ فساخت قائمتا فرس سراقة فى الأرض حتى بلغتا الركبتين’ فخر عنها ثم زجرها حتى نهضت’ فلم تكد تخرج قدميها حتى سطع لأثرهما غبار ارتفع فى السماء مثل الدخان’ فعلم سراقة أنه ممنوع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-’ وداخله رعب عظيم’ فناداهما بالأمان.
فوقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه حتى وصل إليهم’ فاعتذر إليه وساله أن يستغفر له’ ثم عرض عليهما الزاد و المتاع’ فقالا: لا حاجة لنا’ ولكن عمّ عنا الخبر’ فقال كفيتم.
ثم عاد سراقة أدراجه إلى مكة وهو يصرف أنظار الناس عن الرسول ومن معه بما يراه من القول.
وهكذا انطلق إليهما فى الصباح جاهداً فى قتلهما’ وعاد فى المساء يحرسهما ويصرف الناس عنهما. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ السبت 29 أغسطس 2020, 5:00 pm | |
| قدومه -صلى الله عليه وسلم- قباء ووصل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قباء’ فاستقبله مَنْ فيها بضعة أيام نازلاً على كلثوم ابن هدم’ حيث أدركه فيها عليٌ -رضى الله عنه- بعد أن أدَّى عنه الودائع إلى أصحابها’ وأسَّسَ النبى -صلى الله عليه وسلم- هناك مسجد قباء’ وهو المسجد الذى وصفه الله بقوله: (... لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (108) سورة التوبة.
ثم واصل سيره إلى المدينة فدخلها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول على ما ذكره المؤرخون فالتفَّ حوله الأنصار’ كُلٌ يُمسِكُ زمام راحلته يرجوه النزول عنده فكان -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم: دعوها فإنها مأمورة فلم تزل راحلته تسير فى فجاج المدينة وسككها حتى وصلت إلى مربد لغلامين يتيمين من بنى النجار أمام دار أبى أيوب الأنصارى’ فقال النبى -صلى الله عليه وسلم-: (ههنا المنزل إن شاء الله) وجاء أبو أيوب فاحتمل الرحل إلى بيته’ وخرجت ولائد من بنى النجار -فيما يرويه ابن هشام- فرحات بمقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-’ وجواره لهن’ وهنّ ينشدنّ: نحن جوار بنى النجار يا حبذا محمد من جار.
فقال عليه السلام لهنّ: (أتحببننى؟) فقلن: نعم فقال: (الله يعلم أن قلبى يحبكنّ).
صورة عن مقام النبى -صلى الله عليه وسلم- فى دار أبى أيوب: روى أبو بكر ابن أبى شيبة وابن إسحاق والإمام أحمد ابن حنبل من طرق متعددة بألفاظ متقاربة أن أبا أيوب رضى الله عنه قال وهو يحدث عن أيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنده: لما نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى بيتى فى أسفل البيت وأنا وأم أيوب فى العلو’ فقلت له: يانبى الله بأبى أنت و أمى إنى لأكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتى’ فاظهر أنت فكن فى الأعلى’ وننزل نحن نكون فى السفل’ فقال: يا أبا أيوب’ إنه لأرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون فى أسفل البيت.
قال: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى سفله وكنا فوقه فى المسكن’ ولقد انكسرت جرّة لنا فيها ماء يوماً’ فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا’ ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء’ تخوفاً أن يقطر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه شىء فيؤذيه’ فنزلت إليه وأنا مشفق’ فلم أزل أستعطفه حتى أنتقل إلى العلو.
قال: وكنا نضع له العشاء’ ثم نبعث به إليه’ فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغى بذلك البركة’ حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له بصلاً وثوماً’ فرده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم أر ليده فيه أثر’ فجئته فزعاً فقلت يا رسول الله بأبى أنت وأمى’ رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك’ وكنت حينما ترد علينا فضل طعامك أتيمم أنا وأم أيوب موضع يدك نبتغى بذلك البركة’ فقال: إنى وجدت فيه ريح هذه الشجرة’ وأنا رجل أناجى’ فأمَّا أنتم فكلوه’ قال: فأكلناه’ ثم لم نضع فى طعامه شيئاً من الثوم أو البصل بعد.
العبر والعظات: تحدثنا فى فصل سابق’ عن معنى الهجرة فى الإسلام’ عند تعليقنا على هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة’ وقلنا إذ ذاك ما خلاصته: إن الله عز وجل جعل قداسة الدين والعقيدة فوق كل شىء’ فلا قيمة للأرض والوطن والمال والجاه إذا كانت العقيدة وشعائر الدين مهددة بالحرب والزوال’ ولذا فرض الله على عباده أن يضحوا بكل ذلك -إذا اقتضى الأمر- فى سبيل العقيدة والإسلام.
وقلنا أيضاً أنَّ سُنَّةَ الله تعالى فى الكون اقتضت أن تكون القوى المعنوية التى تتمثل فى العقيدة السليمة والدين الحق هى المحافظة للمكاسب والقوى المادية’ فمهما كانت الأمة غنية فى خلقها السليم متمسكة بدينها الصحيح فإن سلطانها المادى المتمثل فى الوطن والمال والعزة يغدو أكثر تماسكاً وأرسخ بقاءاً وأمنع جانباً.
ومهما كانت فقيرة فى أخلاقها مضطربة تائهة فى عقيدتها فإن سلطانها المادى المتمثل فيما ذكرناه يغدو أقرب إلى الاضمحلال والزوال’ وقلنا إن التاريخ أعظم شاهد على ذلك.
ولذلك شرع الله عز وجل مبدأ التضحية بالمال والأرض فى سبيل العقيدة والدين عندما يقتضى الأمر’ فبذلك يضمن المسلمون لأنفسهم المال والحياة’ وإن بدا لأول وهلة أنهم تعروا عن كل ذلك وفقدوه وحسبنا دليلاً على هذه الحقيقة هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة’ لقد كانت بحسب الظاهر تركاً للوطن وتضييعاً له’ ولكنه كان فى واقع الأمر حفاظاً عليه وضمانة له’ ورب مظهر من مظاهر الحفاظ على الشىء يبدو فى صورة الترك و الإعراض عنه فقد عاد بعد بضع سنين من هجرته هذه -بفضل الدين الذى أقام صرحه ودولته- إلى وطنه الذى أخرج منه’ عزيز الجانب’ منيع القوة’ دون أن يستطيع أحد من أولئك الذين تربصوا به ولاحقوه بقصد القتل أن يدنوا إليه بأى سوء...
ولنعد الآن الى التأمل فيما سردناه من قصة هجرته -صلى الله عليه وسلم- لنستنبط منها الدلالات والأحكام الهامة لكل مسلم: 1- من أبرز ما يظهر لنا من قصة هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-’ استبقاؤه لأبى بكر رضى الله عنه دون غيره من الصحابة كى يكون رفيقه فى هذه الرحلة.
وقد استنبط العلماء من ذلك مدى محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبى بكر وأنه أقرب الصحابة إليه وأولاهم بالخلافة من بعده’ ولقد عززت هذه الدلالات أموراً كيثرة أخرى مثل استخلافه له فى الصلاة بالناس عند مرضه وإصراره على أن لا يصلى عنه غيره’ ومثل قوله فى الحديث الصحيح: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا) ولقد كان أبو بكر رضى الله عنه -كما رأينا- على مستوى هذه المزية التى أكرمه اله بها’ فقد كان مثال الصاحب الصادق بل و المضحى بروحه وبكل ما يملك من أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-’ ولقد رأينا كيف أبى إلا أن يسبق رسول الله فى دخول الغار كى يجعل من نفسه فداءاً له عليه الصلاة و السلام فيما إذا كان فيه سبع أو حية أو أى مكروه ينال الإنسان منه الأذى’ ورأينا كيف جند أمواله وأولاده ومولاه وراعى أغنامه فى سبيل خدمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى هذه الرحلة الشاقة الطويلة.
ولعمرى إن هذا ما ينبغى أن يكون عليه شأن كل مسلم آمن بالله ورسوله’ ولذا يقول رسول الله صلى اله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده و الناس أجمعين).
2- قد يخطر فى بال المسلم أن يقارن بين هجرة عمر ابن الخطاب رضى الله عنه وهجرة النبى -صلى الله عليه وسلم- ويتساءل: لماذا هاجر عمر علانية متحدياً المشركين دون أى خوف ووجل’ على حين هاجر رسول الله مستخفياً محتاطاً لنفسه؟ أيكون عمر ابن الخطاب أشد جرأة من النبى -صلى الله عليه وسلم-؟
والجواب أن عمر ابن الخطاب أو أى مسلم آخر غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتبر تصرفه تصرفاً شخصياً لا حجة تشريعية فيه’ فله أن يتخيَّر من الطرق و الوسائل و الأساليب ما يحلو له وما يتفق مع قوة جرأته وإيمانه بالله تعالى’ أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو مشرّع’ أى أن جميع تصرفاته المتعلقة بالدين تعتبر تشريعاً لنا’ ولذلك كانت سنته هى المصدر الثانى من مصادر التشريع الإسلامى مجموع أقواله وأفعاله وصفاته وتقريره’ فلو أنه فعل كما فعل عمر’ لحسب الناس أن هذا هو الواجب!...
وأنه لايجوز أخذ الحيطة و الحذر’والتخفى عند الخوف’ مع أن الله عز وجل أقام شريعته فى هذه الدنيا على مقتضى الأسباب و المسببات’وإن كان الواقع الذى لا شك فيه أن ذلك بتسبيب الله تعالى و إرادته’ لأجل ذلك غستعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كل الأسباب المادية التى يهتدى إليها العقل البشرى فى مثل هذا العمل’ حتى لم يترك وسيلة من هذه الوسائل إلا اعتد بها واستعملها’ فترك على ابن أبى طالب ينام فى فراشه ويتغطّى ببرده’ واستعان بأحد المشركين -بعد أن أمَّنه- ليدله على الطرق الفرعية التى قد لا تخطر فى بال الأعداء’ وأقام فى الغار ثلاثة أيام متخفياً’ إلى آخر ما عبأه من الاحتياطات المادية التى قد يفكر بها العقل’ ليوضح بذلك أن الإيمان بالله عز وجل لا ينافى استعمال الأسباب المادية التى أرادت حكمة الله تعالى أن تكون أسباباً.
وليس قيامه بذلك بسبب خوف فى نفسه’ أو شك فى إمكان وقوعه فى قبضة المشركين قبل وصوله المدينة’ والدليل على ذلك أنه عليه الصلاة و السلام بعد أن استنفد الأسباب المادية كلها’ وتحلق المشركون حول الغار الذى يختبىء فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه - بحيث لو نظر احدهم عند قدمه لأبصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- استبد الخوف بابى بكر رضى الله عنه على حين كان يطمئنه عليه الصلاة والسلام قائلاً: يا أبا بكر: ما ظنك بإثنين الله ثالثهما) ولقد كان من مقتضى اعتماده على كل تلك الاحتياطات أن يشعر بشىء من الخوف والجزع فى تلك الحال.
لقد كان كل ما فعله من تلك الاحتياطات إذاً وظيفة تشريعية قام بها’ فلما انتهى من أدائها’ عاد قلبه مرتبطاً بالله تعالى معتمداً على حمايته وتوفيقه’ ليعلم المسلمون أن الاعتماد فى كل أمر لا ينبغى أن يكون إلا على الله عز وجل’ ولكن لا ينافى ذلك احترام الأسباب التى جعلها الله فى هذا الكون أسباباً.
ومن أبرز الأدلة على هذا الذى نقوله أيضاً’ حالته -صلى الله عليه وسلم- عندما لحق به سراقة يريد قتله وأصبح على مقربة منه’ لقد كان من مقتضى تلك الاحتياطات الهائلة التى قام بها أن يشعر بشىء من الخوف من هذا الذى يجد فى اللحاق به بل كان مستغرقاً فى قراءته ومناجاته ربه لأنه يعلم أن الله الذى أمره بالهجرة سيمنعه من الناس ويعصمه من شرهم كما بيَّن فى كتابه المبين.
3- وفى تخلف علىّ رضى الله عنه عن النبى -صلى الله عليه وسلم- فى أداء الودائع التى كانت عنده الى أصحابها دلالة باهرة على التناقض العجيب الذى كان المشركون واقعين فيه’ ففى الوقت الذى كانوا يكذبونه ويرونه ساحراً أو مخادعاً لم يكونوا يجدون من حولهم من هو خير منه أمانة وصدقاً’ فكانوا لا يضعون حوائجهم وأموالهم التى يخافون عليها إلا عنده...! وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم فى صدقه’ وإنما هو بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق الذى جاء به وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم.
4- ثم إننا نلمح فى النشاط الذى كان يبذله عبد الله ابن أبى بكر رضى الله عنه’ ذاهباً آيباً بين الغار ومكة’ يتحسس الأخبار و ينقلها الى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبيه’ وفيما عمدت إليه أخته أسماء رضى الله عنها من الجد فى تهيىء الزاد و الراحلة واشتراكها فى إعداد العدة لتلك الرحلة - نلمح فى ذلك صورة مما يجب أن يكون عليه الشباب المسلم ذكوراً وإناثاً فى سبيل الله عز وجل ومن أجل تحقيق مبادىء الإسلام وإقامة المجتمع المسلم’ فلا يكفى أن يكون الإنسان منطوياً على نفسه مقتصراً على عباداته’ بل عليه ان يستنفد طاقاته وأوجه نشاطه كلها سعياً فى سبيل الإسلام’ وتلك هى مزية الشباب فى حياة الإسلام و المسلمين فى كل زمن وعصر.
وإذا تأملت فيمن كان حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إبان دعوته وجهاده’ وجدت أن أغلبيتهم العظمى كانوا شباباً لم يتجاوزوا المرحلة الأولى فى عمر شبابهم’ ولم يألوا جهداً فى تجنيد طاقاتهم وقوتهم من أجل نصرة الإسلام وإقامة مجتمعه.
5- أمّا ما حدث لسراقة وفرسه وهو يلحق لبرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فينبغى أن لا يفوتنا أنها معجزة خارقة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- اتفق أئمة الحديث على صحتها ونقلها وفى مقدمتهم البخارى ومسلم’ فأضفها إلى معجزاته الأخرى التى سبق الحديث عنها فيما مضى.
6- ومن أبرز المعجزات الخارقة فى قصة هجرته عليه الصلاة و السلام خروجه -صلى الله عليه وسلم- من بيئته وقد أحاط به المشركون يتربصون به ليقتلوه’ فقد علق النوم بأعينهم جميعاً حتى لم يحس به أحد منهم’ وكان من تتمة السخرية بتآمرهم على حياته ما امتلأت به رؤسهم من التراب الذى ألقاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رؤوسهم إذ خرج من بينهم وهو يتلو قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون).
لقد كانت هذ ه المعجزة بمثابة إعلان لهؤلاء المشركين وغيرهم فى كل عصر ووقت’ بأن ما قد يلاقيه الرسول وصحبه من ألوان الاضطهاد و العذاب على أيديهم مدة من الزمن فى سبيل دينه’ لا يعنى أنه قد تخلى عنهم وأن النصر قد ابتعد عن متناولهم’ فلا ينبغى للمشركين وعامة أعداء الدين أن يفرحوا ويستبشروا بذلك’ فإن نصر الله قريب وإن وسائل هذا النصر توشك أن تتحقق بين كل لحظة وأخرى.
7- وتكشف الصورة التى استقبلت بها المدينة المنورة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن مدى المحبة الشديدة التى كانت تفيض بها أفئدة الأنصار من أهل المدينة رجالاً و نساءاً وأطفالاً’ لقد كانوا يخرجون كل يوم إلى ظاهر المدينة ينتظرون تحت لفح الشمس وصول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم’ حتى إذا هبّ النهار ليدبر’ عادوا أدراجهم ليعودوا إلى الانتظار صباح اليوم التالى’ فلما طلع الرسول عليهم جاشت العواطف فى صدورهم وانطلقت ألسنتهم تهتف بالقصائد و الأهازيج فرحاً لمرآه عليه الصلاة و السلام ومقدمه عليهم’ ولقد بادلهم رسول الله صلى اله عليه وسلم نفس المحبة’ حتى إنه جعل ينظر إلى ولائد بنى النجار من حوله’ وهنّ ينشدنّ ويتغنين بمقدمه’ قائلاً: أتحببننى؟ والله إن قلبى ليحبكنّ
يدلنا كل ذلك أن محبة رسول اله -صلى الله عليه وسلم- ليست فى مجرد الإتباع له’ بل المحبة له هى أساس الإتباع وباعثه’ فلولا المحبة العاطفية فى القلب لما وجد وازع يحمل على الإتباع فى العمل.
ولقد ضل قوم حسبوا أن محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس لها معنى إلا الإتباع و الإقتداء وفاتهم أن الإقتداء لا يأتى إلا بوازع ودافع’ ولن تجد من وازع يحمل على الإتباع إلا المحبة القلبية التى تهز المشاعر وتستبد بالعواطف’ ولذلك جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقياس الإيمان بالله امتلاء القلب بمحبته -صلى الله عليه وسلم-’ بحيث تغدو متغلبة على محبة الولد والوالد و الناس أجمعين’ وهذا يدل على أن محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جنس محبة الولد و الوالد أى مصدر كل منهما العاطفة و القلب وإلا لم تصح المقارنة و التفضيل بينهما.
8- أما الصورة التى رأيناها فى مقامه -صلى الله عليه وسلم- عند أبى أيوب الأنصارى فى منزله’ فتكشف لنا مظهر آخر من مظاهر محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه والسلام له.
والذى يهمنا من ذلك هنا’ هو التأمل فى تبرك أبو أيوب وأم أيوب’ بآثار أصابع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى قطعة الطعام’ حينما كان يرد عليهما فضل طعامه’ إذاً فالتبرك بآثار النبى -صلى الله عليه وسلم- مشروع قد أقره -صلى الله عليه وسلم-.
وقد روى البخارى ومسلم صوراً كثيرة من تبرك الصحابة بآثار النبى -صلى الله عليه وسلم- و التوسل بها للإستشفاء أو العناية و التوفيق وما شابه ذلك.
من ذلك ما رواه البخارى فى كتاب اللباس’ فى باب ما يذكر فى الشيب’ من أن أم سلمة زوج النبى -صلى الله عليه وسلم- كانت تحتفظ بشعرات من شعر النبى -صلى الله عليه وسلم- فى جلجل لها (ما يشبه القارورة يحفظ فيه ما يراد صيانته) فكان إذا أصاب أحد من الصحابة عين أو أذى أرسل إليها إناء فيه ماء’ فجعلت الشعرات فى الماء’ ثم أخذوا الماء يشربونه توسلاً للاستشفاء والتبرك به.
ومن ذلك ما رواه مسلم فى كتاب الفضائل باب: (طيب عرقه -صلى الله عليه وسلم-) أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست هى فى البيت’ فجاء ذات يوم فنام على فراشها’ فجاءت أم سليم وقد عرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش ففتحت عتيدها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره فى قواريرها’ فأفاق النبى -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما تصنعين يا أم سليم؟ فقالت يا رسول الله: نرجو بركته لصبياننا’ قال: أصبتِ).
ومن ذلك ما جاء فى الصحيحين من استباق الصحابة إلى فضل وضوئه -صلى الله عليه وسلم- والتبرك بالكثير من آثاره كألبسته والقدح الذى كان يشرب به.
فإذا كان هذا شأن التوسل بآثاره المادية فكيف بالتوسل بمنزلته عند الله عز وجل وكيف بالتوسل بكونه رحمة للعالمين؟
ولا يذهبن بك الوهم إلى أننا نقيس التوسل على التبرك’ وأن المسألة لا تعدو أن تكون استدلالاً بالقياس’ فإن التوسل والتبرك كلمتان تدلان على معنى واحد وهو التماس الخير والبركة عن طريق المتوسل به.
وكل من التوسل بجاهه -صلى الله عليه وسلم- عند الله والتوسل بآثاره أو فضلاته أو ثيابه’ أفراد وجزئيات داخلة تحت نوع شامل هو مطلق التوسل الذى ثبت حكمه بالأحاديث الصحيحة’ وكل الصور الجزئية له يدخل تحت عموم النص بواسطة ما يسمى ب (تنقيح المناط) عند علماء الأصول.
ولنكتف من تعليقنا على قصة هجرته -صلى الله عليه وسلم- عند هذا القدر’ لنتحدث بعد ذلك عن الأعمال الجليلة التى بدأ يقوم بها -صلى الله عليه وسلم- فى المجتمع الجديد فى المدينة المنورة... |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الإثنين 31 أغسطس 2020, 10:38 am | |
| أسس المجتمع الجديد الأساس الأول (بناء المسجد) لقد كانت هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة’ تعنى نشاة أول دار إسلام إذ ذاك على وجه الأرض’ وقد كان ذلك إيذاناً بظهور الدولة الإسلامية بإشراف منشئها الأول محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولذا فقد كان أول عمل قام به الرسول -صلى الله عليه وسلم-’ أن أقام الأسس الهامة لهذه الدولة.
ولقد كانت هذه الأسس ممثلة فى هذه الأعمال الثلاثة التالية: أولاً: بناء المسجد. ثانياً: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار خاصة والمسلمين عامة. ثالثاً: كتابة وثيقة (دستور) حددت نظام حياة المسلمين فيما بينهم’ وأوضحت علاقتهم مع غيرهم بصورة عامة و اليهود بصورة خاصة.
قلنا فيما مضى: إن ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بركت فى موضع كان لغلامين يتيمين من الأنصار’ وكان أسعد ابن زرارة قد اتخذه مُصَلّى قبل هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الى المدينة’ فكان يُصلى بأصحابه فيه.
فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبنى ذلك الموضع مسجداً’ ودعا الغلامين، وكانا فى كفالة أسعد ابن زرارة -رضى الله عنه- فسام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه’ فقالا بل نَهَبُهُ لك يا رسول الله’ فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير.
وكان فيه شجر غرقد ونخل وقبور قديمة لبعض المشركين’ فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقبور فنبشت و بالنخل وبالشجر فقطعت’ وصفّت فى قبلة المسجد’ وجعل طوله مما يلى القبلة الى مؤخرته مائة ذراع’ وفى الجانبين مثل ذلك أو دونه’ ثم بنوه باللبن’ وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يباشر البناء مع أصحابه وينقل معهم الحجارة بنفسه’ وجعل قبلته إلى بيت المقدس’ وجعل عمده الجذوع’ وسقفه بالجريد’ وقيل له: ألا نسقفه؟ فقال: (عريش كعريش موسى: خشيبات وثمام -نبت ضعيف قصير- الشأن أعجل من ذلك’ أما أرضه فقد بقيت مفروشة بالرمال والحصباء.
وروى البخارى فى سنده عن أنس ابن مالك’ أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلى حيث أدركته الصلاة فى مرابض الغنم’ قال ثم إنه أمر ببناء المسجد’ فأرسل الى ملأ من بنى النجار فجاؤوا’ فقال يابنى النجار ثامنونى بحائطكم هذا’ فقالوا لا والله لا نطلب ثمنه إلا الى الله’ فقال أنس فكان فيه ما أقول لكم’: كانت فيه قبور المشركين وكانت فيه خرب’ وكان فيه نخل.
فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع’ قال فصفوا النخل قبلة المسجد قال: وجعلوا عضادتيه حجارة وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم وهو يقول: اللهم لا خير إلا خير الآخرة فانصر الأنصار والمهاجرة.
وقد ظل مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على هذا الشكل دون أى زيادة أو تغيير فيه مدة خلافة أبى بكر -رضى الله عنه-’ ثم زاد فيه عمر -رضى الله عنه- بعض التحسين’ ولكنه بناه على بنائه فى عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- باللبن والجريد وأعاد عمده خشباً.
ثم غيره عثمان -رضى الله عنه- فزاد فيه زيادة كبيرة’ وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة (الجص).
العبر والدلائل: بأخذ من هذا الذى ذكرناه دلائل هامة نجملها فيما يلى: 1- مدى أهمية المسجد فى المجتمع الإسلامى و الدولة الإسلامية: فقد أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-’ بمجرد وصوله الى المدينة واستقراره فيها على إقامة مجتمع إسلامى متماسك راسخ’ يتألف من هؤلاء المسلمين: المهاجرين والأنصار الذين جمعتهم المدينة المنورة’ فكان أول خطوة قام بها فى سبيل هذا الأمر’ بناء المسجد.
ولا غرو ولا عجب’ فإن إقامة المسجد أول وأهم ركيزة فى بناء المجتمع الإسلامى’ ذلك أن المجتمع الإسلامى إنما يكتسب صفة الرسوخ والتماسك بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه’ وإنما ينبع ذلك كله من روح المسجد ووحيه.
إن من نظام الإسلام وآدابه شيوع آصرة الأخوة و المحبة بين المسلمين’ ولكن شيوع هذه الآصرة لا يتم إلا فى المسجد’ فما لم يتلاق المسلمون يومياً’ على مرات متعددة فى بيت من بيوت الله’ وقد تساقطت عما بينهم فوارق الجاه والمال والاعتبار’ لا يمكن لروح التآلف و التآخى أن تؤلف بينهم.
إن من نظام الإسلام وآدابه’ أن تشيع روح المساواة و العدل فيما بين المسلمين فى مختلف شؤونهم وأحوالهم’ ولكن شيوع هذه الروح لا يمكن أن يتم ما لم يتلاق المسلمون كل يوم صفاً واحداً بين يدى الله عز وجل’ وقد وقفوا على صعيد مشترك من العبودية’ وتعلقت قلوبهم بربهم الواحد جل جلاله’ ومهما أنصرف كل مسلم الى بيته يعبد الله ويركع له ويسجد دون وجود ظاهرة الاشتراك والاجتماع فى العبادة’ فإن معنى العدالة و المساواة لن يتغلب فى المجتمع على معانى اأثرة والتعالى والأنانية.
وإن من نظام الإسلام وآدابه’ أ، ينصهر أشتات المسلمين فى بوتقة من الوحدة الراسخة يجمعهم عليها حبل الله الذى هو حكمه وشرعه’ ولكن ما لم تقم فى أنحاء المجتمع مساجد يجتمع فيها المسلمون على تعلم حكم الله وشريعته ليتمسكوا بهما عن معرفة وعلم’ فإن وحدتهم تؤول الى أشتات’ وسرعان ما تفرقهم عن بعضهم الشهوات والأهواء.
فمن أجل تحقيق هذه المعانى كلها فى مجتمع المسلمين ودولتهم الجديدة’ أسرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل كل شىء فبادر إلى بناء المسجد.
2- حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد من الأطفال و الأيتام: فقد استدل بعض الفقهاء وهم الحنفية بهذا الحديث على صحة تصرف غير البالغ ووجه الدلالة على ذلك أن النبى -صلى الله عليه وسلم- اشترى المربد من الغلامين اليتيمين’ بعد أن ساومهما’ ولو لم يصح تصرفهما لما اشترى منهما’ غير أن الذين ذهبوا الى عدم صحة تصرف غير البالغ سن الرشد -وهم جمهور الفقهاء- استدلوا بقول الله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده).
أما حديث شراء المربد فيُجاب عليه بجوابين: أحدهما: أنه جاء فى رواية عيينة أن النبى -صلى الله عليه وسلم- كلم عمهما الذى كانا فى حجره وكفالته وابتاعه منهما بواسطته فلا حجة فيه لما ذهب إليه الحنفية.
ثانيهما: أن للنبى -صلى الله عليه وسلم- ولاية خاصة فى مثل هذه الأمور’ وأنه عليه الصلاة و السلام إنما اشترى الأرض منهما بوصف كونه ولياً عاماً لجميع المسلمين’ لا بوصف كونه فرداً منهم.
3- جواز نبش القبور الدارسة: واتخاذ موضعها مسجداً إذا نظفت وطابت أرضها: ذكر الإمام النووى تعليقاً على هذا الحديث فقال: فيه جواز نبش القبور الدارسة وأنه إذا أزيل ترابها المختلط بصديدهم ودمائهم جازت الصلاة فى تلك الأرض’ وجواز اتخاذ موضعها مسجداً’ إذا طيبت أرضه.
كما أن الحديث يدل على أن الأرض التى دفن فيها الموتى ودرست’ يجوز بيعها وأنها باقية على ملك صاحبها وورثته من بعده إذا لم توقف’ وقد قال علماء السيرة عن تلك القبور التى كانت فى المربد أنها كانت قبوراً قديمة دارسة’ فلا يتأتى فيها الصديد و الدم’ ومع ذلك فقد نبشت وأزيل ما فيها من بقايا.
قلت: ومحل جواز نبش القبور الدارسة واتخاذ أرضها مسجداً’ إذا لم تكن الأرض وقفاً’ أما إذا كانت كذلك فلا يجوز تحويلها إلى شىء آخر غير ما وقفت له.
4- حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها: والتشييد أن تقام عمارة المسجد بالحجارة وشبهها مما يزيد فى قوة بنائه ومتانة سقفه وأركانه’ والنقش والزخرفة ما جاوز أصل البناء من شتى أنواع الزينة.
فأما التشييد فقد أجازه واستحسنه عامة العلماء’ بدليل ما فعله عمر وعثمان رضى الله عنهما من إعادة بناء مسجده عليه الصلاة و السلام’ وهو وإن كان شيئاً لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه لم يدل على المفهوم المخالف’ أى المنع من التشييد و التقوية’ إذ لا يتعلق بهما وصف يخل بالحكمة التى من أجلها شرع بناء المساجد’ بل إن فى ذلك زيادة فى العناية والاهتمام بشعائر الله تعالى.
واستدل العلماء أيضاً على ذلك بقوله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) والعمارة إنما تكون بالتشييد وتقوية البناء والعناية به.
وأما النقش والزخرفة’ فقد كرهها عامة العلماء’ ثم هم فى ذلك بين محرّم ومكرّه’ غير أن الذين قالوا بالحرمة و الذين قالوا بالكرهة اتفقوا على أنه يحرم صرف المال الموقوف لعمارة المساجد على شىء من الزخرفة و النقش’ أما إذا كان المال المصروف على ذلك من البانى نفسه فيرد الخلاف فيه’ وقد ذكر الزركشى نقلاً عن الإمام البغوى أنه لا يجوز نقش المسجد من غلة الوقف’ ويغرّم القيم إن فعله’ فلو فعله رجل بماله كره لأنه يشغل قلب المصلين.
والفرق بين عموم التشييد وخصوص الزخرفة والنقش واضح: فالأول كما قلنا لا يترتب عليه وصف أو معنى يخل بالحكمة التى من أجلها شرع بناء المسجد’ أمَّا الزخرفة والنقش فإن كلاً منهما يترتب عليه معنى يخل بالحكمة’ إذ من شأنه صرف قلب المصلين عن الخشوع والتدبر وشغله بمظاهر الدنيا’ على حين أنه يقصد من الدخول فى المسجد الهرب من التصورات الدنيوية وتفريغ البال من زينتها ومغرياتها.
وهذا ما نَبَّهَ إليه عمر -رضى الله عنه- حينما أمر ببناء مسجد فقال: (أكنّ الناس من المطر وإياك أن تُحًمِّرَ أو تُصَفِّرّ’ فتفتن الناس) ’ وقد اختلف العلماء فى كتابة آية من القرآن فى قبلة المسجد هل هى داخلة فى النقش الممنوع أم لا؟.
يقول الزركشى فى كتابه إعلام الساجد: (ويُكره أن يُكتب فى قبلة المسجد آية من القرآن أو شيئاً منه’ قال مالك’ وجوَّزهُ بعض العلماء’ وقال لا بأس به’ لِمَا روى من فعل عثمان ابن عفان ذلك فى مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-’ ولم يُنكر ذلك عليه).
ومشمَّا ذكرناه يتبيَّن لك خطا ما يعمد إليه كثيرٌ مِمَّنْ يهتمون بتعمير المساجد وتشييدها اليوم’ حيث ينصرفون بكل جهودهم الى التفنُّن فى تزيينها ونقشها وإضفاء مختلف مظاهر الأبَّهَة عليها’ حتى إن الدَّاخل إليها لا يكاد يستشعر أى معنى من ذُلِّ العُبودية لله عز وجل’ وإنَّمَا يستشعر ما ينطق به لسان حالها من الافتخار بما ارتقى إليه فن الهندسة المعمارية’ وفنون الزخرفة العربية.
ومن أسوأ نتائج هذا التلاعب الشيطانى ببُسطاء المُسلمين’ أن الفقراء لم يعودوا يستطيعون أن يتهرَّبوا من مظاهر الإغراء الدنيوى إلى أى جهة’ لقد كان فى المساجد ما يُعَزِّى الفقير بفقره’ ويُخْرِجُهُ من جَوِّ الدُّنْيَا وزُخْرُفَهَا إلى الآخرة وفضلها’ فأصبحوا يجدون حتى فى مظهر هذه المساجد ما يذكرهم بزخرف الدنيا التى حُرِمُوهَا ويُشعرهم بنكد الفقر وأوضاره.
فَيَاللهِ ما أسوأ ما وقع فيه المسلمون من هجران الحقائق الإسلامية وانشغالهم بمظاهر كاذبة ظاهرها الدين وباطنها الدنيا بكل ما فيها من شهوات وأهواء. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الإثنين 31 أغسطس 2020, 9:19 pm | |
| الأساس الثانى (الأخوة بين المسلمين) ثم إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- آخى بين أصحابه من المهاجرين والأنصار’ آخى بينهم على الحق والمواساة’ وعلى أن يتوارثوا بينهم بعد الممات’ بحيث يكون أثر الأخوة الإسلامية فى ذلك أقوى من أثر قرابة الرَّحِمِ.
فجعل جعفر ابن أبى طالب ومعاذ ابن جبل أخوين’ وجعل حمزة ابن عبد المطلب وزيد ابن حارثة أخوين’ وجعل أبا بكر الصديق رضى الله عنه وخارجة ابن زهير أخوين’ وعمر ابن الخطاب وعتبان ابن مالك أخوين’ وعبد الرحمن ابن عوف وسعد ابن الربيع أخوين.... وهكذا.
ثم ربط النبى -صلى الله عليه وسلم- هذا التآخى بين أفراد الصحابة بنطاق عام من الأخوة والموالاة’ كما سنجدها فيما بعد..
وقد قامت هذه الأخوة على أسُسٍ ماديَّة أيضاً’ وكان حُكم التوارث فيما بينهم من بعض هذه المظاهر الماديَّة.
وظلت عقود هذا الإخاء مقدمة على حقوق القرابة الى موقعة بدر الكبرى’ حيث نزل فى أعقابها قول الله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله إن الله بكل شىء عليم) فنسخت هذه الآية ما كان قبلها وانقطع أثر المؤاخاة الإسلامية فى الميراث’ ورجع كل إنسان فى ذلك إلى نسبه وذوى رحمه’ وأصبح المؤمنون كلهم إخوة.
روى البخارى عن ابن عباس قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجرىّ الأنصارىّ دون ذوى رحمه للأخوة التى آخى النبى -صلى الله عليه وسلم- بينهم’ فَلَمَّا نزلت: (ولكل جعلنا موالى) نسخت’ ثم قال: (والذين عاقدت أيمانكم) أى من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث.
العبر والدلائل: وهذا هو الأساس الثانى الذى اعتمده الرسول -صلى الله عليه وسلم- فى سبيل بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية.
وإن أهمية هذا الأساس تظهر فى الجوانب التالية: أولاً: إن أى دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمَّة وتساندها’ ولا يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم بغير عامل التآخي والمحبة المتبادلة فكل جماعة لا تؤلف بينها آصرة المودة والتآخى الحقيقية لايمكن أن تتحد حول مبدأ ما’ وما لم يكن الإتحاد حقيقة قائمة فى الأمة أو الجماعة فلا يمكن أن تتألف منها دولة.
على أن التآخى أيضاً لابد أن يكون مسبوقاً بعقيدة يتم اللقاء عليها والإيمان بها’ فالتآخى بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى’ خرافة ووهم’ خصوصاً إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين فى الحياة العملية.
ومن أجل ذلك’ فقد جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أساس الأخوة التى جمع عليها أفئدة أصحابه’ العقيدة الإسلامية التى جاءهم بها من عند الله تعالى والتى تضع الناس كلهم فى مصاف العبودية الخالصة لله تعالى دون الاعتبار لأى فارق إلا فارق التقوى والعمل الصالح’ إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء والتعاون والإيثار بين أناس شتتتهم العقائد والأفكار المختلفة فأصبح كل منهم ملكاً لأنانيته وأثرته وأهوائه.
ثانياً: إن المجتمع -أى مجتمع- إنما يختلف عن مجموعة ما من الناس منتثرة مفككة’ بشىء واحد’ هو قيام مبدأ التناصر والتعاون فيما بين أشخاص هذا المجتمع’ وفى كل نواحى الحياة ومقوماتها’ فإ، كان هذا التعاون والتناصر قائما طبق نظام العدل والمساواة فيما بينهم’ فذلك هو المجتمع العادل السليم’ وإن كان ذلك قائما على الحيف والظلم’ فذلك هو المجتمع الظالم المنحرف.
وإذا كان المجتمع السليم إنما يقوم على أساس من العدالة فى الاستفادة من أسباب الحياة والرزق’ فما الذى يضمن سلامة هذه العدالة وتطبيقها على خير وجه؟
إن الضمانة الطبيعية والفطرية الأولى لذلك’ إنما هى التآخى والتوادد يليها بعد ذلك ضمانة السلطة والقانون’ فما أرادت السلطة أن تحقق مبادىء العدالة بين الأفراد’ فإنها لا تتحقق ما لم تقم على أساس من المحبة والتآخى فيما بينهم’ بل إن هذه المبادىء لا تعدو أن تكون حينئذ مصدر أحقاد وضغائن تشيع بين أفراد ذلك المجتمع’ ومن شأن الأحقاد والضغائن أن تحمل على طيها بذور الظلم والطغيان فى أشد الصور والأشكال.
من أجل هذا إتَّخَذَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من حقيقة التآخى الذى أقامه بين المهاجرين والأنصار أساساً لمبادىء العدالة الاجتماعية التى قام على تطبيقها أعظم وأروع نظام اجتماعى فى العالم’ ولقد تدرجت مبادىء هذه العدالة فيما بعد بشكل أحكام وقوانين شرعية ملزمة’ ولكنها كلها إنما تأسست وقامت على تلك الأرضية الأولى’ ألا وهى الأخوة الإسلامية’ ولولا هذه الأخوة العظيمة التى تأسست بدورها على حقيقة العقيدة الإسلامية’ لما كان لتلك المبادىء أى أثر تطبيقى وإيجابى فى شد أزر المجتمع الإسلامى ودعم كيانه.
ثالثاً: المعنى التفسيرى الذى صاحب شعار التآخى: لم يكن ما أقامه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه من مبدأ التآخى مجرد شعار فى كلمة أجراها على ألسنتهم’ وإنما كان حقيقة عملية تتصل بواقع الحياة وبكل أوجه العلاقات القائمة بين المهاجرين والأنصار’ ولذلك جعل النبى -صلى الله عليه وسلم- من هذه الأخوة مسؤولية حقيقية تشيع بين هؤلاء الأخوة’ وكانت هذه المسؤولية تؤدى فيما بينهم على خير وجه’ وحسبنا دليلاً على ذلك ما قام به سعد ابن الربيع الذى كان قد آخى الرسول بينه وبين عبد الرحمن ابن عوف’ إذ عرض على عبد الرحمن ابن عوف أن يُشركه فى بيته وأهله وماله فى قسمة متساوية’ ولكن عبد الرحمن ابن عوف شكره وطلب منه أن يُرشده إلى سوق المدينة ليشتغل فيها.
ولم يكن سعد ابن الربيع منفرداً عن غيره من الأنصار فيما عرضه على أخيه كما قد يظن’ بل كان هذا شأن عامَّة الصحابة فى علاقتهم وتعاونهم مع بعض’ خصوصاً بعد الهجرة وبعد أن آخى النبى -صلى الله عليه وسلم- فيما بينهم.
ولذلك أيضاً’ جعل الله سبحانه وتعالى حق الميراث منوطاً بهذا التآخى’ دون حقوق القرابة والرحم’ فقد كان من حكمة هذا التشريع أن تتجلى الأخوة الإسلامية حقيقة محسوسة فى أذهان المسلمين’ وأن يعلموا أن ما بين المسمين من التآخى والتحابب ليس شعاراً وكلاماً مجردين’ وإنما هى حقيقة قائمة ذات نتائج اجتماعية محسوسة تكون أهم أسس نظام العدالة الاجتماعية.
أمَّا حكمة نسخ التوارث على أساس هذه الأخوة’ فيما بعد’ فهى أن نظام الميراث الذى استقر أخيراً’ إنما هو نفسه قائم على أخوة الإسلام بين المتوارثين’ إذ لا توارث بين دينين مختلفين’ إلا فى الفترة الأولى من الهجرة وضعت كل من الأنصار و المهاجرين أمام مسئولية خاصة من التعاون والتناصر و المؤانسة’ بسبب مفارقة المهاجرين لأهلهم وتركهم ديارهم وأموالهم فى مكة ونزولهم ضيوفاً على إخوانهم الأنصار فى المدينة’ فكان ما أقامه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من التآخى بين أفراد المهاجرين والأنصار ضمانة لتحقيق هذه المسئولية’ ولقد كان من مقتضى هذه المسؤولية أن يكون التآخى أقوى فى حقيقته وأثره من أخوة الرحم المجردة.
فلمَّا استقر أمْرُ المهاجرين فى المدينة وتمكَّن الإسلام فيها’ وغدت الرُّوحُ الإسلامية هى وحدها العصب الطبيعى للمجتمع الجديد فى المدينة’ أصبح من المناسب انتزاع القالب الذى كان قد صُبَّ فيه نظام العلاقة بين المهاجرين والأنصار إثر إلتقائهم فى المدينة’ إذ لا يخشى على هذا النظام بعد اليوم من التفكك والتميع فى ظل الأخوة الإسلامية العامة وما يترتب عليها من المسؤوليات المختلفة’ ولا ضير حينئذ أن يعود تأثير قرابة الرحم بين المسلمين من حيث كونها مؤثراً زائداً على قرابة الإسلام وأخوته.’
ثم إن هذا التآخى الذى عقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار كان مسبوقاً بمؤاخاة أخرى أقامها النبى -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين فى مكة’ قال ابن عبد البر: (كانت المؤاخاة مرتين: مرة بين المهاجرين خاصة’ وذلك بمكة’ ومرة بين المهاجرين والأنصار).
وهذا ما يؤكد لنا أن مناط الأخوة وأساسها إنما هو رابطة الإسلام’ غير أنها احتاجت الى تجديد و تأكيد بعد الهجرة بسبب ظروفها وبسبب اجتماع المهاجرين و الأنصار فى دار واحدة.
فهى ليست فى الحقيقة شيئاً آخر غير الأخوة القائمة على أساس جامعة الإسلام ووحدة العقيدة’ وإنما هى تأكيد لها عن طريق التطبيق.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الإثنين 31 أغسطس 2020, 10:00 pm | |
| الأساس الثالث (كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم) وهذا الأساس هو أهم ما قام به النبى -صلى الله عليه وسلم- مما يتعلق بالقيمة الدستورية للدولة الجديدة روى ابن هشام أن النبى -صلى الله عليه وسلم- لم تمض له سوى مدة قليلة فى المدينة حتى اجتمع له إسلام عامَّة أهل المدينة من العرب’ ولم يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها’ عدا أفراد فى قبيلة الأوس’ فكتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتاباً بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهود وعاهدهم’ وأقرَّهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم.
وقد ذكر ابن إسحاق هذا الكتاب بدون إسناد’ وذكره ابن خيثمة فأسنده: حدثنا أحمد ابن جناب ابن الوليد’ ثنا عيسى ابن يونس’ ثنا كثير ابن عبد الله ابن عمرو المزنى عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار’ فذكر نحو ما ذكره ابن إسحاق’ وذكر الإمام أحمد فى مسنده فرواه عن سريج قال: حدثنا عباد عن حجاج عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى -صلى الله عليه وسلم- كتب كتاباً بين المهاجرين و الأنصار... الخ.
ونحن لن نأت بنص الكتاب كله’ فهو طويل’ ولكننا نجتزىء منه البنود الهامة بنصوصها الواردة فى كتابه عليه الصلاة و السلام’ كى نقف من ورائها على مدى القيمة الدستورية للمجتمع الإسلامى ودولته الناشئة فى المدينة.
وهذه هى البنود مرتبة حسب ترتيبها فى نص الكتاب نفسه: 1- المسلمون من قريش ويثرب ومَنْ تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم’ أمَّة واحدة من دون الناس. 2- هؤلاء المسلمون جميعاً على اختلاف قبائلهم يتعاقلون بينهم’ ويفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 3- إن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه فى فداء أو عقل. 4- إن المؤمنين المتقين’ على مَنْ بغى منهم أو إبتغى دسيعه ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين’ وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم. 5- لا يقتل مؤمن مؤمناً فى كافر’ ولا ينصر كافر على مؤمن. 6- ذمَّة الله واحدة’ يجبر عليهم أدناهم’ والمؤمنون بعضهم موالى بعض دون الناس. 7- لا يحل لمؤمن أقَرَّ بما فى الصحيفة وآمَنَ بالله واليوم الآخر أن ينصر مُحدثاً أو أن يؤويه’ وإنَّ مَنْ نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة لا يؤخذ منه صرف ولا عدل. 8- اليهود ينفقون مع اليهود ما داموا مُحاربين. 9- يهود بنى عوف أمَّة مع المؤمنين’ لليهود دينهم’ وللمسلمين دينهم’ إلا مَنْ ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. 10- إن على اليهود نفقتهم’ وعلى المسلمين نفقتهم’ وإن بينهم النصر على مَنْ حارب أهل هذه الصحيفة. 11- كل ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده’ فإن مَرَدُّهُ الى الله -عز وجل- وإلى محمد رسول الله. 12- مَنْ خرج من المدينة أمِنْ ومَنْ قعد أمِنْ’ إلا مَنْ ظلم وأثم. 13- إن الله على أصدق ما فى الصحيفة وأبَرَّهُ’ وإن الله جَارٌ لِمَنْ بَرَّ واتَّقَى.
العبر والدلائل: لهذه الوثيقة دلالات هامة تتعلق بمختلف الأحكام التنظيمية للمجتمع الإسلامى ونلخصها فيما يلى: 1- إن كلمة الدستور هى أقرب إطلاق مناسب فى اصطلاح العصر الحديث على هذه الوثيقة’ وهى إذا كانت بمثابة إعلان دستور فإنه شمل جميع ما يمكن أن يعالجه أى دستور حديث يعنى بوضع الخطوط الكلية الواضحة لنظام الدولة فى الداخل والخارج: أى فيما يتعلق بعلاقة أفراد الدولة مع بعض’ وفيما يتعلق بعلاقة الدولة مع الآخرين.
وَحَسْبُنَا هذا الدستور الذى وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوحي من ربه واستكتبه أصحابه’ ثم جعله الأساس المُتفق عليه فيما بين المسلمين وجيرانهم اليهود - حسبنا ذلك دليلاً على أنَّ المجتمع الإسلامى قام منذ أول نشأته على أسس دستورية تامَّة’ وأنَّ الدولة الإسلامية قامت -منذ بزوغ فجرها- على أتم ما قد تحتاج إليه الدولة من المُقوِّمَات الدستورية والإدارية’ وظاهر أنَّ هذه المقومات’ أساسٌ لابد منه لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فى المجتمع.
إذ هى فى مجموعها إنما تقوم على فكرة واحدة الأمة الإسلامية وما يتعلق بها من البنود التنظيمية الأخرى’ ولا يمكن أن نجد أرضية يستقر عليها حكم الإسلام وتشريعه ما لم يقم هذا التنظيم الدستورى الذى أوجده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-’ على أنه فى الوقت نفسه جزء من الأحكام الشرعية نفسها.
ومن هنا تسقط دعاوى أولئك الذين يغمضون أبصارهم وبصائرهم عن هذه الحقيقة البديهية’ ثم يزعمون أن الإسلام ليس إلا ديناً قوامه ما بين الإنسان وربه’ وليس له من مقومات الدولة والتنظيم الدستورى شىء.
وهى أحبولة عتيقة’ كان يقصد منها محترفو الغزو الفكرى وأرقاء الاستعمار أن يقيدوا بها الإسلام كى لا ينطلق فيعمل عمله فى المجتمعات الإسلامية’ ولا يصبح له شأن قد يتغلب به على المجتمعات المنحرفة الأخرى’ إذ الوسيلة الى ذلك محصورة فى أن يكون الإسلام ديناً لا دولة’ وعبادات مجردة لا تشريعاً وقوانين’ وحتى لو كان الإسلام ديناً ودولة فى الواقع’ فينبغى أن يتقلب فيصبح غير صالح لذلك ولو بأكاذيب القول.
غير أن هذه الأحبولة تقطعت سريعاً’ لسوء حظ أولئك المحترفين’ وأصبح الحديث عنها من لغو القول ومكشوف الحقد والضغائن.
ولكن مهما يكن فينبغى أن نقول’ ونحن بصدد تحليل هذه البنود العظيمة: إن مولد المجتمع الإسلامى نفسه إنمكا كان ضمن هيكل متكامل للدولة’ وما تنزلت تشريعاته إلا ضمن قوالب من التنظيم الاجتماعي المتناسق من جميع جهاته و أطرافه’ وهذه الوثيقة أكبر شاهد على ذلك.
وهذا مع غض النظر عن قيمة الأحكام التشريعية نفسها من حيث إنها قطع وأجزاء إذا ضمت الى بعضها تكون منها تنظيم متكامل لبناء دستورى وإدارى عظيم.
2- إن هذه الوثيقة تدل على مدى العدالة التى اتسمت بها معاملة النبى -صلى الله عليه وسلم- لليهود’ ولقد كان بالإمكان أن تؤتى هذه المسألة العادلة ثمارها فيما بين المسلمين واليهود’ لو لم يتغلب على اليهود طبيعتهم من حب للمكر والغدر والخديعة’ فما هى إلا فترة وجيزة حتى ضاقوا ذرعاً بما تضمنته بنود هذه الوثيقة التى التزموا بها’ فخرجوا على الرسول والمسلمين بألوان من الغدر والخيانة سنفصل الحديث عنها فى مكانها المناسب إن شاء الله تعالى’ فكان المسلمون بذلك فى حل مما التزموا به تجاههم.
3- دلت هذه الوثيقة على أحكام هامة فى الشريعة الإسلامية نذكر منها ما يلى: أولاً: يدلنا البند الأول منها على أن الإسلام هو وحده الذى يؤلف وحدة المسلمين وهو وحده الذى يجعل منهم أمة واحدة’ وعلى أن جميع الفوارق والمميزات فيما بينهم تذوب وتضمحل ضمن نطاق هذه الوحدة الشاملة’ تفهم هذا جلياً واضحاً فى قوله عليه الصلاة والسلام (المسلمون من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم’ أمة واحدة من دون الناس) وهو أول أساس لابد منه لإقامة مجتمع إسلامى متماسك سليم.
ثانياً: يدلنا البند الثانى والثالث على أن من أهم سمات المجتمع الإسلامى ظهور معنى التكافل والتضامن فيما بين المسلمين بأجلى صوره وأشكاله’ فهم جميعاً مسؤولون عن بعضهم فى شؤون دنياهم وآخرتهم’ وإن عامة أحكام الشريعة الإسلامية إنما تقوم على أساس هذه المسؤولية’ وتحدد الطرائق التنفيذية لمبدأ التكافل والتضامن فيما بين المسلمين.
ثالثاً: يدل البند السادس على مدى الدقة فى المساواة بين المسلمين لا من حيث أنها شعار براق للدعاية و العرض’ بل من حيث إنها ركن من أركان الشرعية الهامة للمجتمع الإسلامى’ يجب تطبيقه بأدق وجه وأتم صورة’ وحسبك مظهراً لتطبيق هذه المساواة بين المسلمين ما قرره النبى -صلى الله عليه وسلم- فى هذا البند بقوله: (ذمة الله واحدة’ يجير عليهم أدناهم) ومعنى ذلك أن ذمة المسلم أياً كان محترمة’ وجواره محفوظ لا ينبغى أن يجار عليه فيه’ فمن أدخل من المسلمين أحداً فى جواره’ فليس لغيره حاكماً أو محكوماً أن ينتهك حرمة جواره هذا’ والمرأة المسلمة لا تختلف فى هذا عن الرجل إطلاقاً’ فلجوارها -أياً كانت- من الحرمة ما لا يستطيع أن ينتهكه أى إنسان مهما علت رتبته وبلغت منزلته’ وذلك بإجماع عامة العلماء وأئمة المذاهب.
روى الشيخان وغيرهما أن أم هانىء بنت أبى طالب ذهبت الى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح فقالت: يا رسول الله زعم ابن أمي عليٌ أنه قاتل رجل أجرته: فلان ابن هبيرة’ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قد أجرنا مَنْ أجَرْتِ يا أمَّ هانىء.
وتستطيع أن تتأمَّل هذا فتعلم مدى الرِّفعة التى نالتها المرأة فى حمى الإسلام وظله’ وكيف أنها نالت كل حقوقها الإنسانية والاجتماعية كما نالها الرجل سواء بسواء’ مما لم يحدث نظيره فى أمة من الأمم غير أن المهم أن تعلم الفرق بين هذه المساواة الإنسانية الرائعة التى أرستها شريعة الإسلام’ والمظاهر التقليدية لها مما ينادى به عشاق المدنية الحديثة اليوم’ تلك شريعة من المساواة الدقيقة القائمة على الفطرة الإنسانية الأصيلة’ يتوخى منها سعادة الناس كلهم نساءً ورجالاً’ أفراداً و جماعات’ وهذه نزوات حيوانية أصيلة يتوخى من ورائها اتخاذ المرأة مادة تسلية ورفاهية للرجل على أوسع نطاق ممكن’ دون أى نظر إلى شىء آخر.
رابعاً: يدلنا البند الحادى عشر على أن الحكم العدل الذى لا ينبغى للمسلمين أن يهرعوا إلى غيره’ فى سائر خصوماتهم وخلافاتهم وشؤونهم إنما هو شريعة الله تعالى وحكمه وهو ما تضمنه كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-’ ومهما بحثوا عن الحلول لمشاكلهم فى غير هذا المصدر فهم آثمون’ معرضون أنفسهم للشقاء فى الدنيا وعذاب الله تعالى فى الآخرة.
تلك هى أربع’ أحكام انطوت عليها هذه الوثيقة التى أقام عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدولة الإسلامية فى المدينة وجعلها منهاجاً لسلوك المسلمين فى مجتمعهم الجديد’ وإنَّ فيها لأحكاماً هامة أخرى لا تخفى لدى التأمُّل والنظر فيها.
ومن تطبيق هذه الوثيقة’ والاهتداء بما فيها’ والتمسك بأحكامها’ قامت تلك الدولة على أمتن رُكْنٍ وأقوى أساس’ ثم انتشرت قوية راسخة فى شرق العالم وغربه تُقَدِّمُ للناس أروع ما عرفته الإنسانية من مظاهر الحضارة والمدنية الصحيحة (من فقه السيرة للبوطي). |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الإثنين 31 أغسطس 2020, 10:18 pm | |
| اقرؤوا التأريخ اسم الخطيب: عبد الرحمن السديس إمام الحرم اسم المدينة: مكة المكرمة تاريخ الخطبة: 8 /1/ 1423هـ اسم المسجد: المسجد الحرام
الخطبة الأولى أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فمَنْ رام خيراً غفيراً، ورزقاً وفيراً، ومقاماً كبيراً، فعليه بتقوى الله، فمَنْ حَقَّقَهَا حَقَّقَ في الدنيا مجداً أثيراً، وفي الآخرة جنة وحريراً، وروحاً وعبيراً.
أيها المسلمون: في ظل ازدلاف الأمَّة إلى عام جديد، وتطلعها إلى مستقبل مشرق رغيد، تبرز بجلاء قضايا حولية، وموضوعات موسمية، جديرة بالإشادة والتذكير، وحفية بالتوقف والتبصير، علّها تكون مُحرِّكاً فاعلاً يستنهض الهمم، ويشحذ العزائم لمراجعة الذات، وتدقيق الحسابات، وتحديد الرؤى والمواقف، وتقويم المسيرة، لتستعيد الأمة تأريخها المجيد، ومجدها التليد، وما امتازت به من عالمية فريدة، وحضارة عريقة، بوّأتها في الطليعة بين أمم الأرض قاطبة، والإنسانية جميعاً.
معاشر المسلمين: إن قضية المناسبة تكمن في وقفة المحاسبة، فاستقبال الأمة لعام جديد هو بمجرده قضية لا يستهان بها، وإن بدا في أنظار بعض المفتونين أمراً هيِّناً، لطول الأمل والغفلة عن صالح العمل، وإن في مراحل العمر وتقلبات الدهر وفجائع الزمان لعبرة ومزدجراً، وموعظة ومدّكراً، يحاسب فيها الحصيف نفسه، ويراجع مواقفه، حتى لا يعيش في غمرة، ويؤخذ على غرة، ويكون بعد ذلك عظة وعبرة.
ولئن أُسدل الستار على عام مضى، فإن كل ماض قد يُسترجع إلا العمر المنصرم، فإنه نقص في الأعمال، ودنوٌّ في الآجال.
نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تُطوى وهن مراحلُ وإذا كان آخر العمر موتاً فسواء قصيره والطويلُ
فكم من خطوات مشيت، وأوقات صرفت، ومراحل قطعت، ومع ذلك فالإحساس بمضيّها قليل، والتذكر والاعتبار بمرورها ضئيل، مهما طالت مدتها وعظمت فترتها، ودامت بعد ذلك حسرتها.
إخوتي في الله: إن عجلة الزمن وقطار العمر يمضي بسرعة فائقة، لا يتوقف عند غافل، ولا يحابي كل ذاهل، كم ودّعنا فيما مضى من أخ أو قريب، وكم فقدنا من عزيز وحبيب، هزّنا خبره، وفجعنا نبؤه، حتى إذا لم يدع صدقه أملاً شرقتُ بالريق حتى كاد يشرق بي.
لقد كانوا زينة المجالس، وأُنس المجالس، سبقونا إلى القبور، وتركوا عامر الدور والقصور، فاللهم أمطر على قبورهم سحائب الرحمة والرضوان، واللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.
فالله المستعان وإلى متى الغفلة يا عباد الله؟! ماذا ران على قلوبنا؟! وماذا غشي أبصارنا وبصائرنا؟!
إن الموفّق الواعي مَنْ سعى لإصلاح حاله ليسعد في مآله، وإنَّ الكيِّس المُلهم مَنْ أدام المُحاسبة وأكثر على نفسه المُعاتبة، وتفقّد رصيده الأخروي، وحاذر كل لوثة عقدية وفكرية وسلوكية ليحيا حياة السعداء، ويُبوَّأ نزل الشهداء، وما ذلك بعزيز على ذي المن والعطاء.
إخوة العقيدة: ما أحوج الأمة الإسلامية اليوم وهي تتفيأ ظلال عام جديد مليء بالتفاؤل والتطلعات للخروج من الفتن والمشكلات، وتجاوز العقبات والأزمات، ومواجهة التحديات والنكبات، أن تقرأ تأريخها.
اقرؤوا التأريخ إذ فيه العبر ضل قومٌ ليس يدرون الخبر
اقرؤوا التأريخ لتدركوا كيف كانت أحداثه العظام ووقائعه الجسام نقطة تحول كبرى، لا في تأريخ الأمة الإسلامية فحسب، بل في تأريخ البشرية قاطبة، اقرؤوا التأريخ الإسلامي لتروا كيف كانت وقائعه العظيمة منعطفاً مهماً غيّر مجرى التأريخ الإنساني برمّته، اقرئي -يا أمتي- تأريخك المجيد لتعلمي كيف أرست مصادره وأحداثه مبادئ الحق والعدل والأمن والسلام، وكم رسّخت وقائعه منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا من الزمان مضامين الحوار الحضاري الذي يتنادى به العالم اليوم.
أيتها الإنسانية الحائرة، لتسلمي من الأحكام الجزاف الجائرة، اقرئي تأريخ حضارتنا الإسلامية، لتَرَيْ بأم عينيك كيف كفل الإسلام حقوق الإنسان بجدارة، أزال الطبقات والعنصريات، وألغى الفوارق والتمايزات، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات: 13)، في وحدة تتضاءل أمامها الانتماءات العنصرية، والأواصر والعلاقات الدنيوية، بل تضمحل بها كل دعاوى الجاهلية.
إخوة الإيمان: الارتباط التأريخي الوثيق، والانتماء الحضاري العريق يؤكد أن ليس غير العقيدة الإسلامية جامعاً للعقد المتناثر، ومؤلفاً للشتات المتناكر، وناظماً للرأي المتنافر، فهل تعي الأمة ذلك بعد هذا التمزق المزري والتخلف المخزي والتيه في الأنفاق المظلمة وسراديب الغواية المعدمة؟!
إنه لا درب سوى الإسلام، ولا إمام غير القرآن، ولا نهج إلا نهج سيد الأنام -عليه الصلاة والسلام-، ألم تستيقن الأمة بعد طول سبات أن التخلي عن العقيدة والتساهل بأمر الشريعة والتفريط في الثوابت والمبادئ والتقصير في المثل والقيم مآله شقاء المجتمعات، وانتقاض الحضارات، وهلاك العباد، وخراب البلاء، وطريق البوار، وسبب الانهيار، وحلول التبار، وتحقق الدمار؟!
فهل يدرك أصحاب الرأي والنظر في الأمة أن التحديات السابقة والمعاصرة وصور التصادم الحضاري والعداء الثقافي والفكري إنما مردُّه إلى ثوابت عند الغير، لا يتحقق الانتصار عليها إلا بالتمسك بموروثنا الحضاري العريق الذي ينضح خيراً وسلاماً للبشرية، وأمناً وإسعاداً للإنسانية في بُعد عن مسالك العنف والإرهاب العالمية، التي أقضَّت مضاجع الإنسانية، وهنا ينبغي أن يتنادى العقلاء والمنصفون في العالم بإعلاء القيم الحضارية والأخلاقية والمثل الإسلامية والإنسانية، والتأكيد على مبدأ الحوار الحضاري، بلا تميُّع ولا انهزامية.
اقرؤوا التأريخ -أيها المنهزمون من بني جلدتنا- لتدركوا أن الحوار مع الآخر يجب أن يُبنى أولاً على الإصلاح من الداخل، حين تمتلئ النفوس محبة ومودة وحناناً، حينما توضع الكوابح المرعية، وترسم الضوابط الشرعية لحركة الانفتاح الفكري والثقافي والتربوي والإعلامي المتسارعة التي لا تعرف التمهّل، فقنوات وفضائيات، وتقانات وشبكات معلومات، واللهم حوالينا ولا علينا.
يجب أن تُعاد الثقة إلى الذات، ويُعالج الانهزام النفسي لدى كثير من المعنيين في مجالات التربية والثقافة والإعلام، الذين لهثوا وراء عفن الأمم، عبُّوا منها طويلاً، فلم تغنهم ولم تغنِ أمتهم فتيلاً ولا نقيراً ولا قطميراً، وهنا يتأكد تعزيز جانب الحسبة في الأمة، حتى لا تغرق سفينة المجتمع، كما يجب الذبّ عن أهلها، وعدم الوقيعة بهم، وتضخيم هناتهم، والكف عن التمادي في اتهامهم، والطعون في أعراضهم، في وشايات مأفونة، أو مقالات مغرضة، أو أقلام متشفية، فأي شيء يبقى للأمة إذا انتقصت معالم خيريتها؟!
أمَّة الإسلام: حينما تتقاذف سفينة الأمة أمواج الفتن فإن قوارب النجاة وصمامات الأمان مرهونة بولاء الأمة لدينها وتمسكها بعقيدتها، وحينما يُجيل الغيور نظره في واقع أجيال من المنتسبين إلى أمتنا اليوم، ويرى التبعية والانهزامية أمام تيارات العصر الوافدة ومبادئ المدنية الزائفة، ويقارن بينهم وبين جيلنا التأريخي الفريد يدرك كم كانت وقائع تأريخنا المشرق الوضاء وحوادث سيرتنا العطرة سببا في عزة الأمة وكرامتها، وبذلها وتضحياتها، وإن تنكُّر فئام من الأمة لمبادئ دينهم ولهثهم وراء شعارات مصطنعة ونداءات خادعة لهو الأرضية الممهدة للعدو المتربّص، مما جرّأ علوج صهيون على العبث بمقدسات الأمة وممارسة إرهاب الدولة بكل ما تحمله من معنى الصلف والوحشية ضد إخواننا في الأرض المباركة فلسطين تحت سمع العالم وبصره.
كما أن من الدروس المستفادة لتحقيق مصالح الأمة جواز عقد المعاهدات والمهادنات، لا الاستسلام والمداهنات.
يا أمَّة التوحيد والتأريخ: في خضم هذه الظروف الحوالك، التي اختلطت فيها المسالك، يتأمل قُراء التأريخ ويتساءلون: أين دروس الهجرة وعبرها من شعارات العصر بإنسانيته الزائفة وديمقراطياته المزعومة التي تُحسب على دعاتها مغانم وعلى غيرهم مغارم، في غياب المنهجية الشورية المصطفوية؟!
أين دروس التأريخ؟ وعِبَر الهجرة؟ وأخوة المهاجرين والأنصار؟ من أناس مزّقهم التفرق والتشرذم؟، وأحلُّوا العداوة والخصام محلّ المحبة والوئام؟، وترسّبت في سويدائهم الأحقاد؟، وتأجج في قلوبهم سعير الحسد والبغضاء؟، والغل والشحناء؟، حتى تمزقت الأواصر وساد التفكك الأسري والاجتماعي في كثير من المجتمعات؟! فرحماك ربنا رحماك.
اقرؤوا التأريخ لتجدوا كم تحتاج العقيدة إلى دولة وسلطان ينافح عن كيانها، ويذود عن حماها، كما هي منة الله سبحانه على بلاد الحرمين ومدارج الهجرة وأرض التأريخ والرسالة حرسها الله.
ألا فليتيقن دعاة الإصلاح في الأمة أن لا عقيدة ولا تمكين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بولاية، ولا ولاية إلا بسمع وطاعة، لتدرأ عن الأمة غوائل الشرور والفتن، وعاديات الاضطراب والمحن.
وفي الميدان التربوي يجب أن يقرأ التربويون تأريخنا ليروا كيف تربى المرء المسلم عبر كافة قنوات التربية على نصرة العقيدة والولاء للقيادة.
وليقرأ التأريخ شبابُنا المعاصر الذين خدع كثير منهم ببريق حضارة مادية، أفرزت غزوا في الصميم، تنكب من خلاله كثير من شباب الأمة طريق الهداية الربانية، وعاشوا صرعى حرب الشهوات، وضحايا غزوا التفرق والشبهات، ويبرز ذلك في مجال التشبه والتبعية والتقليد والمحاكاة للغير في كثير من المجالات، وقد قال فيما أخرجه أحمد وأبو داود: (من تشبه بقوم فهو منهم) (1).
لتقرأ التأريخ وتستلهم دروسه وعبره المرأةُ المسلمة المعاصرة، لتدرك أن عزَّ المرأة ومكانتها في تمسكها بقيمها ومبادئها، حجاباً وعفافاً، احتشاماً وقراراً، وأن وظائفها ومسؤولياتها التربوية والأسرية والاجتماعية في الأمة كبيرة التبعة، عظيمة الجوانب والآثار، لا كما يصوِّرها أعداؤها الذين يوحون إلى أوليائهم ومولياتهم أن الحجاب والعفاف فقدان للشخصية، وسلب للحرية، فأخرجوها دمية تفتش عن سعادة موهومة، وحرية مزعومة، كان من نتائجها دوس العرض والشرف، والعبث بالعفة والكرامة، من ذئاب مسعورة لا ترعى الفضائل، ولا تبالي باقتراف الرذائل.
تلك -أيها المسلمون- إلماحة عابرة إلى شيء من وقائع التأريخ ودروس السيرة وعبرها، تظهر في حدث الهجرة النبوية والتأريخ بها، تُقدَّم للأمة اليوم وهي تعيش مرحلة من أخطر مراحلها علّها تكون نواة لمشروع حضاري إسلامي، يسهم في صلاح الحال، وتقويم المسار لسعادة المآل، ويمثل بلسماً شافياً لعلاج الحملات الإعلامية المسعورة وسهام الحقد الطائشة ضد ديننا وأمتنا وبلادنا، التي ما فتئ أعداء الإسلام يصوبونها تجاهنا مستغلين نقاط الضعف في الأمة، متصيدين في الماء العكر أخطاء بعض أبنائها.
ألا ما أشد حاجتنا -ونحن نستشرف آفاق العام الهجري الجديد- إلى وقفات تأمل ومحاسبة، ومراجعة جادة لاستثمار كل ما يعزز مسيرة أمتنا، لتزدلف إلى عام جديد وهي أكثر عزماً وأشد مضاءً لفتح آفاق جديدة لإسعاد الإنسانية لتتبوأ مكانتها الطليعية، ومنزلتها الريادية فوق هذا الكوكب الأرضي الذي ينشد سكانه مبادئ الحق والعدل والسلام، ويرومون الخير والأمن والوئام، ولن يجدوه إلا في ظل الإسلام، وتعاليم الإسلام، زادُنا في ذلك موروث حضاري وتأريخي وعقدي وقِيَمِي لا ينضب، ونهلٌ من مُعطيات العصر وتقاناته في خدمة دين الأمة ومُثُلها وقيمها.
والله المسؤول أن يجعل هذا العام عام خير وبركة، ونصر وتمكين للإسلام والمسلمين، وعام أمن وأمان وعدل وسلام للإنسانية قاطبة، وأن يجمع فيه كلمة المسلمين على الحق والهدى، ويوحِّد صفوفهم، ويطهر مقدساتهم، وينصرهم على أعدائهم، وأن يجعل حاضرنا خيراً من ماضينا، ومستقبلنا خيراً من حاضرنا، إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (العنكبوت: 69).
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدى والبيان، ورزقنا التمسك بسنة المصطفى من ولد عدنان، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (يوسف: 100)، وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ (هود: 90). -------------------- (1) أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وعبد بن حميد (267)، والبيهقي في الشعب (2/75) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال ابن تيمية كما في المجموع (25/331) : "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/321) : "سنده صحيح"، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
الخطبة الثانية: حمداً لك اللهم، أنت الملك القدوس السلام، تجري الليالي والأيام، وتجدِّد الشهور والأعوام، أحمد ربي تعالى وأشكره على ما هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل شهر المحرم فاتحة شهور العام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله سيد الأنام، وبدر التمام، ومسك الختام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله البررة الكرام، وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب النور والظلام.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، تمسكوا بدينكم، فهو عصمة أمركم، وتاج عزكم، ورمز قوتكم، وسبب نصرتكم، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة الأحبة في الله: تعيشون -يا رعاكم الله- هذه الأيام فاتحة شهور العام شهر الله المحرم، شهر من أعظم الشهور عند الله تبارك وتعالى، عظيمة مكانته، قديمة حرمته، هو غرة العام، وأحد أشهر الله الحرم، فيه نصر الله موسى والمؤمنين معه على فرعون ومن معه، وقد ندبكم نبيكم إلى صيامه، فقد قال فيما أخرجه مسلم في صحيحه: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم) (1)، لا سيما يوم عاشوراء، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي المدينة، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم: (ما هذا اليوم الذين تصومونه؟) قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال: (نحن أحق بموسى منكم) فصامه وأمر بصيامه (2)، وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) (3).
الله أكبر، يا له من فضل عظيم، من مولى كريم ورب رحيم، وقد عزم على أن يصوم يوماً قبله مخالفةً لأهل الكتاب، فقال: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) (4)، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "فمراتب صومه ثلاثة: أكملها أن يُصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يُصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصيام" (5).
فينبغي للمسلمين أن يصوموا ذلك اليوم اقتداءً بأنبياء الله، وطلباً لثواب الله، وأن يصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده مخالفةً لليهود، وعملاً بما استقرت عليه سنة المصطفى، وعليه فمن أراد الصيام هذا العام فالأفضل أن يصوم يوم السبت والأحد والاثنين، وإن صام السبت والأحد فهو السنة، ولا بأس بصيام الأحد والاثنين، ويليه يوم الأحد، وهو يوم عاشوراء.
وإن صيام ذلك اليوم لمن شكر الله عز وجل على نعمه، واستفتاحِ هذا العام بعمل من أفضل الأعمال الصالحة التي يُرجى فيها ثواب الله عز وجل، فهنيئاً للصائمين، ويا بشرى للمشمرين، ويا خسارة المفرطين، ويا ندامة المقصرين، فاتقوا الله عباد الله، واستفتحوا عامكم بالتوبة والإنابة، والمداومة على الأعمال الصالحة، وخذوا من مرور الليالي والأيام عبراً، ومن تصرم الشهور والأعوام مدّكراً ومزدجراً، وإياكم والغفلة عن الله والدار الآخرة.
ثم صلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي المصطفى والرسول المجتبى والحبيب المرتضى، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا فقال تعالى قولاً كريماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً (الأحزاب: 56).
اللهم صل وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين وأفضل الأنبياء والمرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الأطهار... ---------------------------------------------------------------- (1) أخرجه مسلم في الصيام، باب: فضل صوم المحرم (1163) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاري في الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2004)، ومسلم في الصيام، باب: فضل صوم يوم عاشوراء (1130). (3) أخرجه مسلم في الصيام (1162). (4) أخرجه مسلم في الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء (1134) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (5) زاد المعاد (2/76). |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الأربعاء 02 سبتمبر 2020, 5:56 pm | |
| الأفضل أن تستبدل الكلمة بـ: (الهجرة) تاريخ الفتوى:... 24 صفر 1423هـ 07-05-2002م
السؤال فقط أريد معرفة هل يعتبر قول (إن النبي هرب) إساءة وطعنا إن قصد فيها معنى الخروج من بطش الكفار فلقد قرأت لأحدهم هذه العبارة... وحق له أن يهرب فقد هرب النبي صلى الله عليه وآله من المشركين وهاجر إلى المدينة... وهرب موسى عليه السلام من فرعون... ولم يكن يقصد بها الإساءة بل وصف حال ولكن البعض كفره بسبب كلمته فهل بها إساءة؟ والسلام عليكم.
الفتوى الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فقول الشخص: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة هارباً ليس ذماً بإطلاق، بل فيه تفصيل.
فإن قصد القائل أنه خرج هارباً نتيجة جبن وخور وفرار من تبليغ رسالة الله تعالى ومواجهة المشركين ونحو ذلك، فهذا كافر لأنه طعن في النبي -صلى الله عليه وسلم- وتنقص، وهو كفر بإجماع.
وإن كان قصد القائل أنه خرج بإذن الله وهرباً من أذى قومه بعد اتفاقهم على قتله ونحو ذلك، فلا شيء عليه، والأولى تجنب هذه اللفظة الموهمة، واستبدالها بلفظ الهجرة.
ويدل على أنه خرج مهاجراً بإذن الله ما أخرجه أحمد والترمذي والحاكم والضياء وصححوه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة، فأمر بالهجرة من مكة، وأنزل عليه (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً) (الإسراء: 80).
وروى ابن إسحاق والطبراني عن أسماء رضي الله عنها أن أبابكر رضي الله عنه أستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخروج قبل المدينة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي"، فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي وأمي أنت؟ قال: "نعم...".
فهذا يدل على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج مهاجراً بإذن الله وأمره، ولا يتنافى هذا مع القول بأنه خرج مطارداً خائفاً من قومه، كما يدل عليه ما رواه البخاري أن ورقة بن نوفل قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ليتني أكون فيها جذعاً، إذ يخرجك قومك، قال: "أومخرجيَّ هم؟!!"، قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا أوذي وأخرج...
وما أخرجه أحمد بسند صححه ابن حجر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للأنصار: لو شئتم قلتم: "جئتنا خائفاً فآمناك، وطريداً فآويناك، ومخذولاً فنصرناك"، فقالوا: بل المن علينا لله ورسوله.
وقد تقرر في معتقد أهل السنة والجماعة أن الخوف الطبيعي من العدو، واتخاذ الأسباب الواقية من شره لا يقدح في العقيدة، ولا ينافي التوكل. والله أعلم. المفتي:.. مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الأربعاء 02 سبتمبر 2020, 6:15 pm | |
| جواز الإفادة من المشركين جواز الإفادة من المشركين -ولا نقول: الاستعانة بالمشركين؛ لأنه لا استعانة بغير الله تعالى- أمر واضح في الدروس الحركية للهجرة النبوية، ففي البخاري: "...واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، رجلاً من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدى، هادياً، خريتاً -والخريت -الماهر بالهداية -قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور، بعد ثلاث ليال براحلتيهما، صبح ثلاث" "14".
ويلاحظ جيداً: أن هذه الاستفادة توافرت فيها أمور ينبغي أن لا تغيب عنَّا، إذ هي شروط لابد من مراعاتها. أ -أن يكون المُستفاد منه أوبه صاحب تخصص نادر، لا يجيده مسلم. ب -أن يكون ماهراً في تخصصه، خبيراً به. ج -أن لا يكون محارباً، أو من قوم محاربين للمسلمين، أو مظاهراً لمحارب. د -أن يكون أميناً، حيث إن المسلم المخذل أو المرجف يمنع، فالكافر غير المؤتمن أولى بالمنع. هـ -أن يكون حسن الرأي في المسلمين76".
ويبدو أن الطريق المتعرج الوعر غير المألوف الذي اختار النبي -صلى الله عليه وسلم- السير فيه للهجرة تخفياً عن قريش وعيونهم، ما كان يعرفه إلا القلة القليلة، وكان عبد الله بن أريقط من هذه القلة، التي امتاز عنها بباقي الصفات المذكورة، لذلك وقع الاختيار عليه.
ويجرنا هذا الدرس النبوي إلى الإشارة العاجلة لأنواع العلاقات مع الكفار. وهي على هذا النحو: (أولاً): المولاة لهم والولاء معهم. وهذا ممنوع منعاً باتاً، ومُحَرَّمٌ تحريماً قاطعاً، يقول تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) إلى أن يقول سبحانه وتعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين) "77".
(ثانياً): البرُّ بهم والإحسان إليهم. وهذا يتوقف على نوع معاملتهم للمسلمين، وعلاقتهم بهم.. فهم: إما مسالمين غير محاربين للمسلمين، وتتحدد علاقة المسلمين بهم، في ضوء قوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) "78"، وإما محاربين للمسلمين، وتتحدد علاقة المسلمين بهؤلاء -كذلك -في ضوء قوله تعالى (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) "78".
(ثالثاً): الاستعانة بهم. وهذه ممنوعة منعاً باتاً، ومُحَرَّمَة تحريماً قاطعاً، حيث إنه لا استعانة بغير الله تعالى من جهة، ومن جهة أخرى.. لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي روته عائشة، قالت: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بدر، حتى إذا كان بحرة الوبرة، أدركه رجلٌ من المُشركين، كان يذكر منه جُرأة ونجدة، فسُرَّ المسلمون به، فقال يا رسول الله! جئت لأتبعك، وأصيب معك، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمُشركٍ"، قالت: " ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى إذا كان بالبيداء، أدركه ذلك الرجل، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، قال: فانطلق" "79".
وكذلك: روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن حبيب قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يريد غزوة، أنا ورجل من قومي، ولم نسلم، فقلنا: إنا لنستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم، قال: "أفأسلمتما؟" قلنا: لا، قال: "فإنا لا نستعين بالمُشركين على المُشركين"، قال: فأسلمنا، وشهدنا معه "80".
قال ابن المنذر: والذي ذكر غير ذلك مما قد يدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- استعان بهم، فغير ثابت"81 " ومما يجدر التنبيه عليه هنا: أنه إذا كانت الاستعانة بالمشركين على المشركين.. ممنوعة شرعاً، فإن الاستعانة بالمشركين على المسلمين أكد في المنع، وأشد في الحُرمة.
(رابعاً): الإفادة من المشركين. وهذه مباحة بالشروط السابق ذكرها وقد فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم-، على ما سبق أن بدأنا به الحديث في هذا الدرس من دروس الهجرة النبوية، وما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم-، من استئجاره لعبد الله بن أريقط، المشرك، وإفادته به ومنه: يُعَدُّ درساً عظيماً، يفتح المسلمين على آفاق المعرفة، وألوان الإفادة بأي شئ، أو من أي مصدر كان، ما دام ذلك بعيدا عن الإضرار بالعقيدة، أو الانتقاص من الدين، لأن الحكمة ضالة المؤمن، ينشدها أنَّى وجدها، وهو درس يفتح الباب للإفادة من منجزات المشركين واكتشافاتهم العلمية، وصناعاتهم، واختراعاتهم، التي تساعد على عمارة الكون، والتمتع بما فيه.
ولا يهم في هذه الحالة: مَنْ الذي أنجز أو اكتشف أو صنع، لأن العلم -كما يقولون- لا جنسية له بشرط: أن تكون هذه الإفادة، بعيدة عن الإضرار بالعقيدة، وسالمة من الانتقاص بالدِّين، وغير مُقعدة للمسلمين عن التفوق في هذه المجالات، وفي الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني قال: سُئِلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قدور المَجُوس، فقال: "انقوها غسلاً واطبخوا فيها".
وفي رواية أخرى، يقول فيها: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا رسول الله!! إنا بأرض قوم أهل كتاب.. نأكل في آنيتهم..؟ قال: "إن وجدتم غير آنيتهم، فلا تأكلوا فيها، فإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها" "82"، ويقاس عليه: التعاملات التجارية، والتبادلات المادية، و... و... الخ، على نفس الشروط السابقة.
ومن المعلوم جيداً في هذا الموضوع: أن لا تكون لهذا المُشرك السيادة على المسلم إطلاقاً، بل السيادة تكون للمسلم أمراً ونهياً، بدءاً وإنهاءً، والواضح من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن هذا الحُكم في حال الضعف الشديد للمسلمين، ومن هنا: فإنه في حال قوة المسلمين يكون العمل به أولى وأوجب. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الأربعاء 02 سبتمبر 2020, 6:21 pm | |
| التأريخ بالهجرة النبوية اجتمع عليه الصحابة الكرام تاريخ الفتوى:... 08 ربيع الثاني 1424هـ 09-06-2003م
السؤال ما هي مشروعية التاريخ الهجري في ضُوء الكتاب والسُّنَّة؟
الفتوى الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فقد سبق أنْ بَيَّنَا في الفتوى رقم: 26228، أن الخليفة الرَّاشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أراد أن يؤرخ الرسائل والكتب التي ترد إليه، فجمع الصحابة لهذا الأمر وانتهوا إلى التأريخ بالهجرة النبوية وابتدئوا بالمُحَرَّمِ، ويكفي لمشروعية هذا العمل الجليل أنه من عمل الخليفة الرَّاشد عمر، وقد جاء الأمر النبوي باتباع هَدْي الخُلفاء الرَّاشدين المَهديين كما في الحديث: "فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشدين المَهديين. رواه ابن ماجه وأحمد.
فالخُلفاءُ الرَّاشدون لا يُصدرُونَ إلا عن هَدْي النبي -صلى الله عليه وسلم- إمَّا نصّاً أو استنباطاً، وبخصوص عمر قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه". رواه الترمذي، ومعنى جعل أي أجراه على لسانه.
ثم إن هذا العمل اجتمع عليه الصحابة وسار عليه التابعون وتابعوهم والمسلمون على امتداد تاريخهم، فالمخالف لهم المضلل لرأيهم على غير السبيل، قال الله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء: 115)، وقال ابن مسعود: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن". رواه أحمد. والله أعلم.
المفتي:... مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الأربعاء 02 سبتمبر 2020, 6:35 pm | |
| التبشير.. لا التخويف على المسلم بعامَّةٍ، وكل مَنْ انخرط في صَفِّ الدَّعوة إلى الله بخاصَّةٍ، أن يكون مبشراً ميسراً -لا مخوفاً معسراً -يعد بفضل الله تعالى لِمَنْ أحْسَنَ، ويرجو عفو الله تعالى لِمَنْ تاب لأن فضل الله تعالى لا يَحْجُبُهُ أحَدٌ، وعفو الله لا يملكه سواه.
يقول عبادة بن الصامت، بعد أن ذكر بنود بيعة العقبة الأولى: ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً، فأخذتم بِحَدِّهِ في الدُّنْيَا: فهو كفَّارَةٌ له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة: فأمركم إلى الله، إن شاء عذَّب، وإن شاء غفر" "33".
يا لعظمة هذا النبي.. -صلى الله عليه وسلم-..!! ويا لسماحة هذا الدين..!! "وإن غشيتم من ذلك شيئاً: فأمركم إلى الله". لاحظ أخي المسلم الكريم.. أن الإشارة هنا "من ذلك" لا تعود على صغائر من الذنوب، بل على ذنوب هي من الكبائر، بل هي الكبائر، ومع ذلك يقول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "فأمركم إلى الله إن شاء عَذَّبَ وإن شاء غفر".
نعم.. مَنْ وَفَّى: يُبَشِّرُهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بفضل الله وإحسانه.. ومَنْ خالف: أيضاً يُبَشِّرُهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بعفو الله وغفرانه.
لم يُهَدِّدْ النبي -صلى الله عليه وسلم- ويتوعَّدْ..!! ولم يتشنَّج -وحاشاه -صلى الله عليه وسلم- ويرغى ويزبد، ويوحي لسامعيه أنه العليم ببواطن الأمور، والقابض على مفاتيح العدل والفضل..!!
ولم يقل: "ومَنْ غشي من ذلك شيئاً: فليُفارق دعوتنا، وليتبع سبيلاً غير سبيلنا، حيث إنه لا يصلح في صفوفنا"..!! لا.. لم يقل هذا ولا ذاك... بل أفصح بأدب الدَّعوة الرَّفيع، وأخبر عن منهجها السَّمح، وبَيَّنَ -بكل وضوح- أنَّ مفاتيح ذلك كله بيد الله سبحانه وتعالى.
وهو درسٌ يجب أن يعيه شباب الصحوة الإسلامية المباركة، الذين اتخذ بعضهم -وهم قلة- التخويف من عذاب الله تعالى فقط، أو الإكثار منه، في إقناع الآخرين بالطاعة لله تعالى، منهجاً، أو التشديد على أنفسهم، أو غيرهم أسلوباً في الحياة وطريقاً.
ومَنْ تصفَّح كتاب الله تعالى وَجَدَ هذا الدَّرْسَ واضحاً فيه بجلاءٍ، حيث إن آيات الرَّحمة أكثر فيه من آيات العذاب، وآيات البِشَارَةِ أكثر من آيات الإنذار، بل إنه ما من آية عذابٍ أتت إلا أعقبتها، أو جاءت قريباً منها آية رحمة.
ومَنْ يفعل غير ذلك، وغير ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم-، يكون قد خالف شرع الله تعالى، وبَعُدَ عن سُنَّةِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وتجرَّأ -من فرط جهله- على سماحة هذا الدِّين، وأدب الدعوة إليه، وينبغي أن يكون واضحا: أن لا يصل الداعية بهذا التيسير والتسهيل والتبشير، حَدّاً يدفع الآخرين إلى الجُرْأة على الله تعالى، أو التسويف في القيام بأحكام هذا الدِّين، أو الترخُص -بلا دليل- في بعضها.
بل عليه: أن يكون متوازناً: -أولاً- في سلوكه، معتدلا في تفكيره وعباداته، يرجو رحمة الله، وفي نفس الوقت يخشى عذابه. -ثانياً- في عرضه لمبادئ هذا الدين، وفي الدعوة إليه، فيقدم الصورة كاملة، بحيث لا يتعرض لجانب التخويف والعذاب، وعرض صوره وأدلته فقط، كما لا يتعرض لجانب الرجاء والعفو والثواب، وعرض صوره وأدلته فقط، بل يتعرض لهذا وذاك، دون إهمال لأحدهما كلية، أو طغيان له على الآخر، بل يلتزم المنهج الوسط، والعرض الأمين، والأسلوب المعتدل... ثم يترك النتائج لله سبحانه وتعالى. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الأربعاء 02 سبتمبر 2020, 6:45 pm | |
| التدابير العلمية في الهجرة النبــوية بقلم الدكتور: نظمي خليل أبو العطا غـفــر الله له ولوالديه وللمسلمــين
من الأمراض الخطيرة التي هدَّت كيان الأمَّة الإسلامية حالة الاتكالية الغيبية الصُّوفية التي بذرت في التربة الإسلامية فوجدت نفوساً جاهلة غير قادرة على الأخذ بالأسباب العلمية، كما ساعدت الجاهليات المتجذرة في نفوس بعض البلدان التي فتحها المسلمون، هذه التوجُّهات الغيبية الجاهلة ساعدت تلك الجاهليات والنفوس الخبيثة على تدعيم الاتكالية الغيبية الخطيرة، فضاعت الأمَّة، وهدمت حضارتها العلمية وحَلَّ محلها الحضارة الانهزامية التي دعت ما لقصير لقصير وما لله لله.
وأذكر أنني سافرت في سفر طويل بالسيارة فوجدتُ العجب العُجاب وجدت مهندسين ومعلمين لم يأخذوا بالأسباب العلمية في تجهيز سياراتهم وكان السبب الرئيس في هذا المسلك العجيب هو حالة الاتكالية العجيبة، وخاصة اننا كنا سنمر على بيت الله الحرام ومسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فظنوا أن هذا يسمح لهم بعدم الأخذ بالأسباب العلمية والاتكال على أنهم قاصدون البيت الحرام ومسجد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وقال لي أحدهم تعطلت سيارتي (بسبب عدم صيانتها وصلاحيتها للسفر الطويل)، فدعوتُ رسول الله فسارت السيارة، قلت له لقد أخطأت انك دعوت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من دون الله، وأنك لم تأخذ بالأسباب، فلا أظن أن هذا سبب إصلاح السيارة وسيرها.
الهجرة والتدابير النبوية العلمية: 1 - بدأ التخطيط العلمي للهجرة بعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه على الوافدين إلى مكة وعقد بيعة العقبة الأولى والثانية وبايعهم المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في المنشط والكسل والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا تأخذهم في الله لومة لائم، وأن ينصروه ويمنعوه إذا قدم إليهم بما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم.
2 - أرسل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مصعب بن عمير ليعلمهم وليمهد البيئة في المدينة المنورة لقدوم المصطفى -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرين.
3 - ألمح المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر بالهجرة قائلا: "على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي" وهنا استعد أبو بكر للصحبة وحبس نفسه على الهجرة.
4 - أمر جبريل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الهجرة بأن يترك بيته هذه الليلة فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، وهذا قمة الأخذ بالأسباب الدنيوية.
5 - تجهيز البعيرين بعلفهما مدة كافية (أربعة أشهر) حتى يتحملا مشقة السفر ووعورة الطريق.
6 - اختيار الدليل الخبير بالطريق حتى ولو كان كافراً، المهم أن يكون عالماً بالطريق أميناَ، في سلوكه وأخلاقه، وهذا ما أثبتته نتائج الأحداث، فقد سار بهم الدليل في طريق وعرة، بعيدة عن مدارك الكفار والمشركين، حيث استأجر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هادياً خريتا -والخريت الماهر في الهداية- فدفعا إليه راحلتيهما صبح ثلاث وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق الساحل كما ورد في البخاري.
7 - دبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من يبيت في فراشه، فلم يترك الفراش خالياً، حتى لا تبعث مكة في طلب النبي صلى عليه وسلم فور اكتشاف خروجه، حتى إذا اكتشفوا ذلك يكون المصطفى -صلى الله عليه وسلم- قد دبر أمر نفسه، كما أختار المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لذلك رجلاً شجاعاَ شاباً فتياً قوياَ مخلصاَ صادقاَ شجاعاً، هو الإمام علي -رضي الله عنه-، حتى لا يخاف من الأعداء ويأتي بحركة مغايرة للمطلوب، وهكذا ظهرت العلمية في أعلى صورها وأجل معانيها في التدابير السابقة واللاحقة بإذن الله.
8 - خرج المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من بيته مقنعاَ في وقت الظهيرة حيث الحر والقيلولة، وهجوع الناس في ديارهم اتقاء الحر الهاجرة، ومن يعش في القرى والصحراء يعرف خلو الطرقات من المارة في هذا الوقت.
9 - وعندما وصل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت أبي بكر قال له: (أخرج من عندك) خوفا من وجود من لا يؤتمن على السر من الخدم والزوار وغيرهم، فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله وقد أثبتت النتائج صدق تصور أبي بكر في أبنائه وحُسن تربيتهم.
10 - تجهيز المأكل والمشرب والظهر وإعداده للرحيل ومشاركة أولاد أبي بكر في الأمر ليستشعروا عظم العمل، ويعذروا والدهم لتركه إياهم.
11 - تجهيز الميزانية المالية المطلوبة للرحلة و مشاركة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في تكاليف الراحلة وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- (بالثمن) عندما عرض أبو بكر عليه إحدى الراحلتين.
12 - تحديد مكان اللجوء السريع والاختفاء عن الأنظار فلجأ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- غار ثور، وقد حدد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مدة ثلاثة أيام للاختباء فيه حتى يهدأ الطلب من مكة، وتكف عن الملاحقة لقناعتها انها عاجزة عن اللحاق به.
13 - الخروج من الباب الخلفي لبيت أبي بكر، فلم يخرج من الباب الرئيس للبيت إمعاناً في الأخذ بالأسباب.
14 - كتمان الخبر عن الجميع ما عدا آل أبي بكر وسيدنا علي والدليل وتوزيع المهام عليهم.
15 - تكليف عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ومحل ثقته أن يتأتي بغنم أبي بكر ليلاَ فيتزود الركب من حليبها ولحمها وتقوم بمحو آثار الأقدام من الطريق المأهول إلى الغار.
16 - تكليف عبد الله بن أبي بكر بمهمة الإعلام والتغطية الميدانية لكفار مكة، ونقل صورة ميدانية حقيقية لما يدور في مكة على أن يأتي كل يوم بحصاده الإخباري.
17 - عند الخروج من الغار اختار المصطفى صلى الله وسلم طريق الساحل، ولم يمض الركب في الطريق المعتاد وقد أثبتت النتائج حسن هذا التدبير.
18 - دخول " أبي بكر " أولا إلى الغار لتهيئته للقائد حتى لا يصاب بأذى، وهذا قمة العلمية وما يفعله الرؤساء حاليا لأن الحفاظ على القيادة يحفظ المسيرة.
أما أبو بكر فهو فرد من المسلمين لا تموت الدعوة في مهدها بموته.
19 - أرسل الله العنكبوت لينسج خيطاً مادياً إمعاناً في الأخذ بالأسباب العلمية في التخفية، وتعليماً للمسلمين في التمويه والأخذ بالأسباب المادية من نواميس الله في الخلق.
20 - تحييد أمر سراقة وتبشيره بأساور كسرى والتمكين مع إعطائه درساً مادياً في الإيمان عندما ساخت أقدام فرسه في الرمال فكان أول النهار طالباً لرسول الله والفدية وفي آخر النهار مدافعاَ ومخذلاً عنه، وصارفاً للكفار ومثبطاً لهم عن الاستمرار في البحث عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
21 - عندما وصل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إلى خيمة أم معبد وبيت المرأة الأخرى طلب منهما شاة ليحلبها ويجلس على ضرعها، وهذا يؤكد أخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالأسباب المتاحة من الكائنات الحية وتأكيد علمي عملي على أن الحياة لا تتولد إلا من الحياة.
22 - تجنب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مواطن العملاء فقصد بيتا متفرداً عن الحي ولما أخبرته المرأة بمكان عظيم القوم وأشارت عليه أن يذهب إليه لم يفعل ذلك، وهذا موقف علمي عملي فإن زعماء قريش قد أرسلوا إلى زعماء القبائل وأغروهم بمكافأة مالية من الإبل إن هم أتوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحيطة والحذر ولم يذهب.
23 - لم يميز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه عن أبي بكر في اللباس والهيئة حتى أن أهل المدينة لم يفرقوا بينهما عندما وصلا إليها، وفي هذا زيادة في عدم جذب الأنظار للمصطفى -صلى الله عليه وسلم- في الطريق.
هذه كانت بعض التدابير العلمية في الهجرة النبوية تثبت أن ديننا دين العلمية الواقعية التجريبية، وأن ما يدعيه البعض من الصوفية أنهم تخطوا الحواجز المادية هو ضرب من الجهل بماهية الإسلام وواقعيته وعلميته وتسخير ونواميس الله في الخلق لصالح الإنسان وباقي المخلوقات الحية في الكرة الأرضية.
وهذا درس خاص لشباب المسلمين يعلمهم الأخذ بالأسباب العلمية في حياتهم الدراسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وعدم التواكل على أسباب لم يبذلوا جهدا فيها، وإذا فعلنا ذلك أصبحنا قادة خلقية تطبيقةً عمليةً في هذه الحياة الدنيا كما كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الثلاثاء 08 سبتمبر 2020, 2:19 am | |
| التورية عند الضرورة الكناية والتورية في الإجابة على أسئلة الأعداء أو الخصوم دون التصريح، للحفاظ على الكُليَّات الخمس، أو واحدة منها -وهي: النفس، والدين، والعرض، والنسل، والمال- لنفسه، أو لغيره: أمر لا يُعَدُّ كَذِبًا، عند الضرورة لذلك.
وعدم استعمال هذا الأسلوب -عند استشعار الحرج فيه، أحياناً - قد يؤدى إلى ضرر أفدح منه.
وهو درس واضح في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعامة.
كما هو واضح في الدروس التي تستفاد من هجرته، -صلى الله عليه وسلم-، على النحو التالي: ففي البخاري.. "عن أنس بن مالك --رضي الله عنه-- قال: أقبل نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وهو مُرْدِفٌ أبا بكر، وأبو بكر: شيخٌ يُعْرَفُ، ونبيُّ الله -صلى الله عليه وسلم-: شَابٌ لا يُعْرَفُ، قال: فيلقي الرجل أبا بكر، فيقول: يا أبا بكر مَنْ هذا الرَّجُل الذي بين يديك..؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، قال: فيحسب الحاسب.. أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير "53".
وليس صمت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإقراره لتورية أبا بكر هذه: هي المستند الشرعي فيها فقط، وإن كانت كافية... بل: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في طبقات ابن سعد -كان قد قال له: "ألْهِ النَّاسَ عَنِّي" "55".
وهو درس جد عظيم.. حيث يبيح للمضطر -ويرشده إلى- وسيلة ينجو بها، أو يحمي بها غيره، من الهلاك أو الإيذاء، وفي نفس الوقت يتيح له عدم الوقوع تحت غائلة الكذب.
وليس هذا ترخصاً في الدِّين، أو استهانة بأحكامه، أو تلاعباً بتعاليمه، بل هو التشريع الذي يحفظ النَّفْسَ أو الدِّينَ، أو العِرْضَ، أو النَّسل، أو المال للمرء ذاته، أو لغيره، مِمَّنْ تضطره الظروف والأحوال أن لا يُفشي لهم سراً، أو يذيع لهم خبراً، إذ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن في المعاريض: لمندوحة عن الكذب" "56".
بل إن الذي يستفيد من هذا الدرس، ويستعمله -عند الضرورات أو النَّوازل- لا ينجو بنفسه، أو يحمي غيره، من ضرر مُحَقَّقٌ، فقط: إنَّمَا يُثَابُ على ذلك أيضاً.
ففي حديث عبد الله بن عمر --رضي الله عنهما--، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يُسلمه، ومَنْ كان في حاجة أخيه: كان الله في حاجته، ومَنْ فَرَّجَ عن مسلم كُرْبَةً: فَرَّجَ اللهُ عنه كُرْبَةً من كُرُبات يوم القيامة" "57".
كل ذلك: بشرط أن لا يكون كتمان هذا السر والتورية عنه، لا يسبب ضرراً للمسلمين -أفراداً كانوا أو جماعات- أو لبلادهم؛ إذ أن دفع الضرر عنهم: أولى وأوجب من قدسية كتمان السر والتورية عنه.
حيث إنه ما صار سراً، ولا وجب التورية عنه إلا خوفاً من: كيد الأعداء، أو بطش الخصوم وإيذائهم للفرد أو للجماعة، أو للأمة.
والمقصود من حفظ هذا السر أو التورية عنه -كما هو معلوم- حماية النفس أو الغير من أفراد المسلمين، أو جماعاتهم، أو الأمَّة بأسرها.
إنَّ الدُّعَاة إلى الله: لا بد وأن يكونوا على قدر من الوعي والنَّباهة، وحضور البديهة، وحدة الذاكرة لدرجة تجعلهم يدركون حجم الخطر، ويقدرون على خداع عدوهم، والإفلات من بين يديه، أو النجاة من إيذائه، وبطش طغيانه، دون استعمال أسلوب الكذب الصراح إلا عند الضرورة القصوى، التي لا تُجدي فيها كناية، ولا تنفع فيها تورية" "58".
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الثلاثاء 08 سبتمبر 2020, 2:24 am | |
| الحكمة من استئجاره -عليه الصلاة والسلام- دليلاً لطريق الهجرة تاريخ الفتوى 7 رجب 1423هـ 14-09-2002م
السؤال مَنْ الذي سار مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليلة الهجرة هو وأبوبكر.. مَنْ هذا الرجل؟
الفتوى الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه...
أما بعد: فإن هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مليئة بالدروس والعظات والعبر، وكذلك سيرته كلها؛ بل وحياته كلها، فعلى المسلم أن يتعلم من ذلك ما يدعوه إلى محبته -صلى الله عليه وسلم-، فإن ذلك واجب على المسلم، ولا يكمل إيمانه حتى يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحَبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، ومن نفسه التي بين جنبيه.
ففي الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحَبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".
وفي هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان بصحبته أبوبكر -رضي الله عنه- -كما أشار السائل- وكان معهما عبد الله بن أريقط الدؤلي وكان مشركاً ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استأجره ليدله على الطريق وكان خريتاً ماهراً.
وبعض الروايات تقول: إن عامر بن فهيرة مولى أبي بكر كان بصحبتهما وكان يخدمهما، وكان قد أسلم قبل ذلك، والمتأمِّل في هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي أخذه لكافة الاحتياطات اللازمة يعلم أن المسلم يجب عليه أن يأخذ بالأسباب ثم بعد ذلك يتوكل على الله تعالى، كما فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال لأبي بكر: "ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثهما". رواه البخاري ومسلم.
وكان بإمكانه ألا يتخذ سبباً وهو على يقين بأن الله ناصره، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- مشرع لأمته فيبين لهم أنه لابد من الأخذ بالأسباب، ولهذا السبب استأجر ذلك الرجل المشرك عبد الله بن أريقط ليدله على الطريق. والله أعلم. المفتي:... مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الثلاثاء 08 سبتمبر 2020, 2:47 am | |
| الدَّاعية المُطارد الخطيب: عائض القرني الخطبة الأولى أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمدٍ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الجيل الموحد، يا حملة المبادئ، أيتها الكتيبة المقدسة: نقف هذا اليوم نحيي بملء القلوب والأجفان والأسماع رسولنا، نحييه في أول العام الهجري، وهو رجل الهجرة الأول، نعيش اليوم مع الأطفال في أيام طرد هو من أطفاله، ونعيش اليوم منعمين في الدور والقصور، في أيام شرد من دوره، ونعيش اليوم مرفهين سعداء، في أيام عاشها هو كلها أسى، وكلها لوعة، يقدم رأسه وروحه من أجل لا إله إلا الله.
إنها الهجرة، وعنوان الخطبة: (الداعية المطارد). طارده أقاربه وأرحامه وأصهاره، فما سبب المطاردة؟ لأنه يحمل مبدأ الإنقاذ، لماذا طورد؟ أمن أجل أنه أتى لينهب الأموال، ويسفك الدماء، ويحتل الأراضي، ويبتز المعطيات؟ لا.. من أجل أنه أتى لينقذ الإنسان، ليخرج الإنسان من الظلمات إلى النور؟
هذا حديث الهجرة، أغلقت فئة أبوابها في وجه الابن البار، وأنذرته في خلال أربع وعشرين ساعة أن يغادرها، ولا يبقى في ساحتها. عجيب.. ولد في ربوعها، ترعرع في تلالها، شرب ماءها، استنشق هواءها، وتقول له مكة: اخرج، إلى أين؟ لا ندري، وليتهم تركوه ليخرج سالماً معافى، لكن يريدون أن يخرجون جثة، أو يحبسوه ويقيدوه بالحديد، أو ينفوه من الأرض: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) الأنفال: 30. تخفيت من خصمي بظل جناحه...***... فعيني ترى خصمي وليس يراني فلو تسأل الأيام عني ما درت...***... وأين مكاني ما عرفن مكاني
دخل في غرفة علي أو في بيته هو، وطوقه الكفرة الفجرة؛ لأنه يهدد مصالحهم التي بنيت على الظلم، ولأنه يصادر شهواتهم، ولأنه لا يطاوعهم في نزواتهم.
إن أهل الباطل قديماً وحديثاً يرون في حملة المبادئ، وفي رواد الحق، خصماء على طوال الطريق؛ لأنهم يقولون لهم: لا، في كل معصية، وفي كل شهوة، وفي كل نزوة، طوقوا بيته بالسيوف المشرعة، وتحروا متى يخرج ليفتكوا به، وهنا تأتي الشجاعة، ليست الشجاعة التي يبديها الناس، من أجل أراضيهم ومزارعهم ومناصبهم، الأنوف الحمراء التي تغضب للجيوب والبطون، السيوف المسلولة من أجل التراب والطين، أما محمد -عليه الصلاة والسلام-، فيقدم رأسه من أجل مبدئه، يتحدى الشمس أن تهبط في يمينه، والقمر أن ينزل في يساره، والله لو نزلت الشمس ونزل القمر، ما تزحزح خطوة واحدة، حتى تعلن لا إله إلا الله أصالتها في الأرض.
طوقوه، وأتاه جبريل، أخبره قائلاً: الخصوم خارج البيت، يريدون قتلك، فيقول: إن الله معنا، لله درك، ولله در الشجاعة المتناهية.
ولله در الروح العالية: يا قاتل الظلم ثارت هاهنا وهنا ... فضائح أين منها زندك الواري الشمس والبدر في كفيك لو نزلت ... ما أطفأت فيك ضوء النور والنار أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة ... يذوب في ساحها مليون جبار
فخرج من البيت بلا سيف، وهم بالسيوف، وخرج بلا رمح، وهم بالرماح والعار، وأخذ حفنة من التراب، فألقى الله النوم عليهم فناموا، وسقطت سيوف الخزي والعار من أيديهم، فخرج ونثر التراب والغبار على رؤوس الفجار، وهو يقول: (وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون) يس: 9.
نقف اليوم بعد هذا الحدث، بأربعة عشر قرناً لنأخذ دروساً: أولاً: درس التوكل على الله، وتفويض الأمر له، وصدق اللجأ، فلا كافي إلا الله، يقول سبحانه على لسان أحد أوليائه: (وأفوّض أمري إلى الله إن الله بصيرٌ بالعباد * فوقاه الله سيئات ما مكروا) غافر: 44-45. ويقول سبحانه وتعالى لرسوله: (ويخوّفونك بالذين من دونه) الزمر: 36. وكل من دون الله فهو تحته ودونه وعبد له، فلا قيمة له، ولا وزن ولا تأثير. والناس اليوم يحملون صدق التوكل والانتصار بالله في أذهانهم، لا في حياتهم وتصرفاتهم، إنهم أجبن من كل شيء، وأجبن ما يكون عندما تهدد لا إله إلا الله.
إن قضية الوظائف قد استعبدت البشر، والمناصب، والموائد، والجاهات، والشارات؛ إنها تستبعد الحر الشجاع، فتجعله ذليلاً جباناً، لا يقول كلمة الحق (تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة) 1
إن محمداً -عليه الصلاة والسلام-؛ أراد أن يبني جيلاً قوياً شجاعاً، يقدم الواحد منهم رأسه لمبدئه، وروحه لمنهجه، ولكن طال الأمد وقست القلوب، وانطمس المنهج، وأصبحت الأمة تعيش خواءً عقدياً، أخوف ما تكون من البشر، انظر إليهم، والله إن البشر عندهم أخوف إليهم من رب البشر، فكم يخافون، كم يجبنون، وكم يصيب أحدهم الزلزلة والرعدة من تهديد بسيط يتعرض لوظيفته، أو لمنصبه، أو لدخله ورزقه، ولا يرزق إلا الله، ولا يخلق إلا الله: (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً) الفرقان: 3.
إن قصة الهجرة، يتجلى فيها التوكل، كأحسن ما يتجلى في أي صورة وفي أي موقف، يدخل الغار، ويتكرر لنا حديث الغار، ونعيد دائماً حديث الغار؛ لأن أول التاريخ بدأ من الغار، والنور انبعث من الغار، فمن يمنعه -عليه الصلاة والسلام-، أين موكبه، أين أقواس النصر التي تحف الناس، أين الجنود المسلحة التي تحمي عظماء الناس وكبراءهم، وهم أقل خطراً وأقل شأناً منه، لا جنود، لا حراسة، لا سلاح، لا مخابرات، لا استطلاع.
وإذا العناية لاحظتك عيونها *** نم فالحوادث كلهن أمان
فيقول أبو بكر، يا رسول الله والله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فيتبسم -عليه الصلاة والسلام-، والتبسم في وجه الموت أمر لا يجيده إلا العظماء، حتى يقول المتنبي يمدح عظيماً، لا يستحق أن يكون جندياً في كتيبة محمد -عليه الصلاة والسلام-...
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاحٌ وثغرك باسم
يتبسم -عليه الصلاة والسلام- ويقول: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما) 2 هل يغلب هؤلاء الثلاثة، أم تكون الدائرة على أعدائهم، إذا كان الله ثالثهما، فمن المغلوب؟ من هو الخاسر في الجولة؟ من هو المنهزم في آخر المعركة؟ ويقول -عليه الصلاة والسلام-، لأبي بكر مواسياً له: (لا تحزن إن الله معنا) 3 بعلمه -سبحانه وتعالى- وهي معية الحفظ والتأييد والتسديد لأوليائه، المعية التي صاحبت إبراهيم -عليه السلام-، وهو يهوي بين السماء والأرض، في قذيفة المنجنيق إلى النار، فيقول له جبريل: ألك إليّ حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم: حسبنا الله ونعم الوكيل، فكانت النار برداً وسلاماً.
والمعية التي صاحبت موسى راعي الغنم، الذي يحمل عصاه، ولا يجيد اللغة أن ينطقها، ويدخل إيوان الظالم السفاك المجرم فرعون، حرس فرعون أكثر من ثلاثين ألفاً، الدماء تسيل في البلاط الملكي الظالم، موسى يلتفت ويقول: يا رب: (إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) طه: 5.
فيعلمه الله درس التوحيد والتوكل: (لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) طه: 46. إنني معكما أسمع وأرى، نواصي العباد بيديه، رؤوس الطغاة في قبضته، مقاليد الحكم بيمينه، لا يصرف متصرف إلا بقدرته.
يطارد سراقة محمداً -عليه الصلاة والسلام-، فلا يلتفت، يقرأ القرآن ولا يلتفت؛ لأن الله معه، يدعو على سراقة، فيصبح سراقة مهدداً بالموت فيقول: يا محمد، اكتب لي أماناً على حياتي، أنت الآن محميّ، وأنا مهدد، بالله لا تقتلني.
فرّ من الموت، وفي الموت وقع!!.
محمد -عليه الصلاة والسلام- يتبسم، ويقول: (يا سراقة، كيف بك إذا سُوّرت بسواري كسرى؟) أين كسرى؟! امبراطور فارس، ديكتاتور الشمال، المجرم السَّفاك، فيضحك سراقة كأنه ضربٌ من الخيال، هذا يستولي على امبراطوريات الدنيا!! هذا يلغى مملكة العالم!! وهو لا يستطيع أن ينجو بنفسه، وبالفعل تم ذلك، ودُكدك الظلم، وفتح الشمال، ورفرفت لا إله إلا الله على الإيوان.
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ... ولا رمى الروم إلا طاش راميها وخالد في سبيل الله مشعلها ... وخالد في سبيل الله مذكيها وما أتت بقعة إلا سمعت بها ... الله أكبر تسري في نواحيها
الثاني: من دروس الهجرة: أن الله يحفظ أولياءه، نعم يؤذون، ويضطهدون، ويحبسون، ويقدمون رؤوسهم رخيصة لله، ولكن ينتصرون، لأن العاقبة للمتقين: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) غافر: 51-52.
والنتيجة الحتمية، أنهم هم المنتصرون في آخر المطاف، وأن الباطل مهما انتفش، ومهما علا، ومهما كبر، فإنه كما قال سبحانه: (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) الرعد: 15.
الباطل له صولة، والحق له دولة، والعاقبة للمتقين، وتكفل الله أن يحفظ دعائم هذا الدين، والمتمسكين به، والمنضوين تحت لوائه، فمهما تعرضوا له من الإساءات، والاضطهاد والإقصاء، والاستخذاء، فإنه لا يزيدهم إلا إصراراً على مبادئهم، وشمماً وقوة.
الثالث من دروس الهجرة:
عالم التضحيات والبذل، تحقق في سيرته، -عليه الصلاة والسلام-، لكن ما فعلت أنا، وماذا فعل أنت لهذا الدين؟ ماذا قدمنا؟ ومحمد -عليه الصلاة والسلام-، شغله الشاغل، أنفاسه، خواطره، أفكاره، أمواله، أهله، روحه، لله، يقول في أحد مواقفه: (والذي نفس محمد بيده؛ لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل) 4
هاجر من مكة مطروداً، أغلقت مكة أبوابها في وجهه، ووقف في حمراء الأسد، يخاطب مكة، فبينه وبين مكة كلام رقيق مشوق.
إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا....ألا تفارقهم فالراحلون همُ يا من يعز علينا أن نفارقهم....وجداننا كل شيء بعدكم عدمُ
يقول لمكة: (والذي نفسي بيده إنك من أحب بلاد الله إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت) 5 ثم تدمع عيناه ويذهب، بناته أمامه، يضربن، فلا يستطيع أن يدفع عنهن الظلم، يوضع السلا على رأسه وهو ساجد فلا يتحرك، وهم يضحكون، ثم تأتي فاطمة --رضي الله عنه-ا- فتلقي السلا عن ظهره، فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاة قال: (اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد). قال عبد الله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر6.
فصلى الله وسلم وبارك عليك يا رسول الله... تباع غُرفه في مكة، بعقد يتولاه عقيل بن أبي طالب، أعمامه يكذبونه أمام الناس، يحثى التراب عليه، يطارد بعيداً بعيداً، يشج رأسه، ويدمى أصبعه، وتكسر رباعيته، فيصبر ويحتسب، يريدون إغلاق صوته، فيزداد الصوت، أقوى، وأعظم، وأعمق، وأأصل، فيصل إلى المدينة فإذا الدنيا تتحدث عنه.
ولولا اشتعال النار فيما جاورت...ما كان يعرف طيب نفح العود وإذا أراد الله نشر فضيلة...طويت أتاح لها لسان حسود
هكذا العظمة، وهكذا الريادة.. وينصت العالم له، ويسمعون كلمته، ويقويه الله بجند من عنده، وتحف به الملائكة.
وقاتلت معنا الأملاك في أحد...تحت العجاجة ما حادوا وما انكشفوا سعدٌ وسلمان والقعقاع قد عبروا...إياك نعبد من سلسالها رشفوا
إذاً التضحية هكذا، أن تقدم دمك، ومالك، ودموعك، ووقتك للإسلام، وإلا الركعات والتسبيحات، التي يمتن بها كثير من الناس، ولكنهم لا يحترقون على الدين ولا يغضبون لانتهاك محارم إياك نعبد وإياك نستعين، فهؤلاء لا يستطيعون أن يتقدموا معك خطوة، لنصرة لا إله إلا الله، هذا عالم آخر.
الرابع من الدروس: ماذا قدمنا للعام الهجري المنصرم، ذهب من أعمارنا عام، مات فيه قوم، وعاش قوم، واغتنى قوم، وافتقر قوم، وتولى قوم، وخلع قوم، فماذا قدمنا للإسلام؟ ولك أن تتعجب معي، وإن تعجب، فعجب فعلهم في هجرة محمد -عليه الصلاة والسلام-، أين هي الصحف الصباحية؟ أين هي الشاشة؟ أين صحفٌ لا تحيي محمداً -عليه الصلاة والسلام-، كتابها حسنة من حسناته، كتابها متطفلون على مائدته، كتابها أحرار لما أخرجهم من الرقّ؛ رق الوثنية والعبودية لغير الله، بلاد ما أشرقت عليها شمس إلا بدعوته، ولا تحييه!! لا كلمة، ولا عموداً صغيراً، ولا زاوية تحيي المصلح العظيم.
والله لقد قرأت أخباراً عن كلاب، حدثت لها وقائع ومصائب في الغرب وترجموا لها، لكن محمداً -عليه الصلاة والسلام-، لا يجد من يترجم له.
ونقول للكتبة وللمحررين وللنخبة المثقفة -كما تزعم- ولأهل الكلمة، ولأبناء الفكر، لا عليكم: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) محمد: 38.
لا عليكم إن بخلتم بأقلامكم على محمد -عليه الصلاة والسلام-، وعلا صفحاتكم الفنية كواكب الفن وشموس الغناء، فعندنا جيلٌ الآن، أعلن توجهه إلى الله، جيل كتب الهجرة بدموعه، وحفظ المسيرة بقلبه، وأصبح حب محمد -عليه الصلاة والسلام-، يجري في دمه.
عندنا جيل كعدد الذر، كلهم والله يتمنى اليوم قبل غد، أن يقتل في سبيل الله، من أجل مبادئ محمد -عليه الصلاة والسلام-، هذا أثره -عليه الصلاة والسلام- علينا، وهذا موقفنا من دعوته ورسالته، تُبحث الأفكار إلا فكره!!
وتدرس المناهج إلا منهجه!! ويتكلم عن الشخصيات إلا شخصيته، ورأيت في صحيفة زاوية، خصّصتها للأعلام والمشاهير ولوفياتهم.
إنهم مشاهير السفك والنهب في العالم؟ مشاهير القتل والإبادة، واستخذاء الشعوب، أما المحرر الأول، أما إنسان عين الكون، أما الرجل الذي أصلح الله به الأمة، فلا كلام، ولا ترجمة!! فبماذا يعتذر هؤلاء أمامه -عليه الصلاة والسلام- غداً.
ولا يفهم فاهم، أو يزعم زاعم؛ أني أريد أن ننشئ له عيد هجرة، فالإسلام لا يقر هذا، ولا عيد ميلاد، فالإسلام لا يؤمن بهذا، ولا أن نجتمع في زوايا، وفي خلايا، وفي جوانب، لنرقص كما يرقص المخذولون المتهوكون، بالنشيد والتصفيق، فتحيته ليست هكذا.
تحيته؛ أن نطهر بلاده مما طهرها هو، فتكون بلاداً مقدسة، تحيته أن نسير على خطواته، وأن نقتفي منهجه، وأن نضحي لمبدئه، أعظم مما يضحي الثوريون العرب، والماركسيون العرب، والاشتراكيون العرب، للأقزام الملاعين، وللنخبة المخذولين، وللأصنام المبعدين.
تحيتنا له؛ أن نقف مع سنته، وننشرها في الأرض: (بلغوا عني ولو آية) 7
(نضر الله امرئً سمع مني مقالة، فوعاها، فأدَّاها كما سمعها، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أوعى من سامع) 8 إن عالَم البادية، الذي كان يسجد للحجر ويجمع التمر على صورة صنم، ويصلي له، ويأتي إلى الوثن الذي تبول عليه الكلاب والثعالب، ويدعوه أن يشفي مريضه لهو عالَم ضال.
رب يبول الثعلبان برأسه *** قد ضل من بالت عليه الثعالب
فمن الذي حرر البشرية من هذا؟ إنه محمد -عليه الصلاة والسلام-؟ وإن العجب العجاب، أن تحتفل جهات متعددة بنظافة البيئة، محاضرة في نظافة البيئة، ومحاضرة في فن السياحة، ومحاضرة في أدب الاصطياف، ولم يبق إلا محاضرة رابعة في بيطرة البقر، وما هو علاج البقر، ومن هم الأبطال الذين يعالجون الأبقار من أمراضها.
علي نحت القوافي من معادنها *** وما علي إذا لم تفهم البقر
لماذا لم تعد محاضرة بعنوان: أثر رسالته -عليه الصلاة والسلام- على العالم؟ لماذا لا يأتي هؤلاء المحللون والمنظرون بمحاضرة عن: (الإسلام وحاجة العالم إليه)، (نحن والقرآن)، (ماذا قدمنا للعالم)، (أثر لا إله إلا الله في حياة الإنسان) أما هذه المحاضرات التي شبع منها الناس، ومجتها الآذان، وأصبحنا نصاب بغثيان من سماعها وتردادها، فوالله إنها شغل للأوقات، وإنها تسويد للصحف، وإنها مجٌ للأسماع، ورداءة على القلوب.
هذا هو المهاجر الأول، هذا هو الداعية المطارد من أجل مبدئه، وهذه الصحف، وهذه الأقلام، ولكم أن تحكموا: (بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره) القيامة: 14-15.
(يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم * الذي خلقك فسوّاك فعدلك) الانفطار: 6-7.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وحجة الله على الهالكين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون: في مثل هذا الشهر، طورد داعية أول، أخٌ له -عليه الصلاة والسلام-، نهجهُ نهجه، ومسيرته مسيرته، ودعوته دعوته، إنه موسى عليه السلام: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً) الفرقان: 31.
لا يبعث نبي، إلا وقد هيأ الله طاغية هناك يتربص به، ولا يحمل رائد من رواد الدعوة مبدأ، إلا ويتهيأ له ظالم يرصده، سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، في هذا الشهر خرج موسى مطروداً من مصر، يطارده فرعون المجرم؛ بستمائة ألف مقاتل: فاستخف قومه فأطاعوه الزخرف: 54.
قطيع الضأن، الشعوب التي لا تفهم إلا الخبز، ولا تفهم إلا الأكل، ولا تفهم إلا ثقافة القِدْر والجيب والبطن، تصفق للطاغية، وتحثوا على رأس الداعية، الشعوب المهلهلة، المهترية، المتهالكة من داخل، طاردت موسى، يريدون قتله؛ لأنه يريد أن يحررهم، ويقولون: لا، يريد أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويقولون: لا، يريد أن يرفع رؤوسهم، ويقولون: لا، اصطدم بالبحر، الجيش وراءه والموت والبحر أمامه، إلى أين يا رب؟ إلى الله.
التفت موسى ودعا، والله قريب: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي) البقرة: 186.
بنو إسرائيل ولولوا، الخونة خافوا، الجبناء ارتعدوا، انهارت حوله الكتائب، يا موسى: (إنا لمدركون) الشعراء: 61.
يتبسم موسى؛ كما تبسم محمد -صلى الله عليه وسلم- في الغار: (كلا إن معي ربي سيهدين) الشعراء: 62.
قالوا له كما ذكر بعض أهل السير: أين يهديك وفرعون خلفك، والبحر أمامك؟! هذه ورطة لا حل لها، هذا مضيق لا مخرج منه في عرف البشر، (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (62) سورة الشعراء ويتلقى الأمر في الحال، لا تتأخر اضرب بعصاك البحر، بسم الله، ضرب البحر، انفجر البحر، انفلق، ظهر لهم طريق، مشى موسى، ومشى بنو إسرائيل، وأتى المجرم يريد أن يجرب آخر جولة له في عالم الضياع، وفي مصارع الطغاة، والطغاة لهم مصارع؛ إما أن تلعنهم القلوب، وهم يسيرون على الأرض، وهذا مصرع، وإما أن يّشدخون كما شدخ هذا، وهذا مصرع، إما أن يدّخر الله لهم ناراً، وهذا مصرع.
ووصل فرعون وجنوده، ونجي موسى، وقال الله للبحر اجتمع فاجتمع، وكانت نهاية المجرم، دخل الطين في فمه، فلما أصبح في وقت ضائع قال: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) يونس: 90. فيقول الله: (آلآن) يونس: 91.
في هذه اللحظة أيها المجرم الخسيس!! بعد أن فعلت من الأفاعيل ما تشيب له الرؤوس، لا، ونجى الله موسى، والحدث أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- يشارك أخاه في فرحة الفلاح والانتصار، ويشارك زميله في هذا اليوم الأغر، يوم عاشوراء، ولذلك تضامن معه، وتكاتف هو وإياه.
وجد بني إسرائيل، اليهود الخونة الجبناء، في خيبر والمدينة، يصومون عاشوراء، قال: (ما هذا اليوم قالوا يوم نجى الله فيه موسى قال: نحن أولى بموسى منكم) 9 موسى قريبنا، موسى حبيبنا، نحن حملة منهج موسى، لا أنتم يا خونة العالم، ويا حثالة التاريخ، ويا أبناء القردة والخنازير، فصامه وقال -عليه الصلاة والسلام- عن هذا اليوم، كما في صحيح مسلم: (إني أرجو من الله أن يكفر السنة الماضية) 10
ومن السنة أن تصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده؛ اليوم التاسع والعاشر من هذا الشهر، أو اليوم العاشر والحادي عشر من هذا الشهر، يقول -عليه الصلاة والسلام-: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر) 11 فشكر الله لموسى دعوته ومنهجه وبذله وتضحيته، وشكر الله لمحمد -عليه الصلاة والسلام-، بذله وشجاعته وتضحيته من أجل هذه الأمة، وشكر الله لكل من سار على منهجه -عليه الصلاة والسلام-، وضحى من أجل مبادئه، وبذل من أجل دعوته، وساهم في رفع رسالته.
أسأل الله أن يجمعنا بمحمد -عليه الصلاة والسلام-، وبإبراهيم وبموسى وعيسى، وبالأخيار الطيبين، وبالشهداء الصالحين، وبالأبرار الصديقين، وبالشجعان الباذلين، في مقعد صدق عند رب العالمين.
أيها الناس: صلوا على الداعية المطارد، والمهاجر الأول، والرسول الأعظم، والهمام الإمام، -عليه أفضل الصلاة والسلام-،؛ ما ترقرق الغمام، وما جنح الظلام، وما أفشي السلام، وما كان في قلوبنا وفي أذهاننا إمام،، ما فاحت الأزهار، وما تمايلت الأشجار، وما تدفقت الأنهار، وما كور النهار في الليل والليل في النهار،، ما تألقت عين لنظر، وما تحرقت أذن لخبر، وما هتف ورقٌ على شجر، وعلى آله وصحبه.
اللهم انصر دينك، ومنهجك، اللهم اجعله عاماً مباركاً، عاماً ينتصر فيه الدين، وترتفع فيه إياك نعبد وإياك نستعين. وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) الأحزاب: 56.
ويقول -عليه الصلاة والسلام-: (مَنْ صلى عليَّ صلاة، صلى اللهُ عليه بها عشراً) 12
اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين. المصدر: http: http://alminbar.al-islam.com/Default.aspx?ActionSpeachDetails&mediaItURL3336&subsubID -------------------- 1 - أخرجه البخاري (7/175). 2 - أخرجه البخاري (4/190). 3 - أخرجه البخاري (4/190). 4 - أخرجه البخاري (1/14)، ومسلم (2/16)، رقم (1876). 5 - أخرجه الترمذي (5/679) رقم (3925) وقال: حسن غريب صحيح، ورقم (3926) وقال: حسن غريب من هذا الوجه. وابن ماجه (2/1037) رقم (3108)، والدارمي (2/311) رقم (2510). 6 - أخرجه البخاري (1/131، 132) ومسلم (3/1418) رقم (1794). 7 - أخرجه البخاري (4/145). 8 - أخرجه أبو داود (3/322) رقم (3660)، والترمذي (5/33) رقم (2656) وقال: حديث حسن، ورقم (2657) وقال: حسن صحيح رقم (2658)، وابن ماجه (1/85). رقم (231، 232) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (6763 – 6766). 9 - أخرجه البخاري (2/251). 10 - أخرجه مسلم (2/819) رقم (1162). 11 - أخرجه مسلم (2/798) رقم (1134). 12 - أخرجه مسلم (1/288) رقم (384). |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الثلاثاء 08 سبتمبر 2020, 3:14 pm | |
| الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر في الغار قال ابن إسحاق (فلما أجمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخروج أتى أبا بكر بن أبي قحافة فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ثم عمدا إلى غار بثور - جبل بأسفل مكة فدخلاه وأمر أبو بكر ابنه عبد الله بن أبي بكر أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما، يأتيهما إذا أمسى في الغار.
وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن الحسن بن أبي الحسن البصري قال انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر إلى الغار ليلاً، فدخل أبو بكر -رضي الله عنه- قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتلمس الغار لينظر أفيه سبع أو حية يقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه).
الذين قاموا بشؤون الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الغار: قال ابن إسحاق: (فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغار ثلاثاً ومعه أبو بكر وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن يرده عليهم.
وكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم يسمع ما يأتمرون به وما يقولون في شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر.
وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر -رضي الله عنه- يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا، فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة، اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفي عليه حتى إذا مضت الثلاث وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما وبعير له وأتتهما أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام فتحل نطاقها فتجعله عصاما، ثم علقتها به).
لِمَ سُمِّيَتْ أسماءُ بذات النطاقين؟ فكان يُقال لأسماء بنت أبي بكر ذات النِّطاق لذلك. قال ابن هشام: وسمعت غير واحد من أهل العلم يقول ذات النِّطاقين. وتفسيره: أنَّها لَمَّا أرادت أن تعلق السُّفرة شقَّت نطاقها باثنين فعلّقت السُّفرة بواحد وانتطقت بالآخر.
راحلة النبي -صلى الله عليه وسلم-.. قال ابن إسحاق: (فلما قرب أبو بكر -رضي الله عنه- الراحلتين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم له أفضلهما، ثم قال اركب فداك أبي وأمي; فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إني لا أركب بعيراً ليس لي".
قال فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي، قال "لا، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به"؟ قال كذا وكذا، قال "قد أخذتها به"، قال هي لك يا رسول الله، فركبا وانطلقا.
وأردف أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- عامر بن فهيرة مولاه خلفه ليخدمهما في الطريق).
حديث الغار وهو غار في جبل ثور، وهو الجبل الذي ذكره في تحريم المدينة، وأنها حرام ما بين عير إلى ثور وهو وهم في الحديث لأن ثوراً من جبال مكة، وإنما لفظ الحديث عند أكثرهم ما بين عير إلى كذا، كان المحدث قد نسي اسم المكان فكنى عنه بكذا.
وذكر قاسم بن ثابت في الدلائل فيما شرح من الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما دخله وأبو بكر معه أنبت الله على بابه الراءة قال قاسم وهي شجرة معروفة فحجبت عن الغار أعين الكفار.
وقال أبو حنيفة الراءة من أغلاث الشجر وتكون مثل قامة الإنسان ولها خيطان وزهر أبيض تحشى به المخاد، فيكون كالريش لخفته ولينه لأنه كالقطن.
ترى ودك الشريف على لحاهم *** كمثل الراء لبده الصقيع
وفي مسند البزار: أن الله تعالى أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار وأرسل حمامتين وخشيتين فوقعتا على وجه الغار وأن ذلك مما صد المشركين عنه وأن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين وروي أن أبا بكر -رضي الله عنه- حين دخله وتقدم إلى دخوله - قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليقيه بنفسه رأى فيه جحرا فألقمه عقبه لئلا يخرج منه ما يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي الصحيح عن أنس قال قال أبو بكر -رضي الله عنه- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهما في الغار (لو أن أحدهم نظر إلى قدمه لرآنا، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
وروي أيضاً أنهم لَمَّا عمي عليهم الأثر جاءوا بالقافة فجعلوا يقفون الأثر حتى انتهوا إلى باب الغار وقد أنبت الله عليه ما ذكرنا في الحديث قبل هذا، فعندما رأى أبو بكر -رضي الله عنه- القافة اشتد حُزنه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: (إن قتلت فإنما، أنا رجل واحد وإن قتلت أنت هلكت الأمَّة، فعندها قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "(لا تحزن إن الله معنا)"، ألا ترى كيف قال لا تحزن ولم يقل لا تخف؟
لأن حزنه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شغله عن خوفه على نفسه ولأنه أيضاً رأى ما نزل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من النصب وكونه في ضيقة الغار مع فُرقة الأهل ووحشة الغُربة وكان أرق الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأشفقهم عليه فحزن لذلك.
وقد روي أنه قال: (نظرت إلى قدمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغار وقد تفطرتا دماً، فاستبكيت، وعلمت أنه -عليه السلام- لم يكن تعود الحفاء والجفوة) وأمَّا الخوف فقد كان عنده من اليقين بوعد الله بالنصر لنبيه، ما يُسَكِّنُ خوفه وقول الله تعالى: "فأنزل اللهُ سكينته عليه"، قال أكثر أهل التفسير يريد على أبي بكر وأمَّا الرسول فقد كانت السَّكينة عليه وقوله: "وأيده بجنود لم تروها" الهاء في أيده راجعة على النبي والجنود الملائكة أنزله عليه في الغار فبشروه بالنصر على أعدائه فأيَّدهُ ذلك وقوَّاه على الصبر (و) قيل: "أيده بجنود لم تروها"، يعني: يوم بدر وحنين وغيرهما من مشاهد.
وقد قيل الهاء راجعة على النبي عليه السلام في الموضعين جميعاً وأبو بكر تبعٌ له فدخل في حُكم السَّكينة بالمعنى، وكان في مصحف حفصة فأنزل الله سكينته عليهما، وقيل إن حزن أبي بكر كان عندما رأى بعض الكفار يبول عند الغار فأشفق أن يكونوا قد رأوهما، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- "(لا تحزن فإنهم لو رأونا لم يستقبلونا بفروجهم عند البول ولا تشاغلوا بشيء عن أخذنا)"، والله أعلم.
معيَّة الله مع رسوله وصاحبه وانتبه أيها العبد المأمور بتدبر كتاب الله تعالى لقوله: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنَّ الله معنا) (التوبة: 40) كيف كان معهما بالمعنى، وباللفظ أمَّا المعنى فكان معهما بالنصر والإرفاد والهداية والإرشاد وأمَّا اللفظ فإن اسم الله تعالى كان يذكر إذا ذكر رسوله وإذا دعي فقيل يا رسول الله أو فعل رسول الله ثم كان لصاحبه كذلك يقال يا خليفة رسول الله وفعل خليفة رسول الله فكان يذكر معهما، بالرسالة وبالخلافة ثم ارتفع ذلك فلم يكن لأحد من الخلفاء، ولا يكون.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الثلاثاء 08 سبتمبر 2020, 5:33 pm | |
| السابقون الأولون من المهاجرين مضى رسول الله صلى عليه وسلم بأمر الله، رغم ما لقي من قومه من الخلاف والأذى، فآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله، وآزرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدقت بما جاء به، فخفف الله بذلك عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عليه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، رحمها الله تعالى1.
قال ابن إسحاق: 'ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصلى معه وصدق بما جاء من الله تعالى، علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن هاشم، رضوان الله وسلامه عليه، وهو يومئذ ابن عشر سنين، ونعمة الله أنه كان في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل الإسلام2.
أخرج الحافظ أبو الحسن الطرابلسي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: خرج أبو بكر -رضي الله عنه- يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- –وكان له صديقاً في الجاهلية- فلقيه، فقال: يا أبا القاسم أفقدت من مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني رسول الله أدعوك إلى الله، فلما فرغ من كلامه أسلم أبو بكر، فانطلق عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما بين الأخشبين3 أحَدٌ أكثر سروراً منه بإسلام أبي بكر.
ومضى أبو بكر فراح لعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص فأسلموا، ثم جاء... بعثمان بن مظعون، وأبي عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا -رضي الله عنهم-4.
1- الصاحب والمصحوب: لقد آثر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- بنعمه بالقدر الذي يجعله أهلاً لحمل رايته والتحدُّث باسمه بل ويجعله أهلاً لأن يكون خاتم رسله، ومِنْ ثَمَّ كان فضلُ الله عليه عظيماً، جعلت أفئدة الناس تهوي إليه، وترى فيه المصحوب المُربي والمُعلِّم، والصديق؛ مما جعل سادة قريش يُسارعون إلى كلماته ودينه: "أبو بكر" و"طلحة" "والزبير" و"عثمان" و"عبد الرحمان بن عوف" و"سعد بن أبي وقاص" متخلين بهذه المُسارعة المؤمنة عن كل ما كان يحيطهم به قومهم من مجد وجاه، متقبلين –في نفس الوقت- حياة "تمور موراً شديداً بالأعباء وبالصعاب وبالصراع".
ما الذي جعل ضعفاء قومه يلوذون بحماه ويهرعون إلى رايته ودعوته وهم يبصرونه أعزل من المال ومن السلاح ينزل به الأذى ويطارده الشر في تحد رهيب، دون أن يملك -عليه الصلاة والسلام- له دفعا؟! ما الذي جعل جبار الجاهلية -عمر بن الخطاب- وقد ذهب ليقطف رأسه العظيم بسيفه- يعود ليقطف بنفس السيف رؤوس أعدائه ومُضطهديه؟!
ما الذي جعل المؤمنين به يزيدون ولا ينقصون ومن حوله يلتفون، وهو الذي يهتف فيهم صباح مساء لا أملك لكم نفعاً ولا ضراً ولا أدري ما يُفعل بي ولا بكم؟
ما الذي ملأ قلوبهم يقيناً وعزماً؟!
إنه محمد بن عبد الله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المصحوب، رأوا طهره وعظمته، وأمانته واستقامته، وشجاعته وسموه وحنانه، رأوا عقله وبيانه، رأوا سمو الحياة يسري في أوصال قلوبهم عندما بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفيض عليها من قلبه المرحوم برحمة الله ونبوته.
رأوا ذلك وأضعافه لا من وراء قناع بل مواجهة وتمرساً وبصراً وبصيرةً.
فكانوا الصاحبين، بحق حملوا مبادئ الدعوة، وعبير الدعاة، وصدق التعاليم وعظة المعلمين ونور الرسالة، ورحمة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-.
فكانوا النواة الأولى لبناء جماعة المسلمين، عليهم قامت أمة الإسلام دعوة ودولة، حموها بأنفسهم وبأموالهم وبذلوا في سبيلها كل غال ورخيص.
والعلماء أمناء الرسل وورثتهم، ورثوا الصحبة وفقه التربية يربون ويعلمون في كل عصر ومصر ما ورثوه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أخلاق رفيعة وسمات جليلة، فيعلمون بالقدوة والشهود بين ظهراني الناس يضيء ظلامهم وتفيض قلوبهم رحمة بالأمة صبراً ومُصابرةً.
2- كيف أثمرت الصحبة؟ آمن الصحابة الأولون برسول -صلى الله عليه وسلم- وكانت المحاضن التربوية أساس البناء في دار الأرقم بن أبي الأرقم تلقوا الإيمان غضا طريا يتلو ما أنزل إليهم من ربهم من الآيات وهي حديثة عهد من الله تغرس الإيمان في القلوب وتزرع الأمل في الأنفس ذكراً وتعلماً ومدافعة للواقع المستبد بكل من يقول ربي الله، صدقاً وتصديقاً، شرفاً واعتزازاً بالانتماء إلى هذه الدعوة المحمدية، استيعاباً وفهماً ودعوةً وجهاداً وفتحاً.
3- السابقون الأولون: علمنا ربنا الكبير المتعال أن ندعو للسابقين ونحبهم ونجلهم لأنهم كانوا بحق الوعاء الذي حوى الدين ودافعوا عنه، بذلوا في سبيله المهج والمقل، هجروا المال والبنين والعشيرة، أقبلوا على ربهم إقبالا منقطع النظير، فهم سادة هذه الأمة وزهرتها فاستحقوا بذلك شرف السبق والسمو، يقول الله تعالى يعلمنا "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون ' (الحشر، الآية 8).
ويقول سبحانه عز وجل: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم" (الحشر، الآية 10).
وهذه الصورة النظيفة الرضية الواعية تبرز أهم ملامح التابعين كما تبرز أخص خصائص الأمَّة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان.
هؤلاء الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار سمة نفوسهم أنها تتوجه إلى ربها في طلب المغفرة، لا لذاتها ولكن كذلك لسلفها للذين سبقوا بالإيمان، وفي طلب براءة القلب عن الفعل للذين آمنوا على وجه الإطلاق، ممن يربطهم معهم رباط الإيمان، مع الشعور برأفة الله ورحمته ودعائه بهذه الرحمة وتلك الرأفة "ربنا إنك رؤوف رحيم"5.
4- دعاء الرابطة: السابقون الأولون من المؤمنين مدحهم الله تعالى في كتابه ونالوا محبة خاصة من رسوله -صلى الله عليه وسلم- من أصحابه رضوان الله عليهم، وهذه المحبة تسري إلى كل مؤمن لا تحجبه لا الأمصار ولا الأزمان تنتظم في عقد الولاية بين المؤمنين.
"تتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمَّة بآخرها، وآخرها بأولها، في تضامن وتكافل وثواب وتعاطف وشعور... وشيجة القربى العميقة التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنَّسب، وتستقر وحدها في القلوب، تحرك المشاعر خلال القرون الطويلة، فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة كما يذكر أخاه الحي، في إعزاز وكرامة وحُبٍّ ويحسب السلف حساب الخلف، ويمضي الخلف على آثار السلف، صفاً واحداً وكتيبةً واحدةً على مرار الزمان واختلاف الأوطان، تحت راية الله تغذ السير صعداً إلى الأفق الكريم متطلعة إلى ربها الواحد الرؤوف الرحيم"6.
هذه هي قافلة الإيمان، الموكب النوراني والعقد الفريد الغالي، هذا هو وعاء الإيمان وإنها لعائلة كريمة إنه لدعاء كريم.
5- الدروس والعبر: هؤلاء هم السابقون الأولون من المهاجرين، أول مَنْ صَدَّقَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأول مَنْ صَلَّى من الأمَّة المُحمديَّة، وفي قصصهم عِبَرٌ لأولي الألباب نذكر منها: 1- دور المرأة المؤمنة في تحمل أعباء الدعوة، فقد كانت خديجة -رضي الله عنه-ا الملجأ الدافئ الذي يخفف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبناء قريش ومكرها وتعنتها وجهلها و كذا فإن أزواج الدعاة يمثلن المحضن الذي يأوي إليه الداعي الصادق بعد مكابدة الواقع ومعاناة الناس وابتلاء الظالمين.
لأنه إذا استقر الإيمان بالقضية العظمى قضية تبليغ الرسالة في قلب المرأة، فلنعلم أنها يمكن أن تيسر لزوجها كثيرا مما عسر، وتهون عليه كثيرا مما عظم، وتجعله دائم العطاء.
2- العناية بالأطفال والصغار، تربى سيدنا علي كرم الله وجهه في كنف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ صغره وكان أول ذكر أسلم، فقد كان عمره عشر سنين.
إن العناية بالأطفال والشباب لأمانة عظيمة، بواسطتها يرسخ الإيمان في القلوب، وتتقوى العقيدة في الأفئدة، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يولي ابن عمه عناية كبرى، ويعلمه الصلاة، ويتابعه ويجالسه حتى يستوي عوده ويخرج منه الرجل المجاهد، والولي المجاهد، والخليفة العادل -رضي الله عنه-، لا بد للحركة الإسلامية من إيلاء الاهتمام الأكبر بالأطفال فإنهم أمل الأمة ومستقبلها.
3- أثر الصحبة الصالحة: إن للصحبة الصالحة الأثر الأول في ثبوت الإيمان في القلوب، وإن لحظات التقاء الصاحب بالمصحوب لأكبر دليل على ذلك وإليك بعضه: أ- عاد أبو بكر من رحلة التجارة وأبلغه القوم أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- يزعم أنه يوحى إليه فأجابهم إن قال فقد صدق فما أن حط عنه عناء السفر حتى أقبل إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- متأكدا من ذلك فما أن سمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى فاضت عيناه وقبل صاحبه الذي ما تردد في النطق بأعظم كلمة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
ب- لقد توفرت في أبي بكر خصال عظيمة جعلته خير ناقل لأثر الصحبة، كان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر فحسن مجالسته هذا كان سببا في إسلام السابقين فجاء بهم إلى المصحوب الأعظم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلموا وصلوا.
4- التبليغ الصادق: إن بشاشة الإيمان حين تخالط القلوب ما تلبث أن تتحول إلى طاقة لا تقهر فما يحمله المؤمن المقبل على ربه من مشاعر بعمق الحقيقة التي يراها، وحلاوة يجدها في روحه حتى يسعى بكل ما أوتي من جهد ووقت وإمكانات إلى تبليغ كلمة الله والدعوة إليه.
فهذا أبو بكر -رضي الله عنه- يبارك الله تعالى صحبته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيدعو عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، فكانوا هم السابقين الذين ذكروا الله تعالى في أنفسهم لذلك ذكرهم الله تعالى في حياتهم في الملإ الأعلى وذكرهم في كل من جاء من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، إنهم السابقون.
ومن حقهم علينا أن ندعو الله لهم في ورد الرابطة فإن لهم أجر عملهم وأجر من عمل بعملهم إلى يوم القيامة ولقد آثر الله تعالى على أيديهم دعوة الثلة الأولى من الجماعة المباركة التي حملت النور إلى العالم فأسلم على أيديهم أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد الله وسعيد بن زيد وغيرهم ومن النساء فاطمة بنت الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر وعائشة بنت أبي بكر.
- لائحة المراجع: 1- السيرة ابن هشام. 2- حياة الصحابة، الكاندهلوي. 3- في ظلال القرآن، سيد قطب.
الهوامش: 1. السيرة النبوية لابن هشام ج1/ ص 240. 2 نفسه. ص 245/1. 3. هما جبلان مطيفان بمكة، والأخشيب كل جبل خشن غليظ. 4. حياة الصحابة، الكاندهلوي، ج1 ص 45. 5. في ظلال القرآن، سيد قطب، ج 6 ص 3526. 6. نفسه، ج 6/ ص 3527. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الثلاثاء 08 سبتمبر 2020, 5:36 pm | |
| السِّرِّيَّة طريقُ النَّجَاح يقول عمر بن عبد العزيز، -رضي الله عنه-: "القلوب أوعية، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها؛ فليحفظ كل إنسان مفتاح سره" "52".
غالباً: ما تكون السِّرِّيَّة بالأمر: عوناً على قضائه، وطريقاً جيداً لإتمامه، وأسلوباً نافعاً لإنجاحه.
وهذه السِّرِّية الواعية النافعة المتعقلة، نلحظها درساً هاماً -عملياً- واضحاً كل الوضوح، في حادث الهجرة النبوية.
وبيان ذلك على النحو التالي: أ -لم يعلم بحادث الهجرة -حين الخروج- سوى علي بن أبي طالب بسبب دوره المطلوب، وأبو بكر لأنه الصاحب فيها والرفيق، وآل أبي بكر للتغطية، والدور المطلوب كذلك، وعامر بن فهيرة بسبب دوره كذلك، وعبد الله بن أريقط، الأجير المُشرك، لدوره المعروف، وليس هؤلاء بالعدد الكثير بالنسبة لهذا الحدث الجليل.
ب -طلب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يختلي وينفرد بأبي بكر حين أراد مفاتحته في أمر الهجرة، فعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-: أنها قالت "أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما دخل، تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي "أسماء" بنت أبي بكر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أخرج عني من عندك، فقال يا رسول الله.. إنهما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي..؟ "53".
ولو لم يوثقهما أبو بكر، ولو لم يؤكد للنبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا القول أنهما على مستوى عال من كتمان الأمر، وصيانته: لما تحدث النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمر الهجرة أمامهما.
وقد أثبتت أحداث الهجرة المبكرة، صدق تزكية أبي بكر لهما، وأنه لا دخل للعاطفة -بل الدخل لحسن التربية- في هذه التزكية، فيما قامت به السيدة أسماء بنت أبي بكر مما لا يتسع له المقام، وهو مبسوط في كتب السيرة؛ وقد نتعرض لبعضه فيما يلي.
ج -ذهاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر في ساعة، لا تكاد ترى فيها أحداً في شوارع مكة أو شعابها من قيظ الشمس وشدة الحَرِّ، متقنعاً -كما في رواية البخاري- متخفياً "53".
وكذلك: عدم خروجهما من باب البيت الأمامي، بل من خوخة -باب صغير خلفي- في ظهر البيت، حتى لا يراهما -إن وجد- أحَدٌ.
د - عدم إعلام النبي -صلى الله عليه وسلم- لأحد من هؤلاء الذين علموا إلا في اللحظات الأخيرة، صيانة للسر من ذيوعه، وصيانة لهم من مخاطر كتمانه.
وهذا درس يرينا: منزلة السِّرِّ، ومكانة كتمانه، وإذا كانت صيانة السِّرِّ وعدم إفشائه واجِبٌ إسلاميٌ مطلوبٌ، وأدّبٌ إسلاميٌ مَرغُوبٌ بصفةٍ عامَّةٍ، فهو في أمور الدعوة أولى وأوجب، سواء كان منك أو من غيرك، لك أو لغيرك.
فهذا يوسف عليه السلام، فيما يحكيه الله تعالى عن والده يعقوب صلوات الله وسلامه عليهما، وهو يقول له مُعلماً إيَّاهُ أهمية السِّرِّ ووجوب صيانته (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا) "54".
ويقول علي -رضي الله عنه-: "سِرَّكَ أسيرك، فإذا تكلمت به: صِرْتَ أسيره" "52".
ويقولون: مَنْ حَصَّنَ سِرَّهُ، فله بذلك خصلتان: الظفر بحاجته، والسلامة من السطوات "52".
وليس الأمر في ذلك خاص بالأفراد فقط.
بل هو عام: في الأفراد، والأسر، والجماعات، والدول؛ إذ كل منهم ينبغي أن يحتفظ بالسر، ولا يطلع عليه أحداً.
وإن كبرى الدول وصغراها لترصد من ميزانياتها، وأموالها، الشيء الكثير من أجل الإنفاق على وسائل الاحتفاظ بأسرارها، وصيانتها من أن يعرفها أحد، وفي الوقت نفسه: لتعرف أسرار أعدائها، وتكشف عن مخبوء نواياهم، إمَّا للنيل منهم، أو رغبة في صيانة نفسها، وحماية شعوبها، من كيدهم وعدوانهم.
وما ذاك: إلا لأهمية هذه الأسرار -لديها، أو لدى غيرها- وخطورتها.
والعاقل: مَنْ استطاع أن يكتم السِّرَّ ويحتفظ به، لا أن يُفشيه ويُذيعه، ومَنْ لا سِرَّ له: لا عقل له.
ومن لا يستطيع أن يحفظ سره: لا أمانة ولا أمان له، ولا ينبغي أن يوكل إليه أمر، أو تستند إليه مهمة، أو يكلف بواجب.
وكم من إظهار سر: أراق دم صاحبه، ومنعه من بلوغ مآربه، ولو كتمه لأمن ضرره وسطوته. "52".
ومن الخطأ البَيِّنِ: ما يظنه البعض من أن كتمان السر أمر مطلوب بالنسبة لأناس بعينهم، وهو على غيرهم كلأ مباح؛ حيث إن السر ما سمي بذلك إلا لطلب عموم كتمانه.
ولذا يُقال: "انفرد بسرِّك.. لا تودعه حازماً فيزل، ولا جاهلاً فيخون". "54".
وما قد يفعله البعض، مما يحكيه الأحنف بن قيس، إذ يقول: " يضيق صدر الرجل بسره، فإذا حدث به أحدا قال أكتمه علي" "52"، وبذلك: سرعان ما يذيع وينتشر.
والعاقل من تمثل بقول كعب بن سعد الغنوي، إذ يقول: ولست بمبد للرجال سريرتي ولا أنا عن أسرارهم بسؤول
وقد أطلنا في التعقيب على هذا الدرس: لأن أمناء الأسرار -كما يقولون- أقل وجوداً من أمناء الأحوال، وحفظ الأموال أيسر من كتمان الأسرار، لأن إحراز الأموال بالأبواب والأقفال، وإحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق، وحمل الأسرار أثقل من حمل الأموال، فإن الرجل يستقل بالحمل الثقيل فيحمله ويمشي به، ولا يستطيع كتم السر، وإن الرجل يكون سره في قلبه: فيلحقه من القلق والكرب ما لا يلحقه من حمل الأثقال، فإذا أذاعه استراح قلبه، وسكن خاطره، وكأنما ألقى عن نفسه حملاً ثقيلاً" "52".
ومن هنا: تكمن خطورة الأسرار، ويثقل حفظها، وتسهل إذاعتها.
والداعية الواعي: من يكون على قدر المسئولية، وعلى مستوى الفهم والامتثال لهذا الدرس في حفظ السر.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الأربعاء 09 سبتمبر 2020, 12:58 am | |
| السيرة النبوية معلمة النهج الذي أعز السلف من خطب الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمَّا بعد فيا عباد الله ها هي ذي فاتحة العام الهجري الجديد، تمر بالعالم الإسلامي يتيمة في أسرتها، غريبة في عالمها، لا تشعر بانقضاء ذلك العام الذي مضى، ودخول العام الجديد الذي أقبل، إلاّ قلة يسيرة ثم يسيرة من الناس، أما عامة أهل المجتمع والعالم الإسلامي ففي شغل شاغل عن الهجرة وعامها، وفي شغل شاغل عن بداية هذه السنة ونهايتها، وفي شغل شاغل عن عِبَرِ هذا العام وعظاته، يمر آخر هذا العام كما يقبل أوله، في مجتمعه في أسرته بين أهله يتيماً غريباً، بل أكثر من غريب، أين هي الاحتفالات والاهتمامات التي ما زلنا نتذكر أصداءها بمناسبات مشابهة مرت؟ أين هو الطنين والرنين؟ أين هي المشاعر الجياشة التي تهتاج في نفوس المسلمين لذكرى هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما جرّته معها من ذيول العِبَر والعِظات والدروس والانتصارات؟ لكن هذا هو حال عالمنا الإسلامي، وهذا هو حال الأسرة الإسلامية بخوض هذا العالم الذي يتماوج بالهرج والمرج كما تلاحظون، ومَعْلَمَة الهجرة ما هي أيها الإخوة؟ مَعْلَمَة الهجرة هي معلمة ولادة الدولة الإسلامية التي تجددت ببعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هجرة المصطفى -عليه الصلاة والسلام-، هي مَعْلَمَة تاريخ هذه الأمة، بهذه المعلمة نحصي التاريخ ونعده من ألف بائه إلى نهايته، هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي الفيصل القاسم والحاسم، بين ماضٍ من الفقر المدقع وآتٍ من الغنى الذي لفت نظر العالم أجمع، معلمة الهجرة هي الفيصل الحاسم بين ماضٍ من الشتات والتفرق والتشرذم والتخاصم، وبين آتٍ من الوَحدة والتماسك التي غدت مضرب المثل، معلمة الهجرة هي الفاصل الحاسم بين ماضٍ من الضعف والمهانة وآتٍ من القوة والعزة التي كانت مضرب المثل في العالم، تلك هي معلمة الهجرة التي أكرم الله بها هذه الأمة من خلال شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي المعلمة التي خلد بيان -عز وجل- حديثه عنها في قوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) (الأنفال: 8/30).
فما هي نسبة العالم الإسلامي اليوم إلى هذه المعلمة التي أعزّتهم بعد ذل، ووحّدتهم بعد شتات، وأغنتهم بعد فقر، فانظر إلى العالم الإسلامي اليوم فتجده معرضاً عن هذا النسب، متجاهلاً لهذا الدرس، متجاهلاً بهذه القيمة كلها، أليس هذا هو واقع العالم الإسلامي اليوم؟ هل هنالك من مبالغة إن قلت: إن هذه المعلمة تمر بنا اليوم في نهاية عام مضى، ومقتبل عام جديد، تمر بنا يتيمة في أسرتها، غريبة في عالمها، ليس هنالك أي مبالغة لو أن هذه الأمة كانت أمينة على معاني الهجرة، يبقي غناها الذي ورَّثته إياها الهجرة النبوية الشريفة، ولبقيت عزتها التي ورَّثتها إياها الهجرة النبوية الشريفة، ولبقيت وحدتها التي ورَّثتها إياها الهجرة النبوية الشريفة، ولكن لما خلع العالم الإسلامي متجسداً في مظهر حكامه وأكثر أهله، لما خلعوا هذا الشرف وألقوه وراءهم ظهرياً، قال لهم الله: لقد أسلمتكم إلى ماتشاؤون، كانت العبرة التي يأخذها المسلمون من السلف الصالح من الهجرة عبرةٍ إيجابية، واليوم غدت العبرة التي نأخذها من الهجرة - وياللأسف - عبرة سلبية، بكل معنى الكلمة، سَلْ أكثر من تريد أن تسألهم من المسلمين اليوم عن اسم هذا الشهر الذي يمر بهم من الأشهر الهجرية، لن يستطيع أن يعطيك جواباً إلاّ بعد أن يعود فيتعلم ثم يخبر، بل لو سألتهم عن العام الهجري الذي يمرون به لن يعطيك جواباً، لأنه غريب عن عامه الهجري، معانق لذلك العام الأخر، أليس هذا هو الواقع المرئي؟
وأصغِ جيداً إلى أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي كله، تَجِدْ كيف أن اسم العام الهجري يمر ذليلاً ولا يمكن أن يذل عند الله غريباً، ولا يمكن أن يكون غريباً في سماوات الله عز وجل يتيماً، ولا يمكن أن يكون يتيماً في ميزان الله عز وجل، لكنه يتيم اليوم بقرار من العالم الإسلامي الذي قضاه في حق نفسه، من هنا أيها الإخوة حاقت بنا المهانة التي نتأفف منها، ولو أننا فكرنا وقدرنا وتأملنا لوجدنا -يقيناً وبدون ريب- أن الغرب ليس هو الذي أبرم قضاءه الجائر في حقنا أن يذلنا ويهيننا ويقطع أوصالنا، ولكننا -نحن المسلمين- الذين أبرمنا هذا الحكم في حق أنفسنا، ثم إن الغرب جاء لينفذ ما قد قضيناه نحن، نحن الذين قضينا والغرب هو الذي ينفذ هذا هو الواقع، قال لنا عدونا في الغرب: دعوا حضارتكم الإسلامية، وتعالوا فاتبعوا الحضارة التي تملأ رحب العالم ألقاً، قلنا: نعم، لكم ما تطلبون، وهذا هو الحق، قال لنا الغرب الذي يعادينا ويحقد علينا وعلى كل شيء في تاريخنا: دعوكم من الإسلام الذي تقادم عهده، طوِّروه وبدِّلوه وغيِّروه، وتعالوا إلى النظم العجيبة العلمية والعلمانية التي تورثكم عزة ما بعدها عزة، قلنا: نعم، لكم ما تريدون حباً وكرامة، فعلنا ما يقول، قال لنا العدو الذي يفيض قلبه حقداً علينا وعلى تاريخنا وديننا: دعوكم من محور الدينِ الجامع هنالك محاور أخرى كثيرة متطورة تجمع الأمة وتقيم الوحدة، هناك محاور القوم، محاور وحدة اللغة ووحدة المصير، وما إلى ذلك، دعوكم من الدين الذي يثير عليكم الأقليات المختلفة، قلنا: حباً وكرامة، هذا هو الحق، سرنا وراءهم تماماً أذلاء خاضعين، كلما وُجِّه إلينا تعليم من تعليماتهم، رفعنا أيدي الاستسلام المهينة لهم، وقلنا: نعم، حباً وكرامة.
فلماذا نستنكر إذا جاءت النتيجة الطبيعية لهذا كله؟ لماذا نستنكر إذا جاء هذا العدو بعد هذا كله، فقطع أوصالنا، ومزق كياناتنا، وسحقنا، وأقام المذابح للقضاء علينا، ولتطهير الجيوب الإسلامية في مجتمعاتنا؟ لماذا تنكرون النتيجة الطبيعية للمقدمات التي أنتم كنتم أبطالها، وأنتم الذين قررتموها، والمقدمات المنطقية لا بد أن ونتائجها المنطقية، أما هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فكانت ولا تزال تقول لنا من وراء حواجز القرون: تعالوا إلى النهج الذي أعز أسلافكم، وأنا الكفيل بأنه سيعزكم اليوم، تعالوا فالتزموا بما التزم به أولئك الذين أعرضوا عن الدنيا في سبيل الله، أعرضوا عن الوطن في سبيل العقيدة، أرأيتم كيف أن الهجرة أعادت إليهم الوطن عندما بقيت لهم العقيدة، تعالوا أفعلْ بكم هذا النصر ذاته، أحقق لكم هذا الأمر ذاته، أعرضتم.
قالت لنا الهجرة ببليغ البيان: تعالوا فكونوا أمناء على معنى الهجرة كما كان أسلافكم، أمناء عليها تستغنون بعد فقر، يبقَ لكم ماضي غناكم، ويضيف الله -عز وجل- إليه غنىً جديداً، أرأيتم إلى أسلافكم الفقراء يوم نفضوا أيديهم من الدنيا كلها؟ من البساتين والعقارات والأموال المنقولة وغير المنقولة، في سبيل الهجرة، من أجل العقيدة، من أجل المبدأ، أرأيتم كيف أن الله أعاد إليهم الأموال، وأعاد إليهم أضعاف أضعاف أضعافها؟
ها أنا ذا إن كنتم أمناء على هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعانيها أضمن لكم الغنى بعد الفقر، أعيد إليكم مجدكم السابق، أعرضتم عن ذلك كله، أهابت بنا هجرة رسول الله وَيْحَكُمْ التفتوا إليَّ، هذا هو معين عزكم، هذا هو مصدر قوتكم، من هنا تستطيعون أن تدخلوا الرعب في قلوب أعدائكم، ونظرنا فلم نجد أذاناً تصغي إلى هذا الكلام بشكل من الأشكال، بل رأينا مَعْلَمَة الهجرة تخب فيما بيننا يتيمة في عالمها الإسلامي من شرقه إلى غربه، غريبة في هذا العالم من شماله إلى جنوبه، كلنا يلاحظ هذا المعنى أيها الأخوة، فهل بقي لنا لسان يعتب على الله؟
إذا كنا نسمع أو نرى ما الذي يحدث بإخوة لنا هنا أو هناك، ما ينبغي أن نكون متجاهلين لجرائمنا إلى هذا الحد، نجرم في حق أنفسنا ثم نعتب على الله، نحكم على أنفسنا بالانتحار، بالذل بالضيعة بالفرقة بالهوان، ثم نعتب على الله، لماذا سلط علينا هؤلاء الناس أو أولئك، قلت لكم أيها الإخوة: لا والله ليس هناك عدو يملك أن يقضي بحكم بحق العالم الإسلامي، لكن العالم الإسلامي هو الذي قضى بملء اختياره وحريته، بأن يحكم على نفسه بالانتحار المهين البطيء الذليل، ثم جاء العدو منفذ، نحن الذين حكمنا، وجاء العدو ينفذ ما قد حكمنا به، وخير الكلام ما قل ودل، ولا أجدني في هذا الموقف أمام هذه العبرة التي تمر بنا أو نمر بها، لا أجدني أستطيع أن أقول مزيداً على هذا الكلام.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ الأربعاء 09 سبتمبر 2020, 1:16 am | |
| القيم والتحوُّلات الاجتماعية في القرآن الكريم الشيخ زكريا داوود يمثل القرآن الكريم منبع الحكم والقيم والمعارف وهو الذي أسَّسَ حضارة وحَدَّدَ لها مصدر المعرفة لِمَا كان وما سوف يكون وما هو مؤمل أن يكون، فالقرآن كنص موحى للرسول -صلى الله عليه وسلم- كان المُحرِّك لمسيرة المجتمع الإسلامي في إبعاده القيمية والثقافية والسياسية والاجتماعية، فقد كانت معرفة النص وتفسيره تنتج وعياً للجماعة وللفرد؛ للجماعة لتتحرَّك نحو تفعيل قيم الشهود، وللفرد لأداء دوره في تحقيق المسؤولية.
ان كل قيم التغيير والتجديد في تاريخنا كانت تتخذ من القران منطلقاً، وقد تكون بعض دعوات التجديد الفكري والاجتماعي أصابت بعض الهدف أو أخطأته، لكن الرغبة كانت قوية في جعل القرآن وعياً متجدداً مع الزمن من خلال استحضار بصائره وما يهدي إليه.
ونحن هنا نسعى كي نتوصل لوعي قرآني للتحوُّلات الاجتماعية كما يرسمها القرآن، ومن مناهج قراءة القضايا على ضوء القرآن هوما يطلق عليه المنهج الموضوعي في قراءة النص القرآني منهجاً توظيفياً أي انه يقرأ النص من خلال الضرورة الواقعية عبر استخدام أدوات المنهج اللغوي والتاريخي والفقهي والعقلي، فهو منهج يوظف كل الأدوات المعرفية من أجل الحصول على نتيجة اقرب لأهداف النص ولمبتغاه.
التحوُّل في القران الكريم ليس ظاهرة استثنائية، بل هو قانون ثابت يجري في كل زمن ومكان، فالكون يجري وفق قانون التغير والتحول، فليس ثمة غير الله في الحياة من لا يحكمه هذا القانون: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)، والتحوُّل كمفهوم هو سُنَّةٌ عامَّةٌ تجري في خلق الله، والقرآن عندما يتحدَّث عن التحوُّل يلفت الأنظار والعقول إلى كونه دليلاً على القدرة والعظمة الإلهية، لان التحوُّل دليل على تكاملية نظام الخالق وعلى حكمة الخالق.
يقول تعالى وهو يصف التحوُّل الذي يحدث في السماوات والأرض: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (30) سورة الأنبياء.
وكذا عندما يتحدث عن التحوُّل الذي يقع على الإنسان، فإن هذا التحوُّل لا يتوقف حتى يصل الإنسان الى نهاية العمر، وفي سورة الحج يتحدث ربنا عن التحوُّلات التي يمر بها الإنسان منذ البدء والى المنتهى، ويعتبر التحوُّل هنا دليلاً على القدرة والعظمة والبعث فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (5) سورة الحج.
وفي آيات عديدة يلفت الله الإنسان إلى سُنَّة التحوُّل والتغيُّر، وأنها جارية في كل الخلق دون استثناء، وقد يستطيع الإنسان أن يرى التغير الحادث في الطبيعة في بعض جوانبها، وقد لا يراه في كثير من الجوانب، لكن عدم الرؤية ليس دليلاً على العدم.
وعندما يتحدث عن مسيرة الإنسان وحركته في الحياة فان قانون التغير والتبدل يتحكم في هذه المسيرة بدرجة يستحيل الانفكاك عنها، فتارة يتحدث عن المفهوم العام للتحول فيقول: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (19) سورة العنكبوت، وعندما يتحدث عن تفصيل لسُنّة التحول في المجتمعات يقول: (ان يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس)، وعندما يتعرض المفسرون لهذه الآية كصاحب تفسير الأمثل يقول: "يشير الله سبحانه إلى واحدة من السنن الإلهية وهي انه قد تحدث في حياة البشر حوادث حلوة أو مرة لكنها غير باقية ولا ثابتة مطلقا، فالانتصارات والهزائم والغالبية والمغلوبية والقوة والضعف كل ذلك يتغير ويتحول وكل ذلك يزول ويتبدل فلا ثبات ولا دوام لشيء منها، ولكي تصبح هذه السُّنَّة والقانون واضحاً في عقلية المؤمنين والناس عامة يأمرنا الله سبحانه وتعالى بدراسة حياة الأمم والتمعن في الحوادث الماضية، فيقول: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ) (137) سورة آل عمران"، ومما يلفت النظر هنا هو التعبير القرآني يفعل الأمر سيراً والسير كمفهوم واقعي يدل بحد ذاته على تحول، فالسير هو تحول من مرحلة إلى أخرى، وقد ورد الأمر بالسير في القرآن الكريم 7 مرات، كل ذلك لمعرفة سُنَّة التغير والتحول في الحياة، وحتى يأخذ الإنسان العبرة ويبني حياته وفقاً لهذه السُّنَّة.
ومن خلال الآيات التي تحدثت عن التحول كسُنَّةٍ من السُّنَنِ الإلهية، يمكننا أن نخلص إلى تعريف وتوضيح لهذا المفهوم وهو: كل تبدل يحدث في الأبنية الاجتماعية في الوظائف والقيم والأدوار والمواقع الاجتماعية في فترة محددة من الزمن إذا قيس التبدل بما قبله، وقد يكون التحول عامَّاً يشمل كل الشرائح والوظائف والقيم والأدوار والمواقع، وقد يكون تحولاً محدوداً بقسم منها، ويمكن أن يكون التحول إيجابياً وقد يكون سلبياً.
إن الحياة تسير في كل جوانبها وفق قوانين تنظم حركة وصيرورة الأشياء، والتبدل رغم كونه سنة عامة إلا انه يحدث عبر ذات القانون العام، ويختلف التحول في الطبيعة المادية عنه في المجتمعات الإنسانية، ففي الطبيعة قد تفقد بعض العناصر التي لا تنفك عنها التحولات في المجتمعات البشرية.
ويمكننا من خلال الآيات القرآنية أن نحدد الصفات التي تحدد التحوُّلات الاجتماعية بما يلي: الصفة الأولى: عمومية التحول يتسم التحول الاجتماعي بصفة العمومية، فلا يمكن توصيف تحول بكونه اجتماعي لكونه يطال بعض أفراد المجتمع، فالتحول هو ظاهرة عامة تطال أفرادا كثيرين، مما يؤدي بالتالي الى تغيرات في السلوكيات وفي القيم وفي المواقع، فالسنن الاجتماعية تجري على الجميع من دون استثناء، فالابتلاء والمحن والتمحيص والاستدراج والإملاء والاستبدال والعذاب وبعثة الرسل وبسط الرزق والتقدير والخصب والجدب والتأييد والخذلان والنعمة والحرمان، وغيرها من السنن الإلهية عندما تتحقق شروط حدوثها في المجمع فهي تطال الجميع، فالابتلاء والفتنة سنة عامة جارية في جميع الخلق دون تحيز أو استثناء.
الصفة الثانية: استمرار السنة في الزمان وعدم توقفها سنن الله في خلقه ليست ظاهرة عابرة، بل قانون ثابت ودائم، وهذه الديمومة تؤهل الإنسان وتحثه على التكيف مع حركة التحولات الاجتماعية، فبدون الثبات والسنن لا يمكن للإنسان أن يستوعب ويعي التحول، وعندها لا يكون قادرا على تطوير سلوكه ومجمل حياته، لان التقدم والتطور ناتج عن وعي السنن وتوظيفها ايجابيا في تصحيح الحياة الاجتماعية، والقران المجيد لا يؤكد ثبات هذه السنن وديمومتها فحسب، ولكنه يحولها في الوقت نفسه إلى دافع حركي داينامثلي يفرض على الجماعة المدركة الملتزمة أن تتجاوز مواقع الخطأ التي قادت الجماعات البشرية السابقة إلى الدمار (1)، والآيات التالية تلقي الضوء على هذه الصفة، (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (62) سورة الأحزاب، والآيات الأخرى (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) (43) سورة فاطر.
ويفسر المرجع المدرسي -دام ظله- هذه الآية بقوله: "سُنَّةُ الله لن تتغير حتى يوم القيامة، فهذه من الحتميات الإلهية، والتحويل هو تحويل الشيء إلى غيره، وسنة الله المتمثلة بنصر الرُّسُل، سُنَّةً أبدية محتومة، كما أن الظروف الطبيعية تحتمها، لأن الكفر يسير ضد التيار العام للطبيعة، بينما تنتصر رسالات الله، لأنها تتحرك باتجاه التيار الطبيعي للحياة، كما أنها تتوافق مع الفطرة" (2).
وأمَّا الروايات التي تحدثت عن جريان السُّنَنِ في هذه الأمَّة كما جرت في الأمم السابقة فهي عديدة، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ الشِّبْرَ بِالشِّبْرِ وَالذِّرَاعَ بِالذِّرَاعِ وَالْبَاعَ بِالْبَاعِ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ"، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالَ "مَنْ إِذاً" رواه أحمد بسند صحيح، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَبَاعًا بِبَاعٍ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَامَعَ أُمَّهُ لَفَعَلْتُمْ". رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وعَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيُنْقَضَنَّ عُرَى الإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوَةً فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِى تَلِيهَا وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضاً الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلاَةُ" أخرجه أحمد بسند صحيح (3).
الصفة الثالثة: إنسانية سُنَن التحوُّل والتبدُّل والتغيُّر التحول والتغير سنة مطرّدة في الحياة ولا تنفك الموجودات بأنواعها من صفات التحول، لكن الأمر الفارق بين التحول الاجتماعي وما يحدث في الطبيعة، إن الأول يحدث فيه التحول بصورة إرادية وواعية، أما التحول في الطبيعة والجمادات فانه يحدث بشكل قسري وجبري، وهنا يحقق الإنسان سبقا على ما لا يعقل، وهنا يتحقق التمايز بينه وبين غيره، ويمثل التحول نحو الأفضل والأحسن قانوناً أساسياً من قوانين الكون وغريزة ثابتة في فطرة الإنسان، فالإنسان بفطرته لا يرغب أن يتساوى يوماه، بل انه في حالة بحث دائم عن التكامل والتقدم نحو الأفضل.
وهذا الإحساس عند الإنسان هو من العوامل الأساسية التي تحرك عجلة التاريخ وتشجع نحو التغيير الاجتماعي، فالتغيير في المجتمع هو فعل الإنسان من خلال تحقيق إرادته، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) (11) سورة الرعد و (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا) (16) سورة الجن (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) (59) سورة الكهف، فهذه السنن التي ذكرتها النصوص القرآنية واضحة أنها تتحقق بفعل إرادة الإنسان وليست سننا قسرية جبرية كالإحراق بالنسبة للنار، فهنا مواقف ايجابية للإنسان تمثل حريته واختياره وتصميمه وهذه المواقف تستتبع ضمن علاقات السنن التاريخية جزاءاتها المنابة وتستتبع معلوماتها المناسبة (4).
وتنعكس النزعة الإنسانية للتحوُّل الاجتماعي في إشكال وصور يتمظهر بها. ويمكن أن نوجز تلك الصور والأشكال في التالي: 1- التحول في القيم الاجتماعية: تلك القيم التي تؤثر بطريقة مباشرة في مضمون الأدوار الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي، حيث ان لكل مجتمع نمطان من القيم: الأول: الأهداف العليا: وهي قيم إنسانية ثابتة ومطلقة. الثاني: تتصل بظروف هذا المجتمع والمتغيرات التي تطرأ عليه، وهما مما يشكلان روح المجتمع (5).
2- التحول في محتوى النظام الاجتماعي: النظم والأبنية التي يقوم عليها النظام الاجتماعي قد تكون عرضة للتغير، وذلك لأنها بالأساس صناعة الإنسان، كأن يتحول المجتمع من الديكتاتورية إلى الديمقراطية والشورى، ومن الملكية العامة الى المؤسسات والشركات الخاصة، وبالطبع مثل التغير في النظام الذي يحكم جماعة ما يؤدي إلى تغير في المراكز المواقع للعديد من الأفراد، ويمكن توصيف هذا التحول بكونه تقدم او تطور في بنى هذا النظام الاجتماعي، كما حدث في مجتمع المدينة المنورة في بداية الهجرة النبوية، ففي سورة المنافقون يتحدث ربنا عن رؤية المنافقين للتحول الاجتماعي ويرد زعمهم أنهم لا يزال بإمكانهم ممارسة أدوارهم ونفوذهم في هذا المجتمع الذي تحولت النظم والأبنية فيه نحو تحقيق سيادة قيم أخرى هي قيم الإسلام: (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (8) سورة المنافقون.
3- التحول في مواقع أفراد المجتمع وقد يحدث التحول في مراكز الأشخاص في المجتمع بصورة طبيعية ويجري ضمن سنة التغير الجبرية، فلا يملك الإنسان الإرادة في التغيير ولا يمكنه الوقوف في وجه هذا التحول، كان يكون تغير المواقع في المجتمع بفعل الوفاة والموت، فهي سنة طبيعية ولا يملك الإنسان حرية الاختيار حيالها، (فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)، وقد يحدث التحول في المراكز الاجتماعية والأدوار نتيجة إرادة الإنسان وفعله، وأبرز أمثلته هو ما تحدثه المجتمعات الديمقراطية التي يسودها نظام التمثيل الانتخابي، فيذهب رئيس ويأتي آخر، وتتسلسل عملية التغيير والتحول في المواقع من القمة للقاعدة، وكما يحدث في المجتمعات التي تنتصر فيها رسالة السماء كما لاحظنا ذلك في مجتمع المدينة المنورة في بداية الهجرة النبوية.
وعلى ذلك فان التحوُّل -كما ذكرنا- تارة يأخذ شكل التطور والتقدم، أي التبدل للأفضل والأحسن، وتارة أخرى يأخذ شكلاً تراجعياً أي نحو الأسوأ، ويمكن تسمية التحوُّل نحو الأفضل انه تقدم وتطور وتكامل، كان يتحوَّل المجتمع من نظم وقيم الاستبداد إلى مناخات الحرية والديمقراطية وممارسة حق التعبير من خلال تعديل النظم والقيم والقوانين، والعكس كذلك فالتحوُّل نحو الديكتاتورية والاستبداد هو تحول نحو الأسوأ، ويمكننا تسمية هذا بالتخلف وهو يستبطن الوقوف أو السير خلاف السُّنَّة، لأن سُنَنَ اللهِ الجارية في المجتمع تحثُّهُ على التطوير والتكامل لأنها الفطرة التي جبل عليها الإنسان، فالله يريد الكمال ويدعونا إليه، والإسلام الدين الكامل: (اليوم أكملت لكم دينكم)، يطلب منا الرُّقيّ لمستواه في تفكيرنا وسلوكنا، حتى يمكننا أن نحقق معنى تكامليته في حياتنا، لان تكامل الدين في القيم والنظم والأحكام يشكل حافزاً قوياً نحو تحقيق هذه التكاملية في حياتنا كبشر، فبقدر ما نحقق من تلك القيم في ذواتنا نصل للكمال، وبالعكس؛ بقدر ما نخالف تلك القيم والنظم والأحكام نكرس التخلف ونسير خلاف السُّنَّة.
ولذلك يكرس المنهج القرآني قيمة التطلع نحو الكمال في نفس الإنسان ويتدرَّج معه في ثلاث مراحل هي: الأولى: استثارة فطرته التي انطوت على التسامي والتطلع. الثانية: فك الأغلال التي تمنعه من تحقيق تطلعاته. الثالثة: تذكيره وتعليمه بقائمة التطلعات السامية التي يمكنه بلوغها.
إن فطرة التسامي مغروزة في ضمير البشر وداعية له أبداً إلى العروج إلى الأعلى، وإنما تدس هذه الفطرة في ركام الوساوس والأوهام والأفكار الشيطانية، فلا تعد ترفعه نحو الأسمى، أو يضل صاحبها السبيل فيرى في الحرص على الدنيا والبغي على الناس تسامياً وعروجاً.
وهنا نتساءل ما هي قيم التحوُّل نحو الأفضل؟ يبدأ منطلق التحول نحو النهضة من خلال منظومة القيم باعتبارها تتضمن معايير الحكم على الأشياء والحوادث والسلوكيات والغايات، وفي القرآن الكريم يمكننا أن نلمح هذا التوجه بوضوح في العديد من آياته وبالأخص الآيات التي تحدثت عن السُّنَنِ، كما في سورة الفتح التي تحدَّثت عن قيمة طاعة المجتمع للرسول -صلى الله عليه وسلم- وكيف أن تحقيق هذه القيمة أدَّى لحصول وضع أفضل من السابق وهو النصر والفتح والتحوُّل نحو تنشيط حاكمية المسلمين على غيرهم، وبالعكس حدث للفئات التي تخلّفت والذين سمَّاهم القرآن (المُخَلَّفِينَ)، والقرآن عندما يتحدَّث عن هذه الفئة يربط في النهاية الفعل بالجزاء، فإذا كان التسليم والطاعة لله والرسول -صلى الله عليه وسلم-، هي صفتهم فإن النتيجة تكون الأجر الحسن، أي تطور وتكامل على ارض الواقع وبين فئات المجتمع الإسلامي: (قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (16) سورة الفتح. |
|
| |
| دروسٌ وعبرٌ منَ الهجرةِ النَّبويَّةِ | |
|