الـمُـسْـلِـمُ فِي زَمَنِ كَثْرَةِ الْمَوْتِ 3_80_010
الـمُـسْـلِـمُ فِي زَمَنِ كَثْرَةِ الْمَوْتِ
د. عــامــــــر الـهـوشــــــــان
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين

بداية لابد من التأكيد على أنَّ من ثوابت وأسُسِ عقيدة المؤمن هو إيمانه بأن آجال وأعمار بني آدم مُحَدَّدَةٌ لا تزيد ساعة ولا تنقص, فساعة موت أي إنسان على وجه الأرض موقوتة في علم الله وحده, لا تزيدها ظروف الأمن والامان الذي كانت تنعم به دقيقة حياة أخرى, ولا تنقصها ويلات أسباب كثرة الموت -كنشوب الحروب وانتشار الأوبئة والأمراض– لحظة واحدة, فهناك مَنْ يبقى على قيد الحياة رغم اقتحامه الأهوال وخَوْضِهِ مُعترَكَ الحُروبِ, وهناك مَنْ يموتُ في عُقْرِ داره ووسط أهله على فراشه!!

ويحضرني هنا القول المأثور عن سيف الله المسلول خالد بن الوليد -رضي الله عنه- الذي يُكْتَبُ بماءِ الذَّهب: "لقد شهدت مئة زحف أو زهاءها، وما في بدني موضع شبر، إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء" تاريخ دمشق لابن عساكر برقم/14730.

ولكن الإنسان دائم التعلق بالأسباب والمسببات بطبعه, متأثر بالظروف والأحوال المتقلبة التي يعيشها, فيطول أمله وينسى الموت وساعة لقاء الله تعالى في زمن الأمن وأيام السلم والاستقرار, ويذكر الموت ولا يكاد ينساه في زمن الحرب, وخصوصا في هذا العصر الذي انتشرت فيه أنواع كثيرة من أسلحة الدمار الشامل التي تنسف الحجر قبل أن تقتل البشر.

ومن هنا رأيتُ أن أسلط الضوء على موقف المسلم من الموت في هذا الزمن على وجه الخصوص الذي كثرت فيه أسبابه جرَّاء اندلاع الحروب في أكثر من بلد عربي مسلم, وما ينبغي أن يكون عليه المسلم استعداداً لهذه الساعة المحتومة, ليس في الدول التي فاحت منها رائحة الموت حتى زكمت الأنوف فحسب, بل في الدول التي ما زالت تنعم بالأمن والأمان والاستقرار أيضاً.

قد يكون من الطبيعي أن يكون السوري الذي يعيش في منطقة لا يتوقف فيها صوت الرصاص ولا تكاد تغيب عن سمائها أزيز الطائرات... أكثر تذكراً للموت ممن يعيش في بلد آخر ينعم بالسلم والأمان, إلا أن ذلك لا يعني أن لا يتذكر المسلمون في مختلف بقاع الأرض الموت الذي لا مفر منه ولا مهرب, قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجمعة/8.

إن العبرة التي يمكن أن يخرج بها المسلم مِمَّا يجري في بعض الدول العربية والإسلامية من حروب أزهقت أرواح كثير من الأبرياء هي: ضرورة عودة المسلمين إلى تذكر الموت وعدم نسيانه, والاستعداد لما بعد هذه الحياة الفانية, والعمل على وضع الدنيا في موضعها الصحيح كما جاء في كتاب الله وسُنَّةِ رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

إن الحقيقة المُرَّةَ هي أنَّ الكثير من المسلمين قد غفلوا عن حقيقة حتميَّة الموت وعدم ارتباطه بسببٍ مُعَيَّنٍ أو بيئةٍ خاصةٍ, وأوغلوا في الانغماس بما لا يُرضِي اللهَ في هذه الحياة الدُّنيا, ونَسَوْا أو تَنَاسَوْا أنَّ الموت قد يأتي بغتة دون سابق إنذار أو توقع, ولم يستثمروا نعمة الحياة كما أمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-, واغتروا برغد العيش ونعمة الأمن.

وإذا كانت غفلة كثير من المسلمين عن الموت وتذكره و استحضاره في حياتهم في الدول العربية والإسلامية التي لا تشهد حروباً أو اضطرابات... أمراً مُستغرباً لانتشار أنباء الموت من حولهم, فإنَّ الأغرب من ذلك والأعجب منه غفلة بعض المسلمين عن ذِكْرِ الموت والاستعداد له بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى في دول لا يأمنُ فيها الرَّجُلُ الذي خرج من بيته في الصباح أن يعود إليه مساءً, بل لا يأمنُ فيه الإنسانُ على نفسه وأهله من أن يُبَاغِتَهُ المَوْتُ في عُقْرِ دَارِهِ!

ومن هنا يُمكن فهم توجيه الدِّينِ الحنيف لأتباعه من المُوحدين أن يُكثروا من ذِكْرِ وتَذَكُّر الموت, وأن لا يغفلوا عنه وعن حتميَّة وقوعه في أي لحظة, وأن لا تُلهيهم الحياة الدنيا بشهواتها وأهوائها ومشاغلها عن الاستعداد للموت الذي قد يأتي بغتة.

لقد كان توجيه النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه وأمَّتِهِ واضحاً في هذا المقام, فقد حَثَّهُمْ على الإكثار من ذِكْرِ الموت, ففي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أنْ يقول: (أكْثِرُوا من ذِكْرِ هاذم اللذات) سُنَنِ الترمذي برقم/2307 وقال: حديث حسن.

كما اعتبر خاتم الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- الأكثر ذِكْراً للموت هو الكَيِّسِ الفَطِنِ, ففي الحديث عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّهُ قال: كُنْتُ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءه رَجُلٌ من الأنصار فسلّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال يا رسول الله: أيُّ المؤمنين أفضل؟ قال: (أحْسَنُهُمْ خُلُقاً). قال: فأيُّ المؤمنين أكْيَس؟ قال: (أكثرهم للموت ذِكْراً وأحْسَنُهُمْ لِمَا بعده استعداداً أولئك الأكياس) صحيح ابن ماجه للألباني برقم/4249.

لقد وعى الصحابي الجليل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- ما أوصاه رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد أن أخذ بِمَنْكِبِيه قَائلَا له: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ ) فكان ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. صحيح البخاري برقم/6416.

لم يكن الإكثار من ذِكْرِ الموت كما أوصى الرَّسُولُ الكريمُ -صلى الله عليه وسلم- هو دَأْبُ ابن عمر -رضي الله عنهما- وحده, بل كان تَذَكُّر الموت سِمَةَ الصَّحابة الكِرَام والتابعين لهم بإحسان, فكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: "أضحكني مُؤَمِّلُ دُنْيَا والمَوْتُ يطلبه، وغافلٌ وليس مغفولاً عنه، وضاحكٌ بملء فِيه ولا يدري أأرضى اللهَ أم أسخطه". الزهد لابن المبارك ص84.

وهذا عون بن عبد الله يقول: "كم من مُستقبل يومًا لا يستكمله، ومُنتظر غدًا لا يبلغه، لو تنظرون إلى الأجل ومسيره، لأبغضتم الأمل وغروره". الزهد الكبير للبيهقي ص227.

إنَّ تذكير المسلمين بفضيلة الإكثار من ذِكْر الموت في هذا الزَّمن من الضرورة بمكان, وكأني بلسان حال الغيور على أمَّتِهِ, الحريص على فلاحهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة يقول: إذا لم يُكثر المُسلمُون في هذه الأيام من ذِكْرِ الموت والاستعداد له بالتوبة النصوح والعودة إلى الله تعالى... فمتى؟!!!

المصدر:
http://almoslim.net/tarbawi/291720